وحين مضت هذه السنوات الكثيرة والاستعمار يقاوم الثورة هذه المقاومة الإجرامية ويجرب معها كل وسيلة وتفشل الوسائل كلها، بل تزداد الثورة قوة وانتشارا.
وحين عم الكفاح الجزائر كلها من الجبل إلى السهل، ومن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال والشرق والغرب، وحين تحركت جماهير المدن على هيئة مظاهرات وتنظيمات سرية مسلحة، وحين بلغ من انتشار الثورة حد أنها انتقلت إلى فرنسا نفسها. حينئذ فقد بدأ الاستعمار يدرك أنه أمام المعجزة التي إذا حدثت فمستحيل أن تقاوم أو يقف في طريقها حائل، أمام شعب ثائر منظم تنظيما وعلى رأسه قيادة ثورية مخلصة؛ شعب كهذا من الممكن أن يظل ثائرا مقاوما لعشرات السنين ومئاتها، شعب كهذا لا يؤثر فيه الزمن، ولا توهن منه التضحيات، وبالعكس كلما طال الزمن اشتد عزمه، وكلما كثرت التضحيات تكونت له أسباب جديدة للاستمرار في الثورة والإصرار على النصر.
والاستعمار الفرنسي ليس بالغباء الذي يصوره لنا به رسامو الكاريكاتير، ومثله مثل أي استعمار آخر، يمثل خلاصة الذكاء الرأسمالي وقدرته وطاقته على الفهم والاستيعاب والابتكار وتغيير الخطط.
فماذا يفعل الاستعمار أمام هذا الثائر ذي التنظيم الحديدي والقيادة الواعية المتحدة المصممة مثل تصميم شعبها المصرة على نيل الاستقلال؟
الحقيقة وضع لنفسه عدة خطط بحيث كلما جرب إحداها وفشلت استعان بالأخرى.
الخطة الأولى
كان قد أدرك أن حصول الجزائر على استقلالها قد أصبح أمرا مفروغا منه، ومشكلته ليست أبدا أن يعطيها استقلالها؛ فاقتصاديا وسياسيا وعسكريا الاستقلال أهون بكثير من ثورة ضده تكلفه المال والرجال وتنخر قواه. مشكلته أصبحت هي ماذا يحدث بعد الاستقلال؟ أن يتحكم في الوضع بحيث تستقل الجزائر من ناحية، ولكنها تظل مجبرة على الارتباط بفرنسا ارتباطا طويل المدى شبه دائم. والسؤال هو: كيف يمكن أن يرتبط هذا الشعب الثائر المنظم ذو القيادة الواعية، كيف؟ ومن أين تضمن فرنسا لشعب كهذا؛ شعب قتلت منه مليون رجل وامرأة ومثلت بأهله وأذاقتهم من المرارة ألوانا، كيف بعد أن يستقل شعب كهذا يظل مرتبطا بالدولة التي ارتكبت في حقه، وفي خلال 132 عاما من احتلالها له، كل تلك المذابح والجرائم والمجازر؟
إن الخطة التي انتهى إليها الاستعمار كانت بسيطة جدا.
أن تغير فرنسا جلدها ووجهها.
ولقد غيرت فرنسا كثيرا من الجلود والوجوه، حتى الاشتراكيين أتت بهم، إلى أن انتهى الأمر إلى تغيير الجمهورية نفسها وإقامة جمهورية خامسة جديدة ذات رئيس أتت به من متحفها التاريخي، كل مؤهلاته أنه ليس من أصحاب السوابق في الجزائر، وأن عليه أيضا مسحات ولمحات من فرنسا التي حاربت هتلر وساهمت في إنقاذ العالم من نازيته وشروره؛ شارل ديجول.
Unknown page