Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Genres
وسوف نركز بحثنا في الجزء القادم على ذلك الطابع المتبادل للتشويه وسوء الفهم بين الثقافات، لكي نثبت أن النظرة الأحادية الجانب للاستشراق ما هي إلا جزء من كل أوسع منها بكثير، وأن كل ثقافة لا تدرك الثقافة الأخرى إلا من خلال منطقها الخاص، وتعجز عن الاندماج في منطق الثقافة الأخرى ورؤية الأمور من منظورها هي بطريقة كاملة.
ومن الملاحظ أن إ. سعيد يرفض هذا المنظور بأكمله، ويرد عليه مقدما، وذلك في قوله: «إن العيوب المنهجية للاستشراق لا يمكن تفسيرها بالقول إن الشرق الحقيقي يختلف عن الصورة التي يقدمها المستشرق له ، أو بالقول إنه لا يتوقع من المستشرقين الذين هم غربيون في معظم الأحيان أن يكون لديهم حس داخلي بحقيقة الشرق، فهاتان القضيتان باطلتان معا؛ ذلك لأن هذا الكتاب لا يتخذ الموقف الذي يوحي بأن هناك شيئا اسمه الشرق الحقيقي أو الصحيح (إسلاميا كان أم عربيا أم أي شيء آخر)، كما أنه لا يؤكد أن المنظور «الداخلي» متميز بالضرورة عن المنظور «الخارجي» ... بل إن ما أدافع عنه على عكس ذلك هو أن «الشرق» ذاته كيان مصنوع، وأن الفكرة القائلة بوجود أماكن جغرافية لها سكان أصليون «مختلفون» جذريا يمكن تعريفهم على أساس عقيدة أو ثقافة أو جوهر عرقي خاص بذلك المكان الجغرافي هي بدورها فكرة مشكوك فيها إلى حد بعيد.»
12
وبطبيعة الحال، فإن القضية حين تختزل إلى أماكن جغرافية يصبح نقدها أمرا يسيرا. غير أن التقابل الحقيقي إنما هو تقابل بين ثقافات ومجتمعات يحمل كل منها تاريخا كاملا. ومحاولة طمس الاختلاف بينها وإنكاره على هذا النحو المطلق أمر يدعو إلى الاستغراب بحق. صحيح أن هذا الاختلاف يمكن أن يشوه، ويمكن أن يعلل بأسباب باطلة، ولكن وجوده هو ذاته أمر لا يمكن إنكاره بهذه السهولة، لأنه ببساطة حقيقة من حقائق الحياة في الحاضر وخلال التاريخ.
ومن هنا فإننا سنتجاوز عن هذا الاعتراض ونمضي في عرض أبعاد المشكلة من منظورها الأوسع؛ منظور حدود الإدراك المتبادل بين الثقافات، لكي نثبت أن صعوبات الاستشراق تفسر على نحو أفضل من خلال هذا المنظور. (1)
إن نقاد الاستشراق يجدون غرابة في التقسيم الجغرافي الذي يقتطع فيه نصف العالم ليصبح كتلة واحدة متجانسة هي «الشرق»، ويؤكدون الطابع التعسفي لهذا التقسيم الذي يضع فيه البعض سورا حول أنفسهم ويسمون كل من يخرج عن حدودهم «غرباء» أو «برابرة»، وتصبح أرض الغرباء مقرا لأناس لهم سمات تميزهم ثقافيا، لا مكانيا فقط، عمن يسكنون «أرضنا».
13
والآن، هل هذه حالة تقتصر على موقف المستشرقين من الشرق؟ ماذا نقول إذن عن وصف اليونانيين لكل من هو غير يوناني بأنه من «البرابرة»، وعن وصف اليهودية للشعوب الأخرى بأنهم هم «الأغيار» (جوييم )؟ وماذا نقول في وصف المسيحية لهم بلفظ
Gentiles ؟ أما فيما يتعلق بالإسلام، فإن الموقف يصبح أشد وضوحا؛ ففي الإسلام تمييز واضح محدد المعالم بين «دار الإسلام» و«دار الحرب». وهنا لا يكون الأمر مجرد تمييز جغرافي أو ثقافي، وإنما تصطبغ العلاقة منذ البدء بصبغة العداء، فكل من يخرج عن حدودنا العقيدية والثقافية والمكانية يعرف بأنه موضوع للحرب. ولعل هذا أن يكون أقوى تأكيد لتلك القسمة الثنائية التي لا يعد التقسيم إلى غرب وشرق إلا مظهرا واحدا من مظاهرها، والتي ترجع إلى أسباب تتعلق بحدود الاتصال بين الثقافات، لا بالاستعلاء الغربي أو المركزية الأوروبية وحدها، بدليل أن مظاهرها خارج النطاق الأوروبي، والغربي عامة، واضحة كل الوضوح. (2)
ومثل هذا يقال عن التشويه التاريخي لصورة الشرق في أوروبا، الذي يتتبعه مؤلف كتاب «الاستشراق» حتى عهد هوميروس ويوريبيدس وغيرهم من الشعراء والأدباء في العصور القديمة. فالصورة ليست أحادية البعد إلى هذا الحد؛ ذلك لأننا نجد في صميم العصر الأوروبي الكلاسيكي ذاته تمجيدا هائلا للشرق وانبهارا به. وحسبنا أن ننبه إلى إشارة أفلاطون المشهورة إلى الشرق، في محاورة طيماوس، على أنه منبع الحكمة، وسخريته من اليونانيين بوصفهم أطفالا بالقياس إليه، وهي الإشارة التي يعلق عليها مؤرخ العلم الكبير «سارتون» بقوله إن أفلاطون قد تحدث عن اليونانيين كما يتحدث الأوروبي المعاصر عن الأمريكيين، بوصفهم «محدثي» ثقافة، ومثل هذا يقال عن إشارات الكتب المختلفة عن «حياة الفلاسفة» في العالم القديم إلى تلك الرحلة التقليدية إلى الشرق، التي قامت بها أهم الشخصيات الفلسفية اليونانية وعادت بعدها ناضجة مهيأة للحياة الفلسفية. وهذا ما دعا الباحثين العرب الآخرين إلى أن يصدروا على هذا الموضوع أحكاما مختلفة كل الاختلاف. ويكفي في هذا الصدد أن نقارن بين رأي إ. سعيد والرأي الآتي لسهيل فرح: «مع بروز الحضارة اليونانية التي شكلت الامتداد الطبيعي للحضارات الشرق-أوسطية، التي تأثر بها أرسطو كثيرا، كان يعتبر الفيلسوف الإغريقي بأن أوروبا الباردة، باستثناء اليونان، بحكم طبيعتها الخارجية، غير قادرة على التطور، ذلك حسب رأيه ؛ لأن العقل الأوروبي خامل غير كفء لبناء مجتمع متحضر. وكان يرى المقياس والقدرة لشعوب الشرق الأوسط التي أنتجت حضارات عريقة. فالصراع الذي حدده المفكرون آنذاك هو صراع جغرافي بين الشرق المتنور الديناميكي والغرب البارد الجاحد.»
Unknown page