ـ[اقتطاف الأزاهر والتقاط الجواهر]ـ المؤلف: أبو جعفر أحمد بن يوسف الرعيني تحقيق: عبد الله حامد النمري الناشر: هي رسالة ماجستير - بكلية الشريعة جامعة أم القرى (١٤٠٢هـ/١٩٨٢م) [ترقيم الكتاب موافق لرسالة الماجستير]

Unknown page

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَا يَقُولُ كَاتِبُهُ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَالِكٍ الرُّعَيْنِيُّ الْمَالكِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ الْغَرْنَاطِيُّ: نَحْمَدُ اللَّهَ خَالِقَ الأَفْعَالِ، وَمُصَوّر الأَنَام، وَمُنْطِقَ الأَلْسِنَةِ بِالأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفَارِيعِ الْكَلاَمِ، جَعَلَ الأَلْفَاظَ عَلاَمَةً عَلَى مَا يُتَصَوَّرُ فِي الأَفْهَامِ، وَخَلَقَهَا مُخْتَلِفَةَ الْجِهَاتِ، مُتَنَوِّعَةَ الأَقْسَام، لِيَبْتَسِمَ ثَغْرُهَا عَنِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ أَوْضَحَ الابْتِسَامِ، وَتَجْلُوَ مَدْلُولاَتُهَا عَنِ الأسْمَاعِ أَبْلَجَ مِنَ الْوُجُوهِ الْوِسَامِ، فَمِنْهَا مَا تَخْتَلِفُ وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا عِنْدَ إِرَادَةِ الإِفْهَامِ، وَمِنْهَا مَا تَخْتَلفُ الْمَعَانِي بِاخْتِلاَفِ جِهَاتِهَا لِلأَوْهَامِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْسَعَ ذَاكَ الْمَجَالَ فِي هَذَا الْمَرَامِ، وأَطْلَعَ لَنَا بدور "الظُّلَمِ" ظَاهِرَةَ التَّمَامِ، وَجَعَلَ أَفْلاَكَ الأَيَّامِ دَائِرَةً عَلَى تَصَارِيفِ الأَقْلاَمِ، وَزَيَّنَ الدُّوَلَ الشَّرِيفَةَ بِمَنِ اشْتَمَلَتْ عَلَيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الأَعْلامِ، وَصَرَفَ إِلَى اسْتِجْلاَبِهِمْ هِمَمَ الْمُلُوكِ مِنْ ذَوِي الاِهْتِمَامِ،

1 / 36

وَنُصَلِّي عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلاَنَا مُحَمَّدٍ المَبْعُوثِ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ وَالمَخْصُوصِ بِالْوَحْيِ وَالإِلْهَامِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْقَائِمِينَ بِنُصْرَةِ الإِسْلاَمِ، أَمَّا بَعْدُ. فَإِنَّهُ لَمَّا قَلَّبَتْنِي يَدُ النَّوَى بَيْنَ نَشْرِهَا وَطَيَّهَا، وَأَخْرَجَتْنِي عَنِ الأَوْطَانِ إِخْرَاجَ السِّهَامِ عَنْ قِسِيِّهَا، وَحَمَّلَتْنِي الأَيَّامُ مَا يُثْقِلُ مِنْ أَعْبَاءِ نَأْيِهَا، وَسَعَتْ بِي فِي طَلَبِ الْفَوَائِدِ غَايَةَ [سَعْيِهَا]، وَسَهَّلَتْ لِي مِنْ الرّحْلَةِ فِي طَلَبِ العِلْمِ مَا لَمْ أَزَلْ حَامِدًا فِي ذَلِكَ حُسْنَ رَأْيِهَا، وَجَعَلْتُ أَضْرِبُ أَعْدَادَ البِلاَدِ بَعْضًا فِي بَعْضٍ، وَأَخُطُّ أَدِيمَ الأَرْضِ تَارَةً عَنْ طُولٍ وَآوِنَةٍ عَنْ عَرْضٍ، وَأَنَا فِي طَيّ ذلِكَ أَسْتَخْرِجُ الْدُّرَرَ مِنْ أَصْدَافِهَا وَأَجْمَعُ الفَوَائِدَ عَلَى اخْتِلاَفِ أَصْنَافِهَا، إِلَى أَنْ جَمَعْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا مُلِئَ مِنْهُ الوِطَابُ، وَذُقْتُ مِنْ حَلاَوَةِ الرّحْلَةِ مَا يُسْتَعْذَبُ وَيُسْتَطَابُ، فَلَمْ أَزَلْ أَقِفُ عَلَى تَنَوُّعَاتِ الْبُلْدَانِ مَوْقِفَ الاسْتِحْقَاقِ وَأَتَبَيَّنُ مَدْلُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾ [فصلت: ٥٣]. وَلاَ غَرَضَ فِي ذَلِكَ كُلّهِ إِلاَّ مَسْأَلَةٌ أفيدُها أَوْ أسْتَفِيدُهَا، أَوْ كَلِمَةٌ أُجِيدُهَا أَوْ أسْتَجِيدُهَا، أَوْ عَالِمٌ أَعُودُ مِنْ رُؤْيَاهُ [مُمْتَلِئَ] الْفُؤَادِ، أَوْ مُتَعَلّمٌ أَظْفِرُهُ بِالْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ. وَمَا بَرِحْتُ فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصَدِ، وَتَوَرُّدِ هَذَا الْمَوْرِدِ، أَحُلُّ مِنْ كُلّ مَدِينَةٍ مَحَلَّ الْمُنْتَقِدِ، وَأَحُلُّ بِهَا مِنْ عُقَدِ الْعِلْمِ مَا أُبْرِمَ وَعُقِدَ،

1 / 37

إِلَى أَنْ أَلحقْتُ الْفُرَاتَ بِالنّيلِ، وَبَلَغْتُ فِيمَا بَيْنَهُمَا غَايَةَ الْمُسْتَنِيلِ، وَجَعَلْتُ مَا بَيْنَ الأَنْدَلُسِ وَالشَّامِ كَمَرْحَلَةِ يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، وَمَا حَجَزَنِي عَنِ الْحِجَازِ قَطْعُ حَزْنِ وَلاَ سَهْلٍ، وَلاَ تَشَاغَلْتُ عَنْ ذَلِكَ بِوَطَنٍ وَلاَ أَهْلٍ، إِلَى أَنْ جَمَعْتُ بَيْنَ زِيَارَةِ الْحَرَمَيْنِ، وَحَصَلْتُ مِنَ الرّحْلَةِ عَلَى غُنْمَيْنِ. وَلَمْ يَرُعْنِي أَنَّ بِغَرْنَاطَةَ دِيَارِي، وَبِالشَّامِ مَزَارِي. وَلَمَّا أَوْدَعْتُ طَرْفِي مِنْ مُشاهَدَةِ أَهْلِ الفَضْلِ مَا أَوْدَعْتُ، وَحَجَجْتُ بَيْنَ [إِفَادَتِهِمْ] وَاسْتِفَادَتِهِمْ فَتَمَتَّعْتُ، وَشَاهَدْتُ مِنْ مُلُوكِ الزَّمَانِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الأَمْصَارُ، وَشَهِدْتُ مِنْهُمْ مَنْ تَزَيَّنَتْ بِهِمُ الأَقْطَارُ، رَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ أَلْسُنُ الأَيَّامِ، وَشَهِدَتْ بِهِ مَعَارِفُ الأَنَامِ، كَمَنْ حَفِظَ النَّفْلَ وَضَيَّعَ الْوُجُوبَ، وَقَنِعَ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِأَنْ يَئُوبَ، إِذْ فَاتَنِي الأَمْرُ النَّادِرُ، وَالْمَوْرِدُ الَّذِي يَحْمَدُهُ الْوَارِدُ وَالصَّادِرُ، وَالْمَقَامُ الَّذِي تَنْفُقُ فِيهِ الْعُلُومُ، وَتَسْتَهِلُّ فَوَائِدُهُ كَمَا تَسْتَهِلُّ الْغُيُومُ، وَتُعْرَفُ لأهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ حُقُوقهمْ، وَتُجْتَنَبُ إِضَاعَتُهُمْ وَعُقُوقُهُمْ، شِنْشِنَةٌ تَوَارَثَهَا كَابِرٌ عَنْ كَابِرٍ، وَمَزِيَّةٌ خَلَّفَهَا أَوَّلٌ لآخِرٍ، حَرَمٌ لاَ يَضِيعُ نَزِيلُهُ، وَكَرَمٌ لاَ يُخَافُ أَنَّ الزَّمَانَ مُزِيلُهُ، وَمُلْكٌ تَتَهَلَّلُ لَهُ وُجُوهُ الخُطُوبِ وَتَنْفَرِجُ عِنْدَهُ مَضَايِقُ الكُرُوبِ، وَتَدُورُ بِأَنْهَارِ تَدْبِيرِهِ رَحَى الحُرُوبِ، وَيَشْتَمِلُ مِنَ المَجْدِ الأَصِيلِ عَلَى مَا اشْتَهَرَ وَشَذَّ مِنَ الضُّرُوبِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا فَتَنِي مِنْ هَذَا الحَظّ الَّذِي لاَ يُثْمِرُ غَرْسَ ارْتِحَالِي إِنْ لَمْ أَنَلْ مِنْهُ نَصِيبًا، وَلاَ أَجِدُنِي مَعَ فَوْتِهِ لِأَدَاءِ الوَاجِبِ مُصِيبًا، أقْسَمْتُ لأَزُورَنَّ دِيَارَ بَكْرٍ، مَدَّ

1 / 38

الزَّمَانُ فِي ذَلِكَ أَوْ قَصُرَ، وَقُلْتُ: لاَ بُدَّ مِنْ صَنْعَا وَإِنْ طَالَ السَّفَرْ فَعَزَمْتُ أَنْ أُطْلِعَ فِي أُفُقِ شَهْبَائِهَا شِهَابِي وَأُسَهّلَ بِرُؤْيَةِ مَلِكِهَا الْجَلِيلِ أَسْبَابَ إِيَابِي، فَكَمْ رَدَّ مِنْ غَرِيبٍ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَأَعَانَ عَلَى الزَّمَانِ بِعُمُومِ إحسانه. مَلِكٌ بِهِ تُرْسَى المَنَازِلْ ... وَيَنَالُ طِيبَ الْعَيْشِ نَازِلْ وَيَجِدُّ فِي الْجُودِ الْجَزِيـ ... لِ لِمَنْ رَجَا وَالدَّهْرُ هَازِلْ وَيَقُولُ دَاعِيَ جُودِهِ ... سَهُلَ الغِنَى مِنَّا لِآمِلْ فَاعْمَلْ عَلَى رُؤْيَاهُ تَظْ ... فَرْ بِالْمُنَى إِنْ كُنْتَ عَامِلْ وَارْحَلْ لَهُ وَدَعِ الدِّيَا ... رَ فَعِنْدَهُ كَمْ سُرَّ رَاحِلْ وَاقْطَعْ إِلَيْهِ مَدَى البلا ... دِ وَلَوْ تَبَاعَدَتِ الْمَرَاحِلْ هَذَا هُوَ الْبَحْرُ المُحيـ ... طُ وَعَاجِلُ الإِحْسَانِ سَاحِلْ هَذَا هُوَ الْغَيْثُ الَّذِي ... مَا فِي حِمَاهُ الْيَوْمَ مَاحِلْ هَذَا هُوَ المَجْدُ الأَصِيـ ... لُ وَهَكَذَا تُحْكَى الفَضَائِلْ هَذَا هُوَ الفِعْلُ الحَمِيـ ... دُ كَذَاكَ فَلْتَكُنِ الفَعَائِلْ لِلَّهِ مِنْ مَلِكٍ كَرِيـ ... مِ الأَصْلِ مَرْضِيِّ الشَّمَائِلْ مَا هَمُّهُ إِلاَّ مَنَا لٌ فِي الـ ... عِدَا أَوْ بَذْلُ نَائِلْ لاَ فِي سِوَى الْعَلْيَاءِ مَشْـ ... غُولٌ وَلاَ لِلْمَالِ مَائِلْ

1 / 39

فَنِهَايَةُ الدُّنْيَا لَهُ ... فِي صَارِمٍ لَدْنٍ وَذَابِلْ وَالْجَيْشُ يُنْظَمُ حَوْلَهُ ... مِنْ رَامِحٍ مِنْهُمْ وَنَابِلْ وَالْخَيْلُ إِثْرَ الْخَيْلِ جَا ... وَبَ صَاهِلٌ مِنْهَا لِصَاهِلْ وَالْرُّمْحُ مِنْ دَمِ مَنْ عَصَا ... عَنْ أَمْرِهِ فِي الْحَرْبِ نَاهِلْ وَخَوَافِقُ الرَّايَاتِ تَخْـ ... فِقُ فَوْقَ كَرَّاتِ الْجَحَافِلْ هَذَا مُنَاهُ وَغَيْرُ هَـ ... ذَا لِلْمَوَاهِبِ وَالنَّوَافِلْ شِيَمٌ تَوَارَثَهَا فَوَا ... فَقَ شَاهِدٌ فِيهَا وَنَاقِلْ قُسٌّ إِذَا مَا رَامَ يُحْـ ... صِي عَدَّهَا، أَضْحَى كَبَاقِلْ وَلَقَدْ سَمِعْتُ بِمَجْدِهِ ... فَأَتَيْتُ أَسْرِي غَيْرَ مَاهِلْ وَأَتَيْتُ عَنْ عِلْمٍ بِهِ ... مَا عَالِمٌ يَوْمًا كَجَاهِلْ فَرَأَيْتُ مَا قَالُوا وَأَكْـ ... ثَرَ وَهْوَ لَيْسَ لَهُ مُمَاثِلْ فَلِيَ الْهَنَاءُ بِأَنَّنِي ... أَصْبَحْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَاثِلْ فَرَأَيْتُ أَكْرَمَ مَنْ لِقَصْـ ... دِ جَنَابِهِ تُزْجَى الرَّوَاحِلْ وَخَلَصْتُ حِينَ لَقِيتُهُ ... مِنْ ضُرِّ أَيَّامِي المَوَاحِلْ وَرَجَوْتُ عَوْدِي كَيْفَ شِئْـ ... تُ إِلَى الأَحِبَّةِ وَالْمَنَازِلْ فَوْقَ الْجِيَادِ الضُّمْرِ مِنْ ... جَدْوَاهُ وَالْخُوصِ الْبَوَازِلْ كَمْ رَدَّ لِلأَوْطَانِ مِنْ ... مُتَغَرّبٍ جَزْلِ النَّوَائِلْ هَذَا هُوَ المَلِكُ الَّذِي ... فِي بَابِهِ مَا خَابَ سَائِلْ هَذَا الَّذِي مَنْ لَمْ يُقَبْـ ... بِّلْ كَفَّهُ مَا نَالَ طَائِلْ

1 / 40

هَذَا الَّذِي أَحْيَا مَكَا ... رِمَ قَدْ سُمِعْنَ عَنِ الأَوَائِلْ قد حاز أوصافًا يحَا ... رُ لوصْفِها سحبان وَائِلْ هَذَا ابن أُرْتُقَ خَيْرُ مَنْ ... فِي مَدْحِهِ قَدْ قَالَ قَائِلْ هَذَا الَّذِي لِجُدُودِهِ ... فِي النَّاسِ ذِكْرٌ غَيْرُ زَائِلْ أَمْدَاحُهُمْ تَبْقَى عَلَى ... طُولِ اللَّيَالي وَالأَصَائِلْ هَذَا الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ ... فَاسْمَعْ ثَنَاءَهُمُ وَسَائِلْ فَهُمُ المُلُوكُ بَنُو المُلُو ... كِ فَعِنْدَهُمْ تُغْنِي الوَسَائِلْ وَعَلَى وُجُوهِهِمُ مِنَ الْـ ... بُشْرَى لِمَنْ وَافَى دَلاَئِلْ أَخْلاَقُهُمْ مِثْلُ الرِّيَا ... ضِ إِذَا تَبَسَّمَتِ الخَمَائِلْ كَالْسّلْكِ نُظِّمَ دُرُّهُ ... فَزَهَتْ بِهِ الغِيدُ العَقَائِلْ سِلْكُ بِأُرْتُقَ بَدْوُهُ ... وَإِلَى السَّعِيدِ النَّظْمُ وَاصِلْ وَإِلَى المُظَفَّرِ بَعْدَهُ ... وَالنَّظْمُ لِلْمَنْصُورِ حَاصِلْ وَكَمَالُهُ بِالصَّالِحِ الْـ ... أَعْلَى فَهَذَا السَّلْكُ كَامِلْ وَلَسَوْفَ يَبْقَى بَعْدَهُ ... لِبَنِيهِ هَذَا المُلْكُ شَامِلْ فَبُدُورُ عِزِّهِمُ المُنِيـ ... رَةُ لَمْ يُخَفْ مِنْهُنَّ آفِلْ وَسَمَاحُهُمْ عَنْ جَبْرِ مَنْ ... يَأْوِي إِلَيْهِمْ غَيْرُ غَافِلْ وَنَدَاهُمُ بِغِنَى المُقِلّ ... وَحَاجَةِ الرَّاجِينَ كَافِلْ

1 / 41

وَعُلاَهُمُ مَا زَالَ فِي ... حُلَلِ الثَّنَاءِ الجَزْلِ رَافِلْ وَإِذَا أَتَى وَفْدُ العُفَا ... ةِ مُدَبِّرًا بِمَ ذَا يُقَابِلْ هَبَّتْ قَبُولُ سَمَاحِهِمْ ... فَتَقُولُ إِنَّ الوَقْتَ قَابِلْ أَعْطَاهُ حَتَّى قَالَ حَسْـ ... بِي وَانْثَنَى فِي الشُّكْرِ جَائِلْ لاَ زَالَ يَنْشُرُهَا مَكا ... رِمَ لَمْ تَكُنْ يَوْمًا زَوَائِلْ وَيَنَالُ مِنْ مِنَحِ الرِّضَى ... وَالسَّعْدِ غَايةَ كُلِ نَائِلْ وَلَمَّا عَرَفْتُ مِنْ صِفَاتِهِ هَذِهِ الْجَوَاهِرَ الَّتِي نَظَمْتُهَا فِي سَلْكِ الكَلاَمِ، وَزَيَّنْتُ بِنَظْمِهَا أَجْيَادَ المُلْكِ فِي الأَنَامِ، قُلْتُ: لاَ بُدَّ مِنْ تُحْفَةِ قَادِمٍ أُقَدِمُهَا بَيْنَ يَدْيَهِ، وَوَسِيلَةِ وَاصِلٍ أَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ، فَرَأَيْتُ أَنَّ العِلْمَ أَشْرَفُ مَا عُنِيَتْ بِهِ أَكَابِرُ المُلُوكِ، وَأَنْفَسُ الجَوَاهِرِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا ذَخَائِرُ السُّلُوكِ، وَتَحَقَّقْتُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَرَى لِلْعِلْمِ حَقَّهُ، وَيجِبُ أَنْ تُزَيِّنَ بُدُورُهُ أُفْقَهُ، وَحِينَ قد رَأَيْتُهُ قَدْ عُنِيَ بِتَحْسِينِ الأَفْعَالِ، أَلَّفْتُ لَهُ كِتَابًا فِي تَصَارِيفِ الأَفْعَالِ، وَحين أَلْفَيْتُ أَفْعَالَهُ تَتَصَّرَفُ فِي فَتْحِ [الآمَالِ] الَّتِي تُقِرُّ الْعَيْنِ، اقْتَصَرْتُ مِنَ الأَفْعَالِ عَلَى (فَعَلَ) الَّذِي هُوَ مَفْتُوحُ العَيْنِ، مَعَ أَنّي رَأَيْتُ تَصَارِيفَ الأَفْعَالِ مُتَّسِعَةَ المَجَالِ مُلْتَبِسَةً عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الرِّجَالِ، وعِلْمَ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَأْخُوذًا بِيَدِ الإِهْمَالِ،

1 / 42

وَرَأَيْتُ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَدُورُ عَلَى الأَلْسِنَةِ (فَعَلَ) المَفْتُوحُ العَيْنِ، وَأَنَّهُ فِي هَذَا البَابِ كَالسَّوَادِ مِنَ العَيْنِ، فَصَنَّفْتُ هَذَا الكِتَابَ، [وَ] جَمَعْتُ فِيهِ مَا جَاءَ مِنْ (فَعَلَ) بِفَتْحِ العَيْنِ، وَالمُضَارِعُ مِنْهُ بِالضَّمّ وَالكَسْرِ، مَعَ اخْتِلاَفِ المَعْنَى وَاتّفَاقِهِ، وَبَوَّبْتُهُ عَلَى حُرُوفِ المُعْجَمِ، فَجَاءَ كَالسِلْكِ المُحْكَمِ. وَأَبْدَأُ كُلَّ بَابٍ بِمَا هُوَ مُتَّفِقُ المَعْنَى، لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِلنَّاظِرِ وَأَهْنَى، وَبَدَأْتُهُ بِمُقَدِمَةٍ فِي أَحْكَامِ (فَعَلَ)، وَنَقْلِهِ، وَصَحِيحِهِ، وَمُعْتَلِّهِ، وَخَتَمْتَهُ بِفَصْلٍ فِيمَا يَتَعَدَّى مِنَ الأَفْعَالِ مَرَّةً دُونَ مَرَّةٍ، فَكَمُلَ تَأْلِيفُهُ بِأَنْفَسِ دُرّة، إِذْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الأَفْعَالِ مِنْ قَبِيلَ النَّادِرِ الَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ إِلاَّ الحُفَّاظُ، وَلاَ يُمَيّزُهُ إِلاَّ مَنْ تَدَاوَلَتْ عَلَى سَمْعِهِ الأَلْفَاظُ. وَقَدْ جَمَعَ النَّاسُ فِي الأَفْعَالِ تَصَانِيفَ حَصَلَ لَهُمْ بِهَا السَّبْقُ، وَوَجَبَ أَنْ لاَ يُشَامَ إِلاَّ ذَلِكَ البَرْقُ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ إِفْرَادَ هَذَا الصّنْفِ مِمَّا تَكْثُرُ فَوَائِدُهُ، وَيُحْمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَائِدُهُ، وَهَذَا شَيْءٌ اقْتَضَبْنَاهُ بِيَدِ الاسْتِعْجَالِ، وَوَقَعَ مِنَّا مَوْقِعَ الشِعْرِ عِنْدَ الارْتِجَالِ. وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ وَلَوْ مَسْأَلَتَيْنِ نَفَعَ عِلْمُ ذَلِكَ وَضَرَّ جَهْلُهُ، وَحَرَصَ عَلَى تَحْصِيلِهِ أَهْلُهُ، وَسَمَّيْتُهُ: بِـ (اقْتِطَافِ الأَزَاهِرِ، وَالتِقَاطِ الجَوَاهِرِ)، وَرَفَعْتُهُ إِلَى الخِزَانَةِ الشَّرِيفَةِ خِدْمَةً مُخَلَّدَةً فِي دَوَاوِينِهَا وَقَطْرَةً أَضَفْتُهَا إِلَى مَعِينِ عُيُونِهَا.

1 / 43

وَاللَّهَ أسألُ أَنْ يَكْفِيَنَا أَلْسِنَةَ الْحُسَّادِ، وَيَصْرِفَ هَذِهِ البِضَاعَةَ عَنْ سُوقِ الكَسَادِ، وَيُلْهِمَنَا إِلَى مَا يَعْصِمُ مِنَ الهُجْرِ، وَلاَ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ قُوبِلَ بِالهَجْرِ، وَعَلَى اللَّهِ أَتَوَكَّلُ، وَبِهِ أَتَوَسَّلُ.

1 / 44

ذكر المقدمة في أحكام (فَعَلَ) المفتوح العين اعْلَمْ أَنَّ المَفْتُوحَ العَيْنِ، أَخَفُّ أَبْنِيَةِ الأَفْعَالِ، لأَنَّهُ ثُلاَثِيٌ، وَالثُلاَثِيُّ أَخَفُّ مِمَّا زَادَ عَلَيْهِ، وَلأَنَّهُ مَفْتُوحُ العَيْنِ، والفَتْحَةُ أَخَفُّ الحَرَكَاتِ. تَنْبِيهٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الفِعْلَ الثُّلاَثِيَّ المُجَرَّدَ، لاَ يَكُونُ أَوَّلُهُ إِلاَّ مَفْتُوحًا لِخِفَّةِ الفَتْحَةِ، فَأَمَّا ضُرِبَ المبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ فَلَيْسَ بِأَصْلِ بِنَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْعٌ عَنْ بِنْيَةِ الفَاعِلِ، دَلِيلُهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا وُورِيَ عَنْهُمَا﴾ [الأعراف: ٢٠] بِضَمّ الوَاوِ مِنَ غَيْرِ هَمْزٍ، وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُ الوَاوَيْنِ أَصْلًا، لَكَانَ مِنْ بَابِ (أَوَاصِلَ)، لاَ يَجُوزُ فِي الوَاوِ إِلاَّ الهَمْزُ، لأَنَّ القَاعِدَةَ: مَهْمَا اجْتَمَعَ فِي أَوَّلِ الكَلِمَةِ وَاوَانِ كَانَ هَمْزُ الأَوَّلِ مِنْهُمَا لُزُومًا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الاجْتِمَاعُ لاَزِمًا كَـ (أَوَاصِلَ) وَنَحْوِهِ، وَالأَصْلُ فِيهِ: وَوَاصِلُ، جَمْعُ وَاصِلٍ،

1 / 45

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الاجْتِمَاعُ عَارِضًا فَلاَ يَلْزَمُ الهَمْزُ، بَلْ يجُوزُ كَـ (وُوِريَ) فَـ (وُوِريَ) عَلَى هَذَا مِنْ بَابِ (وُقِتَتْ) لاَ مِنْ بَابِ (أَوَاصِلَ)، فَجَوَازُ الأَمْرَيْنِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنَاءَهُ عَارِضٌ، وَأَنَّ اجْتِمَاعَ الوَاوَيْنِ فِيهِ لَيْسَ بِأَصْلِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا الضَّمَّ مَعَ الفَعْلِ المَبْنِيّ لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ الفَاعِلِ، وَجَعَلُوا الفَتْحَ مَعَ الفَاعِلِ لأَنَّهُ كَثِيرٌ، فَجَعَلُوا الخَفِيفَ مَعَ الكَثِيرِ وَالثَّقِيلَ مَعَ القَليلِ. وَأَمَّا (شِهِدَ)، بِكَسْرِ الشّينِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ بِأَصْلِ بِنَاءٍ، وَإِنَّمَا الأَصْلُ: شَهِدَ بِفَتْحِ الشِينِ، وَإِنَّمَا كُسِرَ إِتْبَاعًا. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الفِعْلَ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا: القِسْمُ الأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الفَاءِ وَالعَيْنِ وَاللاَّمِ، غَيْرَ مُضَاعَفٍ، نَحْوُ: ضَرَب، فَهَذَا القِسْمُ يَأتِي المُضَارِعُ مِنْهُ عَلَى (يَفْعُلُ) بِضَمّ العَيْنِ وَعَلَى (يَفْعِلُ) بِكَسْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَدِيًا أَوْ غَيْرَ مُتَعَدٍّ نَحْوَ: خَرَجَ يَخْرُجُ وَضَرَبَ يَضْرِبُ،

1 / 46

وَقَدْ يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الفَعْل الواحِدِ نَحْوُ: عَرَشَ يَعْرُشُ وَيَعْرِشُ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا، وَبِسَبِبِهِ وَضَعْتُ هَذَا الكِتَابَ. وَقَدْ عَقَدَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ بْنُ دُرَيْدٍ بَابًا فِي كِتَابِ الأَبْنِيَةِ مِنْ كِتَابِ "الجَمْهَرَةِ". فَإِذَا التَبَسَ عَلَيْكَ مُضَارِعُ فِعْلٍ، وَلاَ تَعْلَمُ أَمَضْمُومٌ هُوَ أَمْ مَكْسُورٌ، فَتَتَبَّع السَّمَاعَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ مَسْمُوعًا، فَأَنْتَ بِالخِيَارِ فِي الضَّمّ والكَسْرِ، إِلاَّ أَنَّ الكَسْرَ أَوْلَى لخِفَّتِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: طُفْتُ فِي سَافِلَةِ قَيْسٍ وَعَلْيَاءَ تَمِيمٍ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَصَلَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ حَصْرًا، وَكُلٌّ يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ؛ يَعْنِي: مِنْ ضَمّ المُضَارِعِ أَوْ كَسْرِهِ. قُلْتُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَثْبُتِ السَّمَاعُ، فَأَمَّا إِذَا ثَبَتَ السَّمَاعُ فَلاَ يُعْدَلُ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ يَأْتِي المُضَارِعُ بالضَّمّ وَلاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ فِي بَابِ المُغَالَبَةِ نَحْوُ أنْ تَقُولَ: ضَارَبْتُهُ فَضَرَبْتُهُ أَضْرُبُهُ، أَيْ: غَلَبْتُهُ فِي الضَّرْبِ، وَخَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُهُ أَخْصُمُهُ، أَيْ: غَلَبْتُهُ فِي

1 / 47

الخُصُومَةِ؛ هذَا مَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَلَّ العَيْنِ أَوِ اللاَّمِ بِالْيَاءِ، أَوْ مُعْتَلَّ الفَاءِ بِالْوَاوِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ المُضَارِعُ (يَفْعِلُ) بِكَسْرِ العَيْنِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: رَامَانِي فَرَمَيْتُهُ أَرْمِيهِ، وَسَايَرَنِي فَسِرْتُهُ أَسِيرُهُ، وَوَاعَدَنِي فَوَعَدْتُهُ أَعِدُهُ، إِذَا غَلَبْتَهُ فِي الرَّمْيِ وَالسَّيْرِ والوَعْدِ. وَإِنَّمَا التُزِمَ فِي هَذَا المُعْتَلّ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعُهُ بِكَسْرِ العَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالضَّمّ لَخَرَجُوا عَنْ لُغَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلاَمِهِمْ مِثْلُ وَعَدَ يَوْعُدُ وَلاَ بَاعَ يَبُوع مِنَ البَيْعِ وَلاَ رَمَى يَرْمُو، فَلِذَلِكَ جَاؤُوا بِالمُضَارِعِ عَلَى الكَسْرِ مُوَافَقَةً لِلْقِيَاسِ، وَزَعَمَ الكِسَائِيُّ أَنَّهُ يَجِيءُ عَلَى (يَفْعَلُ) بِفَتْحِ العَيْنِ إِذَا كَانَ العَيْنُ حَرْفَ حَلْقٍ نَحْوُ: فَاخَرَنِي فَفَخَرْتُهُ أَفْخَرُهُ،

1 / 48

وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ فِيهِ الضَّمَّ، قَالَ: يُقَالُ: شَاعَرَنِي وَشَعَرْتُهُ أَشْعُرُهُ، وَفَاخَرَنِي فَفَخَرْتُهُ أَفْخُرُهُ بِالضَّمّ. تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ بَابَ المُغَالَبَةِ المُرَادُ بِهِ: أَنْ يَقْصِدَ كُلُّ وَاحِدِ مِنَ الاثْنَيْنِ غَلَبَةَ الآخَرِ فِي الفِعْلِ المَقْصُودِ لَهُمَا، فَيُسْنَدُ الفِعْلُ إِلَى الغَالِبِ مِنْهُمَا، فَإِذَا قِيلَ: خَاصَمَ زَيْدٌ عَمْرًا فَتعَلَمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَدَ أَنْ يَغْلِبَ صَاحِبَهُ فِي الخُصُومَةِ. وَشَذَّ عَنْ هَذَا القِسْمِ: رَكَنَ يَرْكَنُ بِفَتْحِ العَيْنِ فِي المُضَارِعِ وَلَوْ جَاءَ عَلَى مَا أَصَّلْنَاهُ، لَكَانَ إِمَّا بِالضَّمّ أَوْ بِالْكَسْرِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ: رَكَنَ بِالفَتْحِ يَرْكُنُ بالضم (فِي المُضَارِعِ) نَحْوَ: خَرَجَ يَخْرُجُ، وَرَكِنَ بِالْكَسْرِ يَرْكَنُ (بِالفَتْحِ) (فِي المُضَارِع) مِثْلُ: عَلِمَ يَعْلَمُ، فَأَخَذُوا يَركَنُ (بِالْفَتْحِ) الَّذِي هُوَ مُضَارِعُ رَكِنَ بِالكَسْرِ، وَرَكَّبُوهُ عَلَى رَكَنَ بِالفَتْحِ، وَهِيَ لُغَةٌ؛

1 / 49

وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِنَا: "رَدّ الشَّوَارِدِ إِلَى حُكْمِ القَوَاعِدَ". وَكَذَلِكَ شَذَّ قَنَطَ يَقْنَطُ بِفَتْحِ العَيْنِ فِي المَاضِي والمُضَارِعِ. فَإِذَا كَانَتْ العَيْنُ أَوِ اللاَّمُ مِنْ هَذَا القِسْمِ حَرْفَ حَلْقٍ، جَاءَ المُضَارِعُ عَلَى (يَفْعَلُ) بِفَتْحِ العَيْنِ فِي الأَكْثَرِ، وَحُرُوفُ الحَلْقِ سِتَّةٌ: الهَمْزَةُ، والهَاءُ، والعَيْنُ، وَالحَاءُ، والخَاءُ، والغَيْنُ؛ وَإِنَّمَا سُمّيَتْ هَذِهِ الحُرُوفُ حُرُوفَ حَلْقٍ، لأنَّهَا تَخْرُجُ مِنَ الحَلْقِ، فَالهَمْزَةُ وَالهَاءُ مِنْ أَقْصَى الحَلْقِ، وَالعَيْنُ وَالحَاءُ مِنْ وَسَطِهِ، والغَيْنُ وَالخَاءُ مِنْ أَدْنَاهُ. وَلاَ أَثَرَ لِهَذِهِ الحُرُوفِ إِذَا وَقَعَتْ فَاءً. مِثَالُ الْهَمْزَةِ عَيْنًا: سَأَلَ يَسْأَلُ، جَاءَ المُضَارِعُ بالفَتْحَ لأنَّ عَيْنَهُ مِنْ حُرُوفِ الحَلْقِ، وَمِثَالُهُ لاَمًا: قَرَأَ يَقْرَأُ، وَأَمَّا أَكَلَ يَأْكُلُ، فَجَاءَ المُضَارِعُ بِالضَّمّ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ حَرْفُ الحَلْقِ، لأنَّهُ وَقَعَ فَاءً.

1 / 50

ومِثَالُ الهَاءِ عَيْنًا: ذَهَبَ يَذْهَبُ، وَمِثَالُهُ لاَمًا: جَبَهَ يَجْبَهُ، وَأَمَّا هَرَبَ، فَلاَ أَثَرَ فِيهِ لِحَرْفِ الحلْقِ، لأَنَّهُ وَقَعَ فَاءً. وَمِثَالُ العَيْنِ عَيْنًا: جَعَلَ يَجْعَلُ، وَمِثَالُهُ لاَمًا: جَمَعَ يَجْمَعُ، وَأَمَّا عَجَمَ يَعْجُمُ، فَلاَ أَثَرَ لِحَرْفِ الحَلْقِ، لِأَنَّهُ فَاءٌ. وَمِثَالُ الحَاءِ عَيْنًا: لَحَم يَلْحَمُ، وَمِثَالُهُ لاَمًا: لَمَحَ يَلْمَحُ، وَأَمَّا حَكَمَ يَحْكُمُ، فَلاَ أَثَرَ لِحَرْفِ الحَلْقِ، لِأَنَّهُ فَاءٌ. وَمِثَالُ الخَاءِ عَيْنًا: شَخَصَ يَشْخَصُ، وَمِثَالُهُ لاَمًا شَدَخ يَشْدَخُ، وَأَمَّا خَرَجَ يَخْرُجُ، فَلاَ أَثَرَ لِحَرْفِ الحَلْقِ، لِأَنَّهُ فَاءٌ. وَمِثَالُ الغَيْنِ عَيْنًا: شَغَبَ يَشْغَبُ وَمِثَالُهُ لاَمًا: لَدَغَ يَلْدَغُ، وَأَمَّا غَلَبَ يَغْلِبُ، فَلاَ أَثَرَ لِحَرْفِ الحَلْقِ، لِأَنَّهُ فَاءٌ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلأَيِّ شَيْءٍ فَتَحُوا مَعَ حَرْفِ الحَلْقِ إِذَا كَانَ عَيْنًا أَوْ لاَمًا، وَلَمْ يَفْتَحُوا مَعَهُ إِذَا كَانَ فَاءً؟ قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِلتَّنَاسُبِ الَّذِي بَيْنَ الفَتْحِ وَحَرْفِ

1 / 51

الحَلْقِ فِي المَخْرَجِ، فَفَتَحُوا لِأَجْلِ العَيْنِ لِأَنَّهُمْ رَاعَوْا مَا فِي اليَدِ، أَعْنِي: أَنَّ الفَتْحَ يَكُونُ عَلَى حَرْفِ الحَلْقِ، وَفَتَحُوا لِأَجْلِ اللاَّمِ لِأَنَّهُمْ رَاعَوْا مَا يَأتِي، وَلَمْ يَفْتَحُوا لِأَجْلِ الفَاءِ إِذَا كَانَتْ حَرْفَ حَلْقٍ، لِأَنَّهُمْ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَا انْصَرَفُوا عَنْهُ لاَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ؛ أَلاَ تَرَاهُمْ لاَ يُتْبِعُونَ فِي الصِفَةِ بَعْدَ القَطْعِ، وَمِنْ كَلاَمِهِمْ: إِذَا انْصَرَفَتْ نَفْسِي عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَكَدْ ... إِلَيْهِ بِوَجْهِ آخِرَ الدَّهْرِ تَرْجِعُ وَقَدْ جَاءَ مُضَارِعُ (فَعَلَ) - مَعَ كَوْنِهِ فِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الحَلْقِ - عَلَى الأَصْلِ، وَيُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الشُّذُوذِ،

1 / 52

وَذَلِكَ نَحْوُ: رَجَعَ يَرْجِعُ، وَنَزَعَ يَنْزِعُ، وَنَكَحَ يَنْكِحُ، وَنَحَتَ يَنْحِتُ، وَشَخَبَ يَشْخُبُ، وَلَغَبَ يَلْغُبُ، وَصَلَحَ يَصْلُحُ، وَزَأَرَ يَزْئِرُ، وَسَهَمَ يَسْهُمُ، وَنَعَقَ الغُرَابُ يَنْعِقُ، وَنَزَغَ يَنْزِغُ، وَنَهَقَ يَنْهِقُ، وَنَفَخَ يَنْفُخُ. وَجَاءَتْ أَحْرُفٌ عَلَى القِيَاسِ مَرَّةً وَعَلَى السَّمَاعِ أُخْرَى، نَحْوُ؛ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ يَبْرَأُ بِالفَتْحِ قِيَاسًا، وَيَبْرُؤُ بِالضَّمّ سَمَاعًا، وَصَبَغَ الشَّيْءَ يَصْبَغُ بِالفَتْحِ قِيَاسًا، وَيَصْبُغُ سَمَاعًا، وَفَرَغَ يَفْرَغُ بِالفَتْحِ قِيَاسًا، وَيَفْرُغُ بِالضَّمّ سَمَاعًا، وَقَدْ كَانَ غَرَضِي أَنْ أَتَتَبَّعَ هَذَا الفَصْلَ وَأَجْمَعَهُ وَلَكِنْ لَمْ يُقْضَ ذَلِكَ، وَالأُمُورُ مَرْهُونَةٌ بِأَوْقَاتِهَا. القِسْمُ الثَّانِي مَا كَانَ مُعْتَلَّ الفَاءِ، فَإِنَّ المُضَارِعَ مِنْهُ يَأتِي عَلَى (يَفْعِلُ) بِالكَسْرِ نَحْوُ: وَقَرَ الشَّيْءُ فِي صَدْرِي يَقِرُ، وَوَعَدَ يَعِدُ، وَيَسَرَ يَيْسِرُ، وَكَانَ الأَصْلُ فِي يَعِدُ: يَوْعِدُ فَحُذِفَتْ الوَاوُ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ.

1 / 53

فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا بَالُهُمْ حَذَفُوا الوَاوَ مَعَ بَاقِي حُرُوفِ المُضَارَعَةِ فَقَالُوا: نَعِدُ، وَتَعِدُ، وَأَعِدُ، وَلَمْ تَقَعِ الوَاوُ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ؟. فَالجَوَابُ: أَنَّهُمْ حَذَفُوا الوَاوَ فِي هَذِهِ المَوَاضِعِ لِغَيْرِ مُوجِبِ بِالْحَمْلِ عَلَى مَا فِيهِ المُوجِبُ، لِتَجْرِيَ حُرُوفُ المُضَارَعَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَنَظِيرُهُ: أُكْرِمُ، أَصْلَهُ أُأَكْرِمُ، فَحَذَفُوا إِحْدَى الهَمْزَتَيْنِ فِرَارًا مِن اجْتِمَاعِهِمَا، وَحَمَلُوا بَاقِيَ حُرُوفِ المُضَارَعَةِ فِي الحَذْفِ دُونَ مُوجِبٍ، بِالحَمْلِ عَلَى مَا فِيهِ المُوجِبُ، وَالحَمْلُ فِي كَلاَمِ العَرَبِ بَابٌ مُتَّسِعٌ، وَقَدْ خَطَرَ بِخَاطِرِي أَنْ أَجْمَعَ فِيهِ كِتَابًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ سَعَتِهِ. فَإِنْ قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ وُقُوعُ الوَاوِ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ مُوجِبًا لِحَذْفِ الوَاوِ، لَوَجَبَ حَذْفُهَا فِي يُوعِدُ مُضَارِعُ أَوْعَدَ؟ فالجَوَابُ: أَنَّهُمْ رَاعَوْا الأَصْلَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهُ: يُأَوْعِدُ، فَلَمْ تَقَعِ الوَاوُ فِي الأَصْلِ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، بَلْ بَيْنَ هَمْزَةٍ وَكَسْرَةٍ فَأَهْمَلُوا مَا فِي اليَدِ، وَهِيَ الصُّورَةُ اللَّفْظِيَّةُ، وَرعَوْا الأَصْلَ. وَشَذَّ عَنْ هَذَا القِسْمِ: وَجَدَ يَجُدُ بِضَمّ العَيْنِ فِي المُضَارِعِ. وَلَوْ جَاءَ عَلَى مَا أَصَّلْنَاهُ، لَكَانَ: يَجِدُ بِالكَسْرِ،

1 / 54