91

قالت إحدى السيدات العجائز: «يا إلهي!» ثم أضافت: «هل تعني أن تشانور تشيس هو المكان الذي تدور فيه أحداث قصتك وتقع فيه المأساة؟»

قال جيبرتس في مرح: «بالطبع هو.» ثم أردف: «ألم تلاحظوا الطابع المحلي؟ ظننت أني وصفت تشانور تيس بأدق التفاصيل، أولم أقل لكم أيضا إنكم كنتم جميعا ضحاياي؟ دائما أنسى إحدى التفاصيل المهمة عندما أقص قصة.» وبينما استدار شورلي، ناداه جيبرتس: «لا تنصرف الآن، وقص القصة من وجهة نظرك، وعندئذ سيسمعون سرد كل منا على طريقة ويلكي كولينز.»

لكن شورلي كان قد ضاق ذرعا، وعلى الرغم من إلحاحهم عليه بالبقاء، انصرف تحت حجب الليل يصب لعناته على طباع الأدباء الغريبة.

ليس وفقا للقواعد

حتى الغرباء عن مدينة لندن الكبيرة يرون على جدران بيوتها أثناء سيرهم فيها للمرة الأولى أسماء كثيرة مألوفة لهم منذ وقت طويل. وقد أنفقت الشركات التي تحمل هذه الأسماء الكثير من أموال الإعلانات لترسيخ نفسها في ذهن هؤلاء الغرباء. فقد كانت هذه الأسماء تظهر لهم منذ سنوات في الصحف والمجلات، وعلى لوحات الإعلانات واللافتات التي تحف خط السكة الحديدية، ولم يولوها في ذلك الوقت كبير اهتمام، إلا أنها انطبعت في ذهنهم وظلت عصية فيه على الانمحاء، فعندما يحتاجون إلى الصابون أو أقراص الدواء تنطلق شفاههم على نحو تلقائي تقريبا بالأسماء التي ألفتها أكثر من غيرها. ولهذا السبب تنفق الأموال بسخاء على الإعلانات، ولهذا السبب أيضا تخرج إلى النور الكثير من المطبوعات الممتازة.

عندما تتفكر في الأمر، يبدو غريبا أن يكون وراء هذه الأسماء التي يعلن عنها بهذا السخاء رجال حقيقيون، أي أن يكون هناك رجل يدعى سميث أو جونز تتحقق المعجزات بفضل أدويته المحتفى بها، أو يغسل صابونه حتى الذنوب التي تستجلب وخز الضمير. وإذا سلمنا بوجود هؤلاء الأشخاص وشرعنا في سبر أغوارهم، فهل لأحد أن يتخيل أو يصدق أن سميث الذي ارتبط اسمه بالامتياز وتطوع آلاف ممن كانت تؤرقهم الأدواء بالشهادة له، أو جونز الذي ينال الإعجاب وتحبه المدللات لأن صابونه يحافظ على بشراتهن الجميلة، هو رجل له شغف كغيره من الرجال، وتعتمل في قلبه الكراهية، وتروقه أشياء ويمتعض من أشياء أخرى؟

هذا هو الحال في لندن، وإن استعصى ذلك على التصديق ظاهريا. ثمة رجال في المدينة لا يعرفهم أحد على الإطلاق معرفة شخصية، ومع ذلك تنتشر أسماؤهم في ربوع المكان أكثر من أسماء أعظم كتاب الروايات، الأحياء أو الراحلين، ولهؤلاء الرجال مشاعر وكيان مثلنا.

كانت شركة دانبي آند سترونج مثالا حيا على الوضع الآنف الذكر. قد لا يعني اسمها شيئا لقارئ هذه السطور، لكنها كانت يوما ما ذائعة الصيت تنتشر إعلاناتها انتشارا واسعا، ليس في إنجلترا وحدها بل في معظم ربوع العالم. لقد راجت تجارتها كما هو متوقع من أي شركة تنفق مبالغ طائلة على الإعلانات كل عام. كان ذلك في زمن الياقات الورقية القديم. فقد كان أغلب الرجال في زمن ماض يرتدون ياقات ورقية، ولو أنعم المرء التفكير في الأمر، لوجد أن الغريب في حقيقة الأمر هو الاختفاء التدريجي لهذه التجارة؛ فقد ابتليت لندن منذ زمن بعيد بمغاسل ملابس تتسم بتدني مستواها ورداءة خدمتها، وما زال الوضع الآن كما هو. وإذا أخذنا ياقات دانبي آند سترونج كمثال، فسنجد أن إعلاناتها كانت تزعم أنها شبيهة بالياقات الكتانية لدرجة أن أحدا لا يمكنه التفريق بين النسيجين باستثناء الخبراء. عاد الفضل في هذا الاختراع إلى سترونج. وقبل أن يخترع ما كان يعرف بياقة بيكاديللي، كان للياقات الورقية لمعان براق لا تخطئه عين وافد جديد من أبعد مقاطعات البلاد. ثم اخترع سترونج طريقة لإضافة طبقة رفيعة من الكتان فوق الورق، تمنحه مزيدا من القوة فضلا عن إعطائه مظهر الياقات الأصلية. كان بمقدور المرء شراء صندوق من الكرتون به دزينة من هذه الياقات نظير مبلغ مقارب لثمن غسل نصف دزينة من الياقات المصنوعة من الكتان. وزادت شعبية ياقات بيكاديللي التي تنتجها شركة دانبي آند سترونج فجأة، ومن الغريب أن الياقات المصنوعة من الكتان تعافت من الضربة القوية التي وجهها لها هذا الاختراع المبتكر.

من المفارقة أن مؤسسي تلك الشركة كانا صديقين مقربين عندما كانت الشركة في طور التأسيس والبحث عن موطئ قدم لها في السوق، لكن عندما ازدهرت الشركة جاءت مع ازدهارها أسباب الخلاف، وأصبحت العلاقة بينهما متوترة، وهي الصفة التي تستخدمها الصحف للإشارة إلى العلاقة بين الدول المتحاربة. ولم يعرف أحد ما إذا كان اللوم يقع على جون دانبي أم ويليام سترونج في ذلك. كان لهما عدد من الأصدقاء المشتركين الذين قالوا إنهما كانا رجلين طيبين، ولكنهم كانوا أيضا يقولون إن سترونج ودانبي لم يكن بينهما انسجام طبيعي.

كانت ثورة سترونج عاصفة إذا غضب، ولسانه بذيئا جارحا بوجه عام. أما دانبي فكانت طباعه أهدأ، لكنه اتسم بعناد شديد لا يؤدي إلى إنهاء أي خلاف. لم يجمعهما حديث منذ مدة تزيد عن العام، فقد تأزمت علاقتهما حتى تسبب ذلك لشركتهما التي تحمل اسم دانبي آند سترونج في كارثة. وأبى كل منهما التراجع عن موقفه قيد أنملة، فحل الخراب على عملهما. عندما تشتد المنافسة لا يمكن لأحد الصمود في وجهها في وجود تناحر داخلي. ظل دانبي مصرا على موقفه في هدوء وثبات، في حين هاج سترونج وماج وسب ولعن وكان على القدر نفسه من الإصرار على عدم التراجع. وكره كل منهما الآخر بمرارة بلغت من شدتها أن أصبح كل منهما مستعدا لخسارة حصته في عمل تجاري رائج، نكاية في شريكه.

Unknown page