131

وفي هذا اليوم، طلع القضاة وبعض العلماء إلى السلطان، بطلب منه لهم؛ لأجل ابن التريكي المغربي، فسئل القاضي الشافعي عما ثبت عليه، فقال: ثبت عند نائبي عليه عشرة آلاف دينار لبيت المال. فقال السلطان: فهل ثبت غيره؟ فقال: ثبت أنه فاسق، شاع في الأرض بالفساد، مجترئ على الأيمان الحانثة الغموس بالله، وبالطلاق. فقال: فما يجب عليه؟، فقال: التعزير بما يراه السلطان أهلا له، من الضرب والنفي. فأمر السلطان بضربه؛ فبطح على الأرض، وضرب نحو ثلاثمائة عصى، ثم أقيم، ثم قال السلطان: أين المحضر الذي جاء من الشام؟ فأعطي للقاضي الشافعي، فناوله لنائبه النجم بن النبيه، فقرأه، فإذا فيه: إنه ثبت عليه بشهدة شاهدين، من أهل الفضل، أنه ذكر الحديث الذي أخرجه الشيخان، وغيرهما عن عمر بن أبي سلمة المخزومي، ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأكل من غير موضع واحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام، سم الله وكل مما يليك. فقال التريكي هذا: لا إله إلا الله، إن بغض الربيب لقديم، أو نحو هذا، مما لا يخفى ما فيه، من انتهاك الحرمة، فقيل له: لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا غير قصد التأديب، فحمله حب نفسه على أن قال للذاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسكت، فكان ذلك منه كالتصريح بذلك، فسأل السلطان المالكي ، ماذا يجب عليه، فتلكأ، فقال الشافعي: يا مولانا، أحسن الأشياء في حقنا، وحقه، أن ينفي إلى بلاده، ونستريح من قضاياه، فامر السلطان بوضعه ثانيا، ثم ضرب حتى كان مع الأول نحو خمسمائة عصى، ثم أمر به إلى السجن فوضع في سجن الرحبة، وأعلم السلطان بما هرب لأجله إلى هذه البلاد مما وقع فيه، في بلاد المغرب، فرسم بنفيه، وأن يكتب إلى صاحب تونس، أبي عمر وعثمن بن المنصور بن أبي فارس: «إنا لم نكن نعلم ما وقع لهذا الرجل معكم، فأقام في بلادنا، فسعى فيها فسادا، وأوقد نار الفتن بين أكابر العباد؛ فادعي عليه عند قاضي الشرع، فثبت فسقه، وعزر بما يليق به، من ضرب وسجن، ولما تواتر لدينا ما اتفق له في بلادكم، من مثل ما اتفق في بلادنا، من ارتكاب الجرائم، والاقتحام في العظائم جهزناه؛ بحكم حاكم الشرع إليكم، وأقدمناه عليكم، لتقيموا عليه ما أقمناه من أحكام الله، مما يكون رادعا لأمثاله، وصادا لأشكاله، عن انتهاك المحارم، والاعتماد على المراحم». ثم قدم في آخر شعبان هذا، رسول، يقال له: الخولاني. من عند أبي عمرو المذكور، بكتب يخبر فيها أنه جهز مالا يشترى به سلاح، يوقف في ثغور بلاد السلطان؛ لتكون له به ذكر جميل، وقربة إلى العظيم الجليل، فقص هذا الرسول قصة التركي في بلاده، من أنه زور على قاضي الجماعة بمداد لا يكتب به إلا هو، أنه ولاه أنظار أحباس ابن عرفة، وأوقف السلطان أبا عمرو المذكور عليه، فأمضى له السلطان ذلك، فحضر في اليوم الثاني مجلس السلطان، وجلس فوق كل من فيه، من قاض وغيره، فكان إلى جانب السلطان، فلما وضع الأكل، وضع بين يدي السلطان ما جرت عادتهم في المغرب أنه يختص به، ولا يمد أحد يده إليه، حتى يأخذ السلطان منه حاجته، ثم يأمر بتفرقته على الحضور، فلما مد السلطان يده، مد التركي يده إلى حيث مدها السلطان، فحصل له بذلك من العظمة في نفسه ما أطاش عقله، وكان في البلد امرأة في غاية الجمال، تحت نقيب الأشراف، فأرسل إليها ورقة بخط يده يستدعيها، ومن جملة ما في الورقة: «إنك، ما أنت من البشر، إنما أنت حورية من الجنان، ولكن غفل عنك رضوان، حتى خرجت». وفي اليوم الثاني عاد إلى مجلسه ومأكله، فاجتمع قاضي الجماعة ابن عقاب بالسلطان بعد انفضاض المجلس، وشكى إليه ما فعل هذا من قلة الأدب، فقال له السلطان: أنت قدمته، فأنكر القاضي ذلك، فأحضر له السلطان خطه، فأنكره، وقال: هذا زور، اطلبه، فطلبه، فاختفى، وأرت امرأة نقيب الأشراف زوجها ما أرسل فأحضره إلى السلطان؛ فاشتد طلبه له، فاستمر مختفيا حتى قدم مع الحجاج. قال هذا الرسول: فأرسلني السلطان بكتاب أمر فيه أن أرده، حيث وجدته موثقا، فلم أجده إلا في هذه البلاد فما أمكنني ذلك. وحدث أن أمه مغنية، يقال لها بنت ابن عرابة، وأن اسم أباها ابن عرابة هذا، (وهو بفتح المهملتين، وآخره باء موحدة مخففا) كان مسخرة في تونس، ثم صار يضحك السلطان، فعظم أولاده بسبب ذلك، العظمة التي تحصل لأمثالهم، ثم لما نشأ هذا اشتغل بالعلم، فصار في هذه الرقاعة، وهذا الفجور اللذين لا يكونان إلا ممن هذا أصله، فزاد عليه الأمر شدة؛ بسبب هذا الرسول، واستمر في السجن حتى ضبط موجوده، وكان ادعى أن ذلك كله ملك ولده، فقيل له: إن كان لك فقد ثبت في جهتك مال عظيم لبيت المال ، وإن كان لولدك، فولدك هاهنا مع أمه، وأنت قد ثبت فسقك، فلا ولاية لك عليه، فوليه القاضي، فالمال تحت يده، لا تذهب منه بشيء، فلما انتهى ذلك وضع يوم الأربعاء في زنجير طرفه في عنقه، والطرف الآخر في عنق جبلي وأخرج من سجن الرحبة إلى بيت الوالي في قصر بشتك ، ثم شقت به القصبة، حتى خرج من باب زويلة، فلما مر تحت الربع على دكان أبي الخير النحاس، قال له قائل: انزل هاهنا، فقبل عتبة هذا الدكان التي أوصلتك إلى هذا الموصل، وتذكر ما لها عليك من الأيادي؛ حيث أنزلتك هذا المنزل. وقال له: إن أمك المغنية ستلقاك بدفها من باب تونس تدفن، وتقول: ابني ذا الخنزير جاني في زنجير، ابني ذا الخنزير جاني في زنجير. وكان يقال له: أنت تركي خارج الدار، وقيل: لم ير خامس مثل هذا، يشير قائل ذلك إلى ما شاع بين كثير ممن لم يقر الإيمان في قلبه، أن بعض أيام الشهر مشؤومة، وهي الموافقة للأحرف المنقوطة من قول الشاعر: محبك يرعى هواك فهل

تعود ليال بظل الأمل ومنها خامس الشهر، كما ترى.

ومن طريف ما وقع، أنه كان تحته على الحمار الذي ركبه نطع، فقيل: هذا هيأ النطع؛ لأنه قادم على السيف، فتضرب عنقه على نطعه، ورسم أن يكون كذلك، ومعه من يحفظه من الجند والجبلية إلى الإسكندرية، ثم يجهز معه من إسكندرية في أول مركب تتجهز من يحتفظ به، وهو في زنجيره إلى أن يدخله إلى تونس كذلك، ويعيد جواب صاحب تونس بوصوله.

ولما وضعوه في المركب، قال لهم رسول صاحب تونس إنه يخشى أن يرمي نفسه في البحر، فيغرق هو والجبلي المقارن له ففك الزنجير من عنق الجبلي، ولف على الخشبة المسماة في المركب بالعروس، وأقفل عليه، نعوذ بالله من سخطه الموجب لسخط عباده، وأخبر الذين وكلوا به، أنه ما مثل لله تعالى، من حين صحبوه إلى أن فارقوه صلاة واحدة.

Page 241