Islam Fi Qarn Cishrin
الإسلام في القرن العشرين: حاضره ومستقبله
Genres
ودرج الطفل الصغير في موطن يكثر فيه أبناء الطريق، وهو يطيل التفكير في يتمه، وفي المشابهة بينه وبين النبي عليه السلام باسمه واسم أبيه وأمه، فمال إلى النسك والعبادة، وحفظ القرآن ودرس الفقه وطرفا من التاريخ، وأخذ نفسه بالرياضة الصارمة؛ فاجتنب الملاهي، وحرم على نفسه ما يستباح من غشيان مجامع الطرب والغناء، وكانت صرامته هذه مثار الخلاف بينه وبين أستاذه الشيخ محمد الشريف أحد مشايخ الطريقة السمانية؛ لأنه سمح لتلاميذه ومريديه بالغناء والرقص في الاحتقال بختان أبنائه، فأنكر عليهم محمد أحمد هذه المجانة، وغضب عليه أستاذه ففارقه، ولاذ بشيخ آخر من شيوخ الطريق بجزيرة أبا إلى أن استقل بالمشيخة، وناهز الأربعين، ووافق ذلك لقاءه للشيخ عبد الله التعايشي من المشتغلين بالتنجيم، فطابق ما عنده من علامات الحروف والحساب على ظهور المهدي، وتبادلا التشجيع والتعاون على بث الدعوة باسم المهدي الموعود ووزيره «صاحب الخرطوم» كما جاء في بعض النبوءات.
وبعد وقائع بينه وبين جنود الحكومة تم له الظفر بالحملة المعروفة باسم حملة هكس، وهي حملة لم يكن لها نظام، ولا مدد من الذخيرة والمال، بل كان جنودها يجمعون جزافا من المجندين المرفوضين في القرعة العسكرية، وكانت الحكومة البريطانية تعوق مصر عن إرسال المال اللازم والعدة الضرورية لتسيير الحملة إلى كردفان، فلم تستطع أن ترسل لقائدها غير أربعين ألف جنيه من المائة والعشرين ألفا التي طلبها، وأبرق اللورد جرانفيل من لندن إلى القاهرة في السابع من شهر مايو سنة 1883 يعلن «أن حكومة جلالة الملكة غير مسئولة بحال من الأحوال عن حملة السودان التي تولتها الحكومة المصرية بأمرها، ولا هي مسئولة عن تعيين القائد هكس أو أعماله»، ونشب الخلاف بين قادة الحملة؛ لقلة وسائل النقل، وصعوبة التخلف في وقت واحد بعد أن تسامع أهل السودان جميعا بتأهب الحكومة لتجريد حملتها منذ عدة شهور، واستبد هكس برأيه في اختيار الطريق مع ندرة الماء، وارتياب الخبراء بأمانة الأدلاء. فوقع الجيش في كمين بعد كمين، ثم فوجئ بضعفي عدده من الدراويش، وهو على غاية الجهد من العطش والجوع والتعب، فلم يفلت منه غير آحاد معدودين، وكان عدد الدراويش أكثر من عشرين ألفا قتل منهم بضع مئات، وبلغ القتلى من الحملة المصرية نحو عشرة آلاف.
كانت هذه الكارثة ذريعة لإكراه الحكومة المصرية على إخلاء السودان، فانحصرت القوة التي رفضت الإخلاء بقيادة جوردن في مدينة الخرطوم، ثم انقطع عنها المدد تنفيذا لسياسة الإخلاء، وتمهيدا لإعادة فتح السودان باسم جديد، فاضطرت المدينة بعد اليأس من النجدة إلى التسليم.
وقد تقدم أن القوم عاشوا ردحا من الزمن يترقبون ظهور المهدي المنتظر، ويتخيلون أنهم يلمسون حولهم أشراط الساعة من عموم الفساد وسوء الحال وغلبة الكفر على الإيمان، وقد شهدوا انتصار صاحبهم على الجيوش التي حسبوها من قبل قوة لا تغلب، فكان هذا حسبهم من دليل على صدق دعواه، ومن بقي من دهمائهم منكرا لهذه الدعوى، فإنما كان ينكرها؛ لأنه يأتم بإمامة لا تقبلها ولا تقول في علامات المهدية بقولها، ومنهم أتباع الميرغنية والسنوسية والتجانية، وبعضهم كان يستمع إلى فتاوى العلماء خارج السودان بإنكار هذه المهدية.
ويبدو أن صاحب الدعوة قد توطدت في نفسه الثقة برسالته ممن عاينه حوله من دلائل الإيمان به، وانتظار الفلاح على يده، فأكثر من كتابة الكتب إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى تصديقه، وينذرهم عاقبة الكفر به، وأشفق أن يلتقي أتباعه خارج السودان بمن يشككهم فيه؛ فحظر الخروج، وحرم الذهاب إلى الحج، وأقنعهم بكفاية الحج إلى مقامه، ومن أمثلة كتبه التي كان ينشر بها رسالته قوله في منشور عام: «أخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأن الله جعل لي على المهدية علامة، وهي الخال على خدي الأيمن، وكذلك جعل لي علامة أخرى تخرج راية من نور، وتكون معي في حالة الحرب يحملها عزرائيل عليه السلام فيثبت الله بها أصحابي وينزل الرعب في قلوب أعدائي، فلا يلقاني أحد بعداوة إلا خذله الله، هذا وقد أخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأن من شك في هديتك فقد كفر بالله ورسوله كررها
صلى الله عليه وسلم
Unknown page