Intikasat Muslimin
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح
Genres
وقد ظهر الإسلام في بيئة قبلية بدوية فلم يعرف معنى الوطن والمواطنة؛ فالقبيلة المتحركة دوما لا تعرف وطنا إنما تعرف شيئا معنويا يجمعها أطلقوا عليه «الحمى»، يتحرك معهم أينما تحركوا في حمايته وحماه، وعادة ما كان هذا الحمى يمثل القبيلة كلها، وهو في النهاية رمز ميتافيزيقي كان يلتبس برب القبيلة، وهو ما يشبه قول الإسلاميين اليوم إن: الإسلام وطن، بل إن هذا الحمى أو الدين أرفع بدرجات من أي معان تتعلق بجغرافية الأرض أو حدودها الوطنية، أو كما يقول الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي: «إن الإنسان يضحي بوطنه من أجل دينه، ويضحي بنفسه من أجل دينه؛ فالدين مقدم على الإنسان ... فالدين هو الضرورة الأولى وبعده تأتي ضرورة النفس وبعدها النسل وبعدها العقل والمال (ولا يذكر الوطن كضرورة من هذه الضرورات)» (حلقة الظاهريون الجدد، قناة الجزيرة)؛ ومن ثم ساغ لكاهن الإخوان الأكبر أن يقول عن إيمان صادق: «طظ في مصر وأبو مصر واللي في مصر.»
والوطن هو ما يشكل الضمير الجمعي والقانون الجمعي وهما أساس الحضارة؛ فالحضارة ينتجها شعب يعيش في وطن له حدوده الجغرافية، وتجمعه المصلحة الواحدة، فكان النيل مثلا بجبروته عند الفيضان دافعا لتجمع كل المصريين لحماية قراهم وحقولهم يدا بيد، في تلاحم قوي بضمير جمعي واحد برعاية مصلحة مشتركة واحدة، ومثل هذا الضمير الجمعي هو ما يخلق قانون المواطنة، فيحرص كل مواطن على حماية الملكية العامة والقانون العام، باعتبار الوطن ملكا له كما هو ملك لجميع المواطنين. فإذا لم يوجد وطن فلا وجود لضمير جمعي ولا لقانون جمعي؛ ومن ثم لا وجود لدولة ولا لحضارة، تراهم أين سيقيمون دولتهم المنتظرة إذن إن لم تكن في وطن؟!
فالشعوب التي أنجزت حضارة هي الشعوب التي استقرت في أوطان وامتلكت ضميرا جمعيا يشترك فيه الجميع ولا ينسب إلى دين من الأديان.
ومن هنا نفهم لماذا لم يتمن نبي الإسلام أن يصنع شعبه حضارة وكنوزا؛ لأنه يعلم أن شعبه قبائل غير منتجة وأن الإنتاج خاصية لجغرافيا أخرى مستقرة، إنما تمنى الاستيلاء على ما حوله من حضارات: «والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر.» وحتى اليوم لا يوجد لدينا طموح لمنافسة المنتجين والمخترعين والمبدعين في العالم، بل نريد الحصول عليها جاهزة بالاستيلاء عليها، على الطريقة البدوية القبلية؛ فهي ثقافة تجارة وصيد وقنص وكر وفر، تستولي على ما بيد الآخر بدلا من أن تنجز مثلما أنجز وأن تتحضر مثلما تحضر.
الفصل السادس
دولة الرب
كثيرا ما راودني سؤال شديد البساطة: لو كانت إرادة الله تبغي إقامة دولة ربانية على الأرض، فلماذا لم يفعل ذلك من بدء التاريخ؟ لماذا لم يقم دولة المدينة الفاضلة الكاملة التامة المانعة؟ ولماذا لم يضع لها دستورا وقوانين أفضل مما صنع اليونان والرومان والفرس، وبما يتناسب وعظمة الرب حتى تكون دولته هي القدوة والمثال لكل البشرية. بينما ما حدث في واقع دولة الرب الأولى المزعومة (إن جاز تسمية دولة الخلافة الراشدة بذلك)، أنها طلبت المعونة المعرفية والفنية والإدارية والفلسفية والقانونية من دول الحضارات المفتوحة، التي صنعها البشر خلال تاريخ طويل من التجارب، ولم يجدوا حلا سوى الإبقاء على الأنظمة القديمة في تلك البلدان معمولا بها تحت سيادة العرب المسلمين. فما حدث هو أن العرب استولوا على دول قائمة ذات مؤسسات وأنظمة شغالة منذ قرون طويلة وحكموها، ولكنهم لم ينشئوا دولا البتة، وهو الأمر الذي فسر لي، لماذا أغفل الإسلام مسألة مهمة مثل الدولة ونظام الحكم كل هذا الإغفال رغم عظيم خطورته، ولم يدل بدلوه في فلسفة الحكم والسياسة، مكتفيا بما وصل إليه البشر في أرض الله الواسعة في شئون الإدارة والسياسة بما لا يستدعي تدخلا منه، واكتفى بتصحيح ما رآه ضروريا، فأضاف لما عرفه البشر من أديان إضافات جديدة مثل صيام رمضان وقدسية الكعبة والحج إليها والاعتراف بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ، ووحدانية الله المطلقة وغير ذلك من شئون الإيمان، وترك للبشر ما نجحوا في أدائه فلم يجدهم بحاجة لإرشاد أو نصح في طرق الزرع والري والصرف والحصد، ولا في فنون البناء والمعمار، ولا في الرياضيات ولا في الهندسة ولا في الكيمياء، ولا في شكل الدولة ولا نوع نظام الحكم، ولا فنون الإدارة وشئون السياسة، فلم يتدخل في السياسة ونظم الحكم وأساليب الحضارة، لعلمه الكامل أنها كلها مجالات تخضع للتغير والتطور والتقدم، وأنه لو قال فيها قولا لثبتت وتوقفت عن النمو بما هو ضد قانونها، وهو التغير والتطور أبدا، علينا أن نفهم أن عدم تدخله هو شهادة تقدير عظيمة، ونيشان على صدر البشرية من ربهم بأنهم نجحوا نجاحا سياسيا وحضاريا، وليس أدل على ذلك من صمود هرم المصريين القدامى أمام عوادي الزمان فلم يهدم مرة، بينما كعبة الرب هدمت وأعيد بناؤها سبع عشرة مرة حسب إحصاء كتب التاريخ الإسلامي، إضافة إلى دمارها الكامل في فتنة جهيمان العتيبي أواخر القرن الماضي.
ولا بد أن تلحق بالسؤال توابع تتساءل: هل يمكن أن نتصور أن الله كان راغبا في إقامة دولة على الأرض، دون أن يصحب هذه الرغبة بقواعد إقامة هذه الدولة منذ فجر البشرية أو حتى مع الدعوة الإسلامية؟ أم كان لزاما على المسلمين أن ينتظروا أربعة عشر قرنا حتى يظهر حسن البنا والإخوان وحزب التحرير ليكتشفوا لنا تلك الرغبة الإلهية الإسلامية المخفية! وبسبيل الحفاظ على هذا السر لم يفصح الله عن رغبته تلك سواء في أعماله الكاملة أو بالتوراة أو بالزبور أو بالإنجيل أو بآخر هذه الأعمال قرآنه أو في سنة نبيه حتى باح به للإخوان في زماننا؟!
الإخوان يعلنون لنا أنهم قد جاءوا لينقذوا الأمة، وأنه لا يصلح لآخرها إلا ما صلح لأولها، ومعهم منقذون آخرون للأمة من كل لون وشكل، من حزب تحرير، إلى تكفير وهجرة، إلى فقهاء أزاهرة، إلى جماعة إسلامية، إلى جماعة سلفية، إلى جهاد إلى عدل وإحسان، إلى حماس، إلى حزب الله، إلى وعاظ فضائيات، إلى ابن لادن، وابن هويدي، والزرقاوي، وأبو سياف، والقرضاوي، والعوا، ومقتدى الصدر، وجيش المهدي، وهم كثير، لكنهم جميعا أقنعة مختلفة لوجه واحد فكلهم داخل الجبة نفسها والأيديولوجيا نفسها، وكل فريق يرى نفسه الإسلام الصحيح وأنه المنقذ المختار بتأويله وتفسيره لصحيح الدين، ويفجرون وينسفون نيابة عنا ونحن لم نخترهم ولم نبايعهم، ويحارب كل فريق منهم بإسلامه الصحيح، الفريق الآخر وإسلامه غير الصحيح، ولكنهم يجتمعون جميعا عند مبدأ الدولة والاستيلاء على السلطة وإقامة الحكومة المسلمة.
Unknown page