Intikasat Muslimin

Sayyid Qimni d. 1443 AH
156

Intikasat Muslimin

انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح

Genres

(1) البعد التاريخي

سبق لي معالجة موضوع الحجاب من على أرض المقدس والمأثور الإسلامي، من وثائقه المعتمدة وتاريخه العقدي في صحيفة القاهرة تحت عنوان: «مكانة الحجاب بين فضائل العرب»، وأعدت نشره في كتابي «الحجاب وقمة ال 17». ولأن الفارق بين الحجاب والنقاب هو فارق في الدرجة وليس فارقا في الكيف والنوع، فسأتناول الظاهرة هذه المرة من منظور العقل وحده وفق شروط القراءة السوسيوبوليتكية التاريخية، لتوصيف الظاهرة وتحديدها مفهوميا ورصد أهدافها ومنطقها، إذ لا شك أن ظاهرة تفرض هذا الحضور ولها هذا التأثير في المجتمع المسلم، لا بد لها من أغراض وأهداف تريد تحقيقها على الأرض.

لكن الأوضاع في بلادنا كثيرا ما تربك المراقب والراصد، فلا تعرف هل الحجاب والنقاب فرض ديني وتكليف شرعي كالصلاة والصوم والشهادتين يكفر تاركه ومنكره أم هو ظاهرة اجتماعية تظهر لتختفي ثم تعود ثم تذهب؟

فإن كان النقاب فرضا دينيا فلماذا يتركه المسلمون زمنا ليعودوا إليه في زمن آخر؟ وهو الأمر الذي لا يحدث مع فروض وأركان الإسلام الأخرى الثابتة ثبات الدين! وهل لو كان من دين المسلمين حقا وفعلا وعن قناعة فلماذا لا يثبت ثبات الفروض الإسلامية الضرورية المعروفة؟ أم هو ليس من أصول الإسلام وأنه ظاهرة اجتماعية نسبية ذات علاقة بظروف المجتمع واقتصاده وسياسته، وأن هذه الظروف هي التي تؤثر في ظهوره واختفائه بقصد ورغبة من المجتمع مثله مثل سائر موديلات الملابس باختلاف الثقافات والأزمنة؟

مصر قبل الفتح الإسلامي لها كانت المرأة المصرية سافرة متزينة وأيضا عاملة منتجة، فكان عمل الحقل لا يستقيم للرجل بدون معاونة زوجته، ولأن العمل يكون في عجين الطين وسحب للمياه وسد القنوات وفتح أخرى بمراكمة الطمي هنا أو إزالته هناك مع بقية ضروب وسائل الفلاحة، فقد فرض العمل ظروفه على المرأة المصرية حيث لا يصلح حجاب ولا نقاب ولا إدناء للجلابيب؛ لأنه سيكون معوقا ومعطلا عن الإنجاز والإنتاج الحقلي.

لهذا لم يكن عيبا ولا عارا ولا لافتا حتى النظر إلى ثدي المرأة وهي ترضع طفلها في السوق، ولا إلى فخذيها العاريتين وهي تعجن الطين في الحقل أو تغسل الملابس والأواني على شط النيل. وظلت المرأة المصرية على حالها بعد الفتح الإسلامي بفرض من البيئة وشروطها وبقرار من الظرف الإنتاجي. وحدها الطبقات المصرية المالكة والأكثر ثراء والتي لا تعمل بيدها لتنتج، هي التي أرادت تثبيت سيادتها بتقليد السادة العرب الغزاة، فلبست ملبس نساء الفاتحين، أما الفلاحة والعاملة المصرية فقد ظلت امرأة منتجة لا يلزمها سوى ما يناسب إنتاجها من ملبس، وهبطت على البلاد غزوات جراد فاتح أكثر تعصبا وتشددا سواء زمن الفاطميين الشيعة أو الأيوبيين السنة أو المماليك أو العثمانلية، وظلت الفلاحة المصرية في غنى عن أزياء السادة، بينما أخذت الطبقة الوسطى تسعى إلى اللحاق بالأرستقراطية، فلبست نساء التجار وكبار المالكين على الوجه نسيجا شفافا رقيقا كنا نسميه «البيشة»، وهو ما تم تخفيفه زمن الاستعمار العثماني إلى «اليشمك»، وهو مجموعة خيوط متشابكة في جدائل هندسية لا تحجب شيئا، إضافة إلى علامته الطبقية بقدر الذهب الذي يزينه.

ومع ثورة 1919م التي قادتها الطبقة الوسطى المصرية، قرر المجتمع المصري أن يعلن المساواة بين مواطنيه، فخلعت المرأة المصرية الحجاب الطبقي وتبعتها في ذلك معظم الدول العربية والإسلامية، عن إرادة ومجاهرة بتأسيس مفكري عصر النهضة، ورجل الحقوق النسائية الأبرز قاسم أمين، وبالطبع سيدة العفاف والطهر هدى شعراوي التي خلعت الحجاب ومعها كل المصريات في ليلة وضحاها، بقرار اجتماعي إرادي واع نزلت بموجبه ربات الخدور الناعمات من أسر جناح الحريم، إلى العمل السياسي والعمل الإنتاجي وتحصيل العلم لتنافس الرجال في بناء الوطن مع الفلاحة المصرية التاريخية. وهو ما ظل حتى عهد قريب إحدى أهم مفاخر ثورة 1919م، حتى وصف التاريخ زمنها بأنه «عصر النهضة والتنوير»، الذي بلغ تأثيره جزيرة العرب فخلعت المرأة النقاب والحجاب، خاصة الطالبات منهن في المدارس والجامعة (انظر الصور المرفقة)، وهو كله ما يعني أنه لو كان الحجاب والنقاب جوهريين في دين الإسلام، إذن لهلك الإسلام يوم خلعت المرأة المسلمة المصرية الحجاب والنقاب ومعها نساء العرب، وهو ما لم يحدث، ولا تفوتك هنا الملحوظة الأهم وهي أن خلع الحجاب والنقاب قد ترافق مع عصر النهضة والتنوير، بينما ترافقت العودة إليه مع انحطاط الأمة التمامي في زمن الهزائم والخيبات، بعد استيلاء العسكر على الأوطان، وما انتهى إليه الاستبداد باسم الأمة وقضاياها الأيديولوجية إلى توالي الهزائم التاريخية الهائلة، وما صاحبها بالضرورة من رد عنيف على هزائم عنيفة بظهور جماعات الإسلام السياسي الإرهابي، الذي كان لا بد أن يفرض سلطانه عبر رموز وشعارات تشير إليه وتميزه. فكانت العودة إلى الحجاب والنقاب شرط إثبات إسلام الأسرة المسلمة مع ما يسمى بالصحوة الإسلامية وطفرتها البترولية، التي كان ثمنها الفادح ألوف الشهداء المصريين على ثرى سينائنا الغالية، عبر سنوات قتال استمرت من 1967م حتى 1973م.

مع ما أسموه الصحوة، عاد الحجاب والنقاب عابقا برائحة النفط الصحراوي الجافة القاسية، وخلال السنوات الأخيرة بدأت النقلة المرحلية التالية من الحجاب بموديلاته المتعددة إلى النقاب، لكنه ليس كنقاب البيشة واليشمك، إنما نقاب وهابي، هو وما يوضع على عيني الدابة الدوارة موديل واحد لا غير.

الملحوظة الأهم في تلك الظاهرة هي مدى السهولة التي ينتقل بها شعب بأسره كالشعب المصري (ومعه كل العرب المسلمين تقريبا) من حال إلى حال، ومن زي متعارف عليه اجتماعيا إلى زي سبق له استخدامه وسبق له أن تركه ونفاه من حياته بإرادته، وحسبناه تاريخا مضى وانقبر، فإذ به يعود بكل يسر وسهولة!

إن شعوبا يسهل عليها في سنوات قليلة أن تغير زيها من النقيض إلى النقيضة التام، مع ما يترتب على هذا التغير من انقلاب في كل المفاهيم والقيم الأخلاقية والسلوك الاجتماعي التي ترتبط بهذا الزي أو ذاك، إن شعبا يخلع زيه ومعه ثقافة برقها ومنهج حياة بكليته، ويعود ليلبس ما كان سبق وخلعه، ويعود مرتكسا إلى ثقافات أقدم في التطور، هو شعب مضطرب متردد يخسر أي إنجاز ممكن أو محتمل؛ لأنه لا يقطع الشوط إلى نهايته، إنما يعود من منتصف الطريق متجها إلى الخلف، إلى نقطة البداية ليسير عكس سير كل الأمم عبر التاريخ، على الطريق النقيض معنى ومبنى ومكانا وزمانا.

Unknown page