الوشم الأخير
طالت محادثاتنا مع الديدبان وكان باديا أنه لا يعرف أهمية خاصة لنوبته ولا يعرف أنها آخر نوبة حراسة لآخر ديدبان لآخر قوة من قوات الاحتلال، وسمح لنا بالاقتراب من مبنى النافي، ولم يكن في المبنى كله غير أربعة عساكر، حادثناهم، كانوا فلاحين إنجليز وأبناء فلاحين، وأحدهم عامل من مانشستر، وكل ما يعرفه أنهم ذاهبون إلى قبرص، وأنهم راحلون عن بورسعيد، وأن مصر جميلة وأهلها ظراف، وأنهم رأوا كثيرا من البلاد أثناء عملهم في الجيش، وكشف واحد منهم عن ساعده ليرينا رحلته عبر الدنيا، وإذا ساعده حافل برسومات وشم، هذا رسمه في سنغافورة، وذلك في الهند، وثالث في العراق، والرابع في مصر، وتأملت الرسومات، وخيل إلي وكأن العسكري الشاب يسجل بها انحسار الشمس عن حدود الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وظل العساكر يداعبون بعضهم البعض، ويكتبون أسماءهم على حائط الكشك، ويستعجلون اللحظة التي ترحل فيها الباخرة إلى قبرص، إلى أن ظهر الضابط، قصيرا وعصبيا ومنفعلا ومن أعماقه تطل أرستقراطية إنجليزية ابتلي بها العالم من قديم الزمان.
وانهال علينا بأسئلته: كيف دخلتم؟ ولماذا جئتم؟ وماذا تريدون؟ ومن سمح لكم؟ وكنا كلما حاولنا نقاشه ازداد استنكارا حتى وجدناه ينتفض قائلا: أتدركون أنكم ارتكبتم جريمة باقتحامكم مبنى النافي حيث تعسكر حامية بورسعيد؟
وأحسست بشيء يغلي في صدري حين نطق كلمة «الحامية»! لقد كنا محتلين إذن؟ هؤلاء العساكر السذج وهذا الضابط المتكبر كانوا حامية بورسعيد؟! معان مؤلمة أفظع ما فيها أننا كنا نسيناها، أعداؤنا فقط هم الذين لم ينسوا. كنت ذاهبا لمشاهدة رحيل آخر فوج وكأني ذاهب إلى نزهة، وكأن الأمر جزء من رحلة، وإذا بضابط متعجرف يذكرني في آخر لحظة أننا محتلون.
وحانت الساعة
ومضى العساكر بضباطهم إلى الباخرة.
الهدوء مخيم، ومبنى النافي كبير صامت مشتعل الأضواء، والسماء سوداء في لون الماء، والماء في لون السماء، والأنوار وحيدة متباعدة باردة، والبحر يردد أنشودة الموج الأزلية الحزينة، وإيفان جيب واقفة كالحوت الميت الطافي، والقبعات الحمر تروح وتجيء فوقها، والعساكر والضباط يسيرون إلى الباخرة على وقع دقات الأحذية الرتيبة التي تتلصص في سكون الليل وينتهي بها الاحتلال، ينتهي ببساطة كما لو كان جيش الاحتلال رحلة مدرسية قضت في مصر إجازة طولها ثمانون عاما، وها هم أعضاء الرحلة راجعون، والجو هادئ جميل، والباخرة تنتظر، ولا تبقى سوى مناديل بيضاء، تهفهف ليكمل المشهد وتسدل الستار.
ولكم أحسست بالمرارة.
ما هكذا تمنيت أن يكون رحيل الأعداء.
Unknown page