الصليبيون في القرن الخامس من الهجرة لما بلغوا الشرق ووقعت أعينهم على مدن حافلة منظمة في بيزنطية والشام وغيرها من بلاد الإسلام؛ إذ ما كان لهم عهد بغير قرى حقيرة ودساكر لا شأن لها في بلادهم.
الأمية في الغرب والتوحش في عامة أقطاره
وبينا كان شارلمان أعظم ملوك أوروبا، وهو معاصر للرشيد العباسي، وصاحب فرنسا وجرمانيا وشمالي إيطاليا، أقرب إلى الأمية منه إلى النور، كانت كتب الفلسفة والعلوم المادية والأدبية يتنافس فيها علماء العرب في بغداد وقرطبة، وتترجم للمنصور العباسي الكتب من اللغة العجمية
4
إلى العربية، منها كتاب كليلة ودمنة وكتاب السند هند، وتترجم له كتب أرسطاطاليس من منطقيات وغيرها، وكتاب أقليدس وكتاب الأرتماطيقي، وسائر الكتب القديمة من اليونانية والفهلوية والفارسية والسريانية، وتخرج إلى الناس فينظرون فيها ويتعلقون إلى علمها، ومعظم الخلفاء الأول من بني العباس يشرفون على علوم الناس وآرائهم من تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم من الشريعيين، وتجرى في مجالسهم مباحث في أنواع العلوم من العقليات والسمعيات في جميع الفروع والأصول.
وبينا يقوم في العرب أعلم خلفائهم المأمون العباسي الذي قلما جاء حتى في ملوك الغرب من يدانيه بعلمه وعقله، يطلب إلى ملك الروم لما غلبه كتب العلم التي عنده، وهو عمل مدهش لم يعهد لملك ولا لحكومة أن طلبت مثله من عدوها في قديم الدهر وحديثه، وبه يعرف قدر المأمون وتفانيه في خدمة الإنسانية، كما قال فران
5
ويستمتع الناس في أيامه بنعمة الحرية العلمية والوجدانية، حتى عد عصره عند العرب كعصر بركليس في آثينة وعصر أغسطس في رومية - بينا كانت الحال عند العرب على ما ذكر - كان شارلمان يحاول أن يتعلم ويتحبب إلى الآداب
6
تحببا ساذجا، كما يحب غير المتعلمين أن يروا أحيانا السطور المكتوبة، وتشبه آداب عصره أدب صبيان المدارس وتمارينهم اليوم، ولم يكن في غاليا شيء يشبه الأدب، وما دون أهلها قط كتابا ولا أخبارا، وكانت الكتابات الرسمية التي لا يستغنى عنها كالمواثيق والهبات والوصايا تكتب باللغة اللاتينية البربرية، وهي من سقم الخط بحيث يصعب حلها، ولا يمتاز شرفاء القرون الوسطى بتعلمهم وتهذيبهم عن الفلاحين، وكان معظم الزعماء يجهلون القراءة، ولا هم لهم غير الشراب والطعام والصيد والحرب، وهم في العادة جفاة غلاظ شداد؛ فقد قتل ريشاردس قلب الأسد مثل الفروسية 2500 أسير من العرب، وفقأ عيون خمسة عشر فارسا كان لهم يد في حرب أثارها على فيليب أغسطس، وكثيرا ما كانوا يفقأون عيون النساء ويجدعون أنوفهن، ولم يزل هذا الإغراق في الشدة والقسوة البربرية مألوفا إلى القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر، وقست بحياة التشرد على هذا النحو قلوب الفرسان، وغلظت طباعهم، وغدوا يتقاتلون لأقل سبب، ولا قصد لهم من تقاتلهم غير السلب والنهب، ومن الفرسان من كان يقف على قارعة الطريق، يستوقف التجار ويسلبهم ويسجنهم ويعذبهم؛ ليكرههم على أن يفتدوا بالمال أنفسهم ، وليس عندهم أمن ولا أمان.
Unknown page