Islam Fi Qarn Cishrin
الإسلام في القرن العشرين: حاضره ومستقبله
Genres
قوة غالبة لم تصمد لها قوة.
قوة نجمت من حيث لا مخافة ولا مظنة، فما هي تلك القوة؟ وليست هي قوة دولة ولا قوة سلاح!
قيل فيما قيل: إنها خشونة البادية غلبت ترف الحضارة ونعمة الرخاء، ولكن الدولتين اللتين انهزمتا معا قد كانتا تحكمان الملايين ممن لا يعرفون من العيش غير خشونته وشظفه، وكانت فارس تحكم من حولها قبائل لم تعرف غير الجبال، والقتال، وكانت بيزنطة تحكم على تخومها أشباه تلك القبائل في خشونتها وقوة مراسها، وظلت تحكمها وتهزمها كلما أغارت عليها من غربها أو شمالها، وبعد أن تلاحقت هزائمها في وقائعها مع أبناء البادية العربية، وسلمت بالهزيمة بعد الهزيمة تسليم الخيبة والاضطرار.
وقيل فيما قيل: إنه احتقار العرب للعجم، وكل الناس عجم عند من ينطقون بالضاد.
ولكنه سلاح كان ينبغي أن يصدق من الجانبين، أو يغلب به العجم في بعض ميادينهم إن لم يغلبوا به في الميادين كافة حيثما التقى الخصمان المتساويان في ذلك السلاح، بل لعل العجم كانوا أشد احتقارا للعربي في تلك الحقبة على التخصيص، وقد حدث في إحدى وقعات العراق أن زعيما عربيا ممن يلوذون بدولة فارس عرض على مهران قائد الفرس أن يتولى عنه حرب خالد بن الوليد؛ لأن العرب أعلم بقتال العرب، فغضب جنود مهران؛ لأنهم سمعوه يقول لذلك الزعيم العربي: «صدقت. لأنتم أعلم بقتال العرب، وأنتم مثلنا في قتال العجم»، وثاروا به يستعظمون أن يقول «لذلك الكلب» ما قال، ولم يرضوا عن هذه المجاملة لمن يريد نصره حتى قال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغكم أعداؤكم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء».
ألا إن هذا «الاحتقار» سلاح موفور في المعسكرين، فإن كان للعرب نصيب كبير منه، فما كان عند العجم منه فهو نصيب غير صغير.
على أن العرب الذين حاربوا الفرس والروم وانتصروا عليهم لم يكونوا جميعا من أبناء البادية ولا من الناشئين على الشظف والشدة، بل كان منهم أبناء نعمة وثراء، وكان قائدهم الأكبر - خالد بن الوليد الذي قال الزعيم العربي لقائد الفرس مهران إنه أعلم بقتاله - مخزوميا من أغنى السروات في بني مخزوم ذوي الجاه العريض والثراء المستفيض؛ إذ كان جده - كما ذكرنا في سيرته - المغيرة بن عبد الله الذي كان الرجل من بني مخزوم يؤثر أن ينسب إليه فيسمى المغيرة تشرفا بالانتساب إلى الفرع الذي أناف على الأصول، وكان أبوه الوليد بن المغيرة الملقب بالعدل وبالوحيد؛ لأنه كان يكسو الكعبة وحده سنة، وتكسوها قريش كلها كسوة مثلها سنة أخرى، وكان عمه هشام قائد بني مخزوم في حرب الفجار، وبوفاته أرخت قريش كما تؤرخ بالأحداث العظام، ولم تقم سوقا بمكة ثلاثا لحزنها عليه، وكان عمه الفاكه بن المغيرة من أكر العرب في زمانه، له بيت للضيافة يأوي إليه من شاء بغير استئذان، وكان عمه أبو حذيفة أحد الأربعة الذين أخذوا بأطراف الرداء، وحملوا فيه الحجر الأسود إلى موضعه من الكعبة، كما أشار النبي عليه السلام قبل الدعوة الإسلامية. أما الذي فض النزاع بين القبائل على هذا الشرف حين آذن التنافس بينها بالشر المستطير فهو عم آخر من أعمامه، وهو أبو أمية بن المغيرة الملقب بزاد الراكب كما جاء في بعض الروايات، فقد أشار عليهم أن يكلوا الحكم إلى أول داخل من باب المسجد؛ ليختار من بينهم من يرفع الحجر إلى مكانه، فارتضوا مشورته، وتم صواب المشورة بتوفيق البشارة النبوية قبل إهلالها على العالم بسنين، ولقب أبو أمية زاد الراكب؛ لأنه كان يكفي أصحابه في السفر مئونتهم فلا يتزودون بزاد، ولا يتم الكلام على تراث بني مخزوم حتى نضيف إلى مزاياهم المختلفة مزية ملحوظة لها شأنها في كل مجتمع إنساني، وليس شأنها بالقليل في حياة خالد على التخصيص. فقد كانت هذه القبيلة على كثرة الأقطاب بين رجالها مشهورة بجمال النساء بين الحواضر العربية، وبقيت لها هذه الشهرة إلى ما بعد قيام الدولة العباسية؛ إذ كان يقال لأبي العباس السفاح: «إن المخزوميات رياحين العرب، وعندك منهن يا أمير المؤمنين ريحانة الرياحين.»
فإذا كان المقصود بترف الروم والفرس ترف الطبقة التي يخرج منها القادة والسادة فليس في قادتهم من أحاطت به نعمة الثراء كما أحاطت بقائد المسلمين الأكبر في حربهم للدولتين، وهو الذي سماه صاحب الدعوة الإسلامية بسيف الإسلام.
ولا ننسى أن الجيوش الإسلامية لم تصل إلى ميادين العراق وفلسطين حتى كانت قد انتصرت على جيوش عربية من البدو والحضر قد نشأت مثل نشأتها، وتدربت على القتال مثل دربتها، وعرفت من الترف والخشونة مثل ما عرفته في بداوتها وحضارتها.
ولا ننسى أن الظاهرة قد تكررت حيث لا عرب ولا روم، وحيث كان الفرس في صفوف المنتصرين مع أمراء الإسلام، ففي القرن الثاني عشر للميلاد كان السلطان محمد غوري الأفغاني يحارب قبائل «راجبوت» الهندية التي اشتهرت بالشجاعة والفروسية في العالم القديم من أقصى الديار الآسيوية إلى أقصاها، وكان على رأسهم قائدهم «برتوي» الذي قيل عنه: إنه لم يعرف الهزيمة قط في منازلة قرين، فانتصر الجيش الأفغاني بمن فيه من الأفغانيين والأتراك والفرس على جيوش الراجبوت بعد حرب زبون كان النصر فيها سجالا بين الفريقين، وأوشك الأمير الغوري أن يقع في إحدى معاركها أسيرا مثخنا بالجراح في قبضة عدوه العنيد.
Unknown page