Ithaf Dhawi Albab
إتحاف ذوي الألباب في قوله - تعالى -: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}
Publisher
منشورات منتديات كل السلفيين.
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢م.
وَمَرَّ - قَرِيبًا - أَنَّ فِيهِ جَمِيعَ حَوَادِثِ العَالَمِ العُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ (١).
قُلْتُ: وَهُنَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا مِقْدَارُهُ (٢) خَمْسُ مِئَةِ عَامٍ كَيْفَ يَسَعُ كِتَابَةَ جَمِيعِ حَوَادِثِ العَالَمِ، مَعَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ أَحْرُفَ القُرْآنِ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا كَجَبَلِ ق (٣)، تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مِنَ المَعَانِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
فَعَلَى هَذَا: حُرُوفُ القُرْآنِ - وَحْدَهُ - تَمْلَأُ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ - أَوْ تَكَادُ تَمْلَؤُهُ -، فَضْلًا (٤) عَنْ بَقِيَّةِ حَوَادِثَ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا.
_________
(١) تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ فِي «تَفْسِيرِهِ» (١٩/ ٥٢).
(٢) بِالرَّفْعِ - هُنَا -؛ لِوُجُودِ (مَا) الزَّائِدَةِ - أَوِ الكَافَّةِ - الَّتِي تَكُفُّ (أَنَّ) عَنْ عَمَلِهَا فِي نَصْبِ المُبْتَدَإِ وَرَفْعِ الخَبَرِ، فَيَرْجِعُ مَا بَعْدَهَا عَلَى أَصْلِ الابْتِدَاءِ وَالخَبَرِيَّةِ، وَمِثْلُ (أَنَّ) سَائِرُ الأَحْرُفِ المُشَبَّهَةِ بِالفِعْلِ.
(٣) هُوَ جَبَلٌ زَعَمُوا أَنَّهُ مُحِيطٌ بِالأَرْضِ؛ اسْتِنَادًا إِلَى آثَارٍ مَرْوِيَّةٍ عَنِ بَعْضِ السَّلَفِ، مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللهُ ﷿ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ: (ق)، مُحِيطٌ بِالأَرْضِ، وَعُرُوقُهُ إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الأَرْضُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ ﷿ أَنْ يُزَلْزِلَ قَرْيَةً أَمَرَ ذَلِكَ الجَبَلَ، فَيُحَرِّكُ الَّذِي يَلِي تِلْكَ القَرْيَةَ، فَيُزَلْزِلُهَا وَيُحَرِّكُهَا، فَمِنْ ثَمَّ تُحَرَّكُ القَرْيَةُ دُونَ القَرْيَةِ»، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي «العُقُوبَاتِ» (ص٣٢)، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي «العَظَمَةِ» (٤/ ١٤٨٩).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» (٧/ ٣٩٤): «وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا: (ق) جَبَلٌ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الأَرْضِ، يُقَالُ لَهُ: جَبَلُ قَافٍ، وَكَأَنَّ هَذَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - مِنْ خُرَافَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخَذَهَا عَنْهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَمَّا رَأَى مِنْ جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا - وأَمْثَالَهُ وَأَشْبَاهَهُ - مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ، يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ دِينِهِمْ ...».
(٤) بِالنَّصْبِ - دَائِمًا -، وَهَذَا التَّرْكِيبُ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى أَهْلِ النَّحْوِ إِعْرَابُهُ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَأَقْوَالٌ؛ مِنْ أَشْهَرِهَا: نَصْبُهُ عَلَى المَصْدَرِ لِفْعِلٍ مَحْذُوفٍ أَوِ عَلَى الحَالِ.
وَيُرَادُ بِهِ: اسْتِبْعَادُ الأَدْنَى ثُمَّ اسْتِحَالَةُ مَا فَوْقَهُ؛ كَقَوْلِكَ: (فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ دِرْهَمٌ فَضْلًا عَنْ دِينَارٍ)؛ أَيْ: (فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ دِرْهَمًا فَكَيفَ يَمْلِكُ دِينَارًا؟!)، وَيَكْثُرُ فِيهِ ذِكْرُ المُحَالِ فِي الشَّطْرِ الأَوَّلِ ثُمَّ المُسْتَبْعَدِ فِي الثَّانِي، وَالأَصْوَبُ وَالأَقْوَمُ عَكْسُهُ.
وَلَا يَحْسُنُ إِيْرَادُهُ فِي السِّيَاقِ المَذْكُورِ - عِنْدَ النُّحَاةِ المُحَقِّقِينَ -؛ لَأَنَّ هَذَا التَّرْكيبَ اللُّغَوِيَّ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ نَفْيٍ لَفْظِيٍّ أَوْ ضِمْنِيٍّ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ: الاسْتِبْعَادُ وَالنَّفْيُ أَوِ النَّفْيُ بَعْدَ إِثْبَاتٍ، وَالسِّيَاقُ فِي المَتْنِ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ القَاعِدَةِ.
وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: لَوْ قَدَّرْنَا (فَكَيْفَ) بَدَلًا مِنْ (فَضْلًا عَنْ) فِي السِّيَاقِ المَذْكُورِ لَصَحَّ ذَلِكَ؛ كَقَوْلِنَا: (حُرُوفُ القُرْآنِ تَمْلَأُ اللَّوْحَ المَحْفُوظُ فَكَيْفَ يَمْلَأُ بَقِيَّةَ الحَوَادِثِ؟!).
قُلْنَا: هَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ - عَلَى إِطْلَاقِهِ -، لأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الإِضَافَةِ وَالمَعِيَّةِ، فَتَقُولُ: (حُرُوفُ القُرْآنِ تَمْلَأُ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ فَكَيْفَ بِإِضَافَةِ بَقِيَّةِ الحَوَادِثِ مَعَهَا؟!)، فَهُنَا تَحَقَّقَتِ الإِضَافَةُ وَلَيْسَ الاسْتِبْعَادَ وَالنَّفْيَ، فَالأَوْلَى وَالأَجْدَرُ فِي هَذَا المَقَامِ أَنْ يُسْتَعَمَلَ فِيهَا (إِضَافَةً إِلَى)، وَفَرْقٌ بَيْنَ التَّرْكِيبَيْنِ.
وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ تَحْقِيقِ الأَقْوَمِ وَالأَفْصَحِ لِلِسَانِ العَرَبِ، وَإِلَّا فَقَدْ غَلَبَ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ إِشَاعَةُ لَفْظِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى مَعْنَى (إِضَافَةً إِلَى) وَ(فَكَيْفَ)، وَلِهَذَا أَقَرَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ النَّفْيِ وَلَيْسَ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعُدَّهُ مِنْ كَلَامِ العَرَبِ.
وَانْظُرْ - لِمَزِيدِ بَيَانٍ - «الرَّسَالَةَ السَّفَرِيَّةَ» لابْنِ هِشَامٍ (ص١١)، وَحَاشِيَةَ السُّيُوطِيِّ عَلَى «تَفْسِيرِ البَيْضَاوِيِّ» - المُسَمَّاةَ «نَوَاهِدَ الأَبْكَارِ وَشَوَارِدَ الأَفْكَارِ» - (١/ ١٩٩).
1 / 75