يتقدم الشعوبي المصري إلى السواد الأعظم باسم الناصح، أن ينزل عن دينه؛ لأنه دين لا يقبل الرفاهية، ويتجاهل ما تم للعرب من هذا القبيل، مما ملئت به بطون الأسفار، وينكر عناية العرب بالفنون الجميلة؛ لأن العرب في صحرائهم لا يحتاجون إليها، وفاته أن العرب ليسوا كلهم سكان بادية، والفرق ظاهر بين العرب والأعراب، وأن العرب في أقصى جاهليتهم كانوا قسمين بادية وحضرا، وأن البوادي لم تعمل الحضارة العربية في دمشق وبغداد والفسطاط وقرطبة وغرناطة والقيروان، بل عملها أهل الحضر من العرب، وما قصروا في كل فنونها بحسب ما ساعدهم عصرهم ومعتقدهم، وإذا خلت مدنية العرب من «الدرامة» لبث روح النقد في اجتماعها، فما خلت كل عصر من كتاب مجودين نقدوا كل شيء فيها بدون عصبية ولا عنجهية.
أما قوله أن يرجع العرب عن تاريخهم، ويتركوا آسيا ويلتحقوا بأهل أوروبا في كل مظاهرهم فهو السخف بعينه، وما عهدت أمة تسير على هذا الطريق حتى ولا اليابان التي استشهد بتلقفها الحضارة الأوربية، فإنها بقيت على وثنيتها، محتفظة بتقاليدها، وأخذت عن أوروبا أصولها في مادياتها فقط، وكذلك يقال في دعوة العرب إلى ترك لغتهم والاعتماد على اللغة العامية، كأن ما حفظه هو لم يحفظه العرب: هو يريد أن يمزق شمل العرب، ويأتي على رابطتهم اللسانية فيحلها جملة واحدة كما انحلت رابطتهم السياسية، ولغة القرآن هي التي حمتهم كل هذه المدة على كثرة ما لاقوا من عنت الدول الشرقية الإسلامية، ومن عنت الدول الغربية النصرانية، هو يستشهد برجلين يقولان بزعمه هذا القول في إحلال العامية بدل الفصحى، وهما قد كتبا تآليفهما بالعربية الفصحى، ولو كتباها بلغة العوام لكان مصيرها الدفن ساعة تولد، وهذا مثل ما ادعاه أحد فضلائنا
21
من أن جمال الدين الأفغاني قال له: إن العرب لو وفقوا إلى نقل الإلياذة لهوميروس إلى لغتهم لكانوا أحسنوا أكثر من كل ما نقلوه من كتب العلم والفلسفة والصنائع، وما نخال ذلك القول إلا مدسوسا عليه.
يقول المازني:
22
إن العامية ينقصها الضبط والإحكام وهي ليست لغة واحدة حتى في مصر، بل لهجات شتى تختلف وتتقارب وتتباعد، تبعا للإقليم وسكانه وأحوالهم حاضرها وباديها، وليس لها ثبات واستقرار على حال، وأراها مع انتشار التعليم واتساع العلم بالفصحى ترتفع إليها وتدنو منها، وقد صار المتعلمون يتكلمون عامية هي أقرب إلى العربية وأشبه بها، ولا يكاد ينقصها إلا حركات الإعراب، ومن الحمق، ولا شك، أن يؤثر أحدنا عامية لا قواعد لها ولا أصول ولا أحكام ولا تاريخ ولا ثبات، وأحمق الحمق أن تجري وراء لغة تفر منك إلى ما تفر أنت منه. ا.ه.
وقول ذاك الشعوبي: إن الرابطة الحقيقية - بعد أن أرادنا على ترك جميع روابطنا الشرقية والدينية - هي أن نفنى في أوروبا، ونقول بالمدنية الفرعونية، وندرسها أكثر من المدنية العربية، ونجعل المدنية العربية واللغة العربية كالمدنية الأشورية واللغة الإيطالية والروسية، قوله هذا أشبه بسرسام لو تطال إلى أن يمليه على طفل في مدرسة ابتدائية لضحك من قوله أي ضحك، وعده يهذي ويعبث ، وما نخاله إلا عابثا يهذي ويخرف هو وأمثاله من الفرعونيين المصريين الذين سقطت دعوتهم بعد ظهورها، وقالوا بالتجديد في كل شيء أو نزع كل مفيد، فدلوا على ضعف في معرفة طبائع الأمم، وتاريخ نهضتها فضلوا وأضلوا، وكذلك حالة المتفلسف اللبناني في دعواه المضحكة، وله أمثال يكتبون ليغربوا لا ليعربوا، وينقدون ليقال عنهم: إنهم نقاد ويأتون بالجديد، وهم لو حاسبوا أنفسهم وحكموا العقل لضحكوا مما يختلفون من البهت والمقت، وكلامهم مهما كان ظاهره معسولا مقبولا فهو هو الصاب والعلقم ولبئس ما يأفكون.
يقول الغمراوي:
23
Unknown page