بسم الله الرحمن الرحيم
Page 2
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا الحمد لله الذي أنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أدلة الشرع الإجمالية والتفصيلية، وأمر العلماء باستخراج الفروع منها بالنظر المستمد من أنواره الساطعة الجلية، وجعل معانيها لا تنفد أبد الآباد السرمدية، وجعل علماء هذه الأمة يجددون الشريعة كأنبياء بني إسرائيل كلما فنيت طبقة خلفتها طبقة قائمة بالوظائف السنية؛ والصلاة والسلام على سيدنا محمد الآمر بالنظر في أصول الشريعة الكلية، واستنباط الفروع الجزئية، وعلى آله وأصحابه البالغين في العلم الشرعي درجة الاجتهاد العلية، الذين من اقتدى بهم ناج لأن الله تعالى جعل أقوالهم وأفعالهم حجة شرعية، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم يوزن مداد العلماء بدم الشهداء، وتكون لمداد العلماء في الوزن الرجحانية. أما بعد:
فيقول أفقر العبيد إلى مولاه الغني عمن سواه، محمد يحيى بن محمد المختار بن الطالب عبد الله: هذا شرح واضح طلبه مني من لا تسعني مخالفته، وتجب طبعا على نفسي مساعدته وموافقته، وهو أخي وحبيبي عبد الله بن سيدي أحمد، طلب مني أن أشرح له منظومة أبيه الشهير الفقيه النحرير سيدي أحمد بن محمد بن أبي كف التي جمع فيها أصول مذهب مالك بالعد لا بالبحث عن عوارضها الذاتية، ولا بتعريفها بالحد تقريبا لحفظها وفهمها واستحضارها لمن له علم بعوارضها وحدودها وله اعتناء باستعمالها واعتبارها.
فأقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق : قال الناظم سيدي أحمد بن محمد بن أبي كف رحمه الله وأعاد علينا من بركاته:
الحمد لله الذي قد فهما ... - ... دلائل الشرع العزيز العلما
أي الحمد كله مقصور على الله عز وجل أي لا يستحقه إلا الله عز وجل، ومعناه لغة وشرعا معروف، والتفهيم: التعليم، ودلائل الشرع: المراد بها أصوله الإجمالية؛ وتفهيم الله إياها للعلماء هو تعليمه لهم بحقائقها وكيفية استعمالها وإنتاج الفروع منها، وفي التعبير بها هنا براعة استهلال.
Page 3
ثم الصلاة والسلام أبدا ... - ... على النبي الهاشمي أحمدا
وآله الغر وصحبه الكرام ... - ... والتابعين لهم على الدوام
أي نطلب من الله دوام الصلاة والسلام أبد الآباد على النبي المنسوب إلى هاشم بن عبد المناف المسمى ب"أحمد" وهو نبينا صلى الله عليه (و) على (آله الغر) أي بيض الوجوه، جمع أغر؛ والغرة: بياض الوجه، وهي كناية عن إيمانهم وطهارتهم الحسية والمعنوية، لأن البياض يكنى به عن الإيمان، كما أن السواد يكنى به عن الكفر أعاذنا الله منه، أو كناية عن كرمهم، لأن بياض الوجه يستلزم طلاقته، وطلاقته تستلزم الكرم، أو كناية عن كونهم من أهل الجنة، إذ قد ورد الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الجنة يدعون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء، ولفظه "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء"
(و) على (صحبه الكرام) طبعا وشرعا (و) على (التابعين لهم) من المؤمنين في العلم والعمل (على الدوام) أي إلى يوم القيامة.
وبعد فالقصد بذا النظم الوجيز ... - ... ذكر مباني الفقه في الشرع العزيز
(وبعد) أي وبعد الحمد والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - (فالقصد) أي فالمقصود لأن فعلا يأتي بمعنى مفعول (بذا النظم الوجيز) أي المنظوم المختصر، أي الكثير المعنى القليل اللفظ (ذكر مباني الفقه) أي أصوله الإجمالية، لأن المباني جمع مبنى؛ والمبنى لغة: الأساس والأصل الحسي الذي يبنى عليه الجدار حسا، والمراد به هنا أساس الشرع وأصله المعنى الكلي الذي تبنى عليه فروع الشريعة المعنوية.
Page 4
والفقه لغة الفهم، واصطلاحا العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية، فقولنا: العلم جنس، وقولنا: بالأحكام قيد خرج به العلم بالذات والصفات والأفعال، فلا يسمى فقها، والمراد بالأحكام النسب التامة التي هي ثبوت أمر لآخر إيجابا أو سلبا، وقولنا: الشرعية معناه أن تلك الأحكام لابد أن تكون مأخوذة من الشرع بالتصريح أو بالاستنباط، فخرجت الأحكام العقلية ضرورية كانت كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين، أو نظرية كالحكم بأن الأثر لابد له من مؤثر، والحسية كالحكم بأن الجدار طوب وحجر، وخرجت الأحكام العادية كالحكم بأن النار محرقة، فلا يسمى العلم من هذه فقها.
وقولنا: العملية، معناه أن الأحكام الشرعية لابد أن تكون متعلقة بكيفية عمل قلبي، كالعلم بوجوب النية في الوضوء، أو بدني كالعلم بسنية الوتر، فخرجت الأحكام الشرعية الاعتقادية أي التي لم تتعلق بكيفية عمل، كالعلم بأن الله واحد، وأنه يجب له الكمال، ويستحيل عليه النقص، فلا يسمى العلم بذلك فقها.
وقولنا المكتسب معناه: أن العلم بالأحكام الشرعية العملية لابد أن يكون مكتسبا، أي مأخوذا بالنظر والتأمل وإعمال الفكر في الأدلة الشرعية ليخرج علم الله وعلم كل نبي ملك فلا يسمى فقها لأنه ليس مكتسبا.
وقولنا: من الأدلة التفصيلية، أي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، أي مكتسبا من النظر فيها والاستنباط منها، فيخرج علم المقلدين الخلص أي الذين ليس لهم إلا حفظ فروع المذهب وضبطها كجل علماء عصرنا، فلا يسمى علمهم بذلك فقها، بل يسمى نقلا ورواية، إذ لم يكتسبوا تلك الفروع بالنظر في الأدلة التفصيلية، وإنما اكتسبوا بالنقل والرواية من بطون الكتب المعتمدة، فليس لهم فيها إلا مجرد نقلها للناس وروايتها وحفظها، ولا حجة لهم على كونها أحكاما شرعية إلا منقولة بالتواتر عن المجتهدين الذين استخرجوها بالنظر والاستنباط من الأدلة التفصيلية التي هي الكتاب والسنة.
Page 5
وفتوى المجتهد حكم الله في حقه وحق مقلديه.
وقوله: (في الشرع العزيز) متعلق بقوله الفقه، لأن المراد به في النظم معناه اللغوي هو الفهم، والمعنى أن المقصود بالنظم ذكر الأصول التي تفقه منها أي تفهم منها أحكام الشرع العزيز بالنظر والاستنباط.
فقلت والله المعين أستعين ... - ... وأستمد منه فتحه المبين
فقوله الله مفعول مقدم لقوله أستعين لإفادة التخصيص أي أنه لا يطلب العون إلا من الله، ولا يستمد أي لا يطلب الإمداد بالفتح المبين بالأنوار الإلهية إلا من الله عز وجل.
أدلة المذهب مذهب الأغر ... - ... مالك الإمام ستة عشر
يعني رحمه الله تعالى أن أصول مالك الإجمالية التي يستخرج منها الأحكام الشرعية الفرعية ويعتمد عليها في العمل والإفتاء والقضاء ستة عشر دليلا.
والإجمالية: هي التي لا تعين مسألة جزئية ككون النص من الكتاب والسنة حجة شرعية ثم شرع في تعديدها فقال:
نص الكتاب ثم نص السنه ... - ... سنة من له أتم المنه
يعني أن أول أدلة مذهب مالك الستة عشر النص من الكتاب والسنة الصحيحة متواترة كانت أو مستفيضة أو آحادا.
والنص: هو اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره أصلا، مثاله من الكتاب قوله تعالى في صيام المتمتع الذي لم يجد هديا { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة } ، فقوله تعالى تلك عشرة كاملة نص في أن المتمتع أي الذي لم يجد هديا يلزمه صوم الجموع الثلاثة التي في الحج، والسبعة التي بعد الرجوع الذي هو العشرة، ومثاله من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حرم عليكم وأد البنات، فهذا نص في تحريم دفن البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية.
وقوله: (سنة من له أتم المنه) معناه: أن المراد بالسنة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أتم الله له المنة أي الفضل.
Page 6