ويقول جويدي:
32
إن شمالي بلاد العرب تأثر بمدنية البلاد المجاورة، أي بالمدنية الفارسية والبيزنطية بمعنى أنهم أخذوا من الساسانيين في الشرق والبيزنطيين في الغرب، ثم تأثرت بعد ذلك اليمن، فاستفادت العرب إذا من المدنيات اليونانية والرومانية والفارسية، وكانوا مدينين لهؤلاء بكثير من ترقيهم الذي تقدم حوادث الإسلام العظيمة، وكانوا قبل الإسلام بقرنين أو ثلاثة أنشأوا ممالك وتمرنوا على فنون الحرب، وارتقوا في حياتهم المدنية، ونشأ شعرهم وأدبهم، وقد وردت في أشعار العرب العرباء ألفاظ آرامية مثل «دمية»، ولما كان العرب يحتقرون العمل في الزراعة اعتمدوا على الآراميين، فدخلت لغتهم ألفاظ آرامية كثيرة، منها الأكار والحرث والنير والناطور والفدان، وكثير من أسماء النبات والرياحين جاءتهم قبل الإسلام من لغات غير عربية، ومنها «الزيتون»، وأسماء المصابيح من مثل «قنديل»، «سراج»، «نبراس»، ومثل «أتون»، «تنور»، «فرن»، وكذلك «القميص»، «السربال»، «البرنس»، «المرجان»، «الجمان»، «الزبرجد»، «الدرة» انتهى قوله. وكما دخلت اللغة ألفاظ آرامية دخلت ألفاظ رومية وحبشية
33
فاستعاروا من اليونانية ألفاظ «أسطول» و «أنجر» و«نوتي»، ومن السريانية أو الآرامية «سفينة»، «قارب»، «قرقور»، «دقل»، «ربان»، «ملاح»، «سكان»، «قلع»، «مجذاف»، «صاري»، ومن الحبشية «بحر»، «شراع»، «مرسى».
ونحن إذا نظرنا مليا في لغة العرب نفسها قبل الإسلام نجدها تحوي كثيرا من الألفاظ التي تدل على أن هناك أسماء لم توضع لو لم يكن لها مسميات عندهم معروفة، مثل قولهم برد «مرجل» فيه صور الرجال، و«مطير» إذا كانت فيه صور الطير، و«مخيل» إذا كانت فيه صور الخيل، و«مهلل» إذا كانت فيه نقوش وصور كالأهلة، و«المعين» إذا كانت ترى في وشيه ترابيع صغار تشبه عيون الوحش، وهل للغة أن يكون فيها اسم بلا مسمى؟ وما كثرت الأسماء إلا بكثرة القبائل وهي تختلف بحضارتها ورفاهيتها، والحضارة كانت في معظم العصور، ولا سيما في جزيرة العرب أشبه بواحات وسط البوادي، ليس لها هذا التسلسل الذي عرفت به في الأمم المتحضرة في الغرب، لاختلاف الأهوية وطبائع تلك الأصقاع.
ومع غلبة الأمية على العرب فإن علومهم كانت ابتدائية وأكثرها تجارب وأشعار تحمل في الصدور، فمن علومهم علم النجوم وكان لهم يد فيه، وعلم الأنواء والرياح والكهانة والعرافة أو معرفة المستقبل والغيب، والأساطير والطب والنسب والتاريخ، ومن هذه العلوم ما كانوا يتوارثونه
34
آخر عن أول على قول ابن قتيبة كالنجوم ومناظرها وأنوائها والاهتداء بها والبروق والسحاب والرياح والعلم بالخيل والإبل والنبات، هذا إلى ما خصوا به من القيافة والطرق والزجر، وإنما يكون ذلك في الواحد منهم والاثنين في القبيلة وسائر من فيها لا يعرف من ذلك إلا النبذ اليسيرة، ودخل الإسلام وليس في قريش سوى سبعة عشر رجلا يكتبون، وكان منهم جلة الصحابة، وبضع نساء، وليس في جميع اليمن من يقرأ ويكتب، وأهم علومهم الشعر كانوا يقيمونه مقام الحكمة وكثير العلم،
35
Unknown page