توطئة تشخيصية
الجزء الأول: الدولة الإسلامية ومتابعات جديدة
1 - هلوسات صحوة الموت: فقه النصر والتمكين
2 - الإخوان الوهابية
3 - الدولة الوهم
4 - حنانيك قارئي
5 - الإسلام والحضارة
6 - دولة الرب
7 - حوار مفتوح، مع أبي الفتوح
8 - مستقبل الدولة الدينية: هل في الإسلام دولة ونظام حكم؟
9 - رئاسة النبي والراشدين في ميزان الدولة
الجزء الثاني: نحو تأسيس ثقافي للقيم
قبل أن تقرأ الموضوع
1 - تبسيط مفهوم القيم
2 - قاصمة الظهر
3 - من القيم الذاتية إلى القيم الإنسانية
4 - هل غير المسلم ذو خلق بالضرورة
5 - قمة السقيفة كنموذج ثان
6 - إنهم يغشون القيم
الجزء الثالث: جدل ثقافي
1 - حوار لم يكتمل مع المرحوم عبد الوهاب المسيري
2 - فلما اشتد ساعده رماني!
3 - درس في البحث العلمي وأخلاقياته
4 - ها هم يقفون عرايا!
5 - حكاية الخمر في عرس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة رضي الله عنها
6 - علي جمعة وفتواه التكفيرية
7 - أوباما
8 - أبعاد ظاهرة الحجاب والنقاب
توطئة تشخيصية
الجزء الأول: الدولة الإسلامية ومتابعات جديدة
1 - هلوسات صحوة الموت: فقه النصر والتمكين
2 - الإخوان الوهابية
3 - الدولة الوهم
4 - حنانيك قارئي
5 - الإسلام والحضارة
6 - دولة الرب
7 - حوار مفتوح، مع أبي الفتوح
8 - مستقبل الدولة الدينية: هل في الإسلام دولة ونظام حكم؟
9 - رئاسة النبي والراشدين في ميزان الدولة
الجزء الثاني: نحو تأسيس ثقافي للقيم
قبل أن تقرأ الموضوع
1 - تبسيط مفهوم القيم
2 - قاصمة الظهر
3 - من القيم الذاتية إلى القيم الإنسانية
4 - هل غير المسلم ذو خلق بالضرورة
5 - قمة السقيفة كنموذج ثان
6 - إنهم يغشون القيم
الجزء الثالث: جدل ثقافي
1 - حوار لم يكتمل مع المرحوم عبد الوهاب المسيري
2 - فلما اشتد ساعده رماني!
3 - درس في البحث العلمي وأخلاقياته
4 - ها هم يقفون عرايا!
5 - حكاية الخمر في عرس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة رضي الله عنها
6 - علي جمعة وفتواه التكفيرية
7 - أوباما
8 - أبعاد ظاهرة الحجاب والنقاب
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية
التشخيص قبل الإصلاح
تأليف
سيد القمني
توطئة تشخيصية
انتكاسة المسلمين إلى الوثنية!
معظم دول الإسلام، أو رجل العالم المريض، تأتي في مرتبة أكثر البلدان تخلفا على كل المستويات، وما زاد الأمر نكاية هو الصحوة الإرهابية التي جعلت من المسلمين أصحاب الحظ الأوفر في العمليات الإجرامية الأشد بشاعة في العالم؛ مما استجلب على المسلمين عداء العالم كله، في وقت يشكلون فيه أشد الشعوب تخلفا وضعفا وما أكثر عددهم وما أكثر هزائمهم، وهو ما استتبع ليس العداء فقط، بل الاحتقار والحصار ومعاملة المسلمين معاملة ترويضية، كمن يروض حيوانات مفترسة لم يرتق إدراكها بعد، ولا تملك حسا أو ضميرا إنسانيا، فيطعمه ويسقيه بالمعونات لكن يحدد له دورا لا يتجاوزه، ويقسو عليه أحيانا أخرى فيحاصره ليتم تحجيمه باستمرار، ويحافظ على بعضهم من الانقراض كحفرية حية، ويترك بعضهم في مناطق أخرى يأكلون بعضهم في فوضى خلاقة حتى تصفو النيران عن رماد خامد غير ضار.
وبسبيل العثور على ثقب في هذا الواقع الآسن نحو تغيير وإصلاح يؤدي إلى خلاص وانعتاق منطقتنا مما هي فيه، انقسم المفكرون في بلاد المسلمين على أطيافهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلى فريقين رئيسيين: فريق أرجع الأزمة إلى عدم التزام خير أمة أخرجت للناس بدينها حسب الأصول، وهو ما يجعلها تطلب النصرة السماوية فلا تستجيب السماء لها، بل تنزل بها النوازل والإهانات والكوارث يقفو بعضها بعضا، في عملية تأديب ربانية للأمة كلها؛ وذلك لأنها فرطت في فروض وحدود دينها وتأثرت بما عند الشعوب الأجنبية من أساليب عيش هي على النقيض مما جاء في إسلامنا؛ لذلك حقت علينا النقمة الإلهية، ولا حل إلا بالعودة الكاملة الخالصة إلى هذا الدين والالتزام الدقيق بأوامره ونواهيه وفروضه وحدوده الشرعية وأخلاقه السامية، والتسنن الكامل بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسنن الراشدين الهداة المهديين. وعندما يتيقن ربنا من استئهالنا للرحمة حسب معاييره، وقدر رضاه عما حققنا من حسن عبادة وإخلاص، فإنه سيتدخل بنفسه لإنقاذ أمته التي اصطفاها لقيادة العالمين، وهذا الفريق هو الأكثر انتشارا بين جماهير المسلمين.
ويغلب على هذا الفريق روح التنظيم لتعودهم الطاعة المطلقة، فيشكلون جماعات شديدة التنظيم والانضباط والاستجابة الحركية السريعة، تبدو بينها على السطح خلافات في الدرجة لكنها غير نوعية؛ فهي تتوافق جميعا على الأهداف وإن اختلفت الأساليب، ويزعم هذا الفريق أننا قد جربنا العلمانية (يقصدون الدكتاتوريات العسكرية) والنظام الجمهوري والنظام الملكي والاشتراكية والرأسمالية، وسقطت جميعا وسقطنا معها في المزيد من التخلف والانهيار، ولم تجلب تلك التجارب سوى الهزائم المتتالية دون خلاص واضح في المستقبل المنظور، ولا يبقى سوى استيلاء أنصار هذا التيار على الحكم ليحكموا المجتمع حكما إسلاميا، أو الأحرى أن يفرضوا سلطانهم من خلف ستار لحكام مدنيين أو عسكريين شكليين، بحيث يكونون هم المرجعية في اتخاذ أي قرار أو إصدار أي قانون، وأن يكونوا هم الهيئة المحاسبية الأولى الرقابية، دون أن يحكموا بشكل ثيوقراطي مباشر، وبموجب هذا الشكل من الحكم تتم الأسلمة الكاملة للمجتمع والدولة، وعندئذ سوف يتدخل رب السماء لينصر أمته ويعيد إليها أمجاد الفتوحات، كما نصر السلف وهم أراذل أذلة.
أما الفريق الآخر (العلماني) فقد ذهب مذهبا هو على النقيض بالمرة من الفريق الأول، وهو الأقل انتشارا بين الجماهير لكنه الأكثر قدرة على الوصول إلى حلول علمية، والأكثر منطقا، والأقوى حجة، ويستند إلى الواقع الملموس في نجاح العلمانية أينما طبقت؛ لذلك تتم محاربة هذا التيار وطعنه لدى المسلمين بكونه يناهض الدين ويناوئه، حتى لا يصل إلى الناس أصحاب المصلحة فيه، ويعاني هذا الفريق، إضافة إلى التحريض ضده وتبخيسه وتكفيره وتخوينه، خللا شديدا أصيلا في بنيته؛ لأن العلمانية أو الليبرالية هي حرية فردانية بطبيعتها وبما تتضمنه من مفاهيم، فيكون الفرد عصيا على الانضباط والتنظيم الحركي، ولا يخضع العلماني إلا لقوانين العقل والعلم والأصول الحقوقية والدستورية للمجتمع المدني، التي يطيعها عن اقتناع وإيمان بحفظها لسلامته وسلامة المجتمع؛ لذلك فالليبرالية لا تقوم في مجتمع إلا عندما تنتشر بقوتها الذاتية، وقدرتها على الإقناع وما تملكه من وسائل وأدوات للأمن الاجتماعي، وما تحظى به من أدوات علمية تقدم بها نفسها مدعومة بالبرهان والدليل مع نضج الأوضاع الاجتماعية لقيام طبقة صاحبة مصلحة فيها تؤسس لها وتحميها؛ وهو الدور الذي أنجزته في أوروبا الطبقة البورجوازية بعد الثورة الصناعية.
والفريق العلماني بالطبع لا يرجع الأزمة إلى تأثر المسلمين بثقافات غير إسلامية، بل يرى أنهم أبعد ما يكونون عن هذه الثقافات بعدا سحيقا، ولا يرى أن مصائبنا تبدأ مع الاستعمار الحديث وسقوط الخلافة؛ لأن الخلافة كانت قد مرضت وشاخت وكانت تنتظر من يعلن وفاتها فقط، بل إنها كانت هي مصيبة هذه المنطقة من العالم، وإن الاستعمار لم يكن سبب ضعفنا، باحتلاله بلادنا؛ لأنها كانت ضعيفة أصلا؛ مما سمح للآخرين بالتعدي عليها، فضعفنا أصيل في بنيتنا الثقافية، وكان هو سبب الاستعمار وليس نتيجته؛ ومن ثم يعيد هذا الفريق أزمة المسلمين إلى تمسكهم بتراثهم الذي تجمد وتجمدوا معه، وهنا ينقسم هذا الفريق «العلماني» إلى موقفين (إضافة إلى الاشتراكيين): موقف يرى أن الخروج من الأزمة يتطلب التحرر التام والانعتاق الكامل من سلطة التراث الإسلامي أو أي دين آخر، الذي يعوقنا عن التقدم والتكيف مع العصر. وموقف آخر يرى أن المأثور الإسلامي جزء لا يتجزأ من ثقافتنا يستحيل إجراء قطيعة تامة معه؛ لأنه هدف غير قابل للتحقيق بالمطلق؛ لذلك فالحل يكون بإعادة قراءة هذا المأثور الهائل وإعادة تصنيفه وتبويبه، وتجديد فهم النصوص بما يتلاءم مع مصالح البلاد والعباد وظروف العصر ومقتضياته. وصاحب هذا القلم يعتبر نفسه ضمن أصحاب هذا الموقف الثاني من التيار العلماني، ويرى وجوب أن يتم هذا التجديد أو القراءة الجديدة بما لا يصدم الإيمان الإسلامي، ودون الدخول في صراع طائفي مذهبي بين القراءات؛ أي تقديم قراءة تصالحية سلامية للمسلمين قادرة على مواكبة المستحدث في عالمنا الدءوب تغيرا وتبدلا، مع الطموح إلى أن تحوز هذه القراءة رضا المسلمين وأيضا رضا غير المسلمين، وهي مهمة على هذا النحو تبدو عسيرة بل ربما مستحيلة، لكننا سنحاول تجاوز هذه الاستحالة في هذه المجموعة من الدراسات مستعينين بحب جارف لهذا الوطن وللناس في هذا الوطن، وإيمان غير مشوب بقدرة الإسلام والمسلمين على تجاوز كبوتهم التاريخية؛ لأن أزمة المجتمعات الإسلامية تنهض على واقع مختل، تحزبت فيه المجتمعات الإسلامية لدينها وتراثها، بينما هذا التراث تحديدا ما عاد يتجدد أو يتبدل كما كان في حياة صاحب الدعوة عندما كان الوحي يستجيب للمتغيرات، فكان الله في حياة صاحب الدعوة يتفاعل بوحيه جدلا أخذا وعطاء مع حركة الواقع المتغير، فكان ينسي آيات ويبدل أخرى ويرفع وينسخ ويمحو ويثبت: آيات غير آيات، وحديث غير سابقه، وفعل نقيض سالفه، ويتطور مراعيا وقائع الأرض وظروفها المادية البحتة. وبوفاة صاحب الدعوة وتوقف علاقة السماء بالأرض، تجمد المسلمون عند آخر نص في تطور الأحكام ليعتبروه حكما نهائيا صالحا لكل زمان ومكان، بينما هو في حقيقة الأمر ودون أي تجن خارج المكان والزمان، والرؤية الوحيدة القادرة على جعله صالحا لكل زمان ومكان، تنبع من داخل الإسلام ومن ميكانيزمات تكون الوحي خلال 23 سنة؛ فالدرس والأغراض النهائية فيه، هو إثبات مبدأ التغير والتطور مع كل جديد، وليس الوقوف عند آخر تطور حدث في حياة صاحب الدعوة، لأن التطور والتغير هما قانون الكون الأوحد الثابت.
والخطورة اليوم ليست على دين الإسلام؛ فالدين؛ أي دين، لا يموت ولا يندثر؛ ولأنه فكرة، لأنه ثقافة؛ فما زالت الجميلة بين الآلهة الرافدية «عشتروت» تحاط بالرعاية والتكريم في كل ثقافات العالم وفي كل متاحف الدنيا، يحيط بها عشاق من كبار العقول الأركيولوجية وفلاسفة التاريخ والأديان، ومثلها «إيزيس» المصرية، و«أدونيس» الفينيقي، و«البعل» الشامي. وقصة الخلق المصرية، والبابلية، وملحمة جلجامش، وحكايات ملقارت، وملحمة الطوفان البابلي، كلها محل احترام فلم تفن وما زالت من التاريخ، بل وجدت عشاقا من لون آخر ونوع آخر، ومن انتهى من التاريخ هم البشر من أتباعها وعبادها. ليست الخطورة إذن على دين المسلمين؛ فالدين له صاحب كفيل به، بل الخطورة الحقيقية هي على المسلمين من الزوال الوجودي من عالم البشرية بالاندثار التام، بعد أن غابوا عن هذا الوجود كفكرة وفعل وعطاء، وغرقوا في مستنقعات الجهل والخرافة والتخلف والجمود والاستبداد والانحطاط الخلقي والإنساني، رغم أن المسلمين يشكلون حوالي خمس البشرية على الأرض. هنا الذعر الحقيقي أن تطول الأزمة بالمسلمين فيغيبوا وجودا كما غابوا حضورا ثقافيا، وهم - حسب ما نعتقد كمسلمين - المكلفون بالشهادة على الناس، بحسبانهم أمة وسطا حسبما أخبر القرآن الكريم، بينما هم ما عادوا لا أمة وسطا ولا طرفا، ولا هم أمة أصلا بحالهم هذا، ولو قلنا تجاوزا إنهم أمة، فهم أمة مريضة تصدر أمراضها كراهية وإرهابا للعالمين.
وينعى المسلمون على الغرب الكافر تحلله الأخلاقي وعريه وحرياته اللامحدودة، ويعتقدون أن الأخلاق قاصرة على الإسلام والمسلمين، وأنها الشيء الوحيد تقريبا الذي تملكه؛ لذلك تعتز به وتنافح عنه وتباهي به الدنيا، رغم أن الصحوة الإسلامية أثبتت عدم امتلاكها حتى هذا الجزء المعنوي الذي تتباهى به، فأسقطت جميع القيم الأخلاقية دفعة واحدة، فصار الكذب مباحا بعقيدة «التقية»، وأموال البنوك مستباحة لأنها ربوية، وأموال غير المسلمين غنيمة مستباحة لأنهم محاربون شاءوا أم أبوا وسواء أكان ذلك موافقا فعلا لشرع الله من عدمه، هذا ناهيك عن فقه كامل يكرس الاغتصاب بملك اليمين يتم تدريسه حتى اليوم في الفقه على المذاهب الأربعة في مدارسنا الدينية من الأزهر إلى طالبان. ناهيك عن استمرار الشيعة في العمل بنكاح المتعة، إضافة إلى مسيار القرضاوي، وزواج الفرند عند الشيخ الزنداني، والعرفي، ومفاخذة الرضيعة كما أفتى خميني ... إلخ، ولا تفهم معنى الزنا هنا بالمرة، ولا أين هي الأخلاق التي يفاخر المسلمون بها العالمين والتي تقف جميعا عند أخلاق الجنس وحدها، وهي الأخلاق المفقودة حتى في هذا العنصر الخلقي الوحيد الذي نتباهى به حجابا ونقابا دليلا على عفتنا الجنسية التي هي كل الأخلاق بنظرنا.
المشكلة التي ستواجه الجديد هنا هي اعتقاد المسلم بعصمته، والكمال التام للتراث الإسلامي بكليته؛ رغم أن التراث الإسلامي بوضعه الحالي قد اختلط فيه الإلهي بوجهة النظر الفقهية بالمذهب بالتأويل المناسب لعصر دون عصر، بتقنين تشريعات على المذاهب المختلفة على ما بينها من اختلافات شديدة التباين والتناقض على أبسط الشئون، التي لا تحتمل رأيين أو تفسيرين، كما في حال الحدود التي تفعل العقوبات البدنية مثلا، فقطع يد إنسان ليس شأنا بسيطا حتى تختلف المذاهب السنية الأربعة حول مستوى القطع: هل هو من الأصابع أم من الكف أم من الكوع أم نخلعها من الكتف خلعا؟ وهي آراء المذاهب الأربعة في مستوى القطع! ناهيك عن القصور الشديد في هذه الشريعة عن مواكبة الزمن، وهذا قول لا يشين الشريعة ولا يقلل من قيمتها فقط، دون إغراق في المثالية التي أعتبرها في كثير منها كانت صالحة لزمنها وحده، ومما لا يتوافق مع زماننا كمثال واحد، كانت الشريعة تعاقب بالقطع على السرقة إذا كان المسروق في حرز أي في مكان مغلق، لكنها لا تعاقب بالقطع على سرقة السائبة؛ فهي ليست سرقة تستحق القطع، كالسوائم الهائمة في الطرقات أو في البراري، وبتطبيقه اليوم ستكون سرقة السيارة غير مستوجبة للقطع لأنها سائبة، بينما ستكون سرقة الكاسيت الموجود داخلها هي العقوبة التي تستحق القطع؛ لأنها في حرز حسب شريعتنا. المهم أن ذلك إنما يعني استحالة تطبيق العقوبات البدنية بشكل نضمن فيه العدل التام وعدم ارتكاب الإثم في الحكم؛ وهو ما يعني أيضا أن الشريعة كما هي عليه الآن هي وضعية كأي قانون وضعي، من وضع فقهاء لم يكن يأتيهم جبريل بالوحي.
ومن بين هذه الشرائع التي وقفت عند زمانها لا تريم حراكا، ويتم فرضها على واقعنا التشريعي والقانوني فيما يعرف بقوانين الأحوال الشخصية، والتي هي الأشد مساسا بمعاش الناس اليومي، قوانين الزواج والطلاق التي لا تكترث لجريمة الخيانة إلا مع الأنثى المحرم عليها ما هو حلال للذكر؛ فله الزواج بأربع، وله وطء ما لا عدد له ممن ملكت يمينه دون أن يعتبر ذلك زنا في حق الحياة الزوجية يستحق العقوبة وأقلها فسخ العقد برغبة الزوجة المتضررة، وهو ما لم يحدث إلا بعد إقرار قانون الخلع في مصر، الذي يعيد للزوج كل مليم دفعه بعد الأكل والمرعى والمتعة، حتى تستطيع الزوجة أن تنال عتقها. هذا بينما شرائع البشرية كلها تعتبر إقامة أي علاقة خارج الزواج المفرد على أي لون كانت هي خيانة زوجية. ويحق للزوج طلاق زوجته دون إبداء أي أسباب. والشريعة على تنوعها الفقهي لا تعطي للزوجة أي حقوق بمجرد تطليقها اللهم إلا شروطا سبق اشتراطها أو مؤخر صداق وافقا عليه. ولسد هذا النقص الشديد اخترع الفقهاء، كل حسبما ربنا قدره عليه، إلزام الزوج بنفقة لزوجته مؤقتة، لم يحدد مدتها ومتى تتوقف (مثلا عند زواج المرأة مرة أخرى لوجود من يعولها)، وهي في الغالب لا تزيد عن مكافأة سنة، أو نفقة بعدد القروء الأربعة، إضافة إلى اجتهاد بسنة أخرى تكاليف على الزواج مقابل المتعة وتسمى نفقة متعة.
وهكذا انحرف المسلمون عن الميزة التأسيسية للإسلام التي تخصه بالفرادة بين الأديان، وهي الاعتقاد بمقدس واحد هو إله مطلق فوق الزمان والمكان؛ فاعتقدوا بعصمة رجال مثلنا يصل عددهم إلى الآلاف، فقدسوا الصحابة استنادا إلى حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.» وتعريف الصحابي: هو من رأي الرسول ولو ساعة؛ أي ولو لحظة، وبهذا يكون تعداد الصحابة المقدسين بالآلاف؛ وهكذا استبدل المسلمون جاهلية ما قبل الإسلام، بجاهلية أكثر نكاية وأشد ضررا، تفتك بعقل المسلمين فتكا، وعادوا وثنيين، وأشد ضراوة في وثنيتهم من الوثنيات التقليدية في تاريخ الأديان. بينما الإسلام نفسه كان واضحا غير ملتبس في قصر القدسية والعصمة على كيان واحد في الوجود هو: الذات الإلهية، ونعى الوثنيات والشركيات والراكنين إلى ما وجدوا عليه آباءهم الأولين، وخاطب مصطفاه بكل صفات العبد التام العبودية، وأنه مجرد حامل للرسالة ليس أكثر، فلا هو رب ولا هو ملك ولا هو معصوم عن بشريته؛ لأن المعصوم هو الكمال الإلهي وحده؛ ومع ذلك أعطاه المسلمون أعلى صفات الألوهية وهي العصمة والكمال؛ وهو يناقض تاريخ جدل الوحي مع الواقع وتدخله الدائب لإصلاح مسار أو قرارات أو مواقف أو تشريعات، أخطأ فيها النبي ببشريته وفطرته. فالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
في صحيح إسلامنا هو عبد من عباد الرحمن ونبي كريم، أدى رسالة ربه تامة كاملة صافية بيضاء نقية. وقد خشي النبي
صلى الله عليه وسلم
أي قدسية قد تلحقه شخصيا إذا ما حفظ المسلمون كلامه «حديثه» إلى جوار القرآن كلمة الله التامة؛ لذلك نهى وأكد النهي عن تدوين حديثه وأمر بوضوح: «لا تكتبوا عني سوى القرآن.» ورغم ذلك سمح المسلمون بالتدوين عن نبي نهاهم عن التدوين «وما نطق عن هوى»، بل واختلاق الأحاديث المكذوبة ونسبتها إليه، بل وحازت تلك الأحاديث قدسية في المذهب السني ترفعها فوق القرآن كرامة وفعلا وقدسية، فقالوا: إنها تنسخ آيات القرآن؛ كما في إصرارهم على وجوب الاستمرار بالعمل بحد رجم الزاني المحصن استنادا إلى الحديث وحده دون وجود نص في القرآن بهذا الحكم، وإن كان حد الرجم في الأصل نصا قرآنيا منسوخا فالذي نسخه وألغاه حتى اختفى من القرآن المدون، هو صاحب القرآن؛ رب العزة والجلالة، وليس فقيها من الفقهاء،
قاتلهم الله أنى يؤفكون .
كل هذا الرتل مضاف إليه الزي المشيخي أصبح محل هيبة ورهبة وتقديس وعصمة وكمال مطلق، حتى ألحق المسلمون القدسية بمن لا قدسية لهم من بشر؛ كالصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، أو كالمحدثين مثل البخاري، أو الإخباريين كابن كثير، حتى وصل التقديس إلى مشايخ وعاظ كالشعراوي مثلا. فأصبحت تقام له المقامات وتعقد له الندوات وتصنع لتاريخه مسلسلات تعيد زمن المعجزات والألطاف الربانية، المفتراة على رب العزة.
ترى، هل أهان المسلمون ربهم، فأهانهم وخسف بهم وكسف عنهم فصاروا عبرة للأمم عندما تضل بها المسالك إلى المهالك؟ هذا هو أول الغيث القاسي وبداية التشخيص الموجع، في خريطة الطريق نحو الإصلاح.
لم يسبق أن مرت بلاد المسلمين بمثل هذه الفترة التي تغطيها الفوضى الكاملة، فمنذ الصحوة الإسلامية والحرب الأفغانية ضد السوفييت، حتى أحداث 2001م وما بعدها وحتى اليوم، حدثت تحولات انتكاسية عنيفة، فدخلت البلاد الإسلامية في طور من الاضطراب والتخلف زيادة على تخلفها الأزلي، وانتشار الأمراض الاجتماعية حتى وافت على غيبوبة ما قبل خروج الروح. مع هذا ورغم كل مظاهر الانحطاط التام فإن دعاة الفكرة القومية العنصرية، ودعاة الفكرة الإسلامية الطائفية، يؤكدون على هذا التوصيف لحالنا؛ فإنهم في الوقت نفسه وشعوبهم في حالة كبوة هائلة، يروجون أن ما يحدث في بلادنا هذه الأيام هو انتصارات لأمة الإسلام وللأمة العربية، وأن هناك نكسات بسيطة هي إلى زوال، وتتمثل تحديدا في دويلة الكيان الصهيوني المغروسة وسط الأمة لتمزيقها، وحليفتها الكبرى الخاضعة للوبي الصهيوني، الولايات المتحدة الأمريكية، وعدا ذلك كان من الممكن أن يكون المسلمون سادة الكوكب الأرضي، وأن أي مصائب تلحقنا فهي ليست من عند أنفسنا، إنما هي من عند الغرب الكافر اللئيم الشرير الذي يبيت ساهر الجفون يدبر لنا المكائد والمؤامرات، دون الملل والنحل كافة في المسكونة.
المصيبة أن هذين الفريقين (دعاة الفكرة القومية ودعاة الفكرة الإسلامية) هما من يشكلون اليوم المعارضة الواضحة في الشارع للأنظمة الحاكمة القائمة، وهما على اتفاق مع الأنظمة بشكل مدهش ومحير، على تحويل أنظار المسلمين عما يجري لهم نحو ما يجري في بيوت الآخرين في إسرائيل وأمريكا وبقية دول الغرب. وتمكن كلاهما عبر أجهزة تشكيل الرأي العام من صحف ومذياع وتلفاز ومدرسة ومسجد وكنيسة وحسينية من تحويل المجتمع إلى حالة هوس ديني لا نظير له ولا شبيه.
تراه يتظاهر بوحشية كاسرة ضد أمريكا وإسرائيل، وبأشد ضراوة ضد كنيسة وطنية في الحارة المجاورة لأنها تجرأت على ترميم دورة مياه فيها دون إذن المسلمين، ويعتدي بالسب والتبخيس على البهائيين، ولا يرى أبدا حاله ومرضه الداخلي بالمرة، فنبدو بلهاء بشدة عندما نتظاهر بغضب عارم ضد الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول
صلى الله عليه وسلم ، بينما المسجد المجاور والتلفاز والإذاعة تكفر المسيحيين علنا في «بلادنا» بلادهم وعلى أرضهم آناء الليل وأطراف النهار، فنبدو كالآباء الذين ينتقدون أولاد غيرهم المشاغبين طوال الوقت، لكننا سريعو الغضب ممن ينتقدون أولادنا المشاغبين، وهو ما يعطي الحكومات الاستبدادية مبررا لطلب النصرة من هذا الغرب الديمقراطي المفترض أنه ضد الاستبداد، ومبررها هو أن بديل تلك الحكومات التي تدعي الاعتدال وتمارس بعض ألعاب شبه ديمقراطية، بديلها هو هذا الشارع المتوحش المتعطش للدماء الكاره لإسرائيل وكل دول الغرب، بل وربما كل دول العالم غير المسلمة. حتى أصبح من بديهيات الواقع أن تجد الاستبداد واضحا وقائما، وأن تجد الحقوق الإنسانية في حالة غياب تام، حيثما تجد أغاني الهجاء لإسرائيل وأمريكا والغرب كثيرة الترداد وحشية النبرة، متكررة، عالية الصوت.
لقد أمكن للأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية، بامتلاك وسائل التأثير في الناس، أن تقوم ببرمجة شعوبها بألوان من الأفلام والحوارات وبرامج الشو والدراما، التي تدلك غرائز العزة ومكامن القوة المفقودة، فتعاد وتكرر مسلسلات أبطال العرب المسلمين، وسيرتهم العطرة في غزو البلاد واحتلالها، تعظيما لمجد الماضي الإسلامي، وأنه بالإسلام وحده يمكن استعادة هذا الذي ضاع؛ لا وجود في رؤيتها للمواطن وحقوقه أو حتى للوطن؛ لأن تلك الأمجاد التاريخية كلها كانت على أشلاء وكرامة وإنسانية المواطن؛ لأن الهم الشاغل كان وما زال، هو الأمة الإسلامية وليس المواطن؛ فما أكثر المواطنين! وهم كالعدد في الليمون والحمد لله. يمكن أن يكونوا وقودا لمجد الأمة وسلاطينها ورجال دينها وصراعاتهم على الفريسة عند الحاجة. ولأن الاستبداد واحد سواء أكان دينيا أم قوميا، ثوريا عسكريا أم ملكيا أم جمهوريا، فقد توافق الفقيه والسلطان والمعارضة القومية والإسلامية كلهم معا على تقديس ذات الأمة التي هي قدس أقداس القبيلة المسلمة، دون مكونها الحقيقي «الإنسان المواطن الفرد».
وتعرض وسائل إعلامنا نماذج تكاد تجعل من شخوص التاريخ الإسلامي كيانات قدسية، لا تفعل إلا من أجل خير ودفعا لشر، بنبل ومروءة غير موجودة سوى في السيناريو المقدم للناس، بينما التاريخ الإسلامي نفسه في واقعه وفي مراجعه الأمهات يقول شيئا آخر مختلفا بالمرة.
فتاريخ المسلمين كله هو تاريخ فتن وصراع على الجاه والسلطان منذ فجر عصرنا الذهبي منذ الخلفاء الراشدين الهداة المهديين الذين ماتوا صرعى القتل رغم حرصهم على الشرع الذي لم يؤد إلى أمن المجتمع ولم يحفظ لرأس الحكم أمنه وحياته، فانتهت حياتهم قتلا، إلى الثورة على عثمان، ثم واقعة الجمل سنة 36ه، ثم صفين 37ه، ثم مذبحة آل البيت في 61ه، ثم غزو جيش يزيد سنة 63ه لمدينة رسول الله، فقتل من قتل وسبى من سبى وحبلت ألف عذراء من هتك العرض العلني، وهن بنات الصحابة وفي حضرة المسجد النبوي وجسد صاحبه الشريف في ثراه، ثم فتنة المختار الثقفي وابن الزبير في 73ه، ثم ضرب الحجاج بن يوسف الثقفي وجيشه مكة والكعبة بالمنجنيق، ومن يومها لم تتوقف الفتن والملاحم والمحن، حتى سقوط الخلافة العثمانية، ولو دققنا في التفاصيل لما كفتنا ألوف الصفحات التي لم تسجل سوى القتل صبرا والظلم قهرا تحت رايات كلها تعلن إسلامها التام والكامل ... إلخ وكفر غيرها.
ثم اشتبكت الأدوار في بلادنا بعد الصحوة العنترية بين المسجد والمدرسة والجامعة، ولم تعد مهمة المدرسة تعليم العلم الإنساني بل تعليم الإيمان، تتدارس فضيلة النقاب مقارنة بفضيلة الحجاب، وتتباحث في شئون الفرج والطهارة والطمث والمواريث. مع إسراف في تقديس ما لا يصح تقديسه، والدفاع عن الموروث الإسلامي بل احتسابه الكمال ذاته، والنظر إلى التاريخ الإسلامي بعين الرضا الكامل، بل تمني بلوغ ما بلغته الأمة خلال هذا التاريخ الذهبي، حتى يتقدس التاريخ الإسلامي ويصبح محل المثل الأعلى لكل التأريخ؛ مما يخرج كل ما له علاقة بالإسلام سيرة أو تاريخا أو فقها خارج أي محاولة درس نقدي حقيقي، فتخفى المعايب وتستفحل النقائص، بينما هذا التراث المعيوب قد أصبح المرجعية التأسيسية لمثقفي المسلمين، بل يكاد يكون وحده مطلق المرجعية لكل شيء وكل شأن. وفي مناخ كهذا يكون الاقتراب من هذا الماضي بأي رؤية نقدية تلتزم شروط المنهج العلمي هو اعتداء على ثوابت الأمة، بينما يتم النفخ في الذات المعنوية للأمة حتى يجعلوها المنجز الأول لأي حضارة على كوكب الأرض، وأن ما نراه من تحضر ورقي في البلدان الحرة هو منقول عنا، وما كان يتحقق لولانا، أو الأحرى لولا هؤلاء الأسلاف التراثيون. بينما يتم تقليص التاريخ الوطني ما قبل الغزو العربي الاستيطاني لهذه البلدان حتى يكاد يختفي من التاريخ، فتضيع جذور الوطن وتلتبس الهوية: هل نحن مصريون أم عرب أم مسلمون، هل نحن أمة مصرية أم عربية أم أمة إسلامية؟
وهكذا تتم برمجة الشعوب الإسلامية بحيث يتجه عداؤهم نحو عدو متفق عليه هو الذي تسبب بفقدنا ماضينا الذهبي، فيكون الخطأ الكارثي في وجهتنا وفي اختيارنا للتوقيت؛ فالوجهة يجب أن تبدأ بتوجيه العيون والآذان والعقول كلها صوب الداخل أولا وليس الخارج، وقبل فلسطين والعراق والبوسنة والشيشان، بل قبل الكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ لأنه بحالنا هذا لن نضيف للكعبة وفلسطين والمسجد الأقصى سوى المزيد من النكبات والخسائر، بعكس أن نبدأ مشوارنا الاستراتيجي بخطوات تكتيكية تبدأ بنقد الذات وتقويتها حتى يمكنها أن تتخذ في المستقبل ما يناسب واقع الزمن من قرارات صوابية. وسواء أكانت همومنا القومية والإسلامية التي تشغلنا اليوم، موجودة في حسابات الزمن الآتي أم لم تكن.
ومع الغضب العارم والشعور بالقهر والدونية، يرفض المسلمون أن يشكوا في ذاتهم بالمرة، ولا أن يراجعوا مناهجهم وطرائقهم في التفكير وفي أسلوب الحياة، ويلقون بشكوكهم على الواقع الموجود الذي يخرق العيون ويبهر العقول في بلاد أقامت الفراديس على أرضها، ويكون الملوم هو الاستعمار وأذنابه من حكام تابعين أو كما يزعمون. إن المسلمين يقرءون الواقع بعد تمريره على ذائقتهم، وفلترته حسب اختياراتهم وأخيلتهم وتصوراتهم وأوهامهم، لا كما هو على الأرض، رغم ما أثبتته كل النعرات والتجارب الثورية أكانت إسلامية أم عربية على الأرض عبر تاريخها القديم والحديث من مظالم واستبداد لحق بعباد الله المسلمين، دون الكفار في بلاد الغرب الحر الذين يعيشون فردوس الحريات على الأرض، وارتكبت مجازر وشنت حروب وانهارت بلاد وسقطت حدود، وانحسرت قوميات وصعدت أخرى على أشلائها، في حروب إبادة صفرية متتالية.
نحن مع الأسف نريد إعادة صياغة الدنيا كما نحب، لا كما هي عليه في واقع الحقيقة. المصيبة أن هؤلاء أنفسهم من يتصورون أن بيدهم كل الحلول السحرية لمشاكلنا قاموا يدلون بدلوهم في عملية الإصلاح، ليصوغوا لنا الآتي كما الماضي. بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنا، جاءوا يعلنون لنا أنهم مصلحون وأنهم سيصلحون! انظر قارئي (وأنا وأنت من مساكين هذه الأمة) ماذا جنى علينا أصحاب الرؤى الطائفية أو القومية؟ ثم ما دامت بيدهم الحلول السليمة التامة فلماذا لم يصلحوا منذ قرون متطاولة، رزح فيها المسلمون تحت أنظمة حكم اصطلح علم فلسفة التاريخ في العالم كله على تسميتها بمنظومة الاستبداد الشرقي، التي امتدت بطول العالم الإسلامي من الشرق الأوسط حتى الصين. لماذا لم يصلحوا بما لديهم من وسائل وأدوات إصلاح لا تبلى ولا تفنى؟ لكانوا أراحوا تاريخنا مما أثقل ضميره من فتن ونوازل هائلة كما وكيفا، ولأدى ذلك لتقدم هائل مبكر عن كل الدنيا، وكنا سبقنا به العالمين منذ قرون، بدلا من وضعنا المزري على جدول سلم الأمم اليوم، وهو العار بعينه وذاته.
إن الإجابة عن سؤال الدكتور رفعت السعيد المتكرر: «ماذا جرى لمصر؟» هي في جانب منها هام مسألة تكوينية بنيوية تكمن في بنية تكوين الأمة وبنية تفكيرها، فقد تمكنت مصر زمن محمد علي ومن خلفه من بعده طيب الذكر الخديوي إسماعيل، من الخطو نحو الدولة الحديثة المدنية بخطو واثق عبقري، حتى أصبحت في سنوات قليلة تجربة رائدة، ومدرسة يأتيها زوار شرق آسيا للتعلم من التجربة، وزوار شرق آسيا هم الذين أصبحوا اليوم في المقدمة، بينما أصبحت مصر ومعها عربها دملا مؤرقا في مؤخرة الأمم، والعامل الجوهري هنا هو مجموعة صدف نادرة ومتوالية خلال حقبة زمنية قصيرة لا تتجاوز نصف القرن، تمثلت إحداها في ظهور النفط في البلاد العربية؛ مما أدى إلى تغير بنيوي مواز هائل، وحوالى الوقت ذاته كانت الحركات العسكرية الانقلابية قد عمت معظم العالم الإسلامي، لتفرض حكومات وطنية لكنها فاشية بامتياز، ألغت من العقول والضمائر فكرة قبول التعددية المفرطة المتسامحة، لمصلحة التعصب للفكرة الواحدة والزعيم الأوحد والمذهب الأوحد؛ مما يسر السبيل بشدة لما عرف بعد ذلك بالصحوة الإسلامية، التي عمدت وجودها في مصر بمقتل الشيخ الذهبي ثم التضحية لعيد النصر بذبح الرجل الذي ترك لهم مصر سداحا مداحا فقتلوه يوم احتفاله بنصره الأكتوبري الملحمي حقا وصدقا.
وتمكن البترودولار من إعادة غزو مصر وبقية دول الإمبراطورية الإسلامية السابقة، بإسلام صحراوي دخلته عادات وتقاليد وأنظمة ومفاهيم عرب قبائل الجزيرة، بزيادات توازي تراكم أربعة عشر قرنا من الزمان. ليترافق المد البترودولاري مع الحرب ضد الروس في أفغانستان، ثم انتصار الحلف الغربي العربي الأفغاني وانسحاب الروس من أفغانستان؛ مما اعتبر في حينها علامة سماوية على صحة المنطلقات والأهداف، ووجوب السير في الخطة لإسقاط كل الحكومات الطاغوتية في العالم، وما تلا ذلك من تفكك المنظومة السوفييتية كلها. مع ثورة إسلامية في إيران حققت انتصارا عجائبيا في أيام، وفشلت حملة أمريكا العسكرية لإنقاذ رهائنها في إيران في صدفة عجائبية أخرى (ولكل بالطبع عوامله الموضوعية الواضحة لكننا لا نرى سوى العجائب)، مع أموال هائلة لم تخف وكالة المخابرات الأمريكية أنها دعمت بها مئات المؤتمرات للصحوة الإسلامية، إبان حقبة الحرب الباردة، تجييشا للمسلمين ضد الكفر الشيوعي ليحاربوا عن الغرب بالنيابة.
كان الإسلام في مصر بعد أن فتحها الغزو العربي (بمرور الوقت) قد تمصر، ومع قيام الدولة الحديثة على يد محمد علي أخذ صبغة تسامحية هائلة، فكنت تجد الجميع متعايشا، محبو أهل البيت إلى جوار المتصوفة، إلى جوار عباد الأضرحة من البسطاء، إلى جوار أهل السنة، إلى جوار الأقباط، إلى جوار اليهود، إلى جوار ملل ونحل وأعراق متعددة وجدت في مصر جاذبا للهجرة إليها واكتساب جنسيتها، هربا من مواطن فقيرة أو استبدادية، وانتهى كل هذا بداية من طرد أصحاب الأصول غير المصرية مع اليهود في الزمن الناصري؛ مما سلب عن تلك الأنظمة صفة العلمانية الليبرالية ومنحها صفة الديكتاتورية الفاشية بامتياز، رغم ما رفعته الأنظمة القومية الثورية من أيديولوجية تحارب الإسلام السياسي وتقوم على قيم وحدوية واشتراكية، لكن هزيمة هذا المشروع المروعة خاصة في 1967م، وسقوطه اقتصاديا وفشله التام في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، فلم يحقق لا عدلا اجتماعيا ولا مساواة ولا تنمية، ولا هو ترك البلاد على حالها الأول تسير مسيرها الطبيعي دون قفز فوق المراحل. بينما انكمش دور العلمانيين الحقيقيين، خاصة بعدما تراجعوا في النهاية إلى جماعة نخبوية، وتابع بعضهم السلطة العسكرية ونافح عنها، وظل البعض الآخر متهما بالعمالة للغرب ما دام لم يؤيد النظام الحاكم؛ ومن ثم كان يسيرا أن يصب هذا كله، من بعد تتالي الهزائم والنكسات، بيد الحركة الجديدة التي لبست هذه المرة زي سدانة الدين والدنيا معا، ومع صحوة ملتبسة بإسلام صحراوي وهابي جاف قاس، وهو ما لا تعرفه بلاد الخصب والوفرة في الوديان الخضراء، تم غزو البداوة لبلاد الخصب مرة أخرى، بمنهج بدوي لا يسمح بأي سؤال أو رأي ممكن؛ طوارئ عسكرية وأمنية واقتصادية؛ لأن القبيلة في موطنها بالبوادي هي في حالة طوارئ دائمة لا تعرف السلم ولا الاستقرار، بل هي في سعي وراء خير الطبيعة الشحيح، وعنده يتقاتلون قتالا صفريا ينتهي بسيادة أحدهما واستيلائه على ما بيد خصمه، وما بقي من بشر يستعبدهم أو يعسكرهم في قبيلته؛ لذلك لم تسمح هذه الحركة للقبيلة بغير نظام الحكم الاستبدادي؛ لأنه الذي يضمن تماسك القبيلة بصرامة، في بيئة متوحشة وقاسية، كذلك لم يسمح لها هذا الارتحال الدائم بأي استقرار؛ ومن ثم لم يسمح لها بأي إنجاز ممكن.
إلى هذا النهج الصحراوي ارتكس المصريون مع إعادة فتح مصر وهابيا هذه المرة، وارتدوا إلى ما قبل زمن مينا موحد القطرين؛ لأن المصريين كانوا بدوا رحلا ذات يوم، قبل أن تتوحد القبائل وتشكل مئات الأقاليم، وعبر السنين والدهور بألوف السنين توحدت هذه الأقاليم العديدة سلما أو حربا حتى أصبحت إقليمين عظيمين بعد حوالي سبعة آلاف سنة من الاستقرار في الوادي، حتى جاء مينا ملك الإقليم الجنوبي ليضم الإقليم الشمالي وليقيم أول دولة إمبراطورية قوية قائمة بحدودها التاريخية كما هي حتى اليوم، وقد قام مينا بهذا التوحيد منذ حوالي سبعة آلاف عام مضت، لكن بفضل الغزوة الوهابية يكون المصريون قد عادوا إلى ما قبل أربعة عشر ألف عام إلى الوراء من تاريخهم في بلادهم، عاد المصري قبليا بدويا لا فلاحا يرتبط بالأرض منتجا مبهجا، وأصبح يعرف نفسه بأنه ابن الحتة وابن القبيلة وابن الناحية، يترك أرضه ويرتحل لأن أرض الله واسعة فيهاجر فيها؛ منطق بدوي كان هو عيبة العار ذاتها ونفسها، ترددها الملحمة الشعبية «عواد باع أرضه يا ولاد، شوفوا طوله وعرضه يا ولاد»، وهي كلها مستجدات على دولتنا الحديثة لم تعرفها مصر القرن العشرين، ولا قبل العشرين. أصبح كل مواطن قبيلة وحده، لا يشغله ما يحدث على الأرض في بلاده؛ فالقبيلة لا تعرف شيئا اسمه «بلاده»، لا يشغله سوى نفسه ومصالحه فقط؛ مما أدى إلى ما نراه في الشارع من تفشي كل الأوبئة الاجتماعية العلنية رشوة وفسادا يمارس في بلادنا كاعتياد هو الأصل في الأخلاق وليس الاستثناء، حتى أصبح الباطل والكذب والخداع والسرقة هي العملة المتفق عليها، وهي القاعدة، أما الشرف وعفة اليد وسلامة الضمير، فهي عملة جيدة نعم لكنها الاستثناء؛ لأنها مؤرقة ومزعجة، في وطن يتهاوى، يعمل فيه كل مواطن بالمثل الشعبي: «إن وقع بيت أبوك إلحق خدلك منه قالب.»
إن هذا الانهيار المفزع ليس إلا نتيجة طبيعية للعودة إلى نظام القبيلة البدائي، والتعصب للعنصر والقبيلة والدين والمذهب والأيديولوجيا، بينما ضاع الجامع الشامل لكل هذه الألوان والأطياف مللا ونحلا وعناصر وأعراقا؛ جامعنا المقدس الحقيقي الذي يحوينا جميعا ويقبلنا جميعا في محرابه على التساوي بذات القدر والقيمة هو ما ضاع منا؛ ضاع الوطن، ضاع طين الأرض بعدما هجرها الفلاح إلى المدينة أو إلى بلاد ابن عبد الوهاب، وضاع عندما فقدت الأرض الطهور قدسيتها فقمنا نبني على ثراها الممتلئ خيرا وطهرا حجرا وأسمنتا شائها قبيحا، ضاعت المواطنة الجامعة، فإلى الله وإلى الوطن أشكوكم يا أهلي وناسي حكاما ومحكومين، ويا لوعة كبدي عليك يا وطن. (1) سقف المعرفة غاية مستحيلة
نرصد مظاهر الحالة الإسلامية كأعراض لمرض عضال بحاجة ماسة إلى علاج، ولعل أهم الأعراض المستعصية هو الاعتقاد السائد بين معظم المشتغلين بالشأن الإسلامي، وهو الاعتقاد الذي عمموه بين المسلمين بامتلاك الحقائق النهائية والمطلقة، عبر امتلاك الحكومات المسلمة لوسائل التثقيف العام من إذاعة وتلفاز ومسجد ومدرسة، وهي أقوى عوامل تشكيل الرأي العام اليوم. هذا العرض المستعصي يقوم على اعتقاد أن السلف لم يتركوا شيئا للخلف ليبحثوا فيه، وأن الأمة قد عقمت من بعد خصب، رغم أنها كانت خصبة إلى حد تعاصر فقهاء المذهب السني الأربعة خلال أربعين سنة فقط. ولكن لأن الزمان لم ولن يجود بمثلهم، كما توافق على ذلك الفقهاء من بعدهم، فقد أصبحوا خاتمة البحث ونهاية الأزمان، بعد أن وضعوا كل علم ممكن وانتهوا منه؛ باختصار، بلغوا نهاية العلم وسقفه الأخير. هذا رغم قصور البشرية جميعا عن بلوغ هذا السقف، ومعرفتها أنها قاصرة عن بلوغه، وأن هذا هو السبب الأساسي في التطور العلمي، والفكري النظري، والتقني، والفني ، والحقوقي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. بينما يقول قوم إنهم قد بلغوا سقف العلم؛ فهو ما يعني أنه لا مجال لكلام آخر، ولا مجال لقول جديد، ولا مساحة لقبول أي تغير. هذا كله في واد، والواقع قد تغير تغيرات هائلة بلغت فيه ما تحققه البشرية كل عام منذ عام 2005م، ما يعادل ما حققته منذ وجود الإنسان على الأرض. ونصيب المسلمين من بلادهم في هذه الكشوف الهائلة كما وكيفا هو صفر عظيم.
إن عدم قدرة بلوغ نهاية العلم والمعرفة، هو أس جوهري في عملية التطور اللازمة للبشرية، وزاد البشر على التطور الفيزيائي البيولوجي الميكانيكي الدائب والمستمر للكائنات، أنهم تمكنوا من إعمال عقلهم في الطبيعة مما سرع بعملية التطور الإنساني بدرجات هائلة ما خطرت على قلب بشر. ومن هنا فإن الاعتقاد بكمال المعرفة عند المسلمين هو عرض واضح وجلي لتردي أحوالهم هذا التردي المثير للشعور بالخزي والعار.
يعتقد المسلمون أنهم قد امتلكوا نواصي العلم كله، وأنهم مكلفون بتعميم معارفهم على العالمين، بل فرضها على الكوكب الأرضي فرضا، ويحيلون كل النقائص إلى العالم المتقدم الذي سبقنا حقا وصدقا بما يقاس بالسنين الضوئية، ويخلطون بين كراهيتنا التاريخية لهذا الغرب، وبين مناهج هذا الغرب في التقدم وأساليبه في المعرفة وسبله للرقي والغنى والرفاه والسعادة.
والمشكلة التقنية والاعتقادية في مثل هذا الاعتقاد، هي أن المسلم (حسبما يعتقد) هو من سيسأل عن أعماله وحده في نهاية الأمر، وهو بإسناد أعماله إلى اعتقاد بكمال وتمام فقه وشريعة، هي من علم وإنتاج بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، بعدما فارقت المبادئ الشرعية الأولى بساطتها إلى منطقة شديدة التعقيد بإضافات أهل الفقه وزياداتهم في دين الله. فبينما وضع القرآن ما لا يزيد عن سبعة قوانين «شرائع» للمجتمع، وبضع عشرات أخرى تأسيسا على الحديث، فإن المذهب الشافعي مثلا لديه ما ينوف على ستة آلاف تشريع، ومثلها في خزائن المذهب الحنفي، وتتزايد في بقية المذاهب، وهذه الآلاف من التشريعات جاءت كلها زيادة في دين الله. وإذا كانت خاصية الإسلام هي التوحيد المطلق، فمن غير المفهوم كيف يمكن للمسلم الجمع بين هذه العقيدة وبين خمس مجموعات مذهبية تتضارب وتتناقض بعضها مع بعض. إن هذا الركون لأحكام وفق رؤية فقهية أو مذهب بعينه يجعل المسلم يعرض نفسه للمساءلة والعقوبة، بل ربما للتهلكة، بل ربما إلى الانقراض من البشرية، وهي العقوبة التي لا يعفيه جهله بها منها.
هذا بينما المصري القديم، كان يعرف منذ خمسة آلاف عام أن اكتمال المعرفة نقص ومرض، انظر ما قاله على لسان بتاح حوتب: «انظر كيف يمكن أن تتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس! إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة» (ول ديورانت، مقدمة موسوعة قصة الحضارة، ص ح).
واليوم نرى المصري المسلم وقد ارتكس خلفا إلى ما وراء زمن بتاح حوتب، عندما قام يفسر:
ما فرطنا في الكتاب من شيء (الأنعام: 38) بأن القرآن قد حوى علوم الأولين والآخرين فامتلك الحقيقة المطلقة، وصار بإمكانه أن يتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس، ويظن أنه خبير يمكنه الحديث في كل ضروب المعرفة. بينما كل ما تحمله الآيات الكريمة خبر مفاده أن القرآن الكريم لم يفرط في شئون التعبد والدين من شيء، وليس التفريط في علوم الأركيولوجيا والبيولوجيا والجينولوجيا والكيمياء والرياضيات وإدارة الدول ونظم الحكم وأساليب الاقتصاد وحقوق الإنسان والديمقراطية، لأن القرآن كتاب في الدين، كتاب في الإيمان فقط، وحسبه ذلك شرفا ورفعة. وفخرا ومجدا وسؤددا أزليا أبديا.
وقد زاد المسترزقون من كهنة على حساب المواطنين من استفحال العرض وعوص هذه المشكلة، وتجذيرهم الاعتقاد في امتلاك المسلمين للمعرفة التمامية، وهؤلاء المسترزقون هم من قاموا يتاجرون بمأساة المسلمين، ليحققوا ثروات خيالية من حكاية وهمية اسمها العلم والإيمان، كلها عبارة عن شعر فخر وهجاء وأحاديث سمر عربية حول نيران القبيلة وبعيرها في الليالي القمرية، أحاديث فخر ليس أكثر؛ لأنها موجهة لنا ولا يعرفها أحد غيرنا، هي سمر رتيب ممل تفخر بربنا الذي يتم وضعه وفق هذا التصور في موقع شيخ القبيلة المسلمة (حاشاه وهو الكمال المطلق)، وهو شيخنا هذا الذي عرف كل العلوم القديمة والحديثة والمعاصرة التي اكتشفت والتي لم تكتشف بعد، قبل كل العالمين، وأعلمنا بها ووضعها لنا في كتابنا المقدس، ولا تعلم إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا لم ينتج لنا أصحاب العلم والإيمان اكتشافا واحدا إسلاميا أصيلا من نصوص القرآن أو الحديث؟ كي نسبق به العالم ونفيد به بلادنا المعتوهة لكثرة ما تعاطت من مأثور تخديري أصابها ببلهنية بلهاء، حتى كادت تصل إلى حالة الموت التخشبي. الكارثة أن عملية التهجين للمقدس بالعلم الإنساني كرست اعتقاد المسلم أنه غنى عن معارف العالمين، وعن العلوم كلها دفعة واحدة؛ لأنه يعتقد أن بيديه أسرار الدنيا ومفاتيح الآخرة، ما ذهب منها، وما لم يأت بعد، ودون أن يجد المسلمون بعد كل تلك الأبحاث في العلم والإيمان أي شيء ذي قيمة بين أيديهم.
ولأن الإسلام وعلومه ليسا حكرا على طائفة بعينها دون المسلمين، فإن الرهاب المكرس لعدم تجاوز فقهاء الأمة، لم يوقف هؤلاء الفقهاء أنفسهم عن نقد سابقيهم ونقضهم، وهو ما تجلى في رد أبي حنيفة النعمان على هذا المبدأ الباطل: «هم رجال ونحن رجال»، فليس بين المسلمين آلهة ولا أنبياء بعد أن ختم محمد
صلى الله عليه وسلم
تواصل السماء مع الأرض؛ ومن ثم فإن أول مطلب في روشتة العلاج هو الاعتراف بالمرض، وأن التراث الإسلامي قد أصبح يحمل أوراما سرطانية وأثقالا كسحته عن مسايرة حركة التطور، وأنه يجب أن يخضع لعمليات جراحية عاجلة مع تقويم ومراجعة ونقد قاس ما أمكن، لكن بشرط التزام العلمية الصارمة دوما، مع الفحص والتعديل والإلغاء والإضافة والحذف، مدا لحبل حكمة النسخ في الوحي - وهي حكمة التدرج في الأحكام - إلى مداها الطبيعي، وهو التدرج الذي يقوم على مقاصد الشرع الكلية.
ولو صح أن اجتهاد فقهاء السنة الأربعة، وبقية المذاهب بما فيها الجعفري (الشيعي الاثنا عشري)، قد وصلت إلى سقف المعرفة، وأنها أصبحت صالحة لكل زمان ومكان (وهي آفة فكرية لا يقول بها عاقل، فلا شيء صالح لكل زمان ومكان بالمطلق، وقولا واحدا، ولا يقول بذلك إلا من جهل أنه جاهل)، ولو صح أن ما صلح لزمنهم صالح لزماننا، فلماذا نحن أمة الله المتخلفة دون العالمين؟
ومع اعتقاد المسلمين بصحة هذا المبدأ الباطل، تم إغلاق باب الاجتهاد دون إصدار أي أوامر بإقفاله؛ لأن إغلاقه قد أصبح من مستلزمات الشريعة وخصائصها دون صدور قرار بذلك، بعد أن أصبح غير ممكن تجاوز من وصلوا إلى سقف المعرفة. وبدلا من أن يعتبر المسلمون رجالات مأثورهم بداية لطريق تطوري اجتهادي طويل، اعتبروهم نهاية الطريق، فضرب الشلل كل مراكز التفكير في العقل المسلم. ماذا يمكن أن يقول المسلم لمن يقولون له: قال ابن تيمية، وقال البخاري، وقال عمر بن الخطاب؟ هل سيخطر على بال مسلم أنه مطلوب منه أن يقول شيئا بعد ما قال هؤلاء المقدسون، ناهيك عن مخالفتهم أو إعمال العقل في نقدهم؟ وفق هذا المعنى لا بد أن يصاب اللسان بالخرس، ويموت السؤال، ويضرب الذهان مراكز التفكير، فلا يعود المسلم يميز بين الممكن والمستحيل، فيضرب بإرهابه العالم متصورا أنه سيسود العالم ويقيم دولة الله في أرضه، وهو من بين أشد شعوب هذا العالم ضعفا وجهلا وتخلفا!
وبدلا من أن يعتبر المسلمون أن تدرج التشريع درس لهم ليمدوا طرف الخيط على استقامته فيتدرجون، بل وربما ينسخون كثيرا من التشاريع مع المتغيرات، حتى يبقى حيا فاعلا، فقد اعتقدوا أن هذا التدرج خاصية قرآنية ربانية لها علاقة بتواصل السماء مع الأرض عبر الملاك جبريل إلى نبيه
صلى الله عليه وسلم ، وأن هذه الخاصية قد توقفت بتوقف الوحي بوفاة صاحب الدعوة؛ ومن ثم قرروا الوقوف عند آخر أحكام تطورت إليها نصوص الوحي، وجعلوها أحكاما نهائية، قدسوها وجعلوها حكم السماء الأخير القاطع، الذي لا يجوز تجاوزه على تغير الأحوال واختلاف الأماكن وتبدل الأزمان، هذا بينما «الفقه» نفسه يقوم على أسس نظرية لم يقم هؤلاء العارفون بالمطلق بتفعيلها فيما يبدو عن قصد ونية مبيتة للمسلمين؛ فالفقه الإسلامي «لا ينكر ولا يستنكر تبدل الأحكام وتغيرها بتبدل المكان واختلاف الزمان»، وهو ما استند إليه الإمام الشافعي عندما غير من فتاواه في زمن واحد، ما بين وجوده في العراق ووجوده في مصر. ومن أبرز الأسس النظرية المعيارية المفترض أنها حاكمة، الأساس الذي يجعل «الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما»، ولا تفهم كيف يتم تجاوز هذه الأصول من قبل فقهاء يركزون على ظاهر اللفظ وحرفية النص، ويظلون فقهاء؟ لا تعلم كيف؟ ثم لا تعلم كيف أمكن لهم تضليل المسلمين كل هذا التضليل لمنافع ومكاسب دنيوية بحتة، ومكانة اجتماعية مرموقة، وسلطة سيادية برغبة الرعية، بدليل استكانة المسلمين إلى هذه المفاهيم التي تبدو دينا جديدا غير ما نعرفه عن الإسلام في بكارته الأولى، وعدم احتجاجهم على مشايخهم بل وتقديس هؤلاء الفقهاء، فأي نازلة نزلت بنا أيها الناس؟!
من بين هذه الأسس فلسفات في الإسلام والتشريع سبقت زمنها فتم قبرها لأنها كانت أكثر حرية من ممكنات احتمال الفقهاء الآخرين حينذاك، فلسفات فقهية اعتبرت الإنسان هو غرض الله وغرض الرسالة، وليس الغرض مجرد العبودية لله؛ فالله أكمل من ذلك وأرفع من ذلك وليس بحاجة إلى عبيد ليتأله عليهم ويستعبدهم فيعبدون، وأن الكتب المقدسة جاءت إلينا من أجلنا وليس من أجل السماء، لتيسير معاشنا لا لتعقيده، ولجعل الدنيا أكثر راحة وطمأنينة ويسرا، إسعادا للبشر لا إثارة لكآبتهم وحزنهم رعبا من مكر الله وجهنماته المتنوعة ألوانا وأصنافا من العذاب. فلسفة تعتبر الإيمان نعمة وسعادة لا اختبارا وامتحانا عسيرا ومشقة وعنتا ونقمة متربصة تقف من ورائها فكرة المكر الإلهي، الذي كان يخشاه أعدل الخلفاء «عمر بن الخطاب»، مع الفزع من جهنم وزبانيتها.
نظرة قامت على التفلسف أكثر مما خضعت لشروط الشافعي المستحيلة الواجب توافرها في المجتهد، اعتمدت أكثر علوم الفلسفة جدلا وحرية، علم الكلام، لتقيم عليه نظريتها الفلسفية الفقهية.
من بين هؤلاء الفقيه اللمعة الثاقب «نجم الدين الطوفي الحنبلي»، الذي تجرأ على كسر أهم القواعد الفقهية «لا اجتهاد مع النص» فأباح الاجتهاد حتى مع النصوص الواضحة القاطعة المجمع بين الفقهاء على قطعيتها الثبوتية: النصية والدلالية، استنادا إلى اجتهادات الخليفة عمر مع نصوص قرآنية وحدود تشريعية ربانية قاطعة، بالتعطيل وبالمخالفة وبالإلغاء (كما في إلغائه فريضة متعة الحج وفريضة متعة النساء وفريضة المؤلفة قلوبهم). لاختلاف المصالح بدوران الأزمان؛ ومن ثم قدر الطوفي أن رعاية مصالح الناس تعلو على النص والإجماع وتقدم عليهما، استنادا إلى قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار»، ثم لدينا نجم عظيم آخر من فقهاء اليسر والبهجة الذين أوسعوا من صفحات الاجتهاد نحو مزيد من الحرية هو «الباقلاني»، الذي قلما يعرج عليه رجالات أزهرنا المبارك الشريف، اشترط هذا الرجل للاجتهاد الصحيح التضلع من الفلسفة أو بالذات (علم الكلام)، واعتمد علم المنطق الأرسطي معيارا للاستنتاج الصحيح، ولم ير في ألوف المباحث الفقهية العجيبة المتكاثرة وشروطها الأعجب المتناثرة أي ضرورة، كل ما طلبه للمجتهد هو أن يعرف القواعد العامة لأصول الفقه والمعروفة بالمقاصد الكلية للشريعة وما أيسرها؛ لأنها تتلخص جميعا في جملة واحدة هي: مصلحة العباد.
وما أبكر مثل تلك المحاولات العبقرية التي تم إهالة الإهمال عليها، حتى كادت لا تجد لنفسها مكانا في أحاديث مشايخنا رغم ركوبهم إعلامنا ليل نهار، فهذا الإمام «الجويني» في القرن الثاني عشر الميلادي، يؤكد أن المعرفة بمقاصد الشريعة كافية وحدها كأساس في الاجتهاد، بتنزيلها على واقع الزمان ومستجداته ومشكلاته التي لم تكن معلومة من قبل، والغرض من هذا التنزيل هو مصلحة الناس أولا وأخيرا، وهو كله ما يقوم على مدركات عقلية بالأساس وليست نقلية ولا نصية.
من هنا ساغ للجويني الثاقب اللماع بين الفقهاء و«إمام الحرمين» أن يرنو للمستقبل ليراه وهو يتطور في قفزات هائلة، حتى يأتي زمن على الناس لن يعملوا فيه بأصول الشريعة الإسلامية حتى تصبح الشريعة تاريخا غير فاعل، وربما غير موجودة نتيجة مفارقة الواقع لها؛ لأن الواقع يتغير ويتطور بالضرورة دون أن ينال النص الديني ذات التغير والتطور. ومن هذه الرؤية المستشرفة للمستقبل ينتهي الجويني بجرأة نادرة وبفرادة سبق بها زمنه إلى نتيجة غير مسبوقة، وللأسف غير ملحوقة بين الفقهاء، ينتهي الجويني إلى ضرورة تهيئة العقل المسلم وترويضه حتى يمكنه التعامل مع ذلك الزمن الآتي بمنطق ذلك الزمان الآتي دون منطق الشريعة.
ومنطق ذلك الزمان الآتي لاشك سيقوم على العقل ذاته وهو يمارس وظيفته؛ لذلك يجب تدريب العقل المسلم على قبول الزمن الآتي ليتمكن من الحياة فيه والفعل فيه، وإن غابت نصوص الشريعة، ويكفي المسلم أن يكون عالما بالمقاصد الكلية للشريعة، وهذه المقاصد تحديدا وتدقيقا هي مصلحة البلاد والعباد، وها قد أتى ذلك الزمن الآتي الذي كان يتوقعه عن يقين وترقب إمام الحرمين.
وبعد حوالي ثلاثة قرون احتاج الزمن المزيد من التنبيه إلى ضرورة التغير والتجديد والتحديث فظهر الإمام «الشاطبي» وما أدراك ما الشاطبي؟! في جمل سريعة لا تعرض من هو الشاطبي الذي سبق زمنه وتجاوز فقهاء أزهرنا مجتمعين، هو الذي أقام اجتهاده الفلسفي عودا إلى فكرة المقاصد الكلية للشريعة، فقام يستخرج من الشريعة مقاصدها بنودا واضحات، التي هي مصالح العباد دنيا وآخرة، وأخضع هذا الاستخراج لمقدرات ولعادات واقع زمانه طالبا التبديل والتعديل وفق متغيرات الزمان وتقاليده وبشروط زمانه ومكانه؛ لذلك اشترط الشاطبي على الفقيه في الزمن الآتي أن يكون عارفا بعلوم عصره ومتصلا بواقعه (ترى كم من فقهاء اليوم يدري شيئا ولو يسيرا عن علوم عصرنا؟) حتى ينزل مصلحة العباد أي المقاصد الكلية للشريعة على هذا الواقع، ليحثه نحو مزيد من المصلحة. وارتأى أن الفقه بحاله حتى زمانه هو لون من الإجابات المعدة سلفا لكل مسألة حدثت أو قابلة للحدوث أو متخيلة، والفقه بهذه الإجابات المسبقة لا يقف بهذا المعنى ندا للزمان الذي جاء بأسئلة جديدة لم تخطر على خيال فقهائنا القدامى، وليس لديهم إجابة عنها لأنها لم تكن قد وجدت بعد؛ لذلك لا بد أن يختلف الحكم بحسب ظروف الواقع، مع مراعاة أن الأصل في الأشياء هو الإباحة وليس التحريم. وهو ما يعني تفسيرا دقيقا لمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالمعروف هو ما تعارفت عليه قيم وعادات زمانه، والمنكر هو ما أنكره العرف الاجتماعي وقيم زمانه. ومن ثم لم يعد المعروف أبدا من أصول الشريعة بحسبانه يعني الدعوة إلى الإسلام وشريعته، أو هو إقامة دولة الله على الأرض كما يزعمون.
ومع «الطوفي» وكسره الجريء لقاعدة لا اجتهاد مع النص، و«الباقلاني» وبراحه العقلاني، و«الجويني» ومساحته الحرة المنطقية العقلانية الصرف، و«الشاطبي» وطلاقته المصلحية، وأن الأصل في الشرع كله هو الإباحة تيسيرا على العباد الذين تشكل مصالحهم الهم الأول للفقيه، سنكمل مشوارنا الآتي مع خريطة التشخيص والإصلاح.
يلخص الدكتور قرضاوي الملقب بالفقيه المعتدل موقف فريقه المتأسلم من الفريق العلماني، في قوله: «نوع من المفاهيم خطر على المجتمع، زحفت على مجتمعاتنا مع زحف الاستعمار، واتخذت الغرب لها قبلة وإماما، إنها المفاهيم المتعلقة بالدين والدنيا، الرجل والمرأة، الفضيلة والرذيلة، التحرر والجمود، التقدم والرجعية، بالحلال والحرام. المفاهيم المتعلقة بالحدود الفاصلة بين حرية الفكر وحرية الكفر، بين حرية الحقوق وحرية الفسوق، بين العلمية والعلمانية، بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية. إنها مفاهيم الغزو الفكري التي تعتبر الإيمان بالغيب تخلفا والتمسك بالسلوك الديني تزمتا، والدعوة إلى تحكيم الشريعة تطرفا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخلا في شئون الآخرين، واختلاط الرجل بالمرأة بلا قيود تحررا، وعودة المرأة المسلمة إلى الحجاب الشرعي رجعية، والانتفاع بالتراث تعصبا له، واعتبار علماء الدين حراسا للتخلف، ودعاة التغريب أعلاما للتنوير» (كتاب ملامح المجتمع المسلم، ص77).
وهذا كلام خلاصته إدانة للعلمانيين الوطنيين بالعمالة للأجنبي، بل إدانة لهم بحرية الفسوق والكفر فهم ليسوا مرتدين فقط، ولا خونة فقط، بل هم لا يمارسون مبادئ الأخلاق الكريمة، وهم عملاء ناشطون لأعداء الإسلام؛ ومن ثم وضع الشيخ نفسه وجماعته في موضع القاضي، الذي يملك من النزاهة ما يجعله يحاكم الآخرين ويحكم عليه، وهو أمر لا تفصح سيرة الشيخ عنه بالمرة وبالقطع واليقين المعلوم؛ فهو شخصية عامة تعرف الناس سيرتها، وهي سيرة لا تضعه أبدا فوق المسلمين ليحاكم ويصدر أحكامه، هذا بينما العلمانيون يضعون هذا الشيخ وأمثاله في أسوأ موضع من الدين ومن الناس، فأزعم محتملا وحدي مسئولية هذا الزعم حتى أثبته في السطور التوالي أن هذا الرجل متاجر بدين الله ضد مصالح عباد الله، يفتي بالمطلوب مأجورا في الدنيا وفراديسها وقصورها الغناء الفوارة، قبل الآخرة ونعيمها.
واللهم نعم حسدا ونقا وقرا على الشيخ غير القابل للقر ولا للحسد ولا للنق.
ويرى التيار العلماني أن التيار الذي يمثله هذا الشيخ كان نكبة على البلاد والعباد، تحالف منذ صحوته مع كل الديكتاتوريات السياسية، وما خالف هذا التيار الحكومات أو تصارع معها إلا على حجم الأنصبة المطلوب هبشها، وفي صياغة تقريرية فإن ما أرساه الشيخ هو وجماعته في العقل المسلم كان تدميرا حقيقيا لهذا العقل، بتأكيده أن الله قد سبق ومنح المسلمين كل العلوم، وكل القيم، وكل النظم، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وكل فلسفة السياسة والمجتمع، كل هذا دفعة، وعلى يد رسول واحد، تحققت على يديه تمامية المعرفة في أي شأن في شئون الكوكب الأرضي أو ما بعد الموت.
كل هذا طفح في شوارعنا شبابا، تخرجوا من الجامعات لا يؤمنون بالعلم كحل لمشكلات الناس والوطن، شبابا إما جهلة جهلا حقيقيا، وإما لم يتعلموا علما حقيقيا بقدر ما حفظوا شأنا لا علاقة لهم به، كانت كل مهمته أن يصل إلى النجاح الامتحان إن غشا أو تدليسا أو حفظا ومصمتا لا يعني أي دلالة أو معنى، وغضت الحكومات البصر بالمرة عن وسائل الحصول على شهادات ترضي غرور الذات، فوصل عدد الحاصلين على الدكتوراه في مصر إلى أكثر من مثيله في أمريكا، لكنهم عندنا غثاء كزبد البحر أو هم كالعهن المنفوش ليس أكثر، ربنا يقلل منهم لأنهم كالهم عالقلب، فلا قيمة عندنا للمعرفة ولا قدسية للعلماء وإنما للمشايخ الدكاترة، فلا نسمع عن بحوث تطرح إلا حول الحجاب والنقاب وفلسطين والعراق والحكام الطواغيت وأمريكا وإسرائيل والبوسنة وكشمير والشيشان، ولا قيمة للوقت الذي إن لم تقطعه فرمك، ولا قيمة لقيمة القيم «العمل» التي إن لم تحترمها انتهيت إلى الحيوانية فما يميز الإنسان عن الحيوان هو العمل المنتج. ثم على المستوى الأخلاقي يقرر المذهب السني «لا يدخل ابن آدم الجنة بعمله» بل بأدائه أوامر ونواهي ربه، وبعد هذا يجب ألا يكون شديد الاطمئنان، بل عليه أن يرجو رحمة الجبار المكار!
طفحت الصحوة لا بارك الله فيها (أم هي أيضا مقدسة لا يصح همزها أو لمزها؟!) طفحت في شوارعنا شبابا كانوا حلم الوطن وأمله المرتجى، فهم كل ما كان يملك، فلا بترول لدينا ولا معادن نفيسة ولا حتى سياحة بالمعنى السليم لعلم اقتصاد السياحة، كل ما لدينا كان ثروة مصر من شبابها، فإذا بهم يسمرون الليالي حول العلم والإيمان والانقطاع في المساجد دون المختبرات، تكاسلا وركونا لما بيدهم من كمال مطلق، ومع رؤيتهم كيف تجاوزهم الزمن والواقع، يلومون الزمن ويكفرون الواقع، بينما الإحباط داخل النفوس يجعلها مشوهة ممرورة كارهة حاقدة، فاقدة لأي أمل ممكن؛ لأن السعي والتفكير لن يأتينا بأي جديد زيادة على ما بأيدينا سماويا كاملا بذاته، فلماذا يسعى شبابنا ولماذا ينتج دكاترتنا أي علم نافع؟
وبما أن الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به، فقد اتكل النصف الآخر على عدم شركهم بالله ثم توكلوا على الله، وانغمسوا في كل الرذائل الممكنة، للغياب عن الواقع بكل الوسائل مشروعة أو غير مشروعة. وتحول الشارع في البلاد الإسلامية إلى مملكة للشيطان بدلا من الرحمن؛ فالمسلم كما يحرص على الصيام وأداء الصلاة في مواقيتها؛ فإنه أيضا وبدون الشعور بأي خلل أخلاقي أو ديني يرتشي ويهرب بأموال الناس أو بأموال البنوك وهي بدورها أموال الناس، ويستولي على أراضي الدولة ويغش في منتجه، ويخسر الميزان، ويعتدي قولا أو عملا على غير المسلمين، ولا تأمن غير المحجبة من غير المسلمين على نفسها في شوارع تمتلئ بالمآذن المفترض أنها رمز عفة اليد واللسان والفعل، وتغطي فضاءها ميكروفونات تقصف الآذان بالوعظ والأمر بالأخلاق. ثم يحج البيت كل سنة ليعود كما ولدته أمه ليرتكب آثاما من نوع جديد، حتى يحين موعد ولادته المتجددة كجلد الثعبان في السنة المقبلة.
هناك حديث يتفق الرواة على صحته، وأراه أشد الأحاديث بطلانا، حتى إني أعتقد أن الانهيار الأخلاقي الواضح في شارعنا الملتحي والمحجب، يعود إلى هذا الحديث بالذات، رواه البخاري في كتاب الجنائز، قال: «حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا ابن ميمون حدثنا واصل الأحدب عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أتاني آت من ربي خبرني - أو قال بشرني - أنه من قال من أمتي لا أشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق، قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق، قال وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر» (الحديث 1237).
لقد توافقت المجتمعات كلها، والبشرية جميعا، والأديان وثنية أو سماوية أو وضعية، على أن فعل السرقة وفعل الزنا (ونفهمه وتفهمه الدنيا كلها بأنه اعتداء اغتصابي بالإرغام)، هما من الأفعال الفاضحة والمشينة وضد أي أخلاق، وهي شئون لا تحتاج توجيها ولا تعليما كي ندركها؛ لأنها تدرك بالحس الإنساني الخالص؛ لذلك كان الحس الإنساني وراء تكرار أبي ذر لسؤاله المندهش المستنكر ثلاث مرات، تعبيرا عن عدم قبول روحه لفكرة أن يكون مصير الزاني والسارق إلى الجنة بدلا من جهنم لمجرد إعلانه الشهادة الإسلامية.
والغريب أن هذا الحديث يعتبر عمدة الأحاديث المكررة التي يعمل بها المسلمون ومشايخهم، ثم يحدثوننا عن القيم وعن الأخلاق؟! وهم يبررون السرقة والزنى مقابل الاعتراف للإله بأنه إله! بل نسبة اللاأخلاق إلى النبي الذي لا ينطق عن الهوى والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فيكون الرب قد تغاضى عن قواعده الأخلاقية وغض البصر عن كسرها وأذاها لعبادة الآخرين، مقابل أن يكسب مسلما جديدا يعلن الاعتراف به إلها. فأي مصيبة وصل إليها المسلمون في دينهم؟ وأي حديث ينسبونه إلى المصطفى
صلى الله عليه وسلم
الذي وصفه ربي بأنه على خلق عظيم؟
لهذا يرى العلمانيون المؤمنون بالتواصل مع التراث أن القيم الوضعية الإنسانية التي تعارف الناس عليها، وتوافقوا بشأنها في مجتمع بعينه في زمن بذاته، هي التي تكشف لنا القيم الإلهية وتشرحها وتفسرها؛ لأن القيم الربانية جاءت مجملة بلا تفاصيل، ولم يفصل الوحي بشأن تلك القيم حتى لا يلزم الناس بها دفعة واحدة، فتكون تكليفا يصعب على المكلفين تحمله وأداؤه؛ لذلك جعل تلك القيم مخفية مثل بقية فروع العلوم والقواعد المنهجية وغيرها من قوانين طبيعية، مع تضمنها ممكنات جهوزية دائمة لكشوف جديدة، وبالمقابل ولكي نستحق خلافته على الأرض، منحنا العقل أمانة علينا أن نؤديها حتى نستحق هذه الخلافة، بتفعيلها وتشغيلها للبحث عن مخفياته وألطافه على قدر جهد كل مجتمع وكل جيل، فما نعثر عليه نلزم به أنفسنا، إضافة إلى ما نكشفه من أسرار علمه التي أودعها كوننا، وتركها لنا نبحث فيها وننقب، إعمالا للبصر والسمع والعقل، وكله كان الإنسان عنه مسئولا.
ترانا عندما يسألنا ربنا عما فعلنا بأمانته فبماذا سنجيب صاحب الملك الأوحد يوم ذاك؟ ألا يخجل المسلمون من ربهم الذي وصفهم تجميلا لهم وتفخيما بخير أمة أخرجت للناس؟! أعطانا ربنا أعظم أمانة، عقلنا الذي هو بضعة من عقله؛ لأن وظيفته هي التفكير، ولأنه هو ما اصطلحت الأديان على تسميته بالروح؛ فهي المدركة، الروح هي وظيفة المخ، هي العقل. وبها نستطيع أن نكتشف القيم وأسرار العلم، ونقوم باستثمار ما كشفناه واستغلاله لمصلحة الناس في أي مكان؛ ومن ثم يكون أمام الأجيال آمال واسعة في الاجتهاد والسعي والحياة، أما لو صدقنا جماعة قرضاوي وزغلول النجار ومصطفى محمود وغيرهم، وأن الله منحنا كل القيم وكل العلوم دفعة واحدة، فلن يكون هناك أي معنى لإعمال ما أعطانا الله من أدوات معرفية سمعا وبصرا ولمسا وشما وإدراكا وتعقلا وفهما وتدليلا واكتشافا واختراعا، ثم إن القيم كي تكون قيما يجب أن تخضع للفرز والتجنيب والتمييز ثم الاختيار بالمفاضلة بينها، حتى تختار هذه القيمة أو غيرها، أما الفروض الدينية فهي ما لا يدخل تحت مفهوم القيم، خاصة أن القيم المفروضة لا تنتج إنسانا سويا. الملائكة فقط هم من يملكون نمطا سلوكيا دون اختيار، وهو ليس قيمة، يصلون لربهم ليل نهار سجدا وركعا؛ لأن الملائكة لم تعط الاختيار ونحن لسنا بملائكة. وهكذا خلقنا ربنا كي نختار لنتحمل مسئولية اختيارنا كي تتم مشيئته، وهنا تظهر القيمة.
إن الاكتمال هو منطق وفلسفة ضد صيرورة الحياة وحركة التاريخ، إن الاعتقاد بالاكتمال يعني أن هزيمة المسلمين التاريخية قد اكتملت حتى ملكت الأرواح والعقول فاستكانت لمصيرها، وأصابتها الشيخوخة في مفاصلها العقلية والحسية، فدخلت طور الخرف والآلزهايمر، إذ يطلب علماء دينها الموقرون العلاج ببول الرسول وبول الإبل والطب النبوي والعسل والحجامة والحبة السوداء، ويشرعون رضاع الكبير ومفاخذة الرضيعة وهي العلامات الواضحات على وجوب الإسراع بإدخال الأمة إلى غرفة العناية المركزة، أو انتظار ثواب الآخرة. أو البحث عن علاج من نوع جديد حتى لو كان مرا علقما؛ فالمسألة أصبحت مسألة الاستمرار في الوجود، أو الخروج منه غير مأسوف علينا.
إن ستر الله علومه وقيمه عنا، حكمة ربانية تليق بكماله؛ فهو الكمال الأوحد في ذاته وحده لا شريك له ولا قرين ولا شبيه، حكمتها دفع كل جيل ليجتهد ويكشف جزءا من علم الله وقيمه، تاركا للأجيال التالية مساحات واسعة لتضيف بكشوفها من علم الله معارف أرقى. ومن المستحيل أن يكون الله ضد قانونه الأساسي في الكون، قانون التغير والتطور الدائب، الذي هو القانون الأوحد الثابت دون أي قانون آخر، فكل قانون إلى تبدل وتغير عدا التطور والتغير الذي هو القانون الأزلي الأبدي أبدا مطلقا لتحقيق الإرادة الإلهية على الأرض وكي يستحق الإنسان الخلافة فيها عندما يراعي هذا القانون الرباني.
موجز الأمر من وجهة النظر العلمانية التي تحترم التراث وتتفاعل معه، أن أي فلسفة هي بحاجة لعقل يجادلها ويسألها وينقدها ويفرزها، ويرد عليها ويستبعد منها ويستبقي ويعلي ويخفض ويستخدم معاييره وفق قوانين العقل الصارم، البارد، وهي القوانين الموزعة بعدالة تامة بين الناس كما قال لنا فيلسوف الشك والعقلانية «ديكارت».
لهذا تتجدد الفلسفة غير المحروسة بالكهنة، غير المجمدة، غير المقيدة، وتتطور وتؤدي إلى تطور مناهج العقل نفسه في الفرز والتمييز والاختيار، كما تؤدي إلى تطور منطق العقل فتظهر نظريات وفلسفات جديدة. بينما وجهة نظر فقهاء الإسلام في بلادنا هي وجهة نظر مقدسة، فإن كانت حديثا نبويا ولو موضوعا فهو مقدس لا يصح نقده والتعدي عليه، لاحتمال ولو ضئيل أن تكون نسبته للنبي صحيحة . وإن كانت اجتهادا تحول المجتهد إلى مقدس كالإمام أبي حامد الغزالي (حجة الإسلام) وألد أعداء الفلسفة والعمل العقلي، بينما لم ينل لا الشاطبي ولا الجويني ولا الطوفي مثل هذا اللقب، وإن كانت سعيا وراء جمع المقدس تقدس الجامع، كما في تقديس البخاري واعتبار الفقهاء كتابه أصح كتاب على الأرض بعد القرآن. ومن هذه القداسة تمكنوا من استثمار المقدس الرباني واستخدامه بانتهازية مفرطة، وأصبحوا هم من يفسر الحديث المقدس ليفسروا به القرآن المقدس، وأصبحوا هم معيار قياس الأشياء جميعا، وليس القرآن؛ لأنهم يعلمون أن أحكام القرآن نفسها لا تصلح معيارا لعموميتها وعدم تفصيلها، وأنها تحتاج إلى الشارح المفسر طوال الوقت، فأصبح الرأي بديلا لدين الله، وكتاب الله، هذا ناهيك عما يترتب على هذه المعايير المقدسة من إلغاء العمل العقلي والقضاء عليه مبرما؛ لأن القياس المنطقي سيتم قياسا على ما قال الرب أو قال النبي، أو ما قال الصحابة، أو ما قال الفقهاء.
إن اللجوء إلى المقدس هو نوع من الحصول على الحصانة مصحوبة بالأمر الفوري بالالتزام والتقيد والتنفيذ لأن الآمر سيكون الله بنفسه، هذا بينما كلام الله الذي يقولون إنه المعيار، هم من يقولون أيضا إنه بحاجة إليهم لتفسيره؛ فهو لا يكتمل إلا بهم، ومن ثم يتقدس المفسر لقدسية ما يفسره. البخاري مثلا أصبح مقدسا لأنه فسر القرآن بالحديث. أصبح الفقيه كما رأيتم عند قرضاوي هو من يعلن الرضا أو النفي والطرد والتكفير الديني والتخوين الوطني، هو من يعطي كلامنا تصريحا بالمرور من عدمه. هو من يعطي أي كلام ال
O.K ، مولاهم واخدها مقاولة حفر وردم لوحده.
ومع هذا الحديث حديث آخر يحرض على الرذيلة تحريضا، يقول: «إذا بليتم فاستتروا»، فمن أراد ارتكاب الجريمة عليه فقط ألا يعلنها على ملأ حتى لا تفشو الرذيلة في المجتمع، حسب تفسير فقهنا لهذا الحديث؛ أي حتى لا يعتاد الناس الرذيلة لتكرارها العلني، وحفاظا على الشكل الفاضل دون المحتوى الفاسد، يعني سلامة المجتمع تتأتى بستر المؤمنين بعضهم بعضا، «من ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة»، ليس المهم هو الفعل الأخلاقي من عدمه، المهم الشكل العام للمجتمع الذي يجب أن يتصف بكل الفضائل ليكون خير أمة أخرجت للناس. فكانت النتيجة تفشي الرذائل في نخاع المجتمع دون إعلانها، إلا مع سيئ الحظ الذي قد ينكشف فيرجمه الجميع بأحجار ذنوبهم.
إن فلسفة الأخلاق القائمة على مبدأ «إذا بليتم فاستتروا»، هي فلسفة النمر وقاطع الطريق، هي فلسفة لا علاقة لها بأي أخلاق، وأربأ بسيدي المصطفى
صلى الله عليه وسلم
الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، أن يكون هذا قوله.
الشيخ والغوغاء؟!
من نافلة القول إن المثقف غير المؤدلج دينيا أو عنصريا أو طائفيا، هو اليوم أتعس الناس في مجتمع دول العالم الثالث، التي أصبح اسمها مع ازدياد التدهور والتدني، دول العالم المتخلف؛ لأن الخريطة اختلفت فلم يعد هناك اتحاد سوفييتي كعالم ثان؛ لأن بلادا كالهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها قد ارتقت مكانها بين دول العالم الأول، ولم يعد لدينا سوى عالمين: العالم الحر المتقدم، والعالم الديكتاتوري المتخلف. والاختلاف بين العالمين لا علاقة له بالمكان بقدر علاقته بالزمان؛ فالعالم المتقدم يعيش زمنا يختلف بالكلية في المفاهيم ومناهج التفكير والقوانين والسياسة والعادات والتقاليد وباقي نظم المجتمع، عن العالم المتخلف الذي ما زال يعيش زمنا مضى بكل نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والسر في تعاسة المثقف الحر من الأيديولوجيا، أنه الوحيد القادر على إدراك حقيقة ما يعانيه مجتمعه من تخلف؛ لأن بقية وسائل الإعلام والتعليم والتديين تجمع على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ورجل الدين لا يرى في مجتمع المتقدمين أي تقدم، ويمتدح أوضاعنا الحالية في بلادنا ويراه التقدم الحقيقي، بدليل انتشار الحجاب والنقاب واللحية والزي الباكستاني، يمتدح العودة إلى التفكير حسب زمن القرن السابع الميلادي، حيث خير القرون، بل إن أهل البلاد المتقدمة يعضون علينا الأنامل من الغيظ لما حبانا الله به من عزة وكرامة بالإسلام. وما نراه على المتقدمين وما يصلنا من علمهم وابتكارهم وعلاجاتهم ووسائل رفاهيتهم هو كله تقدم زائف أدى إلى تخلف المجتمع بدلا من تقدمه ، فتحلل المجتمع وتفككت الأسرة وانتشر الفجور وعمت الرذيلة وضاعت الأخلاق وانحطت القيم، فأهل الغرب المتقدم بكل علومهم وفنونهم ونجاحاتهم هم في الحضيض بين المجتمعات، أما نحن فأهل القمة، بل نجلس فوق القمة، وهي القمة التي يراها المثقف الحر رأس خازوق عظيم.
ولك هنا أن تعجب من بجاحة هذا المنهج العليل في التفكير وصوته العالي في الشأن القيمي والأخلاقي، بينما لديه زنا شرعي بألوان زواج لا تشكل أسرة، ولديه اغتصاب شرعي لركوب ملك اليمين والإماء والزوجة الطفلة، ولديه الجنة وإن زنى وإن سرق، وله ارتكاب كل المعاصي بشرط غسلها بالحج أو بالتوبة أو باحتمال بعض العذاب الأخروي الذي سيدخل بعده الجنة حتما، فقط لأنه شهد للإله بأنه الإله وأن محمدا نبيه ورسوله، وهو كله ما لا علاقة له بقيم، أو بأخلاق.
ومع انتشار أجهزة الإعلام الحديثة، وعدم الرغبة في تحصيل المعرفة من مصادرها السليمة لأنها لا لزوم لها، فلدينا القرآن وبعده البخاري، أصح كتابين على الأرض وكفى، تراجعت عادة القراءة في بلادنا وتقزمت، فذبل العقل وعطبت وظيفة التفكير، وهذه الأدوات الإعلامية المتقدمة التي صنعها أهلها لمزيد من التثقيف والتعليم، نستخدمها في بلادنا لتكريس منهج التلقين الجاهز للمحفوظات لوقف استخدام العقل، فكان أن تزايد عدد مثقفي التلقي والمحفوظات لتصبح طبقة الغوغاء والدهماء هي الأكثر عددا وحضورا، وهم ليسوا في حاجة إلى معرفة، ومع تخلي العقل عن وظيفته تحولوا إلى بسطاء في الطاقة العقلية والاستيعابية للمعارف، حتى إنهم ينفرون حتى من التلقي التلفازي ويعزفون عن متابعة المشاهدة إذا كان المطروح عليهم بحاجة للتركيز والفهم والمتابعة الدقيقة، ومما ساعد على تلك الكبوة النكراء لمجتمعاتنا خاصة المصري الذي أعرفه، هو الانهيار الاقتصادي الناتج بالضرورة عن سوء السياسات؛ مما أدى لانهيار مماثل في أسلوب التعليم، مع التكاثر الأرنبي الذي عمل عليه المشايخ بالقرآن والحديث ليفاخر بنا نبينا الأمم، وتقدم علوم الطب التي أدت لتراجع نسب وفيات الأطفال، فلم تعد المدرسة تتسع لهم، فكان أن تم وضع ثلاث وجبات طلابية لمدارس ثلاث على التتابع في مبنى مدرسي واحد، في عملية سلق سريع اختفى معها المختبر والتجربة والعمل الذهني، لما يضيعه من وقت غير متوافر، واختفت معه كل المنافسات الرياضية بين فرق الطلاب، وكذلك الهوايات كالمسرح المدرسي الذي نشأنا على ضرورته على الأقل للاحتفال بالتفوق في نهاية العام بحفل غنائي، وغاب الغناء المحرم وغابت معه الموسيقى وكل الفنون بأخلاقياتها وقيمها وقدرتها على تهذيب الروح والسمو بالقيم، وتحول التعليم إلى محفوظات سريعة، فلا وقت للشرح؛ مما قضى قضاء مبرما على ملكتي التفكير والابتكار، ليخرج هؤلاء من المدارس أسوأ خلقا وأقل معرفة ممن علمتهم الحياة عبر الصواب والخطأ، من الأميين الذين نجد بينهم حكماء، لا نجدهم أبدا بين خريجي مدارسنا أو أزهرنا المبارك.
وهؤلاء الغوغاء هم صفوة جمهور مشايخ الإسلام اليوم، وعندما يستثمر رجال الدين هذه الحالة لتكريسها من أجل سيادتهم على هذا الشارع الجهول والتكسب على حساب جهالته؛ فإنهم يرتكبون أسوأ ألوان الشرور طرا.
فجعلوا من الدين مصدر كل معرفة أو ثقافة، والدين طاعة لا مناقشة فيه؛ ومن ثم تم وأد ملكة النقد، وتراجع القياس والتقدير لغياب المفاضلة، حتى المشايخ أخضعوا أنفسهم لذات المنظومة والفكرة، فمع ظهور قضايا جديدة لم يعرفها الدين ولم يسبق أن وجد مثيل لها وما كانت متوقعة، يقدم رجال الدين تأويلهم للدين أو للقضية، ليعيد تشكيل المشهد الجديد ليظهر شبيها بالمحفوظات عن الأسلاف، فليس للعقل أن يبحث إلا في المدونات الإسلامية حيث كل الحلول والإجابة عن كل سؤال، وليس للعقل أن يضع من عنده شيئا؛ لأنه سيكون وضعيا، والوضعي فساد ومروق واتهام مباشر للمدونات التراثية ومحفوظاتها بالقصور وأنها لم تعد مقبولة عقلا؛ لأن التفكير والمفاضلة والنقد والتقدير والتمييز بين حلول كثيرة، سيدخل الدين تحت هذه الأدوات الثقافية مما ينزع عنه القداسة المصمتة، حيث سيتم إبداء الرأي في أحد مكوناته.
لذلك يحاربون الجديد حتى لو كان علما ضروريا لا بد من تقبله، لأننا إن قبلناه فالمعنى أن نترك التفسير الديني له ونستغني عن هذه الأواني الحافظة ومحفوظاتها.
وتكون النتيجة خروج السيادة المجتمعية والرفاه والسلطان على الناس من أيدي الشيخ إلى العقل ومنهج التفكير العلمي؛ لذلك يتم طرد داروين وتسفيه فرويد والسخرية من الحلول العلمية. ولأن المجتمع قد تم ترحيل معظمه إلى طائفة الغوغاء بمن فيهم أساتذة جامعات وإعلاميون تحولوا إلى مشايخ للغوغاء، فإن الناس لا تقرر ولا تفكر ولا تجيب ولا تقدم حلولا، ويبقى الدور كله بيد رجل الدين الذي سيختار كل الإجابات التي اجتهد عليها السلف لهم من متعدد من ذات المحفوظات، حيث كل الاجتهاد حتى إنهم لم يتركوا شيئا للسلف ليبحثوا فيه، في أساطير تسمى علوما كعلوم الفقه وكتب الفتاوي والموقعين عن رب العالمين.
إن المتابع لطبقة أدعياء المشيخة والدعاة على القنوات الأرضية والفضائية، سيلحظ بغير مشقة أن هدف هؤلاء ليس الارتقاء بمجتمعهم بل السيطرة على غوغائه، وتحويل الغوغاء إلى طاقة قوة حاضرة في المجتمع يحتسب لها حساب، فيجعلهم أصحاب يد طولى، تجد منهم صحفيين وإذاعيين وإعلاميين يتقاضون أعلى الرواتب وهم مجرد غوغاء. وذلك ليتم توظيفهم سياسيا عند الطلب، ومثل هؤلاء هم مشكلة حقيقية لأنهم لا يعلمون أنهم غوغاء.
ويميل الغوغاء إلى تقدير القوة العضلية وتوظيف قدرتهم البدنية التي تجلب لهم الفخر أكثر من أي قدرات عقلية لا يؤمنون بجدواها، ويعتمدون في حل مشاكلهم على مشايخهم وفتاواهم لاعتقادهم بأن أي معرفة قاصرة على هؤلاء؛ لذلك أطلقوا على المشايخ لقب «العلماء» لامتلاكهم أصح العلوم وهي علوم الدين الحاوية لكل المعارف، ويقنع الغوغاء بهذه المرجعية ويطلقون لأنفسهم غرائزهم بعد أن يردد أحدهم لزميله «حطها في رقبة عالم، تطلع سالم»، وبالتالي التنصل التام من المسئولية عن سلوكهم في المجتمع، فيعيشون سعداء بدون تفكير ولا مسئولية ويسعدون ويحبون الشيخ لأنه يحترم تفكيرهم البسيط ولا يعيبه عليهم ولا يكلفهم جهدا عقليا، بل هو يغذي حبهم للخرافة والأسطورة والمعجزة والبطولات، وتسمع تهليلات الحمد والتكبير عند الحديث عن شيء معجز أو بطولة عضلية إسلامية، يحبون الإبهار وتعطيهم معجزة الانتصار في القصص التاريخية على أعداء الدين إحساسا بالمتعة، وأنهم منصورون كما انتصر السلف وهم قلة أذلة بالتدخل الإعجازي، مضافا إلى هذا زخم المشهد الروحي داخل المسجد وصوت آمين الموحد والصفوف المرصوصة بعبادة طقوسية ميسرة ومفهومة؛ لذلك يتماهى الغوغائي بالمقدس والنبي وبالرب وبالقعقاع ومحمد بن القاسم، ويثور لأي حديث لا يعجبه بشأن مقدسه لأنه يشكل اعتداء شخصيا عليه، ولا يدرك أن تحركه العنيف لحماية مقدسه إنما يعني عجز هذا المقدس عن حماية نفسه.
وهكذا فإن الغوغاء قوة لا يستهان بها، فهم يتميزون بالإمكانات العضلية وضمور الإمكانات العقلية، فتقوى قدرتهم على إحداث الشغب والقلاقل المجتمعية، بأساليب تخلو من الحياء والخجل، ويميلون إلى حياة الفوضى بما يملكون من غرائز غير محكومة بقيم الضمير السليم، فينفعلون بشدة لأي فعل. ومن هنا يقدرون من يقدرهم، ويقدر ممكناتهم البدائية فيقدمونه ويرفعونه ليمهد لهم طريق الجنة، ويعوضهم عن شقاء دنياهم، فتتم للشيخ السيطرة على أفعالهم باحتلاله مكان العقل لديهم، ويدفع أكثر نحو تعجيزهم حتى يعجزوا عن اتخاذ أي قرار من تلقاء أنفسهم لأن السيئة من أنفسنا والحسنة من الله ورجاله في الأرض، فيرجعون للشيخ في كل كبيرة وصغيرة وفي كل تافه ضئيل لا يحتاج جهدا عقليا، ويطلبون النصح والإرشاد في التوافه الهينات مع ضمور ملكة التفكير وموت العقل، ذلك الموت الذي يصرخ بالجريمة الكاملة لمشايخنا من أجل حبهم للدنيا وليس للناس وليس للدين.
وعملا بمبدأ «رغبة الجمهور»، قام المشايخ يختصرون الدين في مجموعة طقوس وأدعية جاهزة، تؤدي كل المطاليب، جالبة للخير ومساندة للرب، ساعية بالبركة تسأل الله أن يتولى شئون هؤلاء التعساء بنفسه ليفعل المطلوب بدلا منهم، فيهزم لهم الأعداء ويدك لهم الحصون وينهب لهم ثرواتهم ويمكنهم من عيالهم ونسائهم ويصيبهم بالطواعين والمهلكات. مع مجموعة أدعية لا تكلف مشقة غير حفظها وترديد المناسب منها عند الحاجة، فمنها ما يبعد الشرور، ومنها ما يقي من العين الحاسدة، ومنها ما يبعد الفقر والمرض دون أي عناء أو جهد من المؤمنين للتفكير في حل مشاكلهم بأنفسهم. هذا إضافة إلى وضع القواعد التي تنشئ تواصلهم مع ربهم ليتفهمهم ويستجيب لمطالبهم، فيسير المؤمن الغوغائي وفق جدول محكوم كالروبوت الآلي، يخضع لأوامر تسيره فيما يلبس أو على أي جنب ينام وماذا يقول عندما يتثاءب أو يعطس (يسمونه تشميت العاطس)، وبماذا يرد عليه من حوله، وكيف يبول أو يشرب وماذا يقول بعد ذلك من حمد، وكيف يتغوط أو يأكل أو ينكح أو ينكح، فكلها علامات تأكيدية كلما زادت وحرص عليها المؤمن أعطى ربه الفرصة لتمييزه وفرزه عن بقية خلقه، هي علامات لتمكين الرب من تمييز عباده الصالحين عن غيرهم من غير الصالحين.
ومع انتشار الفضائيات ووسائل الإعلام بدأت المنافسة بين المشايخ وبعضهم؛ لذلك يسعى كل منهم إلى تقديم أجود ما عنده لمتطلبات السوق؛ ومن ثم يتم إخضاع الدين لآليات الاقتصاد السوقي حسب قانون العرض والطلب، لنيل إعجاب المستهلكين، فينحدر الخطاب الديني إلى مستوى شعبولا ومغني الخضروات والحمير، إلى مستوى غوغاء الشعب الدهماء من أصحاب الذوق المتدني غير الرهيف وغير الرفيع، يستهويهم الخبط والرقع والصوت العالي والخرافة والأسطورة، فيهبط الشيخ بالدين من مكانه السامي إلى مستوى طلب المستهلك، ليرضيهم بمنتجه سعيا لمزيد من الانتشار والانتصار في المنافسة. يهبط بالدين إلى مستوى ذوق العوام بمحسنات تعجبهم، بينما هي تشينه وتشوهه؛ لأن الإسلام بصورته البكر على وفاق مع زمنه ومجتمعه، ولم يكن بحاجة لدعاة ومغيثين وتزويق ومحسنات لونية، وعندما يصبح هدف الدعاة هو الحشد العددي للأتباع، فقل على الدين والدنيا السلام؛ لأن هذا الحشد جاء على حساب سمو الدعوة، وتسطيح الإسلام واختصاره في شعارات سهلة الحفظ والفهم لا تحتاج جهدا عقليا لمحاورتها أو مناقشتها أو التأكد من مدى صحتها.
وهكذا تجد الشيخ لا يستحيي أن يتحدث عن نفسه كنجم محسود (مثل الشيخ خالد عبد الله نجم قناة الناس)، رجل الدين صار يسعى ليصبح نجما فنيا إزاء منافسة شديدة من فنانين آخرين، لذلك يبذل كل جهده ليستهوي الجمهور، بزي مميز، وبأسلوب خطابة رنان مسجوع، بطريقة في الإلقاء تقطع وتصل وتصمت وتصرخ وتجأر وتبكي وتسخر في تمثيلية محسنة الترتيب، وبجرأة من يملك وحده المعرفة المطلقة والنهائية الصحيحة، والتي يجهلها الجميع، ويجيب عن أي سؤال، ويشرح كل غامض.
ويعزز الدور الفني للشيخ توزيع الإضاءة في الاستوديو والديكورات الفخمة والمؤثرات التصويرية والصوتية الملائمة لطبيعة الموقف شاعريا أم حزينا؛ فالخطاب عن الجنة له إخراج؛ فالخطاب عن النار له إخراج، وكلما انتشر اسم الشيخ زاد توزيع مطبوعاته وإيراداته وتهافتت عليه الفضائيات بعظيم رزقها وأبهتها وجاءته الهدايا والنفحات من كل صوب، في مقابل تحويل إسلامنا إلى سلعة شعبية كالأغاني الشعبية المتدنية والهابطة، وليته كان شعبيا كما كان «مصريا» بأوليائه الصالحين وموالدهم وكرنفالاتهم، فقد اختفى التدين الشعبي المصري الحقيقي أمام مسخ شائه حرم كل العلوم والفنون ليبقى هو العارف الوحيد والعازف الوحيد.
الجزء
الدولة الإسلامية ومتابعات جديدة
الفصل الأول
هلوسات صحوة الموت: فقه النصر والتمكين
بعد أن يشرح لنا الدكتور محمد عمارة منهج الوسطية الذي هو منهج الإسلام الصحيح، يوضح معنى مصطلح «الاستعلاء»، بكونه لونا من «الكبرياء المشروع فنعتز بحضارتنا وبديننا وبلغتنا وبأمتنا وبثقافتنا وبكبريائنا» (الجزيرة، خطاب الهوية).
المهم أن هذا الاستعلاء بما لدينا من مبررات الكبرياء على العالمين، يصيب صاحبه بالأوهام ولا يعود يفرق بين الممكن والمستحيل، ففقهاؤنا المحدثون يرون أن المسلمين في طريقهم نحو التمكين، وأن لهذا التمكين علامات، فيقول الدكتور علي الصلابي: «إن القول بأن الأمة دمرت أو أنها مهزومة، فهو قول غير صحيح؛ لأن الأمة تحقق انتصارات، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، إن المستقبل لهذا الدين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره» (الجزيرة، فقه النصر والتمكين).
ومن ثم يقدم أدلته على الانتصارات التي تحققت للأمة الإسلامية ولدين الإسلام، فيشير إلى: «الانهيار الضخم للاتحاد السوفييتي، وانهيار أمريكا؟! (ربما يقصد ورطتها في العراق أو ربما يقصد دمار سبتمبر 2001م)، وأوروبا في دور التراجع في المجال الفكري والعقائدي والأخلاقي والحضاري، روسيا تريد أن تفتح مصارف إسلامية وكذلك اليابان، أصبحت حقيقة أن الفكر الإسلامي الاقتصادي يحل أزمات حقيقية، وأيضا في المشاركة في الحكم مع الأنظمة القائمة، أصبحت مرجعية الدساتير لكتاب الله ولسنة رسوله، الشعب التركي أعطاهم الأصوات، نجاح المسلمين في مقاومة المشاريع الغازية للأمة دليل على أنها نوع من التمكين، الانتصارات الدعوية الضخمة، في مجال الفكر والأخلاق، انتصارهم في المعارك، بأفغانستان، وتفتت قبلها الاستعمار الحديث ، إن هذه انتصارات ضخمة وهائلة» (الحلقة ذاتها).
وفى حلقة الصحوة الإسلامية ومآلاتها في القناة ذاتها، يؤكد الدكتور قرضاوي أن الصحوة الإسلامية هي دليل الانتصار؛ لأنها كما يقول: «صحوة اجتماعية سياسية فكرية، الكتاب الإسلامي أصبح الكتاب الأول، هناك مئات أطروحات الماجستير والدكتوراه، الشابات يقبلن على الحجاب.»
إن خطاب فقهائنا المحدثين يصيب المتابع بالارتباك، فنحن نستعلي إذن على الدنيا بدين جاء من عند الله وليس بشيء أنجزناه نحن بأيدينا؛ لذلك اخترنا أنفسنا أوصياء على البشرية القاصرة، لتبليغها هذا الدين والتمكين للمسلمين في الأرض! لماذا وبأي مناسبة وبأي دليل موضوعي؟ هم لا يقولون ولا يجيبون، فعندهم ليس هناك إمكانية مقارنة بين إمكانيات الشعوب ومنجزاتها وبين دين الله؛ فالدين الإسلامي ميزة لأصحابه تغنيهم عن أي إمكانيات أخرى، لذلك هم الأعلون.
فإذا كان ذلك صحيحا وأن الأمة تملك ميزة لا تملكها الأمم الأخرى، فلماذا تخرج المظاهرات في بلادنا تطالب بحقوق الإنسان والديمقراطية، ولا تخرج المظاهرات في أوروبا وأمريكا واليابان تطالب بالبيعة أو الشورى والحجاب والجهاد؟
مشكلة أخرى تواجهك مع مثل هذا الخطاب، عند التساؤل عمن سيتمكن؟ مرة يحدثك عن الأمة ومرة يحدثك عن الدين، فإذا كانت الأمة هي من سيتمكن فهي تتكون من مجموع أفراد، فأين هؤلاء الأفراد أو حقوقهم في خطاب التمكين؟ لا تجدهم هما شاغلا بالمرة؛ لأن الورقة المخفية في اللعبة هي من هؤلاء المرشحين للتمكين؟ يجيب: هم من يشاركون الآن في أنظمة الحكم بانتصارات جبارة، وهم من أعطاهم الشعب التركي أصواته؛ فالذين سيتمكنون هم مثل الإخوان المسلمين الذين تمكنوا من المشاركة في حكومات عربية، وحزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي، وأيضا من الذين يتمكنون، هؤلاء الذين يقاومون كما يحدث في أفغانستان؟!
من يوم ما أمسكت القلم أكتب وأكرر وأقول وأزيد «كلهم واحد»، ولا أذن تسمع ولا بصيرة ترى، هذا رجل في فلتة لسانية يرى الإخوان وحزب الفضيلة وبن لادن والزرقاويين هم من يسعون للتمكين، وهم أهل التمكين، دون بقية المسلمين، ودون أن يفرق بينهم أو يمايز أو يفاضل، وأن المستقبل لهم، بعد أن يمزج بينهم كبني آدمين بصوابهم ونقائصهم وبين الدين الكامل النظيف؛ فالعلماء هم الإسلام، لينتهي إلى أن هؤلاء هم من سيمكنون للدين عندما ينتصرون. وهكذا فالطريق إلى الله سيمر عبر حروب دموية جديدة.
وكم كنا نتمنى للفكر الفقهي المعاصر أن يكون قد تجاوز هذه العثرة، عثرة أن يكون الطريق إلى الله مفروشا بدم خلق الله، كما الزرقاوي وكما بن لادن وكما بن السباعي سفيه لندن، وكما بن القرضاوي وكما بن عاكف، وكما بن هويدي، كلهم في الدموية ملة واحدة. أضف لذلك أنهم يتجملون بوصول حزب إسلامي إلى السلطة في تركيا مجرد تجمل؛ لأنهم يرفضون المنهج العلماني الليبرالي الديمقراطي برمته، ويعلنون تبني الديمقراطية كمجرد واجهة وتطبيقا لمنهج التقية، انظر مفاجأة المذيع للدكتور الصلابي وهو يسأله: «إذن أنتم تعتبرون حزب العدالة والتنمية نموذجا إسلاميا صالحا ليسير بالأمة نحو النصر والتمكين؟»
السؤال جاء بغتة، فانظر إجابة الصلابي الذي ارتبكت صلابته فقام يغمغم بالنص: «لأ هوه ... نحن نعتبر ... هوه ... طبعا نعتبر ... أن ... هم لهم علاقات بأمريكا واعترفوا بإسرائيل، هذا نوع من السياسة الشرعية عليها جدل بين المسلمين ونحن يهمنا المضمون لا الشعارات.»
التمكين إذن لن يكون لا للإسلام ولا للأمة الإسلامية، إنما للفريق الإسلامي الذي سيركب الأمة ليوجهها نحو حرب عالمية مقبلة يجهز لها أصحاب التمكين، ستكون بين المسلمين في جانب والعالم كله في جانب آخر، اسمع السيد الدكتور يشرح معنى التمكين فيقول: «التمكين الذي ندعو إليه هو التمكين الرباني، وما نراه من تمكين مادي في الحضارة الغربية أو الأمريكية أو في اليابان فهو دنيوي يعزل الناس، التمكين يبدأ بالاستدراج، استدراج الأمم والشعوب ... التمكين هو الوصول إلى السلطة وإلى القوة والهيمنة لتحكيم شرع الله ... والهدف الأكبر ... هو هيمنة هذه الأمة وإرجاع دورها الحضاري في هداية الناس ... الهدف الوصول للدولة لاستخدام هذه الدولة في تطبيق شرع الله.»
مرة أخرى لا تجد في واجهة الصورة أي وجود للمواطن، لا تجد فاعلا سوى رجل الدين، فالتمكين مسألة تحتاج كما يقول: «إلى العلماء لإتمام صياغة هذا المشروع الإسلامي الحضاري للتصدي للغزو الغربي وأفكاره الدخيلة.» وهو ما يدعمه فيه بشدة المرجع الفقهي د. يوسف قرضاوي، وإن رأى أن «العلماء التقاة هم من يعرض المشروع على الأمة» (حلقة الدستور ومرجعية التشريع، الجزيرة). وبعدها كما يقول الصلابي: «يأتي دور صاحب القرار السياسي مع العلماء الربانيين في بلورة هذا المشروع.» ولا تفهم هنا كيف تكون الأمة منتصرة كل هذه الانتصارات التي يزهو بها، بينما هي قد بلغت درجة من الضعف تعرضت فيه ثقافتها للهزال والتآكل، حتى أمكن أن تتعرض للغزو الغربي الحضاري وأفكاره الدخيلة، حتى إن التمكين يبدأ أولا بصياغة مشروع ليتصدى للغزو الفكري.
نتابع فضيلته وهو يشرح معنى التمكين، فيكرر: «هو نوع من أنواع الاستدراج:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، وأمريكا الآن متورطة في العراق، ونحن نحيي المقاومة العراقية السنية الباسلة على إفساد مخططاتهم.»
مع مشايخ زماننا تجد نفسك دوما في مشكلة مع المفاهيم، فلا تفهم لماذا لا يؤهلون شعوبنا للصراع الحضاري؟ فنكون شعوبا فاعلة منتجة تدخل المنافسة مع الشعوب الأخرى، فنضيف للحضارة، وتصبح بلادنا موجودة على الخريطة فعلا! لا تفهم لماذا كي يتقدم المسلمون لا بد أن يتم خراب بيوت غيرهم وانهيار حضارتهم أولا، وبعدها يبدأ غزونا لهم لنتمكن في الأرض، فهذا هو درس التاريخ، انظره يقول: «بالدماء وبالعقيدة الصحيحة وبحب الشهادة في سبيل الله، استطاع المسلمون أن يحققوا انتصارات هائلة.»
والتمكين المنتظر ليس فوضى، إنما هو يسير على قانون تطوري مرسوم سلفا، ويشرح الأستاذ الدكتور هذه المراحل فيقول: «في القرآن الكريم التمكين على مستوى الأفراد مثل ما حدث ليوسف، ثم تمكين على مستوى الجماعات، كما حدث لرسول الله، المرحلة الثالثة مرحلة الانتقال في التيه (تيه بني إسرائيل وموسى في سيناء)، والمرحلة الرابعة طالوت مع جالوت، والمرحلة الخامسة مرحلة داود وبعدها مرحلة سليمان، هذه هي دورتنا الحضارية، ولكل مرحلة سمات محددة.»
إذن فحضارتنا لها دورة، مش أي كلام يعني! مثل دورة حياة دودة القز، وتبدأ دورة التمكين بالتسلل إلى الحكومة كما حدث ليوسف في استدراج فرعون ليعرف بقدراته فتمكن، (وهو ما يشبه ما حدث من الإخوان في اختراق أجهزة الدولة الحساسة في أيامنا)، وقد يكون التمكين كاملا على الجماعة الكبرى، من قبل مجموعة منها، وقد عرفنا هذه الجماعة المرشحة للاستيلاء على الحكم، فهم مثل الإخوان ومثل القاعدة ومثل طالبان، وذلك كما حدث زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم . ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة التيه وهي التي نعيشها اليوم، والتيه يعني البحث عن خلاص والعثور على الطريق نحو الهدف، مثل خروج بني إسرائيل بقيادة موسى من مصر نحو فلسطين، والتيه حدث في سيناء حتى تم حشد القوة والقدرة الممكنة لغزو فلسطين واحتلالها. إذن نحن في مرحلة حشد القوة للغزو الخارجي، هنا تأتي مرحلة طالوت وجالوت، وطالوت بالتوراة هو شاءول أول ملك لإسرائيل، وجالوت هو جوليات بالتوراة الذي كان قائدا فلسطينيا يدافع عن فلسطين ضد الغزو اليهودي، وقد انتصر طالوت الإسرائيلي على جالوت الفلسطيني بعد قتال مرير، والمعنى أنه ستكون هناك حرب ضرورية حسب هذه المراحل التطورية لينتصر فيها المسلمون مع طالوت على اليهود الذين أصبحوا حسب هذا الفهم مع جالوت، (بالطبع بعد إجراء عملية أسلمة لطالوت كما تمت أسلمة جميع الأنبياء قبله وبعده.)
وإذا ما تساءلنا عن موقع معاهدات السلام بين العرب وإسرائيل من دورتنا الحضارية ومراحلها نحو التمكين، فإن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق يجيبنا في كتابه: «حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها» بقوله: «اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ رسول الله رسالته وإلى أن يخرج الدجال، إلى أن يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلا: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله «متفق عليه»، وعداء اليهود لأهل الإسلام ورسوله إنما كان حسدا وبغيا أن تنتقل رسالة النبوة من فرع إسحاق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله، ومن ظن أن الحرب والعداوة توضع بين المسلمين واليهود فهو يكذب بوعد الله ودينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر.»
وبعد الانتصار الساحق، ومن فلسطين المحررة والموحدة على يد داود (رمزا للمؤمنين)، ستبدأ المرحلة الأخيرة من التمكين وهي مرحلة سليمان، فبعد شاءول أو طالوت كملك أول لإسرائيل، جاءت مرحلة الملك داود الذي وحد الدولة وأقام لها المركزية، كذلك يعتبر داود المؤسس المعتبر للمملكة الإسرائيلية، وبعده جاء ولده سليمان، وهو في العقيدة الإسلامية حسب نص الحديث واحد من بين أربعة ملوك تسنى لكل منهم حكم العالم أجمع كله شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، «روى مجاهد عن ابن عباس قال: ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان: فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران: فالنمرود بن كنعان وبخت نصر.»
المعنى واضح إذن؛ فالتمكين يبدأ من بلد مسلم تقوده تلك الفئة الخاصة المتخصصة في التمكين، لتبدأ بتحرير فلسطين، وقيام حكومة إسلامية عالمية تحتل الأرض كلها من بعد ذلك. وتحقق التمكين بسيادة العرب الأميين على العالمين!
هذا كلام يقال في العلن من على الفضائيات وليس في اجتماعات سرية لخلايا إرهابية، فهل ترى ثمة أملا بعد في تفهم فقهاء عصرنا لظروف عصرنا؟ وهل تراهم يعيشون واقع أيامنا بالفعل؟ وهل تلك الأدوات التي عرضوها علينا لتمكينهم من رقابنا ثم من رقاب العالمين، هي أدوات حقيقية وفاعلة؟ أم هو خطاب توهمي مريض بشدة؟ غارق في تخلفه قرونا إلى الوراء، ولا يملك بيديه أي إصلاح ممكن لأي شيء.
الفصل الثاني
الإخوان الوهابية
عندما طرح سؤال الحضارة نفسه علينا بعدما آلت إليه دول الإسلام من تخلف هائل أمام تقدم غربي أكثر هولا، عقد المسلمون المقارنة بين رجال المسلمين في عصرهم الذهبي وبين واقعهم المتردي اليوم، وأجابت مصر عن السؤال بالانفتاح على الحضارة وتأسيس دولة حديثة على يد محمد علي، وأصبحت في زمن قياسي منارة حضارة ومدنية وتدين سمح، فكانت تصدر إلى جوار عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل وفقهاء الدين، أدبا وفنونا وأفكارا، فصدرت العقاد وقاسم أمين وطه حسين وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده وأم كلثوم وعبد الحليم وعمالقة السينما والمسرح والفن التشكيلي، وزهت بزرعها وصنعها وفاضت على غيرها من خيرها دون من ولا أذى ، خاصة على الحجازيين نظرا لشظف عيشهم حينذاك وحتى زمن قريب، وأحقيتهم الشرعية للصدقة والزكاة ناهيك عن كونهم حراس الأرض المقدسة.
هناك على الجانب الآخر من البحر الأحمر جاءت إجابة أخرى عن سؤال الحضارة، إجابة لم تنشغل بالفرد المواطن؛ لأن العقل الواقف وراءه عقل لا يعرف الأرض والوطن والاستقرار وإقامة الحضارات، وإنما عقل ينشغل بسيادة الأمة وكرامة الدين، عقل بدوي أقصى ما يمكنه عمله إلى جوار القتال والغزو هو الرعي والتجارة، فجاءت الإجابة انتكاسة إلى الوراء تبحث عن خير القرون لتلتزم بتفاصيل سننه، ليتدخل الله تدخلا سحريا إعجازيا لنصر خير أمة أخرجت للناس، كانت غاية محمد بن عبد الوهاب (1703-1791م) إصلاح الإسلام كي يرضى الله عن أمته المختارة فيسبغ عليها الازدهار والانتصارات وعودة الفتوحات، وذلك بالعودة إلى الإسلام الصحيح وتطبيق أحكامه وحدوده وإقامة شعائره الظاهرة والباطنة بكل دقة. وأطلق ابن عبد الوهاب على نفسه وعلى أتباعه لقب «الإخوان».
ومن غرائب تاريخنا أن مصر وهي في نهضتها كانت تحارب الاستعمار الإنجليزي، بينما كانت الوهابية بعد حلفها السياسي مع أولاد سعود والإنجليز، تقوم بثورة على الخلافة، فمن جزيرة العرب خرجت الخلافة وصناعها، ومن جزيرة العرب خرج من يهدمون الخلافة بالتحالف مع الإنجليز.
وفجأة تحولت الوهابية عندما أصبحت حركة سياسية مالكة مسيطرة حليفة للعرش، نحو التشدد والتصلب الديني في كذب على الذات يقسم الدنيا بعقيدة الولاء والبراء إلى عالمين، عالم إيمان وعالم شرك، بينما كانت تحالف من تطلق عليهم بلاد الشرك من الإنجليز وما حكايات لورنس ببعيدة. ومن بعدها ومع انهيار الإمبراطورية البريطانية والاستعمار القديم، ظلت السعودية حليفة للأمريكان حتى يومنا هذا، بينما كانت مصر الآخذة بحضارة الغرب تتحول عنها إلى النظام العسكري، وتعلن حربها على هذا الغرب ممثلا في إسرائيل وأمريكا. مما أدخلها في هزائم ونكسات متتالية، وبثمن دماء أبنائها ارتفع سعر البترول في بلاد ابن عبد الوهاب، حتى أصبحت السعودية واحة غناء في معجزة اقتصادية غير مسبوقة، بينما كانت مصر في انحدار يتلوه انحدار، وخسائر إثر خسائر.
ومع سقوط الخلافة رسميا ظهرت في مصر بعد سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة جماعة تحمل الاسم ذاته للجماعة الموجودة بالحجاز، وتحمل أهدافها المعلنة ذاتها؛ مما يشير إلى تحالف غير مرئي من البداية، قرر فيه بعض المصريين وهم يرون المعجزة السعودية أن يقيموا شريعة الله حسب ما فعل إخوان السعودية، حتى يتدخل بنعمته ويفعل هنا على الضفة الغريبة ما فعل هناك على الضفة الشرقية، وليس ذلك على الله ببعيد.
وأعلن الإخوان المصريون إعلان الإخوان الحجازيين، وهو فشل جميع الأنظمة (عدا النظام السعودي بالطبع وحده لأنه يطبق الشريعة، ولأنه يملك جغرافية وتاريخ الإسلام، ولأنه حليف ابن عبد الوهاب) وإعلان فشل جميع الأيديولوجيات، وأن الإسلام وحده هو الحل، وفيه كل الحلول الإعجازية لكل المشاكل الأزلية والويلات التي جنتها علينا الأنظمة الرأسمالية والشيوعية، (انظر حسن البنا مجموعة الرسائل ص176، 191، 312) وأعلن حسن البنا إعلان الإخوان الحجازية ذاته وهو: «أن القرآن يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصايا النبيلة» (المصدر نفسه، ص127).
ومع وصول سيد قطب إلى ساحة الفكر الإخواني، التقى التقاء تلاحميا مع إخوان الحجاز، فأدخل هو والمودودي الحركة منعطفا جديدا يستلهم مضامين الفكر الوهابي تحديدا، والمتشدد الكاره المتسلطن دنيا وآخرة وحده دون غيره من المسلمين أو غير المسلمين. وصار مرجع كليهما فتاوى ابن تيمية وابن قيم الجوزية، مع اتفاق على مصطلحات إخوانية مصرية حجازية من قبيل: جاهلية المجتمعات وحاكمية سيد قطب، وأن الحرب القادمة ستكون بين المادية المتمثلة في الأرض كلها وبين الإسلام (الظلال، ج، ص8) لقد كانوا يجهزون قبل 11 سبتمبر 2001م بسنوات طوال!
ونتيجة لما وصلت إليه الدولة المصرية من طراوة ورخاوة ومزايدة وفساد، فقد نخر السوس الإخواني أهم أجهزة توجيه الرأي العام فيها، حتى تحول الشارع المصري إلى شارع وهابي، وأصبح عدد الإرهابيين في العالم بعد السعودية هم من المصريين. وعلى مستوى الإنجاز العلمي والفني، فإن مصر تأتي بعد السعودية في تصدير الفكر الوهابي ثقافيا، وإعلام مصر يكاد لا يختلف سوى فتيل عن التلفزيون الحجازي (وفتيل هذا هو: أخبار الأسرة المالكة هناك وأخبار الأسرة الحاكمة هنا).
أصبحت مصر والحجاز بنعمة الله إخوانا، ويخدعنا التاريخ مرة أخرى، لنجد السعوديين قد تركوا لنا السنة وأكل الثريد باليمنى، ودعاء دخول الغائط، ليلحقوا بفنادق الخمس نجوم حيث يطهون الطواويس والغزلان والكافيار، وينعمون بالجاكوزي والحمامات الفاخرة التي لا ينفع معها دعاء دخول الغائط، حتى ولو ذوقيا.
لقد عادت مصر إمارة إسلامية تتحرك حسب المزاج الحجازي حتى في سياساتها الخارجية، وتابعا غير كريم لخلافة غير شرعية.
الفصل الثالث
الدولة الوهم
يورد ابن عبد ربه في عقده الفريد (ج2، ص84) نص رسالة نبي الإسلام إلى وائل بن حجر الحضرمي كبير أقيال حضرموت، خاطبهم فيها بلغتهم الشديدة الخصوصية، التي لم تتأثر كثيرا بلغة قريش لبعدها المكاني ولتراثها القديم الخاص، تقول الرسالة النبوية: «من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة (أي أصحاب الممالك المستقرة)، والأرواع (أي حسان الوجوه) المشابيب (أي السادة) من أهل حضرموت، بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، في التيعة (التيعة عدد 40 من الشياه)، لا مقورة الألياط ولا ضناك (المقورة هي مسترضية الجلد، والألياط هي عيدان العظم؛ أي لا يكون جلدها مسترخيا لاصقا بعظمها والمعنى كثير اللحم). وانطوا (أعطوا) التيجة (أي الوسط) والتيمة (الداجنة)، لا خلاط ولا وراط ولا شغار، ومن أجبى فقد أربي (أي أن بيع المحصول قبل نضوجه ربا)، وكل مسكر حرام.»
كانت هذه رسالة النبي إلى أهل حضرموت يدعوهم فيها إلى اعتناق دعوته والاعتراف بسيادته بإرسال ضريبة المال إلى العاصمة يثرب. وشرحت أهم اهتمامات الدين الجديد فبدأت بالأهم ثم المهم، بدأت بالصلاة، ثم توقفت مع الزكاة طويلا شارحة مفصلة المطلوب من ضريبة المال، ثم بيان حرمة الربا والخمر في جملتين لا غير.
الملحوظة الأهم أن الرسالة لم تطلب من أقيال حضرموت واليمن الخضوع السياسي؛ لأن النبي كان نبيا لا مقيما لدول وحكومات، الرسالة طلبت الخضوع الديني دون أن تتدخل في الشكل السياسي والإداري القائم في بلادهم. بل مع اعتراف لتلك البلاد بالاستقلال السياسي واستمرار هذا الاستقرار باعتراف الرسالة لأقيالها العباهلة الأرواع المشايب، وهو تكرار وترداد لمعاني السيادة والبروز والقيادة مصحوبة باحترام واضح، ولم يأخذ عليهم شيئا في طريقة عيشهم ولا نظام حكمهم بل اعترف لهم به وكرمه بالمديح.
كتاب آخر ضمن رسائله إلى ملوك وحكام عالم زمانه يدعوهم فيها إلى الإسلام، كان كتاب النبي إلى قيصر الروم، وهو كما أورد نصه الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه (محمد) ص308، يقول نصا: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (رعيته).
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .»
والملاحظات هنا تقفو بعضها بعضا؛ فالنبي خاطب هرقل معظما له بوصفه (عظيم الروم)، ولم يقل عن نفسه إنه عظيم العرب؛ لأن النبي كان نبيا لا ملكا، هرقل رجل دولة وسياسة تجوز له مثل تلك الألقاب التفخيمية. ولأن النبي ما كان منشغلا بالأمر كرجل سياسة مثل هرقل، إنما كان منشغلا بتبليغ ما أمره الله بتبليغه ليس أكثر ولا أقل ودونما تفريط أو إفراط، فإن النبي لم يطلب من قيصر التبعية السياسية ولا تغيير أنظمة الحكم الرومانية السياسية أو الاقتصادية أو الإدارية إلى نظام حكم إسلامي، لعدم وجود هذا النظام، فلم تكن الدولة وأنظمة الحكم ضمن اهتمامات الإسلام ونبيه، كل ما طلبه هو ما كلفه ربه به، الدعوة إلى الإسلام فقط!
لم يقل لهرقل «القرآن دستورنا» لأن الروم هم أعرف الناس بالدساتير، وكان لهم دستورهم وقانونهم الديمقراطي قبل ظهور الإسلام بألف عام، ولأنهم في هذه الحال كانوا سيطلبون الاطلاع على هذا الدستور الجديد ليقارنوه بدستورهم ويفيدوا منه إن تيسر ذلك، كما سبق وأفادوا من اليونان بإرسال البعثات لدراسة التجربة اليونانية السياسية والقانونية لإتمام كتابة دستورهم. هذا بينما القرآن نفسه لم يكن قد اكتمل بعد عند إرسال تلك الرسائل، وكان مفرقا في صدور الصحابة وعلى العظم واللخاف والعسيب والرق والأحجار.
لو كان الدين مرتبطا بالدولة وسياستها، لطلبت الرسالة من عظيم الروم تغيير دينه وتغيير نظامه السياسي ودولته. وهو ما لم تطلبه الرسالة النبوية ولا حتى نوهت به. لم تقل الرسالة لهم اكسروا الصليب واقتلوا الخنزير، بل طالبتهم بالإسلام فقط؛ لأن النبي كان يعلم أن الدين شأن والدولة وسياساتها شأن آخر، ولم يعلن الإسلام للناس يوما أنه دين ودولة؛ لأنها لم تكن تكليفا إسلاميا من السماء، ولأنها لو كانت كذلك ما قصر نبينا في دعوته ولأعلنها واضحة صريحة صدعا بأمر ربه.
لو كان شأن الدولة هو المطلوب إسلاميا، ما رفض النبي صيغة الملك التي عرضتها عليه قريش، بل إن الواضح في القرآن هو رفضه لصيغة الملك كشكل من أشكال السيادة على الدولة، فقال:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ؛ فالصيغة الملكية تطلب خضوع المواطنين الكامل، وهو ما ترفضه وتأباه أنفة البدوي الحر في صحرائه؛ لذلك لم ينضم بدو الجزيرة تحت حكم مركزي إلا زمن النبي وحده في شكل تجمع قبلي يمثل مرحلة انتقالية من القبيلة إلى الدولة، ولم يستمر هذا الطور طويلا فتفكك التجمع القبلي والنبي على فراش الموت في شكل نزعات استقلالية مرتدة. وطال هذا الطور القبلي حتى أقام ابن سعود بحلفه مع ابن عبد الوهاب شبه دولة، وما زالت القبيلة فيها سيدة الموقف، يحفظون إلى اليوم أنسابهم وولاءهم القبلي دون بقية أمم العالم، فلو سألت سعوديا عن قبيلته لأجابك بسلسلة نسل ونسب طويلة، ولو سألت السؤال ذاته لأمريكي أو فرنسي لما فهم قصدك، ولو فهم لاعتبرك مجنونا.
والقرآن الكريم يحدثنا في سورة الكهف عن ذي القرنين (الإسكندر المقدوني فيليب)، ولا شك أن الله كان يعلم أن الإسكندر هو تربية الفيلسوف أرسطو تلميذ الفيلسوف أفلاطون، ومع ذلك لم يندد بالفلسفة ولا بأرسطو ولا بالسياسة الأرسطية ولا بالجمهورية الأفلاطونية، لأن شأن السياسة كان خارج اهتمامات الدعوة.
كان الجدير بالتنويه هنا هو لو كانت الدولة شأنا دينيا، لكان واجبا أن يعقد القرآن المقارنات بين دولته والدول العظمى في زمنه كما في مصر وروما وأثينا وفارس وغيرها، كما قارن بين دينه وبقية الأديان الكبرى في زمنه ليبين فضله وتميزه عن بقية الأديان.
وفي سورة سبأ يحكي القرآن كيف أرسل النبي سليمان سفيره (الهدهد) إلى مملكة سبأ التي كانت تتعبد للشمس من دون الله، وحمله للملكة رسالة تدعوها للإيمان، وقد عرضت الرسالة على ملئها أي شيوخ قومها ووزرائها وأهل الخبرة والدراية، في دراسة ديمقراطية للموقف، ومع ذلك لم يعب القرآن على سبأ نظامها الحاكم ولا ديمقراطيتها البدائية ولا طالبها بتفكيك ملئها، بل كل ما طالبها به هو الإسلام.
كان محمد داعيا لدينه لا لدولة الإسلام، ووفقا لرغبات السماء، التي لم يكن من بينها التسلط السياسي وضم البلدان تحت سلطان العرب.
وإذا كانت الدولة هدفا لدين الإسلام، فإن ذلك يدفع إلى التساؤل: لقد كان النبي موجودا ومدعوما من السماء ربا وملائكة ومع ذلك لم يتمكن من إقامة هذه الدولة، فلماذا؟ لسبب شديد البساطة هو أن الدولة لم تكن ضمن جدول اهتمامات الإسلام، ولو كانت كذلك لتحققت على يد نبيه كأعظم دولة خالدة على الأرض، ولم تنتظر الإخوان المسلمين ليقيموها لنا، ولا انتظرت دستورنا ليقرر أننا دولة إسلامية، زيادة في دين الله، ومزايدة عليه، وعلى ربه، وعلى نبيه.
الفصل الرابع
حنانيك قارئي
إجابة عن استفسار قارئ لموضوع الدولة الوهم.
كتب قارئ لموضوعي المنشور هنا بعنوان «الدولة الوهم» ما هو آت: «إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء.» قالها عبد المطلب بن هاشم، وهو يشير إلى أبنائه وحفدته. لقد استهل الدكتور القمني كتابه «الحزب الهاشمي» بهذا الاقتباس؛ أعتقد بعد هذه المقالة أن الدكتور سيد القمني - إن كان هو كاتب المقال حقا - قد تأهل بجدارة للعودة للكتابة في مجلة روز اليوسف. أين هذا المقال مما قدمه الكاتب من فكر في روائعه ك «حروب دولة الرسول» و«الحزب الهاشمي»، لا أعلم كيف يستقيم هذا المقال مع فكر الكاتب. أقول للدكتور القمني أنت مديون لقرائك بتفسير لهذه الرؤية الجديدة . (انتهى تعقيب القارئ.)
وأجيب:
بنعم، أنا مدين للقارئ بتفسير، خاصة إذا كان هذا القارئ ممن لا تتيح لهم الظروف متابعة كل ما أكتبه، فأولا هناك ما سبق أن كتبته ونشرته وبعد سنوات من البحث والدرس أعلنت تراجعي عن بعض النتائج التي وصلت إليها، كما حدث بالنسبة لكتابي النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، وعودتي عن بعض ما وصلت إليه فيه، وإعلاني عن هذا التراجع بأدلة وقرائن جديدة تشير إلى نتائج تخالفه، وذلك في كتابي النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة.
لقد بدأت يا سيدي وأنا شديد التعلق بالفكرة الماركسية بكل ما يتضمن تحتها من عناوين، فإذا الدنيا كما ترون، وإذا بنا نعلم ما لم نكن نعلم، لأتحول عن كل ألوان الفلسفات الشمولية إلى العلمانية الليبرالية؛ لأن مبدأ «الثبات على المبدأ» قد أثبت أنه أحد وأكثر القيم بطلانا. وهكذا حال العلم وهكذا حال طالب العلم، هو على استعداد دائم لتغيير يقينياته، بل هو في نضجه لا يعمل تحت مظلة أي يقين، ورغم ذلك فإن العلم ذاته يفرض المنهج المادي الماركسي في قراءة التاريخ كمنهج لا يزال صالحا للاستخدام ولا يزال أحد أدواتي المعرفية.
كنت يا سيدي في مرحلة من عمري شديد العنصرية وكتبت موضوعات قاسية بل وفاشية بامتياز ضد اليهود، فقط لكونهم يهودا، كنت أحمل لهم عداء سحريا غريبا ممزوجا بفكرة الاستيلاء على أراضينا في فلسطين وفطير فصح صهيون المعجون بدماء أطفالنا، دون أن نراجع نحن أنفسنا وتاريخنا من هذه القضية؛ وهكذا كنت ضمن السرب أسرب مع القطيع القومي، فناقشت التراث اليهودي من منطق منحاز وعدائي سلفا، وهو واضح بشدة في كتابي: «الأسطورة والتراث»، خاصة في باب الأساطير التوراتية. وقد أعيد طبع هذا الكتاب عدة مرات، لكني لم أعدل ولم أبدل فيما سبق ونشرت لأن هذا حق الناس والقراء، يجب أن يظل كما هو ليشير إلى مراحل تطور الكاتب دون تزويق وإعادة تبرير أو إعلان أسف، هي مرحلة تلتها مراحل واضحة فيما كتبت بعدها، لتشكل جميعا علامات لمصلحة الكاتب أو ضده في الامتحان أمام القارئ المتابع.
وفي كتابي: الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية وكتابي حروب دولة الرسول قلت إن الجانب المادي من الدعوة كان هو إقامة دولة تجمع شتات عرب الجزيرة تحت راية الدين الإسلامي، وبريادة من قريش، وبالذات البيت الهاشمي من قريش، وسعى هذا البيت للرئاسة في مباراة مع البيت الأموي، حتى حسمها الهاشميون بإعلان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي أنه نبي من السماء.
وفي ظل هذا المعنى تابعت الدعوة من بدايتها إلى نهايتها في كتاب هو سفر ضخم «الإسلاميات» يأخذ شكل كتب السير، لكنه المتفرد باعتماد الواقع وحده محركا للأحداث، السياسة والمجتمع والاقتصاد والعادة والتقاليد ... إلخ. كانت إرادة العرب التجمع القومي في دولة، عملت قريش عليها من زمن، وقد تلاقت إرادة العرب مع إرادة السماء، لكن الواقع كان يقول شيئا آخر، فقد ظلت هذه الدولة دولة قبائل؛ فهي تجمع بدائي لقبائل تنضوي تحت رئاسة قبيلة سيدة، وظل كل شيء ما عدا ذلك على حاله. الدول حتى اليوم درجات وأصناف، فهناك دولة أمريكا وهناك دولة جزر القمر وهناك دولة الصومال، فهل يستوون؟ وهناك الدولة السعودية التي أقامها ابن سعود بحلفه مع ابن عبد الوهاب والإنجليز، ولم تزل حتى اليوم تعاني من قبلية تؤخرها عن منظومة الدولة المعاصرة بالمعنى العلمي لكلمة دولة.
هذا ناهيك عن كون المطروح علينا اليوم من الفصائل الإسلامية كافة هو إقامة دولة دينية إسلامية، وهو ما يستدعي شحذ كل الردود العلمية الممكنة لترجيح كفة الدولة المدنية. ولعل أساس هذه الردود يكمن في التأكيد على أن دولة الرسول كانت دولة تليق بزمانها ومكانها، كانت دولة بالنسبة إلى حالة العرب في الجاهلية الأولى والجاهلية الثانية، دولة لم يكن لها جيش إنما كانت تجيش باستدعاء القبائل لتأتي برجالها ونسائها وأطفالها وخيلها وبعيرها وسلاحها الخاص وتسير كل قبيلة تحت رايتها الخاصة، مثل هذه الدولة لا يمكن تسميتها دولة إلا قياسا على حال جزيرة العرب آنذاك، دولة بلا شرطة ولا محاكم ولا هيئات إدارية ولا تراتب وظيفي هيكلي هرمي، دولة بلا هذا كله تسمى دولة من باب المجاز فقط قياسا على زمانها، لكنها بمقاييس العلم هي مرحلة انتقالية من البداوة إلى الدولة لم تكتمل عناصرها حتى اليوم؛ لذلك عندما أرفضها كنموذج لدولة مطلوبة اليوم من الإسلاميين، أكون في مكاني لم أبارحه، ولم أغير رؤيتي لتتفق مع مطالب الحكومة كي تسمح لي أن أكتب في روز اليوسف مرة أخرى كما رأى القارئ الكريم، فأنا لست من موظفي روز اليوسف ولم أكن كذلك يوما، وإنما أكتب من بيتنا لمن أشاء وأمنع عمن أشاء، وهو المنع الذي قررته مع روز اليوسف بعد موقف هيئة تحريرها الجديد مني إبان أزمة توقفي عن النشر، وليس المسألة بالعكس يا قارئي المحترم. قليل من حسن الظن بكاتبك يخلق توحدا ليبراليا مطلوبا. كنت أكتب لروز أيام كان محمد عبد المنعم رئيس تحريرها، وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه؛ فهو مع من يعرفه يتخلق بأخلاق اللوردات، ومن كان يكتب لرئيس تحرير لورد يصعب عليه أن يكتب لشخص في حجم وتفاهة عبد الله كمال. وها هي مجلته بعد توقفي عن الكتابة لها تعود بأعدادها سالمة من غير سوء أو «سوق» للمطبعة؛ لأن قرائي المحترمين كانوا أكثر تفهما وقرروا مساندتي بمقاطعة المجلة مثلما قاطعتها، دونما اتفاق ولا اجتماعات ولا لجان ولا هيئات. وشكرا لك أيها القارئ لتنبيهك الشاك المشكك الذي أضرب عنه صفحا احتراما لك، فأنا أكتب لك وأستمد ما أكتبه منك، من أجل وطن أتمناه أنا وأنت، وطنا عزيزا يعيش فيه مواطن كريم.
الفصل الخامس
الإسلام والحضارة
لا يخلو خطاب إسلامي من الإشادة بما يطلقون عليه «الحضارة الإسلامية»، وما أنجزته هذه الحضارة على المستوى النظري الفلسفي، وعلى المستوى المادي التطبيقي، بفضل كوكبة من العلماء المسلمين الذين أنجزوا في زمانهم ما يعد مفخرة عربية إسلامية.
ويتخذ أنصار إقامة دولة إسلامية من التأكيد والتكرار على «الحضارة الإسلامية» إثبات أنه كان لنا حضارة من نوع خاص مفارق ومباين لما يعرفه العالم كله عن معنى الحضارة، وأنها الحضارة التي تناسبنا وتتفق مع ديننا ولا تخالفه، وأنه بالإمكان استعادة هذه الحضارة التقية الشريفة الورعة المسلمة، لنواجه بها حضارة الغرب المتفوق اليوم، لو أمكن لدعاة الإسلام السياسي حكم البلاد بالإسلام. بل وستتميز دولتنا المسلمة عن حضارة الغرب بالقيم والأخلاق السامية التي بات هؤلاء المتحضرون يفتقرون إليها.
ولا بأس من الإشادة بدين من الأديان، ولا بأس أيضا بنقد علمي لدين من الأديان، لكن البأس كل البأس تلبيس الإسلام ما ليس فيه وما لم يعرف وما لم يكن بحسابه ولا حساباته ولا اهتماماته ولا لحظة واحدة. والتلبيس على المسلمين بأوهام تمسكوا بها ولم يعودوا يرون غيرها، حتى غاب عنهم البحث والنظر إلى ما بأيدي غيرهم من شعوب العالم المتفوق من عوامل التحضر والرقي والتمدين والتقدم، اعتمادا على اعتقاد أن ما بأيديهم كدين يتضمن نظرية متكاملة لحضارة متكاملة هي أم النظريات وهي المثل الأعلى للحضارات كلها، لا بل هي الإنقاذ للعالم كله لأنها تأخذ بيده نحو نور الهداية والحضارة التقية لإقامة مملكة الله على الأرض، يوم يعم الإسلام العالم ويعيش كل البشر في نور التقوى والسعادة والحبور والهدى، سواء أسلموا أم دفعوا الجزية، المهم أن تكون الدولة الإسلامية إمبراطورية عالمية تحكم العالم من شرقه إلى غربه.
وترداد القول بهذه الحضارة ولوكها في كل مناسبة، هو نوع من الخطاب المخاتل المخادع التلبيسي التلفيقي؛ لأن الأديان جميعا لم يكن من مهامها إقامة حضارات أو دول.
ومع البدايات الأولى لظهور الأنبياء ذوي العزم منذ إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى كانت الحضارات موجودة، فقد زار هؤلاء مصر ونزلوا في ضيافة الفراعين، جاءوها ليجدوا الفرعون ملكا على دولة قوية متماسكة أنجزت حضارة كبرى تقف آثارها حتى اليوم تتحدى الزمن، وهي حضارة مشرفة بكل المقاييس رغم أنها كانت وثنية غارقة في أساطير دينية. وكان مفترضا أن تكون حضارة الرب هي الأعلى والأبقى، وكان مفترضا أن تكون حضارة الرب هي بداية الحضارات على الأرض وليس الحضارة المصرية أو البابلية أو الفينيقية أو الصينية، ولو كانت الأديان تصنع حضارات لكانت جزيرة العرب هي نموذج الحضارات العظمى، ولصار الحجاز هو نموذج العالم المثالي، ولكان المفروض ألا يطالبنا أحد بالإصلاح، بل كان المفروض أن تخرج المظاهرات في أوروبا تطالب بالشورى بدلا من الديمقراطية وبتعدد الزوجات وبالحجاب وبالجهاد والسبي والاستعباد.
بينما المركز الجغرافي للإسلام كان بداوة جاهلية استمرت قبلية كما هي باستمرار عادات العرب وتقاليدهم المضافة إلى الإسلام، وحتى اليوم تجد مركز الإسلام في السعودية فاشلا في إدارة مجتمعه، يستورد كل الصنائع وكل الفنيين والخبراء على صنوفهم من مختلف بلدان العالم، يستورد من الشماغ إلى الملابس الداخلية إلى سجادة الصلاة إلى الطائرة، وهو ما لا يمكن تسميته حضارة فهي حضارة الغير المشتراة بالبترول، ولو تم سحب العمالة الأجنبية من مهبط الوحي لانهارت الدولة؛ فالسعودية معرض منتجات دولي، فقط هي «صاحبة الليلة» بالبترول الذي اكتشفته لها حضارة الإنسان في بلاد الغرب، صحن الكعبة من بناء شركات أجنبية عالمية، المستشفيات تستحضر أطباء من أوروبا وأمريكا رغم ما لديها من الطب النبوي، ولا تعرف لماذا لا يستثمرون أموالهم في بول الناقة بدلا من أن يصدروها إلينا فتاوى وأحاديث وتفاسير ما أنزل الله بها من سلطان.
إن الحضارة ليست منجزا دينيا إنما هي منجز إنساني مفتوح ساهمت فيه البشرية من كل ملة ودين ولون وعنصر، ولم يقم الدين يوما بصناعة حضارة فهذه شئون إنسانية بحتة، فالحضارة ينتجها هيكل مدني مستقر: من النجار إلى الفلاح إلى السمكري إلى الطبيب إلى المهندس إلى القانون إلى نظام الدولة الهيكلي التراتبي الوظيفي والبيروقراطي.
وقد نجح الوثنيون في إقامة حضارات عظمى فلو كانت الوثنية معيبة ما أنتجوا ولا تحضروا، وهو مما يعني أنه لا علاقة للدين وثنيا أو سماويا بالتحضر وإقامة الدول، فلم يثبت أن نبيا واحدا قد أقام هرما أو مستشفى أو سد مياه، وإذا كان من مهام الدين إقامة الدول والحضارات فأين هي دولة إبراهيم ودولة نوح ويوسف والخضر وذي الكفل وذي النون وأين حضاراتهم؟ ألم تترك أي أثر؟
لو كانت الآلهة تصنع حفارة وكنا نحن المسلمين أصحاب أصح الأديان وأرفعها، وأصحاب الإله الواحد القهار، لكان واجبا أن تكون حضارتنا هي النموذج الذي لا يهتز للحضارة الإلهية على الأرض، وأن تكون مثلا أبديا لا يدانيه تقليد بشري، بينما واقعنا يقول إننا أصحاب أخيب حضارة على سطح الكوكب الأرضي، وإنه من الظلم لديننا أن ننسب إليه وإلى الرب القوي المهيمن مثل هذه الحضارة التي هي عار الإنسانية على الأرض.
ورغم ما نراه أمامنا فإن عامة المسلمين وخاصتهم وفقهاءهم يعتقدون أن اكتمال رسالة الإسلام كانت يوم قال الوحي:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ؛ وهو ما يعني اكتمال معارف البشرية بحيث لم يعد هناك أي إمكانية لتقديم أي جديد، فكل المعارف مدونة في القرآن الكريم وما علينا إلا اتباعها وحفظها وترديدها وتفسيرها لنكون من العلماء، فلفظ العالم عندنا تطلق على العاملين بشئون الدين وليس بشئون الدنيا. وهذا هو العامل الثاني والأخطر في صرف المسلمين عن البحث والجد وبذل الجهد والمثابرة والشقاء وأخذ النفس بالشدة في تحصيل المعارف والعلوم التي أدت إلى تقدم المتقدمين. ويدعم الاعتقاد بأن اكتمال القرآن يعني اكتمال المعارف من مصدرها الإلهي الأعلم بها من أي مخلوق، بقول القرآن:
ما فرطنا في الكتاب من شيء (الأنعام: 38).
وحتى يكون رجل الدين هو الممسك بكل عقل المسلم وروحه، اعتمد تفسير الآيات بأنه يعني تمامية المعارف في القرآن، ولأن هذه المعارف غير واضحة بتمامها فعلى المسلم الرجوع إلى رجل الدين في كل شأن في حياته كبر شأنه أو صغر، ليعرف مدى مطابقته لدين الله وأوامره ونواهيه. رغم أن الآيات لا تشير إلى أي معارف؛ فهي تقول أكملت لكم دينكم ولا تقول أكملت لكم العلم والمعرفة والحضارة، والآية «ما فرطنا في الكتاب من شيء»، تعني ما فرط في شيء من شئون الدين والعبادة والشعائر والنوافل ... إلخ، وليس من شئون الدنيا والعلم والمعارف الإنسانية التي لا تسعها كل الكتب والمعاني المقدسة، ولا علاقة لها بها من بعيد أو قريب؛ لأن الدين جاء ليعلمنا كيف نحب الله ونطيعه ونؤدي له فروضه وكيف نشكره على نعمته، ولم يأت ليعلمنا صنع الحضارة بالهندسة المعمارية والزراعية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والطبية ... إلخ ... إلخ. حتى بات المسلم الذي يعتقد أن كل هذه العلوم كمنتج حضارة موجودة في كتابه المقدس، يعيش حال تقزيم لعقله وسجن لطاقاته ومهاراته، إذ يعتقد أن العلم الإنساني الهائل كما وكيفا بهذه البساطة والخفة السطحية بحيث يجمعه كتاب واحد، ويكفيه أن يحفظ هذا الكتاب وحده ليكون قد علم كل شيء علم اليقين، ومن ثم لا يرى العلم رؤية سليمة حقيقية تحفظ له قيمته واحترامه وقدسيته، ولا هو بقادر على إنجاز أي شيء بعد أن أنجز الله كل شيء.
الحضارة تقوم على قدسية العقل البشري والثقة بممكناته وطاقاته، بينما كان الشيخ جاد الحق شيخ الجامع الأزهر - أي رجل العلم الأعلى بين المسلمين - يخرج علينا في التلفزيون ليقول: «أخطأ اليونان قديما حينما استمسكوا بالعقل واعتزوا بمنطقه، وأخطأنا نحن حين أخذنا عنهم هذه النقيصة.»
هذا رغم ما يزعمه الخطاب الديني عن حض الآيات والأحاديث على طلب العلم بالعقل والنظر، أي بالاستنباط النظري والاستدلال الحسي المادي، وهو زعم وتلبيس بدوره؛ لأن العلم المطلوب هنا هو العلم بعظمة الله والاستدلال على قدرته؛ لذلك أطلقوا على رجل الدين لفظ عالم بهذا المعنى؛ فالعلم المقصود المطلوب هو العلم بشئون الدين؛ لأن حقيقة الدين وطبيعته لا تدفع العقل لإنتاج فكر جديد منتج في الواقع؛ فهو مجموعة من الأوامر والنواهي والتحريمات، برنامج يسيطر على حياة المؤمن المطيع النموذجي منذ صحوه حتى نومه ومن ميلاده حتى مماته، فلا يستطيع التصرف إلا وفق هذا البرنامج فهو يأكل بأدعية ويصلي بآيات ويدخل الكنيف بمفاتيح لفظية ويخرج منه بمثلها وينكح وفق تعليمات تسبقها ابتهالات وأدعية مقننة في حروف وألفاظ ثوابت رواسخ ... إلخ. ومع مثل هذا البرنامج لا يصح القول بعقل ينتج فكرا.
ولو نسبنا الحضارة إلى دين، فإن المعنى سيكون أن حضارة الغرب الحالية هي حضارة الصليب، وهي حضارة استمسكت بالعقل واعتزت بمنطقه وتمسكت بهذه النقيصة فأنجزت ما نرى وما نعيش، بل كانت ذات فضل في حماية الإسلام بحماية كتبه المقدسة بما وفرت من وسائل الطباعة والنشر والإعلام بالتلفزيون والمذياع والإنترنت بشبكة اتصالات دولية، كما وفرت لنا كل ألوان العلاج لكل الأمراض حتى المستوطنة منها بلادنا وليس بلادهم، دون أن تقدم حضارة الإسلام ولا مصلا شافيا واحدا لمرض يستوطنها هي أو غيرها.
وإذا كان المقصود بالحضارة في هذا الخطاب جانبها المادي المتمثل تلك الأزمنة في ارتقاء العلوم وبخاصة المعمار والري كدلالات حضارية، فلم يكن للعرب معرفة بالنهر حتى ينشئوا هندسة للري، ولم يكن لهم معرفة بالعمارة لأنهم كانوا خيمويين متنقلين. لو كان للإسلام حضارة تنشئ معمارا ما وقف النبي يخطب في مسجده فوق جذع نخلة، ولكانت عمارة مسجده أروع مما هي عليه اليوم بهندسة السويسريين وكرستالهم والإيطاليين ورخامهم، أو لأقاموا كعبتهم بأنفسهم بدلا من إبراهيم العبراني بمساعدة الملائكة، ومن بعده أقامها مصري بخشب سفينة مصرية غارقة، ومن بعد هذه الأزمان بهندسة الأمريكان والطليان، أو لطابقت مساجد الأندلس مساجد القاهرة وبغداد ودمشق، فهذه المساجد معمار حضارات شعوب اعتنقت الإسلام، وسطا عليها العرب ورفعوا عليها راية الإسلام فبعد احتلال العرب لدول الحضارات المحيطة بجزيرتهم ادعوا ملكية حضارات البلاد المفتوحة، بل واجتهد فلاسفة العروبة والإسلام - من بعد - لإثبات عروبة تلك البلدان حتى قبل فتحها واحتلالها.
وهنا لا بد من التنويه للعقل البصير أن الإسلام هو دين من عند الله وليس من عند العرب، جاء للبشرية كافة لكن العرب سطوا عليه مبكرين وركبوه لتحقيق أغراضهم، وألبسوه ثيابهم وعاداتهم وتقاليدهم. فلا تلازم ضروري بين العرب والإسلام، ونسبة الناطقين بالعربية بين مسلمي العالم اليوم لا تزيد عن 20٪، وهو ما لم ينقص من إسلام وإيمان 80٪ من مسلمي العالم غير العرب. وعادات العرب وتقاليدهم ولغتهم لم ينزل بها جبريل وحيا على محمد؛ فهي كما لا تلزمنا في مصر بأكل الجراد والضب؛ فإنها لا تلزمنا كذلك بأي تقاليد أو عادات عربية أخرى.
وإذا كانوا يقصدون بالحضارة كوكبة العلماء الذين ظهروا بين القرنين الثالث والرابع الهجريين ، فلم يكن بينهم عربي سوى الكندي وهو فيلسوف متواضع الشأن إذا قيس بغيره، ولم يكن ظهور تلك الكوكبة بسبب الدين وعلامة على إقامته حضارة، إلا كان من الضروري أن يظهروا مع ظهور هذا الدين، لا أن يظهروا في زمن بعينه، ثم يختفوا باختفاء هذا الزمن، لأن ظروف هذا الزمن هي ما أنتجهم وليس الدين ولا رجاله ولا العرب ولا تقاليدهم. كان زمن انفتاح حضاري على حضارات العالم القديم بالترجمة والنسخ والإضافة أحيانا، في زمن ذهبي لإمبراطورية قوية لا تخشى على نفسها من فكر أجنبي، وهو زمن أنجب الرشيد والأمين والمأمون وغيرهم من الخلفاء المستنيرين، الذين جعلوا بلاطهم مكانا حرا للعلم بصنوفه والشعر والموسيقى والأدب حتى أدب الفضائح وفنون العري والفجور والجنس على أنواعه حتى المثلي منه والتباهي به شعرا، وتلازم وجودها مع وجود هذه البيئة المنفتحة التي أنتجت مع فنون الفجور فنونا راقية وعلوما متقدمة بمقاييس زمنهم، وعندما أغلق باب الحريات العقلية مع المتوكل وخلفه، ذهب علماؤنا ولم يعد أحدهم من يومها، رغم وجود العروبة ورغم وجود الإسلام، بينما كانوا موجودين رغم وجود العري والفجور، لكن مع مساحة حرية لم يدخلها رجال الدين ليصادروها.
وقد ظهر الإسلام في بيئة قبلية بدوية فلم يعرف معنى الوطن والمواطنة؛ فالقبيلة المتحركة دوما لا تعرف وطنا إنما تعرف شيئا معنويا يجمعها أطلقوا عليه «الحمى»، يتحرك معهم أينما تحركوا في حمايته وحماه، وعادة ما كان هذا الحمى يمثل القبيلة كلها، وهو في النهاية رمز ميتافيزيقي كان يلتبس برب القبيلة، وهو ما يشبه قول الإسلاميين اليوم إن: الإسلام وطن، بل إن هذا الحمى أو الدين أرفع بدرجات من أي معان تتعلق بجغرافية الأرض أو حدودها الوطنية، أو كما يقول الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي: «إن الإنسان يضحي بوطنه من أجل دينه، ويضحي بنفسه من أجل دينه؛ فالدين مقدم على الإنسان ... فالدين هو الضرورة الأولى وبعده تأتي ضرورة النفس وبعدها النسل وبعدها العقل والمال (ولا يذكر الوطن كضرورة من هذه الضرورات)» (حلقة الظاهريون الجدد، قناة الجزيرة)؛ ومن ثم ساغ لكاهن الإخوان الأكبر أن يقول عن إيمان صادق: «طظ في مصر وأبو مصر واللي في مصر.»
والوطن هو ما يشكل الضمير الجمعي والقانون الجمعي وهما أساس الحضارة؛ فالحضارة ينتجها شعب يعيش في وطن له حدوده الجغرافية، وتجمعه المصلحة الواحدة، فكان النيل مثلا بجبروته عند الفيضان دافعا لتجمع كل المصريين لحماية قراهم وحقولهم يدا بيد، في تلاحم قوي بضمير جمعي واحد برعاية مصلحة مشتركة واحدة، ومثل هذا الضمير الجمعي هو ما يخلق قانون المواطنة، فيحرص كل مواطن على حماية الملكية العامة والقانون العام، باعتبار الوطن ملكا له كما هو ملك لجميع المواطنين. فإذا لم يوجد وطن فلا وجود لضمير جمعي ولا لقانون جمعي؛ ومن ثم لا وجود لدولة ولا لحضارة، تراهم أين سيقيمون دولتهم المنتظرة إذن إن لم تكن في وطن؟!
فالشعوب التي أنجزت حضارة هي الشعوب التي استقرت في أوطان وامتلكت ضميرا جمعيا يشترك فيه الجميع ولا ينسب إلى دين من الأديان.
ومن هنا نفهم لماذا لم يتمن نبي الإسلام أن يصنع شعبه حضارة وكنوزا؛ لأنه يعلم أن شعبه قبائل غير منتجة وأن الإنتاج خاصية لجغرافيا أخرى مستقرة، إنما تمنى الاستيلاء على ما حوله من حضارات: «والذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى وقيصر.» وحتى اليوم لا يوجد لدينا طموح لمنافسة المنتجين والمخترعين والمبدعين في العالم، بل نريد الحصول عليها جاهزة بالاستيلاء عليها، على الطريقة البدوية القبلية؛ فهي ثقافة تجارة وصيد وقنص وكر وفر، تستولي على ما بيد الآخر بدلا من أن تنجز مثلما أنجز وأن تتحضر مثلما تحضر.
الفصل السادس
دولة الرب
كثيرا ما راودني سؤال شديد البساطة: لو كانت إرادة الله تبغي إقامة دولة ربانية على الأرض، فلماذا لم يفعل ذلك من بدء التاريخ؟ لماذا لم يقم دولة المدينة الفاضلة الكاملة التامة المانعة؟ ولماذا لم يضع لها دستورا وقوانين أفضل مما صنع اليونان والرومان والفرس، وبما يتناسب وعظمة الرب حتى تكون دولته هي القدوة والمثال لكل البشرية. بينما ما حدث في واقع دولة الرب الأولى المزعومة (إن جاز تسمية دولة الخلافة الراشدة بذلك)، أنها طلبت المعونة المعرفية والفنية والإدارية والفلسفية والقانونية من دول الحضارات المفتوحة، التي صنعها البشر خلال تاريخ طويل من التجارب، ولم يجدوا حلا سوى الإبقاء على الأنظمة القديمة في تلك البلدان معمولا بها تحت سيادة العرب المسلمين. فما حدث هو أن العرب استولوا على دول قائمة ذات مؤسسات وأنظمة شغالة منذ قرون طويلة وحكموها، ولكنهم لم ينشئوا دولا البتة، وهو الأمر الذي فسر لي، لماذا أغفل الإسلام مسألة مهمة مثل الدولة ونظام الحكم كل هذا الإغفال رغم عظيم خطورته، ولم يدل بدلوه في فلسفة الحكم والسياسة، مكتفيا بما وصل إليه البشر في أرض الله الواسعة في شئون الإدارة والسياسة بما لا يستدعي تدخلا منه، واكتفى بتصحيح ما رآه ضروريا، فأضاف لما عرفه البشر من أديان إضافات جديدة مثل صيام رمضان وقدسية الكعبة والحج إليها والاعتراف بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ، ووحدانية الله المطلقة وغير ذلك من شئون الإيمان، وترك للبشر ما نجحوا في أدائه فلم يجدهم بحاجة لإرشاد أو نصح في طرق الزرع والري والصرف والحصد، ولا في فنون البناء والمعمار، ولا في الرياضيات ولا في الهندسة ولا في الكيمياء، ولا في شكل الدولة ولا نوع نظام الحكم، ولا فنون الإدارة وشئون السياسة، فلم يتدخل في السياسة ونظم الحكم وأساليب الحضارة، لعلمه الكامل أنها كلها مجالات تخضع للتغير والتطور والتقدم، وأنه لو قال فيها قولا لثبتت وتوقفت عن النمو بما هو ضد قانونها، وهو التغير والتطور أبدا، علينا أن نفهم أن عدم تدخله هو شهادة تقدير عظيمة، ونيشان على صدر البشرية من ربهم بأنهم نجحوا نجاحا سياسيا وحضاريا، وليس أدل على ذلك من صمود هرم المصريين القدامى أمام عوادي الزمان فلم يهدم مرة، بينما كعبة الرب هدمت وأعيد بناؤها سبع عشرة مرة حسب إحصاء كتب التاريخ الإسلامي، إضافة إلى دمارها الكامل في فتنة جهيمان العتيبي أواخر القرن الماضي.
ولا بد أن تلحق بالسؤال توابع تتساءل: هل يمكن أن نتصور أن الله كان راغبا في إقامة دولة على الأرض، دون أن يصحب هذه الرغبة بقواعد إقامة هذه الدولة منذ فجر البشرية أو حتى مع الدعوة الإسلامية؟ أم كان لزاما على المسلمين أن ينتظروا أربعة عشر قرنا حتى يظهر حسن البنا والإخوان وحزب التحرير ليكتشفوا لنا تلك الرغبة الإلهية الإسلامية المخفية! وبسبيل الحفاظ على هذا السر لم يفصح الله عن رغبته تلك سواء في أعماله الكاملة أو بالتوراة أو بالزبور أو بالإنجيل أو بآخر هذه الأعمال قرآنه أو في سنة نبيه حتى باح به للإخوان في زماننا؟!
الإخوان يعلنون لنا أنهم قد جاءوا لينقذوا الأمة، وأنه لا يصلح لآخرها إلا ما صلح لأولها، ومعهم منقذون آخرون للأمة من كل لون وشكل، من حزب تحرير، إلى تكفير وهجرة، إلى فقهاء أزاهرة، إلى جماعة إسلامية، إلى جماعة سلفية، إلى جهاد إلى عدل وإحسان، إلى حماس، إلى حزب الله، إلى وعاظ فضائيات، إلى ابن لادن، وابن هويدي، والزرقاوي، وأبو سياف، والقرضاوي، والعوا، ومقتدى الصدر، وجيش المهدي، وهم كثير، لكنهم جميعا أقنعة مختلفة لوجه واحد فكلهم داخل الجبة نفسها والأيديولوجيا نفسها، وكل فريق يرى نفسه الإسلام الصحيح وأنه المنقذ المختار بتأويله وتفسيره لصحيح الدين، ويفجرون وينسفون نيابة عنا ونحن لم نخترهم ولم نبايعهم، ويحارب كل فريق منهم بإسلامه الصحيح، الفريق الآخر وإسلامه غير الصحيح، ولكنهم يجتمعون جميعا عند مبدأ الدولة والاستيلاء على السلطة وإقامة الحكومة المسلمة.
المشكلة في هذه الحال ستكون في الإجابة عن السؤال: أين نقيم دولة الرب أو دولة الخلافة الجديدة؟ أم ستكون خلافة في القاهرة وأخرى في بغداد وأخرى في إندونيسيا، منها الشيعي ومنها السني ومنها الإباضي ومنها الزيدي؟ وهل ستحارب هذه الخلافات بعضها بعضا لتوحيد بلاد المسلمين لتقييم جولة الخلافات المتحدة، حتى يمكن تحقيق احتلال العالم تحت قيادة واحدة تحت راية لا إله إلا الله؟
ولو فرضنا أن واحدة من الدول المتأسلمة اليوم تمكنت وأعلنت نفسها دولة خلافة، ولتكن السودان مثلا أو إيران، فمن الطبيعي أن المسلمين في بلدانهم كافة سيطلبون من حكوماتهم الولاء للخليفة ولو كان من سنغافورة أو ماليزيا كما قرر مهدي بن عاطف؛ وهكذا ستنشب حروب بين الشعوب المسلمة وحكامها، مع حرب أهلية ضرورية ستنشب بين أصحاب كل تلك الجماعات المتأسلمة وبعضها كخطوة توحيدية أولى، تتبعها حروب أخرى أهلية بدورها بين الملل والنحل المختلفة حتى تتوحد تحت راية الفرقة الناجية، ثم حروب خارجية إسلامية ستشنها دولة الخلافة ضد البلدان المسلمة التي سترفض إعلان البيعة والتبعية للخليفة؟ وهل يا ترى بعد كل تلك التصفيات هل سيبايع السعوديون خليفة مصريا؟ أم لحل الإشكال يمكن وضع معيار يحل المشكلة، بإقامة دولة الخلافة حيث مقدسات الإسلام الجغرافية والتاريخية في الحجاز، ومن ثم لا بد في هذه الحال من صرف آل سعود لحال سبيلهم إلى موناكو أو هونولولو، واختيار حجازي قرشي خليفة كشرط يقوم على الحديث الصحيح: «الخلافة في قريش»، ولكن في حال بايع المصريون عبد الصمد القرشي مثلا خليفة بالحجاز ليملأ حياتنا بخورا وطيبا وعطورا وأعلنوا الولاء له، فهل تراه سيرضى بخلط ميزانية السعودية بميزانية مصر عملا بمبدأ أسنان المشط في دولة الرب؟
ولو افترضنا منطقا أنه كان من غير الجائز أن يوجد نبي في الجزيرة مرسلا من السماء، ويوجد في الوقت نفسه رئيس لبدو الجزيرة سيرأس هذا النبي، وهو أمر غير مقبول؛ لذلك فالحل هو أن يكون هذا النبي هو الرئيس في الوقت ذاته، لكن ذلك لا يأخذنا لمعنى الدولة، أو ربما نقول مع آلاف التحفظات إنها كانت دولة خاصة جدا ومن خصوصيات النبي وحده دون غيره من المسلمين، كانت تجمعا قبليا يحتشد حول فكرة وأيديولوجيا أكثر مما هو دولة في وطن بما نفهمه عن معنى الوطن وتعريفه. خاصة أن للجزيرة طابعها البيئي الخاص فهي ليست بيئة زرع يلزمه الاستقرار الاجتماعي إلى جواره، إنما هي جماعات رعوية متحركة في معظمها، ومثل هذا المجتمع لا ينشئ دولة لعدم الحاجة إليها. والإسلام فكرة أيديولوجية ثورية ضد الأوثان وتعدد الآلهة، ولم يأت ثورة على دولة قائمة في وطن له حدود قومية معروفة. وكان توحيد الأرباب خطوة نحو التوحيد المجتمعي لكنها طالت زمنيا وهي بسبيل الانتقال من مرحلة الرعي إلى مرحلة الدولة، فدخلت طورا طال دهرا في مرحلة انتقال لا تنتهي من الرعي إلى الدولة الوطن، وظلت حتى اليوم كونفدرالية بدائية جمع الرعوي مع المظهر المدني، وفي كل الحالتين يظل المجتمع طفيليا إما على الطبيعة، وإما على الريع كما هو حاله الدائم حتى اليوم بسبب ظرفه البيئي القاهر.
لذلك قد يصح القول إن النبي
صلى الله عليه وسلم
عندما وحد الأرباب بالإسلام كان يهدف لتوحيد عرب الجزيرة ولكن ليس بحسب مفهوم الدولة؛ لأنها كانت دولة خاصة جدا تكاد تكون من خصوصيات النبي
صلى الله عليه وسلم
وحده، كما له خصوصيات أخرى دون المؤمنين، ما دام غير ممكن أن يرأسه آخر وهو النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ ومن ثم كان الإسلام وشخص النبي
صلى الله عليه وسلم
مركزا فكريا روحيا تلتقي حوله القبائل ولم يكن دولة، خاصة أننا لو طالعنا حال النبي
صلى الله عليه وسلم
كزعيم سنجده يتصرف بطريقة قومه القبلية بأسلوب شيخ القبيلة لا بأسلوب زعيم الدولة؛ لذلك لا نجد في الإسلام شيئا عن الدولة أو عن إعدادها العسكري أو النظامي أو تكوينها الفكري وعقدها الاجتماعي ودستورها، ولا طريقة فرزها للزعماء والقادة، ولا نظاما اقتصاديا إنتاجيا واضحا إنما هو رعي خراجي طفيلي؛ لذلك عندما استبدت قريش من بعده بحكم الإمبراطورية كانت شرعيتها تقوم استنادا إلى مبدأ الوراثة القبلي وليس إلى أي تأسيس سياسي مبرمج واضح. هذا بينما الدولة بمعناها الصادق فستجدها في دول المحيط؛ فالملك توت عنخ أمون مثلا كان يحكم أرجاء مصر كلها وهو بعد صبي يلهو بألعابه؛ لأن هناك منظومة دولة تعمل وفق نظم بيروقراطية هرمية وظيفية تراتبية واضحة كالماكينة، لا علاقة لها لا بالسلطة ولا بالإمارة ولا بالدين.
ثم إنه إذا كان الإسلام دينا واحدا، وإذا كانت الاتجاهات السياسية تختلف إلى درجة التناقض بين المذهب السني والمذهب الشيعي، إذن فإن هذه الاتجاهات لا تنبع من الدين الواحد، وإلا لاتفق المذهبان لذلك فالصراع في هذه الحالة هو صراع سلطة دنيوي سياسي لا ديني.
هذا علما أن القرآن الكريم كان يعرف معنى نظام الحكم والملكية والدولة المركزية، كما في قوله تعالى:
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (البقرة: 247). في هذه الآيات بيان سماوي لليهود بدولة وملك بإرادة إلهية، فلماذا لم يقدم الله للمسلمين بيانا كهذا واضحا بدون التباس إن كانت الدولة هي شاغله وهمه حقا؟
لقد قنن الله العدالة ووضع لها الضوابط والقواعد لحفظ حقوق المحارب في سبيله، وحقوق السيد المالك في الأمة المشتراة من ملك اليمين، ونظم لهم قواعد الوطء:
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم (النساء: 24)، وقنن لحماية الزوجة:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم (النساء: 3).
أفلا تكون العدالة لحماية شعوب وأمم هي الأهم إذا كان الله يريد قيام دولة دينية يحكمها القرآن بقوانينه؟ بينما قوانين القرآن تفصل وتزيد لحماية الزوجة وحق الوطء، والنكاح وليس فيها شيء عن نظام الحكم وقواعد الدولة من أي لون. لو أراد الله ذلك لقنن لدولته العدل والحرية كما قنن للتفاصيل الهينات، لكنه لم يفعل، وهو عالم بأنظمة الحكم والدول المركزية بدليل حديثه عن ملوك اليهود داود وسليمان وفرعون مصر وسبأ ونمرود ودولهم ونظم الحكم فيها، ولا نجد فيه أية إشارة إلى مملكة العرب المسلمة ولا دولتهم لأنهم كانوا قبائل متحالفة ولم يكونوا دولة قط.
والحاسم في مسألة الدولة الإسلامية ولا نجد له ردا عند دعاتها، وهو الساعات الأخيرة في حياة نبي الأمة ومؤسس الدين، يروي الصحابي الجليل حب النبي عبد الله بن مسعود فيقول: «نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة، فنظر إلينا وشدد، فدمعت عينه وقال: مرحبا بكم، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، وفقكم الله، نصركم الله، سلمكم الله، أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأؤديكم إليه، إني لكم نذير وبشير، لا تعلوا على الله في عباده؛ فإنه قال لي ولكم:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ، وقال:
أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ؟ فقلنا: متى أجلك؟ قال: دنا الفراق والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى، قلنا فمن يغسلك يا نبي الله؟ قال: أهلي الأدنى بالأدنى. قلنا: فهل نكفنك يا نبي الله؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو في حلة يمنية. قلنا: فمن يصلي عليك يا نبي الله؟ قال: إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سرير في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود وكثير من الملائكة بجمعها، ثم ادخلوا علي فوجا فوجا فصلوا علي وسلموا تسليما، ولا تؤذوني بتزكية ولا برنة ولا صيحة، وليبدأ بالصلاة رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم أنتم بعدهم. أقرئوا أنفسكم السلام مني فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم حتى يوم القيامة. قلنا فمن يدخلك قبرك يا نبي الله؟ قال أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم.» انتهى (الطبري، 11، 191).
ونستكمل مشهد الساعات الأخيرة من حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
ودولته تتفكك في نزعات استقلالية في اليمن وفي اليمامة، لنسمع ابن عباس يروي: «كان النبي
صلى الله عليه وسلم
قد ضرب بعث أسامة، فلم يستتب الوجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولخلع مسيلمة والأسود، وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة حتى بلغه، فخرج النبي
صلى الله عليه وسلم
على الناس عاصبا رأسه من الصداع لذلك الشأن، ونشرا لرؤيا رآها في بيت عائشة، قال: إني رأيت البارحة بما يرى النائم، أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولهما هذين الكذابين، صاحب اليمامة وصاحب اليمن. وقد بلغني أن قوما يقولون في إمارة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته، لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لخليقا للإمارة وإنه لخليق لها فأنفذوا بعث أسامة. ثم قال: لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد» (الطبري، 11، 186).
وهكذا أمسى واضحا مدى اهتمام النبي
صلى الله عليه وسلم
بكل تفاصيل لحظات موته، ومدى انشغاله بأمور المسلمين وأمة الإسلام حتى الساعات الأخيرة وهو يجود بنفسه الشريف.
ونظرة موضوعية بعيدا عن أرق المشهد وتراجيديا الموقف ساعة موت النبي الجليل، سنجد عبارات ومفاهيم من قبيل مبايعة ونجدة وولاء، ونجد تحالفا على دين محمد
صلى الله عليه وسلم ، ونجد مفاهيم كلها تعبر عن حال الموقف. وترك شئونا أخرى للمسلمين. والمحتجون بتولية أبي بكر الخلافة بكونه أم الصلاة الجامعة بالنيابة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو في مرضه الأخير، لم يقولوا لنا لماذا لم يأمر النبي
صلى الله عليه وسلم
أبا بكر أن يؤم المصلين على جثمانه حتى تكتمل صحة التأويل. لقد أخبر الرسول
صلى الله عليه وسلم
صحابته رضي الله عنهم بكل تفاصيل جنازته وكيفية الصلاة عليه ومن يدفنه، وأخبرهم بمن سيصلي عليه من ملائكة بالاسم، وأصر على بعث أسامة بن زيد على رأس الجيش لغزو الروم، ورفض رأي صحابته في حداثة سنه على غزوة كتلك وعدم خبرته، فكان ابن سبعة عشر عاما على رأس جيش يضم بأمر من النبي أبا بكر وعمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم، ورغم ذلك لم يصدع الصحابة بالأمر؛ لأن خروج هذا الجيش مع موت النبي قد يضع الأمر بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه والهاشميين، إذ أمر النبي ببقاء علي إلى جواره وعدم خروجه مع الجيش.
وينشغل النبي بالأمة في موته حتى في منامه، ويرى أعداءه من متنبئين في هيئة سوارين نفخهما فطارا، لكنه لم يتحدث لحظة عن كيفية إدارة الأمور من بعده، وينشغل بإمارة أسامة بشدة وإصرار على خروج الجيش، ولا ينشغل بإمارة الدولة، ولم ير أحداث سقيفة بني ساعدة في منامه حتى يدلي لأصحابه بالنصح المانع الحاسم للفتن. ولم يتطرق بأي معنى للدولة ولا لنظام الحكم من بعده ولا تحدث في خلافته حسب المصادر السنية، ولا قال لمن يكون الأمر من بعده. أم نقول قول إبليس إنه كان لا يتوقع الموت الأكيد فخشي إن وصى لأحد بعده وعادت إليه العافية، أن ينازعه الأمر والسلطة، إذن لا حل سوى الاعتراف أن الإسلام دين فقط، دين كريم، لم ينشغل كدين بالسياسة ولا بنظام الحكم.
الواضح في تلك الساعات الحاسمة الأخيرة، أن نبي الإسلام كان يرى أمور الدولة والسياسة خارج صلاحياته كنبي، وأنها خارج نطاق مسئولياته وتكليفاته؛ لذلك لم يتطرق إليها حتى يكرس القناعة أن رسالته هي دين فقط وليس أبعد من ذلك.
وتفعيلا لهذا لم يتدخل الإسلام في أمور الدنيا من نظم حكم وإدارة باعتبارها مما يخص المجتمع المتغير المتطور الذي لا يقبل ثباتا، وأن الدين جاء للثابت ثباتا بدوره لا يتغير ولا يقبل تطويرا كما في العبارات وقواعد الإيمان وفروضها وترك التحرك لنا ولظروفنا ولتحول الأزمات وتداول الأيام، لقد جاء محمد نبيا يدعو للتوحيد ويعد الناس لدخول جنات الرب في الآخرة، ولا شأن له بأمور الدنيا والسياسة. بل إن ذلك هو ما كان يعلمه الصحابة جميعا عن قناعة؛ لذلك لم يسأله أحدهم أن يدلي برأيه في تلك الشئون، كان هناك إجماع من كلا الطرفين النبي والصحابة، على أن ما يلي ذلك هو شأن دنيا لا شأن دين يموت صاحب الدين دون أن يوصي بخلافته. وليس أدل على هذا أن الأنصار جميعا لم ينتظروا حضور ساعة وفاة نبيهم، بل انصرفوا مباشرة لسقيفة بني ساعدة لبدء العمل في شئون الدنيا، ولم يدعوا أحدا من المهاجرين لحضور هذا الاجتماع اعتقادا منهم أنهم الأحق بوراثة الأمر من بعد النبي. بداهة وربما كان عدم خروج جيش المدينة بقيادة أسامة داعما لموقف المهاجرين بعد ذلك في النقاش الذي دار بالسقيفة وانتهى لمصلحة قريش.
إن سكان جزيرة العرب قبل الإسلام لم يستشعروا الحاجة لقيام دولة وحكومة؛ لأن طبيعة بيئة الرعي لا تستلزم وجود دولة، ولم يبدأ التفكير في حكومة إلا بعد تحول طرق التجارة العالمية عبر الحجاز وتشابك مصالح احتاجت إلى الحماية في شكل بدائي لحكومة بدائية هي حكومة الملأ برئاسة قصي بن كلاب جد النبي البعيد، فأنشأ الملأ مجلس قريش القبلي وهو نظام شبه جمهوري شبه ملكي شبه ديمقراطي كله في آن، والأغرب أن يظل هذا النظام «الشبه» هو الحاكم على دولة الخلافة حتى سقوط آل عثمان الأتراك.
ولعدم وجود نظام حكم أو دستور أو قانون أو إدارة واضحة، بدأ الصراع بين الصحابة على الجاه والسلطان وليس لسبب ديني، ودخلوا الفتنة الكبرى ولم يستفيدوا من التجربة، ولم ينشئوا أي مؤسسات تراقب الحكام وترعى الحقوق بين الحاكم والمحكوم، حتى لا يتكرر ما حدث في الفتنة الأولى، ولأن الدين لم يحدد كيفية تنظيم الدولة ولا إدارتها ولا محاسبتها ولا مراقبتها، فقد تلت الفتنة فتن أخرى يأخذ بعضها برقاب بعض، لم يكتشفوا خلاله من وسيلة لتبادل السلطة سوى الاغتيال أو الذبح صبرا أو السم أو الحرق.
المأساة الكاملة فيما يعرضه الإسلام السياسي ودولته أنه يصورها للمسلمين الحل الأوحد والمثالي لما هم فيه من تخلف وهوان، وأنها ستكون لمصلحة الدين والدنيا، مصلحة الله ومصلحة عبد الله، مصلحة الإيمان والسياسة، وهي كذبة شريرة يتم بها استثمار دين الله في انتهازية رخيصة في أكثر الميادين انتهازية «السياسة»، حيث لا مكان في مكائد السياسة وخبثها لطيب الدين وصراحته وسلامة سراطه المستقيم وطهارة مصدره ومقاصده، وهو أمر لا يحتاج إلى كثير فهم، فمن المفترض وأنت داخل إلى الخمارة أو إلى المجاري ألا تأخذ معك المصحف حتى لا تسيء إليه وتدنسه.
إن دمج السياسي بالديني من أجل إقامة دولة ذات مرجعية دينية لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى توظيف كل ممكناتها عسكرية واقتصادية لأغراض الدعوة الدينية، وسيكون دعم الحكومة للدين ورجاله ودعاته بلا حدود؛ وهو ما يعني أنها ستتصدى عاجلا أو آجلا لمن هم على غير مذهبها ودينها، فلن تقف مكتوفة الأيدي إزاء غير المعترفين بها والرافضين لها وغير المؤمنين بها كنتيجة طبيعية لعدم إيمانهم بدينها أو بصدق هذا الدين؛ وهو ما يعني عدم الاعتراف بشرعيتها، فماذا سيكون الشأن مع هؤلاء؟ هل سنؤسلمهم كرها أم ننفيهم من الأرض أم نعتبرهم طابورا خامسا خائنا يستحق الحرمان من حقوق المواطنة والمشاركة في السلطة.
وعلى مستوى الخارج فإن أول واجبات هذه الدولة هو الدعوة إلى الدين ونشره خارج الحدود حتى يخضع العالم لدين الله طائعا أم راغما، وهو ما لا بد أن يؤدي إلى فتح باب الصراع الديني. وحتى يتم ذلك لا بد أولا من إقامة دولة مسلمة واحدة تكون دولة الخلافة كمرحلة أولى قبل العالمية؛ وهو ما يعني حروبا دينية أهلية بين المسلمين لتصفية الخلافات الجوهرية بين فرقهم في شئون الاعتقاد كما سبق وألمحنا.
وهل ستقوم دولة الخلافة سلما أم حربا؟ يعني هل ستتحرك جيوش الخليفة المصري وليكن قرضاوي مثلا متوجهة إلى بلاد الحجاز لاستعادة العاصمة الأولى للخلافة ولإتمام الوحدة الإسلامية؟ أم ستتحرك جيوش عبد الصمد القرشي كما حدث أول مرة لتنطلق جيوش الحجاز شمالا وشرقا وغربا إعادة لعصر الفتوحات مثلما حاول محمد بن عبد الوهاب زمن العثمانيين، مما اضطر الخليفة العثماني للاستعانة بمصر لوأد الوهابية وتدمير الدرعية؟
وهل بالمرة ستعود الفتنة الكبرى وتوابعها من فتن لتحكم حياتنا ومستقبلنا؟ وهل سيتم استئناف الحرب التي بدأها معاوية وعلي؟ أم ستكون بالحوار كالذي حدث في سقيفة بني ساعدة، لينتهي الأمر بقتل سعد بن عبادة بين الجن والاعتداء على بيت فاطمة بيد عمر. أم ستكون حربا من نوع أم المعارك الصدامية؟ وهل يجب أن نقرر من سنذبح ومن سندس له السم ومن سنحرقه في جوف حمار كطرق لتبادل السلطة؟ أو من سنرشوه بالمال والنساء كما «الحسن» ليكفينا شره ويسكت؟ أم ستكون زرقاوية في شكل خلايا إرهابية تدمر أينما تشاء؟ وهل سيكون شعار الإسلام دين ودولة الذي يعتنقه السنة والشيعة عاملا في توحيد المذهبين أم دمارا لكليهما؟ ثم تراه ماذا سيكون موقف العالم المتحضر والأمم المتحدة من خلافتنا الناشئة؟ وهل سنضطر إلى طلب الانتفاع ببركات مشايخنا إزاء هذا العالم وقرارات مجلس الأمن وروادعه.
يقول لنا قرضاوي «فقيه الزمان» إن دولة الإسلام ضرورة ليس للناس ولكن لحماية الإسلام وصيانته، دون أن يستحيي لشدة ذعره على دينه، حتى إنه يظهره دينا ضعيفا هزيلا عاجزا عن الاستمرار في قلوب الناس، دون سلطة جبرية تحميه في دولة المصحف والسيف إنهم يهينون ديننا وربنا بإظهاره عاجزا عن حماية نفسه بالعقل والحجة والمنطق والقناعة، ويحتاج إلى دولة بأسرها لحمايته ولضمان انصياع الناس له. ليقيموا لنا دولة المنافقين بدلا من دولة الراشدين، فمن لا يقتنع إلا خوف السيف فهو منافق، وفرض الدين بمقهر الدولة يحيل الناس إلى منافقين، إن الدين الذي يصور لنفسه مخاوف من مؤامرات وهمية يكون عاجزا عن حماية نفسه ومواجهة التطور والتغيير، فكيف له وأنى له أن يحمي شعبا يؤمن به؟ ونكون في دولة الرب لا حمينا الدين ولا حمينا الناس.
ولأن قرضاوي يعلم أنه لا سياسة في الدين؛ فإنه يرد قائلا: إنه ليس من المهم أن تكون في الإسلام نصوص كثيرة في السياسة؛ فالسياسة جزء من اهتمام المسلم وليس كله، فهناك صلاة، وهناك عمل دعوي، وعمل للأسرة، وعمل أكاديمي ... إلخ، والسياسة ليست أمرا مدنسا، كيف يقولون السياسة مدنسة؟ من قال إن السياسة أمر مدنس وعندنا فقه السياسة الشرعية وكتب الأحكام السلطانية؟ صحيح لم نتبحر كما تبحرت الأشياء الأخرى، لكنها موجودة» (حلقات الدين والسياسة، الحلقة الأولى، قناة الجزيرة).
ولو سلمنا له بما يقول، فإن التعقيب البسيط هو أنه ما دام الإسلام لم يعط السياسة كثير اهتمامه، فلماذا كل هذا الاهتمام من جانب مشايخ زماننا بالسياسة، بالمخالفة لإرادة الله ودينه؟
يتابع الفقيه الملقب بالمعتدل قرضاوي تأكيده اختلاط الديني بالسياسي في قوله «الرسول، ألم يكن سياسيا؟ وعمر بن الخطاب وأبو بكر رضي الله عنهما والخلفاء كلهم ألم يكونوا سياسيين؟»
انظر إلى الخلط المعيب والاستهانة بعقول المسلمين، الرجل يعلم أن أي مسلم أمس أو اليوم أو غدا سيقبل حكم الرسول
صلى الله عليه وسلم
أو الراشدين، وأنهم لو اشتغلوا بالسياسة بما نفهمه منها فلا بد أن يكسبوها طهارتهم؛ لذلك ستكون سياسة غير مدنسة، لكن اليوم لا يوجد محمد ولا عمر إنما يوجد قرضاوي وهويدي وابن لادن، فهل يضعون أنفسهم مكان أولئك؟
أما ما يشير إليه بدولة الراشدين عمر وأبي بكر ... إلخ، فكانت تجميعا للقبائل بالسيف بعد ردتها زمن أبي بكر تحت رئاسة قبيلة قريش القبيلة المنتصرة، ولم يكن دولة؛ فالدول كانت معروفة في المواطن الحضرية، معروفة الهوية والحدود والقانون ونظام الحكم، ذات موارد ثابتة واقتصاد إنتاجي، وخلال الفترة الراشدة حكم الصحابة بضميرهم الشخصي مستمدين الشرعية من علاقتهم بالنبي، فهل قرضاوي أو غيره لديه الضمير نفسه حتى نسمح له بالعودة إلى هذا النظام الذي لم يستمر لأكثر من ستة عقود، وما أن ذهبت الصحابة حتى ذهب معهم ومع ضميرهم، كانت سلطة تميزهم تقوم على كونهم مبشرين بالجنة، ولم تكن لديهم أية خبرة إدارية أو سياسية أو تنظيمية أو رقابية أو تشريعية، خاصة بعد انقضاء الوحي، ولو قلنا دولة الراشدين فإنما نعني دولة قامت على بركة الله وبركات المبشرين بالجنات، وهو كله غير موجود اليوم، صحابة كل منهم تولى الحكم بطريقة غير طريقة الآخرين، وكل منهم أدار الحكم بطريقة غير الآخرين، فبينما ساوى أبو بكر في العطاء فإن عثمان اختص أهل بيته الأموي من بني معيط، وبينما حجر عمر على الصحابة داخل المدينة، فإن عثمان جاء فأطلقهم منها، ورفض الثلاثة جمع القرآن وجمعه رابعهم ... إلخ إلخ.
انظر إلى كذبه المقيت وهو كشيخ فقيه عارف غير جاهل ويعلم يقينا أحداث تاريخنا الكئيب كلما دخل الدين في السياسة، الأئمة الأربعة عندما اقتربت منهم السياسة حبستهم وجلدتهم وآذتهم، وآذوها، كذلك العز بن عبد السلام، كذلك ابن تيمية كذلك ابن حنبل كذلك أبو حنيفة كذلك الشافعي كذلك مالك، اللطافة أن هذه الفقرة تحديدا موجز لما قاله في تلك الحلقة عن علاقة الدين بالسياسة لتأكيد تسييس الدين وأن السياسة لا تبخس الدين ولا تبخسه، دون أن يرى أي خلل في النتائج.
أما المبهر حقا ولا يراه قرضاوي وزملاؤه أبدا ، أن الدولة التي آذت الأئمة جميعا - ولا شك - ستؤذي مثلهم ولو كانوا زمنها وهي الدولة التي يطلبون عودتها ويدقون لها الدفوف ويرفعون البيارق.
إن دولة الخلافة التي يطلبون رجوعها هي التي سخرت الفقهاء وآذتهم ورشتهم وانقبضوا منها وانتقصوا فعلا بسببها بينما قرضاوي وكل بطانته يملكون في الدولة الحديثة حماية هذه الدولة ولم تجلدهم أو تقطعهم ولم تشوههم بل أعطتهم راحتهم يدعون لدولتهم وما يريدون بملء حريتهم، حتى الدعوة الفصيحة للإرهاب والولاء والبراء دون ملامة.
وفي حال مواجهة قرضاوي بقصور مضمون دولته الشديد، لا يرى مانعا من الاستفادة من الأمم الأخرى بما ينقص دولتنا الإسلامية، وذلك مثل قوله: «ما عندناش نظام انتخابات، نأخذه من الغربيين فلا مانع أبدا» (الحلقة الثانية من الدين والسياسة، الجزيرة).
فإذا أخذنا عن الغرب نظام الانتخابات ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، وأخذنا عنهم نظام الدولة ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، وأخذنا عنهم نظام البنوك ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، ونظام البورصة ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، ونظام الدوائر الحكومية والوزارات ولا مانع من ذلك لأنه لا يوجد عندنا، وما دام كل شيء غير موجود عندنا، فلماذا يتربع مشايخنا على أكتافنا؟ لماذا أنتم هنا يا سادة؟ هل لتشيروا لنا لا مانع أن نأخذ هذا ولا نأخذ ذاك؟ أنتم موجودون فقط كالأغوات المفلسين ولا تسمحون لا لشرب من هذا الإناء بل من ذلك الإناء؟ لتمنعوا وتسمحوا فقط دون إنجاز حقيقي واحد.
قرضاوي مثل فقهه زئبقي الحركة والمواقف، فها هو يقول في الحلقة الأولى ذاتها: «إن الإسلام السياسي، وتسييس الدين، وتدنيس السياسة، تسميات جاء بها المستغربون والعلمانيون، وقد قال سيدنا أبو بكر لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله، هل هناك سياسي مع الرسول؟ كان هو الإمام في الصلاة والقاضي في الخصومات والقائد الأعلى في المعارك والإمام للدولة، نبينا هو الذي جمع بين الدين والسياسة والدولة، والخلفاء الراشدون هكذا كانوا، والعلماء عرفوا الخلافة فقالوا هي نيابة عن رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وبعضهم قال في إقامة الدين، يعني أكثر من حراسة مش مجرد حراسة، فهكذا الخلافة وهكذا ظل الخلفاء منذ أبي بكر إلى آخر خلفاء بني عثمان حتى ألغيت الخلافة سنة 1924م. ظل المسلمون ثلاثة عشر قرنا يعرفون أن الدين والدولة والسياسة، شيء واحد. وبعدها جاءت هذه (؟!) ففصلت الدين عن الدولة، أتاتورك ... ولا بد من إعادة الأمر إلى نصابه بالربط بين الدين والدولة، أو بين الدعوة والدولة وبين العبادة والمعاملة، لا يوجد في القرآن فصل للدين عن الدولة ولا في السنة ولا في الفقه الإسلامي ولا في التاريخ الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرنا.»
هذا اسمه خطاب الحرباء؛ لأنه إذا كان رئيس الدولة في الإسلام «هو الحاكم وهو الإمام في الصلاة وهو القاضي في الخصومات وهو القائد الأعلى في المعارك وهو الإمام للدولة»، إذن هي دولة الاستبداد الكامل بيد رجل واحد، وكي نقبل استبداد هذا الرجل فنستقبله إن كان نبيا يأتيه الوحي بما يضمن مصالح العباد، دولتهم يلزم لإقامتها ظهور نبي جديد حتى نسلم له بكل هذا، إضافة إلى أن المسلمين لم يظلوا ثلاثة عشر قرنا والدين والدولة والسياسة شيئا واحدا؛ لأنه منذ عهد معاوية تم فصل الإمامة الدينية عن الإمارة الدنيوية، عندما ترك إمامة الصلاة لمن يقوم عليها وتفرغ هو لشئون إدارة الدنيا.
إن قرضاوي يعلن بملء الفم أن المسلمين مكلفون دينيا بإقامة دولة إسلامية، وهي كما سبق وأشرنا بعد اختلاف الأزمان دعوة إلى فتن داخلية وحروب أهلية إسلامية. فستدعو إيران لدولة الملالي وسيدعو السعوديون للمذهب الوهابي، وستدعو تركيا للأحقية كآخر خلافة، وسيدعو السنة للخلافة الأموية، ونعود إلى عصر الفتن وسفك الدم المسلم بيد المسلم حتى يخلو الأمر لمستبد أوحد، ليبدأ بسفك دم أبناء الشعوب الأخرى. هي دعوة للصراع الدموي والحرب الأهلية ثم العالمية وليست دعوة للارتقاء والتحضر، دعوة إلى ذبح علني للوطن ورشوة للحسن وقتل للحسين وجلد ابن حنبل مرة أخرى، ودون الخروج بعدها من دائرة الفتن.
وحتى يلقي في روع المسلمين أن البخس والتبخيس يجب أن يلحق بالدولة بمعناها الحديث، مقابل دولة الإسلام الكاملة المنزهة عن الخطأ، يقول قرضاوي: «العالم الإسلامي جرب العلمانية عقودا طويلة من السنين، فلم تطعمه من جوع ولم تأمنه من خوف ولم تحقق له نصرا ولا رخاء ولا حياة طيبة» (الحلقة الثانية، 12 / 2 / 2006م).
الرجل يشير إلى دول الاستبداد العسكري القومجي العربجي بكونها كانت تجربتنا العلمانية التي انتهت بنا للخراب والهزائم. إنها الوجه الآخر لحداثة مشايخنا الزائفة، علمانية زائفة بائسة لم تملك أي مقوم حقوقي أو شرعي يعطيها صفة العلمانية، التي أول ما تقوم عليه هو المواطنة والحرية الفردانية والحريات الحقوقية الدستورية.
ما علينا، دعونا نتصور الرجل صادقا لكن كان يجب عليه أن يستمر قائلا: «وهكذا كان حال المسلمين من فجر الخلافة حتى سقوطها، وكانت عامل تخلف عظيم لم ينقذنا منه إلا بداية عصر الاستعمار والتنوير والتحضر منذ نابليون ومحمد علي وأتاتورك.» هذا إذا أراد أن يكون صادقا حقا.
وفي كتابه «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف» يقول: «إن إقامة الدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله وتجمع المسلمين على الإسلام وتوحدهم تحت رايته فريضة على الأمة الإسلامية يجب أن نسعى إليها. وعلى الدعاة إلى الإسلام أن يعملوا كل ما يستطيعون للوصول إليها، وأن يهيئوا الرأي العام المحلي والعالمي لتقبل فكرتهم وقيام دولتهم» (ص222، 223).
وفي الحلقة الثانية من الدين والسياسة يقول: «إن عمل الدولة الإسلامية أنها تحمي العقيدة والإيمان والأخلاق وتقوم نزعات الكفر والضلال وتثبت العقيدة وتشيعها.» ألم نقل إنها دعوة إلى حرب أهلية ثم عالمية؟!
الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي لا يرى أن حقوقه الدينية التي أعطاها له ربه قد تم سلبها منه بقرارات عالمية ودولية، فما عاد قادرا على ممارسة حقوقه الشرعية في التمتع بملك اليمين بعد انتهاء عبودية الإنسان لأخيه الإنسان بقرارات دولية ملزمة، قرضاوي حقوقه مسلوبة أمام أعيننا، لا يتمتع بخدمة العبيد رغم أمواله التي تنوء بحمل مفاتيحها العصبة، ولا يستطيع أن يقيم بهذه الأموال جناحا للحريم بقصر من قصوره، كل البشرية اكتسبت حقوقها وهو لا يستطيع حتى أن يعلن هذه الحقوق بصراحة ووضوح في مواجهة العالم، ثم يقول إنه هو من سيأتي للمسلمين بحقوقهم في دولة منتظرة! إن من أعطى قرضاي حق التمتع بملك اليمين هو رب الأرباب وملك الملوك ومع ذلك يستحيي من ممارسة حقوقه الربانية ولا يستطيع أن يمارسها، وها يجيب لنا حقوقنا؟!
يتحدث عن الأخلاق والإسلام بينما تباين الزمان وسعة الشقة بين ظرف الجزيرة في ق7م وبين ظرف بلادنا اليوم، يجعل مثل هذا الحديث كذبا في كذب فهو يطالبنا بأخلاق الإسلام، وأخلاق الإسلام فيها عبودية اغتصاب لملك اليمين، وهذا في أيامنا هو أم الكبائر، لماذا إذن يقولها من الأصل؟ ام أنه فعلا كذب في كذب لا ينتج سوى المرض النفسي المستعصي لدى الأمة كلها. كذب الذات على ذاتها ثم تصديق الكذب لتصبح بديهية. تقال هكذا انفلاتا من أي ضوابط.
إن الأخلاق التي ستقيمها دولة قرضاوي هل ستسمح بتدمير المال العام كوسائل النقل العام أو قتل المدنيين كما أفتى بنفسه لأمراء الجماعات الإرهابية في العراق ولندن وأمريكا وشرم الشيخ، إن منطق الأخلاق بمفهوم اليوم لا يلتقي ومنطق أخلاق زمن مضت عليه عشرات القرون؛ لأن قيم الأخلاق تتغير بتغير المكان والزمان. مثله مثل زواج الصغيرة ورضاع الكبير ... إلخ، كلها قيم زمانها لا قيم زماننا.
في موضوع آخر هو «مدنية الدولة الإسلامية 9 / 1 / 2007م»، يقول قرضاوي: «الدولة في الفكر الشعبي بحكمها الإلهام الإلهي لا الفقيه الذي ليس له عصمة، الفقيه يحاول تطبيق الشريعة لكنه هو نفسه ليس معصوما.» ثم يعرض لرأيه السني في الدولة الإسلامية فيقول في الحلقة ذاتها: «نحن نقبل جوهر الديمقراطية؛ لأنه قد تكون في الديمقراطية أشياء لا تقبل إسلاميا مثل الحرية الشخصية المطلقة وحرية الفسوق»، لا نملك هنا إلا أن نسأله عن تعريف الفسوق، وتعريف هتك العرض الذي هو حق المقاتل المسلم في السبايا، وحق الاعتداء الجنسي بالاغتصاب على الإماء المشتراة.
إن الحرية لا توجد أصلا إلا عندما يسقط قانون الاستعباد وتلغى مواده، الحرية هي إسقاط صك العبودية عن المرأة وعن حق الاعتقاد بصك جديد علني كما فعل إبراهام لنكولن، وليس التحدث عن دولة الحرية والمساواة بينما قانونها يشرع العبودية ووطء ملك اليمين، وعدم إسقاط هذه التشاريع يعني أنهم سيسترجعوننا بها يوم يحكمون عبيدا لهم وإماء يركبونها. وسيتم استرجاع العبد الفار والموالي وأهل الذمة؛ لأن لديه تشاريع وصك ملكية فنحن لسنا سوى مصدر للريع، نحن من يدفع الخراج والجزية بقانون مقدس.
سادتي أهل الدولة الإسلامية، إن مجرد فتح موضوع دولة إسلامية أو خلافة يسحب الولاء فورا عن الولاء للوطن؛ فالولاء لخليفة منتظر، هو خيانة كاملة علنية فصيحة فضيحة للوطن.
الفصل السابع
حوار مفتوح، مع أبي الفتوح
في حوار هام، بل خطير، مع القطب الإخواني الأشهر الأستاذ عبد المنعم أبو الفتوح، منشور على موقع الإخوان وإسلام أون لاين ومواقع إسلامية أخرى عديدة، قدم الأستاذ أبو الفتوح تعريفه لمصطلح الدولة الإسلامية، واعتبر أن دولا مثل مصر أو الأردن هي دول إسلامية بالفعل، فهل قرر الإخوان التخلي عن فكرة الاستيلاء على الحكم لإقامة دولة إسلامية؟ ثم إنه يقول في هذا الحوار إن الإخوان مع دولة مدنية لا دولة دينية، وإن من يحكم في هذه الدولة متخصصون مدنيون، فماذا تبقى إذن من الإخوان؟ نحاول هنا أن نعيد قراءة ما قال أبو الفتوح عسانا نعثر عند الإخوان على موقف واضح غير ملتبس من موضوع الدولة المدنية أو الدينية، فيما استجد على فكرهم هذه الأيام.
يقدم أبو الفتوح في البداية تعريفه وفهمه لمصطلح الدولة الإسلامية بأنها؛ هي التي تعيش فيها أغلبية مسلمة، وعملا بالمبدأ المنحاز للأغلبية فإنها تكون دولة مسلمة وديمقراطية في آن واحد. وهو تعريف إضافة لكونه غير دقيق، بل وغير صحيح بالمرة كما سنرى الآن؛ فإنه يشير إلى أن الإخوان مع ارتباكهم أمام الانفتاح على العالم، بعد حضور هذا العالم إلى بلادنا بعد سبتمبر 2001م، لم يعودوا بقادرين حتى على تحديد مفاهيمهم الخاصة بهم بشكل واضح، فقد اعتادوا الخطابة في زمن ما قبل 2001م، واعتاد الناس أن يسمعوا تلك الخطب وما فيها من مفاهيم ومصطلحات؛ مثل: الأمة، والمجتمع المسلم ، والدولة الإسلامية، وديار الإسلام، دون تحديد واضح دقيق لمثل هذه المفاهيم التي أزعم أنها جميعا بلا دلالات حقيقية أو واقعية وأنها كلام واهم، ووهم كلام ، بلا معنى ولا دلالة واحدة سليمة. ونموذجا لذلك ما يلقيه علينا هنا الأستاذ عبد المنعم أبو الفتوح، الذي قرر أن يقدم الإخوان للعالم عبر مفاهيم واصطلاحات جديدة تتفق والوجه المطلوب للعالم الجديد.
لنبدأ بتعريفه للدولة الإسلامية بتلك التي تسكنها أغلبية مسلمة؛ وهو ما يعني أن دولة عمر بن الخطاب أو دولة الأمويين لم تكن دولة إسلامية؛ لأنها حسب تعريفه معظم سكانها لم يكونوا مسلمين، ولم يحكم العرب المسلمون هذه الدولة إذن بالمبدأ الديمقراطي «الأغلبية» الذي يأخذ به أبو الفتوح اليوم وينسبه إلى الدولة الإسلامية؛ لأن الحاكمين كانوا هم الأقلية بل كانوا أقلية الأقلية، ولم يحكموا بحكم الأغلبية بل بحكم الغلبة والقوة المسلحة الغاشمة.
إن تعريفاتهم تتغير بحثا عن قناع جديد يناسب المستحدثات العالمية، ولأنها يتم تفصيلها فإنها عادة ما تأتي غير علمية وزئبقية وملتوية كالحرباء. لقد كان تعريف الدولة المسلمة زمن الخلافة الراشدة هي الدولة التي يحتلها المسلمون لأنهم كانوا لا يعرفون لأنفسهم دولة. ولأنهم لو أخذوا بتعريف أبي الفتوح وبمبدأ الأغلبية الديمقراطي لكانت دولة أبي بكر غير مسلمة؛ لأن ثلاثة أرباعها كانوا مرتدين، ودولة عمر، وعثمان، وعلي، التي ضمت الشام والعراق ومصر كانت غير مسلمة بدورها لأن غير المسلمين كانوا هم أغلبية السكان الساحقة، والأمر ببساطة هو أن مفهوم الأغلبية والأقلية كمفهوم سياسي حديث لم يكن معلوما ولا مفهوما للمسلمين، لا في دولتهم البدائية الأولى بالحجاز، ولا بعد تشكيل الإمبراطورية الإسلامية. ولم يحكم هذه الإمبراطورية سوى السادة العرب، ثم من بعدهم الترك العثمانيون بحكم قدسية الخلافة المستبدة بالعنصر والدين وحدهما، لا بالأغلبية ولا بالأقلية، فهذا نظام لا يعرفه الإسلام فهو نظام غير إسلامي، فما لأبي الفتوح ومصطلحات قانون الغرب الذي يطلق عليه المتأسلمون إخوانا وإرهابا اسم: الطاغوت؟
هذا وجه من وجوه الإخوان، وهناك وجوه أخرى، وكل له دور مقسوم يقوم به؛ فالمرجع الفقهي للإخوان وبقية الجماعات الشيخ قرضاوي، ولأنه ليس شريكا فعليا في العمل السياسي المباشر والحركي، أو هو يزعم ذلك، تفرغا منه كمرجع فقهي للجميع. فإنه يملك مساحة أوسع للمناورة وللقول الأصرح؛ فهو يصر على تعريف الدولة الإسلامية بتلك التي تحكم بشرع الله، ولا يرى دولا مثل مصر والأردن دولا إسلامية كما رأى أخوه أبو الفتوح. أبو الفتوح يناور وقرضاوي يعلن منفيستو واضح المعالم يقول: «إن إقامة الدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله وتجمع المسلمين على الإسلام وتوحدهم تحت رايته، فريضة على الأمة الإسلامية، وعلى الدعاة إلى الإسلام أن يعملوا بكل ما يستطيعون للوصول إليها ويهيئوا الرأي العام المحلي والعالمي لتقبل فكرتهم وقيام دولتهم» (كتابه: الصحوة الإسلامية بين التطرف والجحود، ص222، 223). وأبو الفتوح وقرضاوي كلاهما قطب بل قرن من قرون الإخوان المسلمين. وكلاهما له أهداف سياسية، الثاني حركي، والأول تنظيري مهمته الدعاية والتوجيه المعنوي، يحض الدعاة على ترك ضمير المسلمين ودينهم الذي هو وظيفتهم الحقيقية، للانخراط في العمل السياسي الحركي المباشر.
لكن مشكلة مشايخنا والإخوان معا أن زادهم من العلم السياسي يعاني فقرا مدقعا كما هو شأنهم مع كل المعارف الإنسانية والعلوم المختلفة؛ لذلك عندما يتحدثون في السياسة تسمع منهم عجبا. كما سمعنا من هنيهات تعريف أبي الفتوح للدولة المسلمة بأنها ذات الأغلبية المسلمة حسب المبدأ الديمقراطي، خالطا بين زمن وزمن أتى بعده بأربعة عشر قرنا، مستخدما المصطلحات المعاصرة كالديمقراطية مع دولة بدائية عتيقة، خالطا بين معنى الشعب ومعنى الدولة؛ فالدولة مجموع مؤسسات وهيئات وظيفية، بينما الشعب المصري مثلا غالبيته من المسلمين حقا، لكن دولته تقوم على المؤسسات والهيئات، وليست مسلمة ولا مسيحية، منذ فجر تاريخ البشرية على الأرض وهي دولة يعيش عليها شعب مصري تتغير دياناته، ومعتقداته، وثقافاته، وتتعدد روافده، ويظل مصريا في دولة مصرية.
ولو لزم القول بأن مصر دولة إسلامية للزم التوضيح هل هي شيعية أم سنية، وهابية أم حنفية أم إخوانجية أم طالبانية؟ بينما تظل الدولة المصرية مصرية حتى لو سكنها الجان من أي ملة أو عنصر. ولو كانت الدولة ضمن اهتمامات الدين الإسلامي، ولو كان السلف الصالح على قناعة بدولة إسلام، لقاموا هم بتعريف هذه الدولة المسلمة وأجابوا هم عن السؤال، وهم لم يقولوا في ذلك شيئا، وهم الأعلون، فهل من حق الإخوان أن يقولوا؟ ثم ما حكاية: «إسلامية بالأغلبية» حسب المبدأ الديمقراطي؟ فمتى آمن الإخوان بالديمقراطية؟ ومن أين حصلوا عليها؟ وهي غير موجودة في إسلامنا ولم يعرفها سلفنا الصالح ولا نبينا؛ لأنها لو كانت موجودة لكانت دولة الخلافة دولة غير إسلامية بحكم الأغلبية. إن سلفية الديمقراطية لا تعود إلى الحجاز وإنما تعود إلى أثينا وروما قبل ظهور الإسلام بقرون طوال تصل إلى الألف عام، ولم تعرفها بلاد الحجاز من يومها حتى يومنا هذا!
في نظام الحكم الإسلامي ليس هناك شيء اسمه الديمقراطية، لا يعرف أغلبية وأقلية؛ لأنه لا يوجد شيء اسمه رأي الرعية، بدليل أن الأقلية العربية هي التي كانت تحكم بمشاركة الفقهاء فقط ولا وجود للرعية. الخليفة عثمان كان يتصرف دون أن يأخذ رأي أغلبية أو أقلية. وقتله بعض المسلمين من خيار الصحابة وأبناء الصحابة دون أن يأخذوا رأي أغلبية ولا أقلية ودون أن تخرجهم جريمة قتل الإمام من الملة، فهذا القتال هو الوحيد في تاريخ المسلمين الذي لا يأثم فيه المسلم إن قتل مسلما من أجل الجاه أو السلطان، أو المال. وكان القتلة رعية عربا مسلمين يقومون بمهمة نشر الإسلام في مصر، فلما علموا أن هناك أموالا تؤخذ ومناصب توزع، تركوا مهمتهم السامية وعادوا إلى يثرب يطالبون بنصيبهم حتى قتلوا خليفتهم، فهل هذه هي الديمقراطية وتلك هي الدولة التي يقصدها أبو الفتوح؟ أم تراه يرى دولته أكثر إسلاما وأقل عيوبا من دولة الراشدين؟
لو كان هناك رأي لأغلبية لأخذ أبو بكر وهو خليفة برأي الصحابة وعلى رأسهم عمر بعدم قتال مانعي الزكاة، ولما أنفذ رأيه المتفرد أعلن عليهم الحرب على عدم رغبة الأغلبية من كبار الصحابة.
لو كان هناك أي اعتبار لمعنى الأغلبية لأخذ عمر برأي تسعة من عشرة من خيار الصحابة استشارهم في قيادته لجيوش الفتوح بنفسه، وقالوا بوجوب إمارته للجيوش، لكنه أخذ برأي العاشر وحده، وهو عبد الرحمن بن عوف الذي قال بوجوب بقاء الخليفة سيدا للمدينة، وإرسال الجيوش تحت قيادات أخرى، ولم يأخذ برأي التسعة.
إن الإسلام كما نعلم عنه جميعا هو علاقة عبد بخالقه ولا علاقة له بدولة ولا حكومة ولا سياسة، لو كان مهتما بذلك لوضع شكلا محددا لنظام الحكم ومؤسساته، وطرق تبادل السلطة، وأساليب توزيع الثروة، ولما تقاتل الصحابة الأجلاء على الأموال المنهوبة من البلاد المفتوحة (تراثنا الإسلامي يسمي ذلك بوضوح: نهبا) كل هذا القتال؛ لأنه سيكون لديهم طرق سياسية مقدسة محددة سلفا لكل مسلم، لكن لأن ذلك كله لم يكن في الإسلام، فقد حدثت الفتنة الكبرى، وعندما تم التعامل مع الدين في السياسة لم يكن قط لمصلحة الدين، وألحق أفدح الضرر بالسياسة؛ مما أدى إلى مقتل عثمان وبداية الفتنة الكبرى، ومحاربة عائشة أم المؤمنين لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه حربا دموية وحشية بكل المقاييس، ومحاربة كاتب الوحي معاوية لعلي مكرم الوجه، ومحاربة الخوارج لكليهما، بل انقسام دين المسلمين إلى قسمين لا يلتقيان ولا يلتثمان أبدا: شيعة وسنة يستبيحون دماء بعضهم بعضا وكلاهما مسلم؟! ولأن نظام الحكم لم يكن اهتماما إسلاميا تمت استباحة مدينة رسول الله ثلاثة أيام في وقعة الحرة، الكريهة، وتم ضرب الكعبة وحرقها بالمنجنيق على المتحصنين فيها. كل هذه الأضرار الفوادح لحقت بالدين عندما تم إلحاقه بالسياسة وهو غير مشغول بها، مما أدى إلى ضرر مماثل على الجانب السياسي.
ولأن الإسلام لم يهتم بمسألة أنظمة الحكم والإدارة، فقد ترك المسلمون الفاتحون البلاد المفتوحة تدار كما كانت تدار بالأساليب الرومانية والساسانية، وهي أساليب غير إسلامية اخترعتها شعوب غير عربية وغير مسلمة منذ قرون طويلة، بل أمر الخليفة عمر بإنشاء دواوين عربية هي نموذج لما كان في السابق في دولتي الفرس والروم. •••
نتابع القطب الإخواني عبد المنعم أبو الفتوح وهو يقوم بتحديث الفكر الإخواني، طلبا للانخراط في العملية السياسية، في ظرف عالمي جديد يختلف بالمرة عن زمن نشأة الإخوان، فيقول: «إني أرى أن كل الدول التي أغلب سكانها من المسلمين هي دول إسلامية حسب المبدأ الديمقراطي سواء مصر أو الأردن، وذلك لا يعني أننا نوافق أو نرضى عما لحق بهذه الدول من فساد وعطب، متمثل في استبداد سياسي وفساد اقتصادي وخلقي.»
لو حاسبنا أبو الفتوح هنا على قدر ما قال هو، لقلنا له: إنه حسب المبدأ الديمقراطي، فإن أبا الفتوح يتكلم باسم جماعة الإخوان وهم أقلية في مجتمعنا المصري، ومع ذلك يتكلم كما لو كان أغلبية، ويفعل جميع الإخوان فعله ليترسب في الأذهان بالتكرار، أنهم ليسوا أقلية، وأنهم ليسوا منشقين على شعبهم، متمردين على الحكومة القائمة، والأقلية كما قال هو لا تفرض رأيها على الأغلبية، ناهيك عن كون هذه الجماعة أقلية خارجة على القانون وجماعة غير شرعية حسب قانوننا المدني.
وإن أبا الفتوح إذ يلزمنا بصفته كمفكر وكحركي إسلامي إخواني، فإنا نلزمه بهذه الإسلامية وأن يطبق على نفسه قوانين الشريعة الإسلامية؛ لأن معارضته للنظام الحاكم هي تمرد على دين الإسلام نفسه الذي أمرنا بطاعة ولي الأمر، و«أطع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، ولو كان عبدا حبشيا فاسقا فاجرا» (أحاديث صحاح)؛ حرصا على عدم الفتنة كما تؤكد المراجع السنية، التي هي مراجع الإخوان بوصفهم وهابية حنبلية سنية؛ فهو إما أن يعارض لكن بعد أن يخلع صفة الإسلامية عن سياسته ومواقفه «حتى نصدقه» وإما أن يتمسك بصفته الإسلامية ويصمت ولا يشارك في الفتنة لعن الله من أيقظها «حتى نحترمه».
في دولتنا الحالية التي أنشأها محمد علي كدولة حديثة، يلزمك كي تتهم غيرك بالفساد أن تحصل على حكم قضائي يدين الفاسد أولا، وحديثه عن الفساد في الدولة الإسلامية يلزمه أولا تقديم وثائقه والحصول على حكم قضائي بذلك، وإلا كان حسب الشريعة الإسلامية قاذفا يستحق الجلد عاريا على ملأ من المسلمين. ثم عليه في المقابل أن يثبت هو نزاهة نفسه وجماعته كمدعين بالفساد على الحكومة، وتقديم سيرة واضحة تحترم القانون والأخلاق والقيم، وهو كجماعة لا يتصف بمثل هذه السيرة بالمرة، وصحيفة سوابقهم تمتلئ بألوان الجرائم أشكالا وأنواعا.
إذا تحدثنا بلغة الإسلام فإن ما يراه من فساد اقتصادي في الدولة القائمة، رآه عثمان حقا له كخليفة، ورآه العرب المصريون فسادا فقتلوه؛ لأنه ليس في الإسلام قانون واضح يحمي المال العام؛ لذلك فجريمة الاختلاس من المال العام تقع تحت شبهة المشاركة فيه، فلا تصبح سرقه، كذلك فإن سرقة سيارة ليست سرقة لأنها حسب الشرع سائبة كالبغال والحمير، والإبل والماعز التي ترعى سائبة، أما سرقة الكاسيت الموجود في داخلها فهي جريمة سرقة تستحق القطع لأن الكاسيت كان في حرز مغلق. ولأنهم لا يعترفون بأن ذلك زمان يختلف في قيمه وشرائعه عن زماننا، يسقطون في شراكهم اللفظية والشرعية. نحن بالطبع ضد الاستبداد والفساد الاقتصادي والأخلاقي، لكن أسوأ الفساد هو الانتهازية بالدين ضد الوطنية مما يبذر بذور الشقاق والفتنة في المجتمع.
في جملة واحدة يقول أبو الفتوح نقيضين: «هناك فساد أخلاقي ونحن ضد الخروج عن المبادئ الإسلامية»، لأن تعريفهم للفساد غير تعريفنا اليوم للفساد؛ فالمبادئ التي يقول إنها إسلامية ترى العبد الآبق كافرا حتى يرجع إلى مواليه (حديث صحيح قام عليه فقه بكامله)، ومبادئنا تراه مناضلا عظيما في سبيل الحرية يستحق أن تقام له التماثيل في الميادين. المبادئ التي يقول إنها إسلامية تبيح تجارة الرقيق وركوب الجواري والتمثيل بالأحياء قطعا ورجما، فتحت أي بند من مبادئ الأخلاق تقع هذه المبادئ الإسلامية؟ أوليس من حقنا كمسلمين ملتزمين أن نحصل على ملك اليمين، وهو شرع شرعه ربنا وبنى عليه مفكرونا فقها كاملا؟ لماذا لا تعيدون إلينا الجواري كما فرضتم الحجاب، تكافحون من أجل شيء ليس في شرعنا اسمه الدولة الإسلامية ولا تكافحون لتنفيذ شريعة الله في أرضه بعودة نظام العبودية. إنهم يرون نكاح ملك اليمين فضيلة ونراه نحن اليوم بمنطق عالمنا اغتصابا يعاقب عليه بالإعدام. يرون تعدد الزوجات فضيلة ولا نراه كذلك، يرون السياحة والبنوك من فعل الشيطان الرجيم، ونرى نحن بنوكه الإسلامية تمثيلية هزلية رخيصة يشارك فيها البنك والمودع لخداع الذات، حيث يذهب كل المال إلى مساره الطبيعي الربوي في حركة الأموال العالمية.
أليس هذا تدليسا على الرب؟ ثم ألا يشير إلى أننا أصبحنا ذهانيين؟ نحن كليبراليين نرى سياحتنا وحدها كفيلة ببروز مصر إلى صدارة الأمم المحترمة إن أحسنا استخدامها كأكبر كنز أثري في العالم كله، وفق تقنيات العصر وأساليبه، وهم يرونها فسقا وفجورا ووثنية.
هم يرون أن قراءة الموظفين القرآن أثناء العمل فضيلة (وإلا ما فعلوها)، ونراها نحن تعطيلا لمصالح العباد، فهذه هي الرذيلة المرذولة والنطاعة المكروهة نفسها.
إن الفساد يعني الخروج على قاعدة أخلاقية أو قانونية وضعية كما يفهمه العلم الإنساني، أو هو حسب الفهم الديني خروج على قاعدة شرعية دينية سماوية. فإذا قصد أبو الفتوح من الفساد جانبه الوضعي: كسياسات جمارك، وبنوك، وجنسية، وضريبة، ومحاكم إدارية، وجنائية، فإن جماعة الإخوان حسب هذه القوانين الوضعية هم أول المفسدين؛ لأنهم جماعة غير شرعية فسدت بخروجها على القانون الوضعي بوجودها رغما عنه، فسدت بإصدار صحف ونشرات دون تراخيص، فسدت بشركات توظيف الأموال ونهب أموال الفقراء، فسدت بغسل الأموال بعد أن تم القبض مؤخرا على حوالي 135 شركة إخوانية تغسل الأموال القذرة الملوثة، فسدت بجمع الأموال لتمويل جماعات الإرهاب الدولية، فسدت باختراقها قواعد الاستثمار البنكي بما يدمر اقتصاد الوطن.
أما النوع الثاني من الفساد الذي يكون بالخروج على قاعدة دينية شرعية، فإن شر الفساد في هذا النوع ليس بالخروج على القاعدة فقط، بل ضربها بالحذاء علنا، فقد ساهم الإخوان بالصمت والسكوت على تعطيل شرع الله فصمتوا على تحريم العقوبات البدنية، والرق، والسبي، ويعدوننا أنهم سيقطعون أيدينا إن شاء الله بالشريعة عندما يحكمون! ألا يوجد بين الإخوان سارق واحد أو زان واحد الآن لتطبقوا عليه شريعة الله، التي تزعمون أنكم حراسها، حتى يصدقكم المسلمون؟ أم تنتظرون الوصول إلى حكمنا لتكونوا أنتم الحاكمين القاطعين ونحن المقطوعين؟ •••
يتابع القطب الإخواني عبد المنعم أبو الفتوح مبررا فشل التجارب الإسلامية الحديثة في إقامة دول إسلامية قوية، أو ديمقراطية، بقوله: «حسب المبدأ الديمقراطي، ليس غريبا أن يفشل الإسلاميون هنا أو هناك مثل غيرهم، فليس عيبا أن يفشل فصيل إسلامي فيأتي فصيل آخر؛ لأن العبرة بالمبادئ والقيم وليس بالبشر، وإن الإخوان ليسوا كغيرهم من الفصائل التي تكفر المجتمع.» وهو قول يعني أن المبادئ والقيم تقتصر على الإسلام والإخوان باعتبارهم حماته والمتحدثين باسمه، ويعني أيضا اعتراف الإخوان أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وفي حال فشل فصيل في الحكم لا يعني فشلهم مطلقا، بل يمكن أن يأتي فصيل آخر وينجح حسب المبدأ الديمقراطي، ثم يميز بين فصيله وبقية فصائل الإسلام السياسي بأن الإخوان ليسوا كغيرهم من الفصائل التي تكفر المجتمع، وبذلك هم ليسوا ضد المجتمع ولا ضد الديمقراطية، ومن ثم يحق لهم الانخراط في العملية السياسية.
إخواننا الإخوان لا يروننا دولة عمرها المؤسسي سياسيا واقتصاديا وقيميا وقانونيا يمتد لأكثر من عشرة آلاف عام إلى الوراء، فهذا تاريخ يستحيي منه الإخوان؛ لأنه تاريخ قوم وثنيين وغير عرب وغير مسلمين؛ لذلك لا تجد له أي ذكر في أدبياتهم بل ولا أي اعتبار، باعتباره شيئا غير موجود، وباعتبار أن تاريخ مصر يبدأ مع وفود الجيوش العربية فاتحة لها، ومع ركوب أول عربي لأول امرأة مصرية في العريش.
الإخوان لا يرون بأسا في إخضاعنا لعمليات تجريب ووضعنا حقل تجارب لجهلاء السياسة وأغبياء الاقتصاد، ويعطون هذا الحق لأنفسهم بعد أن قصروا المبادئ والقيم على التجربة الإسلامية، منكرين على البشرية كلها مبادئها وقيمها قبل الإسلام وبعد الإسلام، بل ومنكرين على الأنبياء السابقين أن يكون لهم مبادئ وقيم كما للتجربة الإسلامية.
القيمة التي يركز عليها الإخوان هذه الأيام هي الديمقراطية والحريات، وهي ما تجعل المسلم البسيط يتساءل، إذا كانت الحريات كما نعرفها اليوم، وإذا كانت الديمقراطية السياسية، من قيم الإسلام ومبادئه، وأن لها أسسا إسلامية في ديننا أيا كانت التسميات: شورى، بيعة، فلماذا لم يطبقها أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو معاوية، وهم كبار الصحابة وملوك الإمبراطورية في عزها ومجدها؟
إن الديمقراطية هي تداول السلطة بشكل سلمي، فلماذا لا يذكر لنا أبو الفتوح خليفة واحدا تولى الحكم ديمقراطيا منذ ظهر الإسلام حتى سقوط دولة طالبان غير مأسوف على شبابها. أو هل كان الولاة يتم اختيارهم من قبل أهالي الأقاليم؟ إن هذا كلام يفضح تمسك أبو الفتوح وإخوانه بالفلسفة العربية للفتوحات التي لم تعرف للبشر حقوقا ولا كرامة، وتبعا لها تحول الناس الأحرار في بلادهم بعد الفتوحات إلى عبيد وموال وأهل ذمة وسبايا، عليهم دفع الأموال للفاتحين، ولا مساواة، ولا أي حقوق. فشريعتنا تنص على عدم قتل المسلم بذمي، فلا يلزمه سوى الدية بل نصف دية المسلم، يعني العربي يقتل عشرة ذميين ويدفع قيمتهم، هذه هي المبادئ والقيم التي تخبرنا بها التجربة الإسلامية وشرائع الإسلام. إنها فلسفة السيد المالك والعبد المملوك، كلام أبي الفتوح فلسفة تحمل داخلها وتستبطن الاحتقار العربي القديم للمفتوحين ولكن في صورة حديثة، ألا تراه لا يجد مانعا مطلقا من جعلنا فئران تجارب لورثة السيادة العربية، يفشل فصيل فيأتي غيره؟
ثم ألا ترون كلام أبي الفتوح وإخوانه عن دولة إسلامية عتيقة بدائية برطانة الدولة القومية المعاصرة، يحدثوننا عن الحرية والمساواة والديمقراطية والمدنية؛ وهو ما يعني أن الإخوان يكتشفون لنا اليوم مشروعا إسلاميا للحكم بعد مرور أربعة عشر قرنا وثلث قرن على ظهور الإسلام!
أين كان المسلمون يوم دخلت أوروبا عصر النهضة والتنوير لتبدأ على الأرض العصر الصناعي وزمن الديمقراطية؟ أين كانوا وماذا غيبهم عن حضور هذا المشروع والمساهمة فيه والاستفادة منه؟
وإذا كان من غير الغريب أن يفشل الإسلاميون في الحكم، فلماذا نتحمل هؤلاء الفشلة بعد مرور أربعة عشر قرنا وثلث القرن من الفشل المتواصل في إقامة العدل والحرية والمساواة وإحقاق حقوق الإنسان وكرامة بني آدم؟ لماذا نتحمل هؤلاء وأمامنا ما هو مؤكد النجاح في بلاد الغرب الحر، أو لنطل في المنور المجاور فقط!
إن أسلوب أبي الفتوح إضافة إلى كذبه على الذات وعلى المسلمين وتضمنه حديث السيد للرعية، أسلوب خال من الذوق، وخال من المسئولية.
فهو يتضمن ازدراء واستهانة بنا وبأمتنا المصرية التي تحضرت من فجر البشرية، محققة سبقها بلا منازع أو زاعم، إن نصوص هذه الحضارة سجلتها الكتب المقدسة جميعا، كما أن فجر الضمير الأخلاقي القيمي كان هناك على اتفاق بين المؤرخين.
حديثه عن فشل فصيل ليأتي فصيل يعني تناوب الفشلة على حكمنا، وهو حديث بدوي بدائي يتهاون في مخاطبة أهله وناسه، فيخاطبهم خطاب السيد للرعية، وهم أهل الدولة وأصحابها وأول من وضع لها في التاريخ نظاما مؤسساتيا هرميا بيروقراطيا منذ عشرات القرون.
إن قوله إن العبرة بالمبادئ والقيم التي هم حراسها، يعني أننا قبل الغزو العربي الاستيطاني لم نكن نعرف الضمير أو الأخلاق أو القيم أو البعث والحساب، وكلها مدونات مصرية قديمة محفورة في مختلف متاحف العالم، عرفنا المساواة مبكرين لأنه لم يكن عندنا فقه حنفي أو حنبلي في أصول العبودية ونكاح السبايا ومفاخذة الرضيعة، فلم يكن عندنا حر ولا مملوك ولا ذمي ولا جارية ولا أم ولد، كانت حرية العبادة مكفولة لكل مواطن، وفي دولتنا المسلمة الحالية وكما يرى أبو الفتوح، فإن حرية العبادة مفقودة، كما هي مفقودة في مشروع الإخوان البديل لحكمنا كعبيد لورثة الفاتحين.
وفي إنكار أن يكون الإخوان كبقية الفرق ممن يكفرون المجتمع، واستنكارا لهذا التكفير، يؤكد: إننا نحن الإخوان لسنا كبقية الفرق التي تكفر المجتمع.
إذن ماذا يعني اسمكم العلم «الإخوان المسلمون»؟ ألا يعني أنكم الإخوان المسلمون، وأننا وبقية شعب مصر المسلم الطيب من غير المسلمين، يعني كلنا «الإخوان الكافرين»؟! أليس اسمكم وحده تكفيرا علنيا واضحا لكل شعب مصر؟
اللهو الخفي في مضامين كلام أبي الفتوح، أنه يرى أنهم عندما يصلون إلى السلطة فلن يكون هناك أحزاب أخرى تخوض المعركة الديمقراطية للوصول إلى الحكم؛ لأنه كما قال في فلتة لسانية: «ليس غريبا أن يفشل فصيل إسلامي فيأتي فصيل آخر»، والمعنى أنهم عندما يصلون إلى الحكم سيكون تداول السلطة بين الفصائل الإسلامية وحدها. يفشل فصيل فيأتي فصيل، هذا كلامه هو وليس كلام غيره.
هل تسمعون يا أهل مصر؟ هل ترون إلى أين يأخذكم الإخوان؟ •••
تتتالى فلتات القطب الإخواني عبد المنعم أبو الفتوح اللسانية وتتكاثر وهو يقول: «نحن ضد الخروج على المبادئ الإسلامية، وضد الاستبداد السياسي في العالم الإسلامي، ونحن مع الإرادة الشعبية الحرة والحريات، ومع أن الدولة مدنية وليست دينية، فيحكمها المدنيون المتخصصون في مختلف النواحي؛ إلا أنها إسلامية في شتى المناحي.»
بداية حتى نفهم أبا الفتوح نتساءل: هل يشير إلينا؟ أين هي الإرادة الشعبية في فقهنا؟ وأين هي الدولة المدنية في الحديث النبوي؟ وأين هي الحريات في تاريخ الخلافة كلها راشدة أم غير راشدة؟ أين سورة الدولة المدنية في القرآن؟ أين آية الدستور؟ أليستا أهم من الفيل والبقرة والنمل والجن؟ إذا كانت الدولة مدنية أو غير مدنية ضمن اهتمامات الإسلام، فلماذا لم يتنزل وحيا سورة الإرادة الشعبية؟ لماذا ليس لدينا باب في صحاح الأحاديث بعنوان حقوق الإنسان مثله مثل باب النكاح؟ إن إخواننا الإخوان يفرشون بيتنا العتيق المسكون بالأشباح والإخوان والغيلان، من أحدث بيوت الخبرة السياسية العالمية، من بيت فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو، من مبادئ الثورة الفرنسية، ومن قيم الأمم المتحدة، وهي مبادئ وقيم لم تكن موجودة في قاموس البشرية كلها قبل ظهور أصحابها.
وضمن انتصارات جماعة الإخوان غير المشرفة لاستخدامها أساليب صراع غير نظيفة، هو تمكنها من تزييف وعي الناس بهدف خلق وعي مزيف ورأي عام مصنوع ملعوب فيه، فئوي، طائفي، رأي عام لا يعبر عن المصلحة العامة، بينما المصلحة العامة هي الغرض النهائي للعملية الديمقراطية برمتها، فإن لم يعبر الرأي العام عن المصلحة العامة تكون اللعبة كلها مزيفة، وعلى مثل هذا الرأي العام الفاقد الوعي بمصلحته العامة يراهن الإخوان. لقد تمكن الإخوان عبر أجهزة الدولة الإعلامية جميعا من عقل الناس وتزييف وعيهم ضد مصالحهم، من أجل مكاسب فئات بعينها على حساب الوطن كله بناسه وأرضه وتاريخه ومستقبله، إنها جريمة إبادة شاملة لوعي الإنسان بمصالحه ليكون إنسانا حرا غير مسير، هي إبادة أجيال بأسرها بخطب منبرية، فيتحول المسلم في لحظة إلى وحش كاسر ضد أشقاء الوطن لأن رساما في الدانمارك تكلم بالسوء عن النبي. وهذا الكاسر هو الإنسان الجاهل المتخلف العاري الحافي الجائع المريض، ومع ذلك كله يسير مهموما بفلسطين والعراق ويتظاهر ضد أمريكا، ولا يتظاهر ضد الفقر والجهل والمرض والاستبداد وثراء السادة الفاحش والسفيه من «سلاطين وفقهاء وراقصات»، على حساب باقي بني الله في الوطن. المأساة أن ما يحدث بين الحكومة والإخوان من مظاهر اختلاف خادعة، لا يخفي مدى الاتفاق على الكذب على الناس وتبرير كل فساد ممكن عند الطرفين، وتزييف الدين وهم يقدمونه للناس على اتفاق بينهما، بالمنطق ذاته حكمت به الخلافة عبر تاريخها الطويل، تاريخ لم تعنه يوما المصلحة العامة، بل مصلحة الحاكمين والملتحقين بهم وعلى رأسهم المشتغلون بالدين على المواطنين.
إن أبا الفتوح يطرح علينا نظاما إسلاميا لدولة الإخوان المرتجاة، فهلا أشار لنا أين توجد هذه الدولة في إسلامنا فقها أو حديثا أو قرآنا أو سيرة أو حتى شعرا؟ الموجود في كل هذه المصادر هو نظام عقابي لا نظام قانوني حقوقي، والموجود لدينا هو فقه عبودية وجهاد وحرب وسبي وجزية وتقطيع أوصال البشر أحياء، نظام عقابي انتقامي لا نظام تهذيبي تأديبي.
وهو حين يطرح هذا النظام الإسلامي لدولته، يقدم لها المبررات، موضحا أنها صلب الإسلام وجوهره المتين، فلا يجد بعد جهد ولأي سوى القول: «الإسلام كدين مختلف عن الأديان التي سبقته مثل المسيحية؛ فالمسيحية كانت تعلن أن ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وأعلنت بوضوح أنها لا دخل لها في أمور دنيا الناس، وبالتالي لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد، لكن حين جاء الإسلام وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى جانب أنه نبي مرسل كان قائد دولة، ولأن النبي والصحابة من بعده كانوا إلى جانب أنهم دعاة وأصحاب عقيدة كانوا حكاما، ولا يوجد حكم دون أفكار مرجعية وتوجه وإدراك سياسي.»
وهذا كلام يحتاج إلى وقفة طويلة تحاول الترتيب والفهم وإعادة التفسير، فمثلا مما هو بحاجة إلى إعادة تفسير؛ لأنه يحتمل فهما آخر، هو إعلان المسيح ترك ما لله لله وإعطاء ما لقيصر لقيصر.
إن تفسيرا آخر سيرى المسيح يريد بهذا المبدأ طمأنة الروم على فلوسهم وأملاكهم مما ينشى هدنة سلامية بين الطرفين. وحين فعل ذلك فإنه قد جعل نفسه اليد العليا والسلطة الموزعة للسلطات؛ فهو من يقوم بتقسيم الأرزاق وتوزيعها، وتوزيع السلطات أيضا باعتباره ممثلا للسلطة الإلهية طالبا اعتراف الرومان بهذه السلطة. وهو ما حدث، ولكن إلى حين. نذهب إلى صورة أخرى تبدو مطابقة لهذه الصورة في الإسلام، فقد بدأ الإسلام في الزمن المكي بهدنة سلامية بطمأنة مكة وملئها على مصالحهم ومالهم وتجارتهم، واعتبر القرآن النبي نفسه مجرد مبلغ نذير لا يملك أي سلطان عليهم، وبعد الهجرة إلى يثرب وقوة عود الدعوة، جاء النسخ في الوحي لتلغي آيات الحرب والسيف كل آيات الهدنة السلامية جميعا، لأنه من حق صاحب القرار العودة عن قراره، فجاء النسخ في القرآن في السور المدنية بالمواجهة العسكرية، وهو ما حدث في المسيحية عندما أصبحت الكنيسة هي صاحبة اليد العليا حتى على الملوك والقياصرة.
إن مثل تلك الأمثال تشير إلى عقل قروسطي يريد أن يعود بنا إلى القرون الوسطى المظلمة. كلاهما أباح مؤقتا أن تؤخذ الدنيا منه مؤقتا في شكل هدنة سلامية تضمر الرجوع عن القرار، فأخذ كلاهما الدنيا والآخرة عندما تمكن. في الإسلام بدا ذلك واضحا في إعطاء النبي للمؤلفة قلوبهم وحرمان الأنصار أصحاب الانتصار على المؤلفة قلوبهم، والخليفة عمر كان يوزع حسب منازل ودرجات العرب ما يأتي به جيش الفتوح، والمعنى أن الإخوان عندما يحكموننا هم من سيقوم بتوزيع الأرزاق. والنظام الاقتصادي الإسلامي لا يعرف ملكية أرض لأهلها المقيمين عليها؛ لأنها جميعا وقف على العرب الفاتحين حسب القرار العمري الأشهر.
أما قول أبي الفتوح أن النبي والصحابة كانوا حكاما، وأن ذلك دليل على وجود الدولة بل هو مرجعية وإدراك سياسي للدولة، يفوته أن الدول أصناف، منها ما هو في حال الابتداء الأول ومنها ما أقام المؤسسات والقانون مثل أثينا وروما وبابل، منها جزر القمر ومنها أيضا أمريكا، ومنها دولة يثرب ومنها أيضا دولة خفرع. والثابت تاريخيا أن هذه الدول قد قامت قبل الإسلام، بعضها بألوف السنين وبعضها بقرون طوال. والثابت تاريخيا أنه عندما قامت إمبراطورية الإسلام واستولت على الدول المجاورة، استولت أيضا على أساليب الحكم القائمة فيها من ألوف السنين، استولت على ماكينة بيروقراطية لا تتوقف بسبب تغير الحكام، علقوا عليها يافطة العروبة والإسلام فقط.
الدول كما يعرفها التاريخ تحتاج إلى ألوف السنين لتقوم وتحمل علميا هذا الاسم، تحتاج إلى ألوف السنين لتصبح ذات حضارة، كالصين وسورها العظيم، ومصر ومعابدها وأهرامها ودولتها الواحدة دون تبدل مليمتر واحد منذ مينا موحد القطرين، وبابل وحدائقها المعلقة، وفينيقيا وفتوحها البحرية والأبجدية. ومن يصنع الدولة هم مواطنوها وأهلها وليس دينا من الأديان بعينه، وإلا ما قامت دولة أو حضارة مما تمت الإشارة إليه من هنيهات، كان الدين أحد المحاور لكنه كان سمحا لدرجة التعددية المفرطة؛ مما خلق تعددية بشرية مماثلة متسامحة متحابة تجمعها حدود دائمة اسمها الوطن، ويعيشون في ظل نظام اجتماعي سياسي تعارفوا عليه اسمه الدولة.
الدولة لا تنشأ بقرار، الدولة الوحيدة التي نشأت بقرار هي إسرائيل، ومثلها تلك التي يطلبها الإخوان، منهج التفكير البدوي نفسه، أليسا بني عمومة؟! إنهم يقومون بإعادة إحياء تاريخهم القديم بخطف الدولة وتعليق يافطة الإسلام عليها، وإلا فليبرزوا لنا برنامجا وطنيا واحدا. ليس لديهم شيء، كل ما يريدون هو الكرسي الأعظم في الوطن.
بيشتغلوا بالمقلوب، فيستنتج أبو الفتوح من كون النبي وصحابته كانوا حكاما إذن فهم كانوا حكاما على دولة، إن رئيس العصابة حاكم، وأي مجتمع بشري بحاجة إلى قيادة حاكمة، ولكن ليس كل مجتمع له حاكم هو دولة بالضرورة؛ ولو كان عمر لديه نظام فلماذا أخذ بأنظمة الفرس والروم؟
يوجد في العالم ستة مليارات إنسان لا ينكرون عجيبة الهرم ولا فلسفة أرسطو ولا نظام رمسيس، لكن ثلاثة مليارات ينكرون يسوع، وخمسة مليارات ينكرون محمدا، بينما منتج اليونان الديمقراطي ومنتج الروم القانوني مقبول من الستة مليارات بنسبة مائة بالمائة، كل الناس أخذت به، ولم تأخذ جميعها من أي دين أي شيء له شأن.
أي مرجعية تلك التي يحدثنا عنها أبو الفتوح؟ أي حضارة مرجعية يستند إليها اليوم؟ حضارة حكي وحواديت وفخر وهجاء فاضي، كانوا عالم فاضية ، اليوم قد أصبح الوقت بالفعل من ذهب، وكالسيف حقا إن لم تقطعه قطعك إربا إربا، بل مزقك شر ممزق، وهو فارق الزمن بيننا وبين من حققوا وجودهم الحضاري المتفوق في العالم.
لذلك في الدولة بمعنى الدولة كان الفرعون من فجر التاريخ لا يعطي شعبه فرصة البداوة وانتظار نضج المحصول في استرخاء بليد غير منتج، فكانت فترة انتظار الحصاد هي فترة الأعمال المعمارية الكبرى في مصر القديمة. بمناسبة حضارتكم ودولتكم: أين هرمكم يا أبا الفتوح؟
المصري القديم بنى المسلات بدون مساعدة إبراهيم العبراني ومعه الملائكة تساعده في بناء الكعبة. وفي زمن الإمبراطورية العربية فإن عاصمة الإمبراطورية الإسلامية تركت البداوة وتحركت نحو الحضارة، فاستقرت في بغداد ودمشق والقاهرة.
كانت هذه دولتنا المصرية قائمة قبل غزو العرب الاستيطاني لها، وكانت قائمة قبل ظهور الإخوان، فهل عندما يتم تغيير سائق السيارة، يأتي السائق الجديد ويقول: «أنا من صنع السيارة»؟! إن السائق المرشح للقيادة يعلن ذلك علينا في أكبر عملية سطو تاريخي علني لا يخجل مما يقول ولا يستحي، يقول إنه صانع دولتنا المقبلة دون أن يقدم دليلا واحدا يشير إلى أن أحدا منهم يفهم أصلا معنى دولة. أو عليه إذا اعتبر أن نبينا قد بنى دولة الإسلام، أن يشير لنا أين نجد في التاريخ من صنع دولة مصر ودولة روسيا ودولة بريطانيا، وإذا كان الدين يقيم دولا فأين هي دولة الخضر، وذي الكفل، واليسع، وذي النون؟!
أما المفزع حقا فهو ما وصل إليه الإخوان من حالة شيزوفرنيا، فهم يطلبون دولة إسلامية صنعها الرسول، ثم يقول لنا أبو الفتوح دون أن يرمش له جفن: «إن الإسلام لا يسمح بدولة الفرد الواحد الذي يعمل قاضيا ورئيسا ومشرعا، إن هذا نظام قبلي يجوز في حكم القبائل لكنه لا يصح في حكم الدول، والشعوب أصبح تعدادها بالمليارات الآن، وإن السلطة يجب توزيعها على السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية.»
يا قوم: إن أبا الفتوح ينكر علنا معلوما من الدين بالضرورة، إنه ينكر على النبي أن يكون حاكما فردا في دولته ، فقد كان النبي حاكما بنظام دولة الفرد الواحد الذي يعمل قاضيا ورئيسا ومشرعا، فكان هو النبي، وهو الحاكم، وهو القاضي، وهو قائد الجيوش، وهو موزع الغنائم ، وهو من يعقد العقود والعهود مع الدول الأخرى أو يفضها، ويصفه أبو الفتوح بأنه نظام قبلي يجوز في حكم القبائل لكنه لا يصح في حكم الدول، ونحن معه مائة في المائة فيما وصل إليه، لكنه أبدا لا يرى أن هذا النظام القبلي الذي لا يصح في حكم الدول كان هو نظام حكم الرسول والراشدين من بعده، وهو النظام الذي سيقيم على أساسه دولة الإخوان الإسلامية؟! دولة لا تعرف تقسيم السلطات، دولة نظام بدوي قبلي بدائي قدم له أبو الفتوح تعريفه لنا بنفسه، تراهم وهم يأفكون علينا، هل يفقهون ما يقولون؟!
نتابع الحوار الهام مع القطب الإخواني العلم عبد المنعم أبي الفتوح؛ فالحوار مع الإخوان لا يمل رغم ملل ما يقولون ويرددون، يقول أبو الفتوح: «إن كل الشعارات التي رفعتها البشرية سواء الحرية أم احترام حقوق الإنسان أم العدالة هي نفسها مبادئ الإسلام، إلا أن الإسلام يحول هذه المبادئ إلى دين يتعبد به الإنسان إلى ربه بالالتزام بهذه المبادئ.»
هؤلاء القوم يكذبون وهم يعلمون أنهم وايم الله لشر الكذابين، وعندما يكذبون فيما يتعلق بمصير أمم وشعوب فإن هذا الكذب يكون جريمة خيانة عظمى للوطن والناس والأمة في صفقة مع الشياطين لا تستحي ولا تخزى، وعندما يكذبون بالدين وعلى الدين فعلينا فورا أن نفهم أن الدين ليس غرضا لهم بالمرة، بل هي شهوة السيادة والسلطان وحدها.
والآن لنكشف معا هذا الكذوب الشرير على أمته وناسه ودينه ومستقبل بلاده، ولننشر له زيفه على الملأ بادئين بسؤاله: إذا كانت شعارات الإنسانية كالحرية وحقوق الإنسان والعدالة، معروفة كمبادئ للإسلام، قبل أن تعرفها البشرية بقرون طوال، فهلا قدم لنا شيئا من القرآن أو السنة يؤكد هذا الذي قال. الحرية في الإسلام هي ألا تكون عبدا تباع وتشترى ليس أكثر ولا أبعد من ذلك مليمترا واحدا، أو ليرد علينا بالفقه والشريعة والحديث والقرآن ما نقول هنا إن استطاع، ولن يستطيع لأننا مع قارئنا لا نقول إلا صدقا ولا نفتري كذبا لأننا لا نرتزق ولا نريد سلطانا، ولأننا نسكر حبا بهذا الوطن وناسه، ولا نقف إلا على أرض صلبة من المراجع والمصادر الأمهات، أما هم فيكذبون ويقبضون طوال الوقت دونما سند من حديث أو قرآن أو شرع أو فقه.
أي حقوق إنسان ضمن مبادئ الإسلام؟ إن حقوق الإنسان هي آخر ما وصلت إليه البشرية في رقيها الأخلاقي بعد حروب طاحنة، أوجبت التواضع بين البشرية على مبادئ حقوقية مقدسة للإنسان أيا كان لونه أو دينه أو جنسه، وهو ما دفع الدولة المدنية إلى مزيد من الحريات والانطلاق الفكري والعلمي إلى أقصاه، ولم يتم ذلك إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإقرار مواثيق جنيف وقيام هيئة الأمم المتحدة.
إن القول بحقوق إنسان يفترض مساواة تامة ومطلقة بين أفراد المجتمع دون تمييز بينهم لأي سبب أرضي أو سماوي، لا بسبب عنصر، ولا طائفة، ولا دين، ولا جنس، إنما يتميزون بالحقوق المتساوية لأنهم بشر يستحقون هذا المستوى الحقوقي الواضح الراقي غير الملتبس.
هذا بينما المساواة مسألة لا وجود لها بالمطلق في إسلامنا، فإسلامنا يفرق أولا بين المسلم وغير المسلم في البلد الواحد ولكل منهما حقوق وواجبات غير الآخر، ويفرق بين السيد والعبد، وبين العربي الحاكم السيد وبين المحكومين، إن كانوا من غير العرب فهم إما أهل ذمة أو موال وهم من أسلم منهم، والموالي هم العبيد، وأهل الذمة أدنى منهم درجة، وبين الرجل والمرأة، وبين القرشي وبقية العرب، وبين المضري والحضري، وبين العدناني والقحطاني، لكل حقوق وواجبات غير الآخر؛ فالحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، وقد قسم الخليفة عمر الأعطيات القادمة من البلاد المفتوحة على العرب، بعد أن كلف هيئة من النسابة تضع الناس في منازلهم رتبا؛ فالمهاجرون غير الأنصار، وأهل بدر غير بقية المسلمين، وكذلك آل البيت، والهاشمي غير كل قرشي، والمرأة غير الرجل، فكان نصيب كل منهم حسب رتبته يختلف عن نصيب وحقوق الفئة الأخرى.
كان هناك إفراط في التراتبية الطبقية في وضع الناس رتبا ومنازل وطبقات وبيوتا، ومن ثم لا يصح الحديث عن أسنان المشط سوى بحسبانها لونا من الكلام الجميل الذي لم يجد طريقه إلى الواقع ولو مرة واحدة، ودون مساواة لا مجال للحديث عن حقوق إنسان. لقد كانت دولة الخلافة دولة من لهم كل الحقوق يحكمون من عليهم كل الواجبات!
وهل من حقوق الإنسان ومن معاني الحرية الاتجار بالبشر واستعبادهم في الحروب، وركوب نساء المهزوم وهتك عرض غير المسلم، وترى هل يتعبد أبو الفتوح وإخوانه لربهم بمثل هذه المبادئ؟
المهم يختمها عبد المنعم أبو الفتوح بشرح مطول لقول حسن البنا: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم»، ويظل يشرح ويفصل كما لو كان بصدد شرح نص قدسي، حتى تكاد تفهم أن أرضنا اليوم ليس فيها دولة، وأن على الجميع تهيئة هذه الأرض لقيام الدولة.
إذا لم يكن القول: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم» أية قرآنية ولم يكن حديثا نبويا، فكيف جاز لأبي الفتوح أن يبني عليه كل شروحه تهيئة لدولته المنتظرة التي يصفها بأنها إسلامية؟ فإذا كانت إسلامية وكانت دولة فلماذا لم يقلها الله ولا نبيه ولا حتى أحد من صحابته ولا تابعيه ولا تابعي تابعيه.
أم ذلك كان سهوا من القرآن والحديث وجاء الإخوان ليتداركوه، وهل احتاج هذا التدارك إلى مرور أربعة عشر قرنا وثلث القرن؟ أم هو دين جديد؟ لو كانت «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم» من الإسلام لقالها الرسول، ولو كان الإسلام مشغولا بدولة لقالها القرآن، أو أن نفترض أن أبا الفتوح والإخوان بيعرفوا إسلام أحسن من ربنا والنبي.
إن النبي لو قال هذه العبارة لانفض المولد من زمان، كل المسلمين كانوا سيطيعون ويسمعون الكلام. لا كان ظهر لنا طه حسين ولا الشيخ علي عبد الرازق؛ لأنه لن يكون هناك فصال في المسألة بعد تقريرها دينا.
ولا يوهمنك قول أحدهم إن موضوع الدولة ونظام الحكم والحريات والمساواة وحقوق الإنسان كانت متضمنة في الآيات أو السنة؛ لأنها ليست مسائل بسيطة أو هينة يشار إليها بالتورية الضمنية، فهذا مصير شعوب وأمم ودول وأوطان، لا بد أن يكون الحديث بشأنه واضحا قاطعا لا يحمل أي التباس أو كناية أو استعارة.
وإذا كان الإسلام قد اهتم بنظافة المسلم حتى أنه علمه الاستنجاء وعد لذلك ثلاثة أحجار ذات صفات ثلاث فيجب أن تكون قالعة نظيفة طاهرة، إذن لقال إن عدد أعضاء مجلس الشعب كذا، لو كان ذلك ضمن اهتماماته كدين، أم أن الدولة ونظام الحكم والسياسة أقل أهمية من طريقة تنظيف المؤخرة بعد التغوط؟
إنهم يقيمون لنا دينا جديدا ومقدسا جديدا، الفاتحة فيه: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم»، وقصار السور فيه: «الإسلام هو الحل»، ويريدون أن يحكموا بالقرآن والسنة بينما القرآن والسنة ليس فيهما شيء عن الحكم والحكومات؛ لذلك يضيفون إلى القرآن والسنة ملحقا هو «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم.» أليس ذلك الفعل مثله مثل فعل مسيلمة الكذاب سيئ الذكر؟ أم تراهم مسيخ آخر الزمان الدجال؟
إن دولتنا موجودة منذ عشرة آلاف عام وهم يريدون إقامتها اليوم، يريدون إضافة القطع والرجم، رغم أنهم لم يقطعوا يد واحد إخوانجي حتى اليوم؟ أليس بينكم لص واحد تفعلون فيه الشريعة يا أبا الفتوح لتثبتوا للناس صدقكم مع أنفسكم أولا؟ وماذا عن شركات توظيف الأموال وماذا عن غسل الأموال القذرة؟ أم تريدون تطبيق الشرع علينا دونكم؟
إن إخواننا الإخوان كذابون شر الكذب، يتكلمون عن الشرف ولا يتراجعون عن هتك عرض العدو، يتكلمون عن الحرية ولا يتراجعون عن فقه العبودية، يتكلمون عن التسامح ويسمون غيرهم كفارا وأوطانهم ديار حرب، يتحدثون عن حقوق الإنسان ويبيحون العدوان على الغير وسلبه وأسره لمن استطاع إليه سبيلا، يتكلمون عن اقتصاد إسلامي غير ربوي ويبيحون الاستيلاء على كل ما يملك المهزوم فلا يبقى لديه مال حتى يرابي به، اقتصاد خراجي، أي اقتصاد خرابي، فاقتصاد بدون بنوك تعمل وفق الماكينة الدولية للاقتصاد العالمي هو خراب عاجل.
هذا ما يعرضه علينا الإخوان أن نعود عبيدا في دولة خلافة خراجية، مجتمعها رتب ومنازل وطوائف وملل ونحل وطبقات لا يحكمهم حق واحد؛ لأن الحق عندهم هم ليس واحدا، رغم إعلانهم الدائم الدائب أن الحق واحد.
ألا ترون مدى كذبهم في قولهم بحق واحد، مع تعددية في الحقوق لا تأتلف ولا تلتقي أبدا؟
الفصل الثامن
مستقبل الدولة الدينية: هل في الإسلام دولة ونظام
حكم؟
(1) تأسيس جدلي
يبدو أن الإجابة عن السؤال عنوان هذه الورقة، أمر محسوم بالإيجاب من قبل كل المشتغلين بالشأن الديني الإسلامي، ويلخص الدكتور يوسف القرضاوي - الملقب بالفقيه المعتدل - الموقف بقوله: «إن إقامة الدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله وتجمع المسلمين على الإسلام وتوحدهم تحت رايته، فريضة على الأمة الإسلامية يجب أن نسعى إليها، وعلى الدعاة إلى الإسلام أن يعملوا بكل ما يستطيعون للوصول إليها، وأن يهيئوا الرأي العام المحلي والعالمي لتقبل فكرتهم وقيام دولتهم» (الصحوة الإسلامية بين التطرف والجحود، ص222، 223).
وعليه فإذا كانت إقامة الدولة المسلمة فريضة لتحكم بشرع الله، فلا شك أن هذا الشرع قد وضع لهذه الدولة الأصول والضوابط الكاملة التامة الجامعة المانعة نظرا لمصدرها الإلهي، وأنه قد وضع لها نظام الحكم وطرق تبادل السلطة مع شرح وبيان وتفصيل لدستور الدولة ومؤسساتها وعوامل نهضتها وقوتها. ولكن إذا لم نجد أي إشارات من أي نوع أو لون لهذه الدولة المطلوبة في إسلامنا، وهو ما نزعمه ونضع له البينات تلو الأخرى عبر سلسلة موضوعات تناولت فكرة الدولة الإسلامية، وهو ما سنضيف إليه جديدا هنا يؤكد أن الله لم يبين للمسلمين ولم يطالبهم بإقامة دولة إسلامية. ومع ذلك يجعلها مشايخ الصحوة الإسلامية فريضة إلهية، بما يعني أنها تكليف ديني للعباد من رب العباد لإقامة دولته الإلهية على الأرض، وهو ما سيدفع السؤال للبروز: كيف يكلفنا الله بما لم يبينه لنا؟ فإذا لم يبين الله لنا ضرورة إقامة دولته وشكلها أملكي أم جمهوري أم أي آخر، فإن دعوة الشيخ قرضاوي وزملائه من إخوان مسلمين وأزاهرة ودعاة وفقهاء، تكون افتئاتا على دين المسلمين وكذبا عليهم وافتراء على قرآنهم وسنتهم، من أجل الاستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد مع استخدام الدين انتهازيا ونفعيا، وهو لون من التبخيس والازدراء للدين، حتى يظهر غير قادر أن يدفع عن نفسه استخدام كل من يريد، من أجل ما يريد من مصالح ومنافع دنيوية بحتة.
والغريب أن السادة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يجمعون بين ما لا يأتلف ولا يجتمع؛ فالدولة لا تقوم إلا في وطن، أرض ذات حدود ثابتة واضحة ومجتمع يعيش على هذه الأرض بالتحديد، اللغز يلتبس عندهم عندما تجدهم يريدون دولة ورغم ذلك يعتبرون فكرة الوطن فكرة أوروبية استعمارية مستوردة، ويسخر الشيخ قرضاوي هو نفسه منها ويسميها رابطة التراب والطين التي لا تعلو على رابطة الدين العظيم، بل يزعم «أن الإنسان يضحي بنفسه من أجل دينه، ويضحي بوطنه من أجل دينه؛ فالدين مقدم على الإنسان» (حلقة الظاهريون الجدد، الجزيرة). وحل اللغز يكمن في فكرة التمكين، وهي الفكرة القائلة بأنه يوم يتم تمكين المسلمين من إقامة دولة إسلامية في أي مكان، فسوف يكون تمكينا كتمكين المهاجرين من سيادة يثرب، ومنها تنطلق عزمات المسلمين لاحتلال الأرض كلها كي تدين بالإسلام؛ لذلك لا حدود وطنية للدولة المسلمة، فأرضها هي العالم كله، عالم بلا حدود، ومن هنا ساغ للشيخ أن يقول ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتقدم فيه العصبية الوطنية على الأخوة الإسلامية حتى يقول:
المسلم وطني قبل ديني ... وأن دار الإسلام ليس لها رقعة محددة. (كتابه ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، مكتبة وهبة، 2001م، ص24، 57، 80، 86)؛ لذلك كان الشيخ شديد الصراحة فيما يتعلق بمفهوم المواطنة، إذ يقول: «في واقع مصر والعالم العربي» شجع المستعمرون النعرة الوطنية هادفين إلى أن يحل الوطن محل الدين، وأن يكون الولاء للوطن لا لله، وأن يقسم الناس بالوطن لا بالله، أن يموتوا في سبيل الوطن لا في سبيل الله. (كتابه الإخوان المسلمون، مكتبة وهبة، 1999م، ص19، 20.)
يعود السؤال ليطرح نفسه: كيف يكلفنا الله إقامة دولة دون أن يشير إلى ذلك لا في القرآن ولا في الحديث النبوي ؟ إن الصحوة الإسلامية بدعوتها لإقامة دولة تعني حربا عالمية على الجميع؛ لأنه إذا ما صدقنا أن الإسلام دين ودولة، وأن الإسلام دين عالمي، فستكون النتيجة أن العالم كله هو دولة الإسلام . وهو مأزق شديد الصعوبة يضع جميع المسلمين في حالة خروج وعصيان جماعي على الشريعة الدولية، ويزيد من ضعف شأنهم وتخلفهم نتيجة عدائهم وخصامهم وكراهيتهم للنظام الغربي بمنجزه العلمي والحضاري كله.
هنا نسأل سؤالا عمليا هو: كيف لنا أن نوجه خطابا ليبراليا يحترم الإسلام ويقف على أرضه وينافح عنه، يقوم بمصالحته مع الحداثة بإعادة قراءته قراءة علمية محايدة مدققة؟ وكيف نكتسب القارئ المسلم العادي (فما فوق) للاستماع إلى ما نطرحه عليه والاستمرار في هذا الاستماع، بل وربما السعي وراءه.
إن فكرة المؤامرة التي تسيطر على العقل العربي والمسلم تجعل الفرد غير قادر على تجاوز حاله الراهن؛ لأنها لا تجعله يرى ما بيد الآخرين من وسائل التقدم والرقي، لأنهم أعداء (وعادة ما تكرس هنا وتعاد حكاية الاستعمار الحديث وأمريكا وإسرائيل)، وللاعتقاد بأن ما بيدنا في إسلامنا فيه كفاية وغنى عن رؤية أي مختلف أو جديد؛ لأن مصدره الإلهي يضمن كماله التام.
تحت هذه المظلة كيف يمكن أن نوجه خطابا عقلانيا للمسلم، ونموذجنا في هذه الورقة هو «فريضة إقامة دولة إسلامية»؟ كيف يمكن دحض هذه الفكرة؟
هنا علينا تذكير المسلم أن قريشا قد عرضت على النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
في بداية دعوته أن يكون ملكا عليها، فرفض صيغة الملك كوسيلة للسلطة، وأصر على أنه نبي رسول وعبد من عباد الله مكلف بإبلاغ أمر الدين ليس أكثر، جاء يبلغ الناس دين الله حسبما أمره ربه، بل ورأى في الملك صورة سلبية من صور السلطة فقالت الآيات القرآنية:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة .
الملحوظة الأهم هي أنه لو كان محمد
صلى الله عليه وسلم
يرى في نفسه ملكا مقيما لدولة لاستخلف بعده من يقوم بالرئاسة لهذه الدولة، وهو ما لم يفعل، لقد بلغ المطلوب منه تبليغه؛ رسالة الدين، وعدا ذلك لم يشغله لأنه ليس من الدين في شيء.
الملحوظات الأكثر أهمية أن خلفاء النبي المباشرين في القيادة والزعامة والمعروفين في تاريخنا باسم الخلفاء الراشدين، حكموا بضميرهم الشخصي وباعتبارهم كانوا صحابة النبي الأقربين، مع علمهم أنهم لا يحكمون في دولة ووطن له حدود واضحة وأرض ذات صفات بيئية بعينها. كانوا يعلمون أنهم زعماء قبيلة يحكمون باسم السلطة والقوة والانتصار العسكري، وأنهم قد ورثوا تلك الزعامة القبلية على بقية القبائل عن النبي المؤسس. كانت شكلا بدائيا لدولة تولد ولم تكتمل ملامحها، ولا شكلها، ولا نظامها، ولا دستورها، ولا مؤسساتها، ولا قانونها وسبل تفعيله، ولا فلسفتها الأخلاقية والسياسية ولا أجهزتها الرقابية والمحاسبية. ولم تكتمل تلك الدولة من يومها حتى اليوم؛ لأنها ولدت في مجتمع مشرذم قبلي بدوي لا يجمعه وطن لأنه متحرك أبدا، وفي مجتمع كهذا تكون الدولة بما تعنيه لنا اليوم شيئا غير مفهوم لهم بالمرة. كانت المسألة هي حسبما ورد في معجم العربية «السيادة والتمكين والرئاسة والأمر والسلطة»، وهي كلها مصطلحات عرفها العرب ولكن بعيدا عن مفهوم نظام الحكم في دولة.
لذلك تولى كل من الخلفاء الراشدين الحكم بطريقة تختلف عن الآخر، وأدار كل منهم شئون الرعية بطريقة تختلف بالكلية عن الآخر؛ فالحقوق في عهد الخليفة أبي بكر غيرها في عهد عمر، غيرها عند عثمان، غيرها عند علي، رضي الله عنهم، فبينما ساوى أبو بكر في العطاء ومات مسموما في روايات، فقد فرق عمر هذا العطاء تناسبا مع منازل الناس ومكانتهم ومات مقتولا، وبينما امتنع كلاهما عن الاستفادة الشخصية الباذخة من بيت المال فإن عثمان سمح لنفسه بذلك ومات ذبيحا بيد الصحابة، وقد تولى أبو بكر الحكم استنادا لتكليفه بإمامة الصلاة في مرض النبي الأخير، وتولى عمر بطريقة جديدة فقد استخلفه أبو بكر، وتولى عثمان بطريقة ثالثة عبر ترشيحه ضمن ستة اختارهم عمر عند موته ليختاروا واحدا من بينهم، وبينما بايع بعض المسلمين الإمام علي امتنع آخرون عن بيعته وحاربوه حتى سقطت خلافته بمقتله.
وكلنا يعلم أن الإسلام عندما كان يهتم بشأن لا يتركه إلا مفصلا واضحا أبيض شديد الدقة والتدقيق؛ فالصلاة، وعددها في اليوم، ومواعيدها، وعدد ركعاتها، وسجداتها، وماذا يقال فيها، قبل وبعد، والتهيؤ للصلاة بالنظافة من الوضوء وإسباغه وطرقه وغسل اليدين للمرفقين والرجلين للكعبين، وقبل الوضوء الاستنجاء أي دخول الغائط والتنظيف بأحجار لها مواصفات وعددها ثلاثة، كل هذه التفاصيل في شأن تعبدي واحد فما لنا لا نجد عن الحكم والدولة شيئا يذكر البتة؟! لماذا لم يشرح الله لعرب الجزيرة شأن الدولة بدقة، وهو عالم أنهم جهلاء وأن نبيهم أمي؟ لماذا لم يبين سبل تبادل السلطة؟ ولماذا لم يرسل لهم دستورها وكيف تتشكل الحكومة، وأجهزتها الرقابية والقضائية، ودرجات المحاكم، وشكل اقتصادها أحر أم موجه أم مزيج من الاثنين؟ إن السماء لا تعبث فهي عندما تكلفنا شأنا فهي تبين كل جوانبه كما في التكليف بالصلاة، ومع ذلك يقول مشايخنا إن إقامة الدولة الإسلامية فريضة تكليفية بينما لا نجد في القرآن أو السنة أي فلسفة للدولة، ونظم الحكم، والمراقبة، والمحاسبة الحكومية، والشعبية، ودستورها، وقيم هذا الدستور ... إلخ.
وقول دعاة الدولة الإسلامية إن دولة النبي كانت دولة بالمعنى الكامل الذي نفهمه منها اليوم، وكان دستورها هو القرآن الكريم، هو قول يفتقر إلى الدقة، بل إلى الصواب بالمطلق؛ لأن للدستور شأنا يختلف عن القرآن، فمعظم نصوص الوحي ظنية الدلالة كما قرر الأصوليون وجمهور الفقهاء، وهي الإشكالية التي حاول الجويني ثم الشاطبي حلها بالركون إلى المقاصد الكلية للشريعة بدلا من الوقوف عند حرفية النص القرآني. ويقول الشيخ جلال الدين السيوطي: «وقال بعض العلماء إن لكل آية ستين ألف فهم.» فإذا كان النبي في زمنه موجودا ويستطيع أن يحيل إلى الفهم الصحيح من بين الستين ألف فهم، فمن يستطيع اليوم أن يحل محله عندما نجعل القرآن دستور دولتنا؟
هذا ناهيك عن كون نصف آيات القرآن الكريم منسوخا ونصفها ناسخا، وفيها المحكم والمتشابه، وهو كله أمر احتاج بالضرورة إلى وجود النبي بين الصحابة لعلاقته بالسماء التي كانت تتدخل لحل المشاكل المستجدة، أما شأن الدستور المدني والأهم هو قابليته للتطبيق دون اختلاف؛ لأن كلماته يجب أن تكون صارمة دقيقة واضحة لا تحتمل أكثر من دلالة وفهم واحد، وإذا تم إلغاء بند من بنوده يزال من الدستور ولا يبقى فيه منسوخا.
وتقفو الملحوظات المندهشة بعضها بعضا، فقبل الإسلام بقرون طويلة كان أفلاطون قد انتهى من كتابه «الجمهورية»، وانتهى أرسطو من وضع فلسفة السياسة وأحوالها، وقبل الإسلام بقرون طويلة طبقت أثينا نظام الدولة الديمقراطية المباشر، وطبقت روما ديمقراطية تقوم على حقوق المواطنين عبر مجلس الساناتو، ومواد الدستور وسيادة القانون، ولا شك أن المسلم يؤمن أن الله كان يعلم كل هذا، لكنه لم يحدثنا فيه ولا أشار إليه ولا اتخذ منه موقفا، مع ملاحظة أن الإسلام قارن بين الإسلام والأديان الأخرى، واتخذ منها موقفا سلبيا أو إيجابيا، لكنه لم يقل إن لديه دولة وإلا لقارنها بالدول الأخرى مبينا فضل دولته وتميزها عن غيرها، كما قارن بكثير من التفاصيل الواضحات القاطعات بين الأديان لبيان فضل الإسلام على غيره من أديان. ولو أراد لنا أن نقيم دولة إسلامية، وألا نستفيد من تجارب الشعوب الأخرى السياسية، لكان عليه أن يحذرنا من أفلاطون، وأن يندد بدستور روما، ويهجو سياسة أرسطو. ولكن كل ذلك لم يكن واردا لأن الإسلام كان دينا فقط. ونلحظ بشدة أن القرآن قد تحدث عن ذي القرنين الثابت لدينا أن المقصود به هو القائد اليوناني إسكندر بن فيليب المقدوني (انظر كتابنا الأسطورة والتراث)، ومعلوم أن الأخير كان تلميذ الفيلسوف أرسطو، ولم يتم التنديد بأرسطو وفلسفته ولا بربيبه ذي القرنين الذي تسنم ذروة عالية في الإسلام، حتى كاد يكون مثل موسى
صلى الله عليه وسلم
كليما لله. (2) الحاكمية كمؤسس شرعي لدولة دينية
ولدعم موقفهم يرفع أنصار إقامة الدولة الإسلامية مطلبهم تأسيسا على آية قرآنية وشعار إعلامي ترويجي، الآية هي ما يسمونه آية الحاكمية
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (المائدة: 44)، والشعار «الإسلام هو الحل». فكما أنجز الإسلام قديما ونصر الأراذل الأذلة الضعفاء القلة في بداية الدعوة، حتى جعل منهم ومن أخلافهم سادة لإمبراطورية كبرى؛ فإنه وحده هو الكفيل باستعادة هذه النصرة الإلهية، عن طريق عملية السحر التشاكلي حيث ينتج الشبيه شبيهه، فإن أطعنا الإسلام في أدق تفاصيله وعشنا كما عاش النبي والصحابة في طاعة كاملة للسماء، فإن ذلك سيكون كفيلا بإنتاج الشبيه لشبيهه، وسيتدخل الله لنصرة أمته التي أخلصت له الدين، وتعود الإمبراطورية والفتوحات من جديد. وعليه فحل كل مشاكلنا، وكل عمليات الإصلاح الممكنة لا يكون إلا من الإسلام وبالإسلام وهو في النهاية طريق ومنهج سحري ميكانيكي يطالب رب السماء بنصيبه من العقد بالتدخل المباشر بنفسه لإنقاذ خير أمة أخرجت للناس، ودون حلول يقدمها المسلمون لأنفسهم.
إن آية الحاكمية تبدو لنا مؤسسة لدكتاتورية تامة المعاني والمواصفات؛ لأن أصحاب الدولة الإسلامية هم مشايخها، وهم العارفون بما أنزل الله، وهم من يمكنهم تفسير كلام الله، وهم الفاهمون العارفون بشريعة الله، وهم أيضا من يعرف كيفية تطبيقها وحدودها وعقوباتها، باختصار هي دعوة تجعل من أصحابها المشرع والقاضي والجلاد في آن واحد.
ثم إن معنى الآية من لم يحكم بما أنزل الله كافر؛ فهو على الوجه الآخر يعني أن من يحكم بما لم ينزل الله فهو كافر، وإقامة دولة إسلامية لم تكن فيما أنزل الله، وستكون نظاما يقوم مخالفة تامة للآية، فآية الحاكمية ليست في مصلحة الفكر السلفي كأساس يقيمون عليه شرعية دولتهم المرتقبة.
والمفهوم من التكفير في الإسلام، أنه يكون في حالة عدم التزام المسلم بقاعدة تشريعية مدونة في كتاب الله، أو الخروج عليها. والله لم ينزل في كتابه أي نص بقاعدة تشريعية عن دولة الإسلام.
ورغم السيادة القيادية لقريش وإقامتها إمبراطورية عربية إسلامية من بعد، فإن الصحابة ظلوا يجرون التجارب، دون وجود مرجعية دينية لقيادة هذا الشاسع الذي فتحوه، ثم سلموا لهذه البلاد بنظمها الإدارية البيروقراطية التراتبية الهرمية وبدواوينها، كما كانت تدار من قبل لعشرات القرون، واستفادوا منها وأقاموا دواوين الإمبراطورية العربية. فإذا لم نجد في نصوص القرآن والسنة ما يفيد بإقامة دولة كهدف من أهداف دين الإسلام، فهل نجد ذلك في طريقة حكم الصحابة الخلفاء؟ وتفعيلا لحديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وهو أحد التعابير العربية التي يكتظ بها قاموسنا ولا معنى لها في واقعنا، هي أقرب إلى شعر الفخر والتمنيات أكثر مما كانت واقعا، فلم يحدث أن أجمع المسلمون على حكم أي صحابي ولو واحدا من الصحابة الذين حكموا، والصحابة أنفسهم لم يجمعوا على مدة الحكم، ولا كيفية الوصول إلى الحكم، ولا نظام الحكم، ولا مؤسسات المجتمع المدني التي لم تكن معروفة بإطلاق، ولا فصل سلطات، ولا مجلس شيوخ أو نواب، فهذا كله لم يكن معلوما لديهم.
وإذا كان الله يريد دولة على الأرض، واختار الإسلام والمسلمين لهذه المهمة، فهل عاش كل الناس والأنبياء السابقين في دولة الشيطان؟ وهل لم يعبدوا الله بصورة حسنة قبل الإسلام وقبل قيام إمبراطورية الإسلام وبعد سقوط هذه الإمبراطورية؟
الواضح في الآيات أن الله يقصد:
ومن لم يحكم بما أنزل الله
تحذيرا بأن الله أنزل شأنا وأن هناك من لم يحكموا بهذا الشأن، وليس في هذا الشأن دولة ولا نظام حكم؛ فالحكم المقصود في الآية هنا هو الحكم بمعنى القضاء والتقاضي بين الناس بموجب قانون شرعي سماوي، وليس الحكم بما نفهمه من الرئاسة والقيادة والزعامة. ولم يعرف اللسان العربي من الحكم ما نفهمه منه اليوم؛ لذلك الحكمة هي الحكم وفق الفانون وليست الملكية أو الرئاسة. وإذا كان دعاة الدولة الإسلامية يرون أن هذا الذي أنزل الله هو نظام الدولة، وأن هناك من رفض العمل بهذا النظام لذلك نزلت الآية تحذر وتتوعد، فعليهم أن يأتونا بأسباب النزول من تراثنا الثري المكرر الممل لكثرة التكرار والتفصيل عن الواقعة، وكيف حدثت، ومن الذي حكم بما أنزل الله ومن هذا الذي لم يحكم بما أنزل الله؟ عليهم أن يبينوا لنا من هؤلاء الذين رفضوا دولة الإسلام زمن النبي، وماذا كان موقف النبي منهم، وما هو البديل الذي كانوا يطرحونه ... إلخ.
إن التاريخ ناصع واضح ليس فيه دولة إسلامية، ولم يكن هناك من يقاوم قيامها، فآية الحاكمية ليس لها بنظام الحكم السياسي أي علاقة، وقد أكد إله الإسلام وجوب الابتعاد عن الدولة الدينية بقوله:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ؛ لأنه لم ينزل الدولة ومن يطلبها حسب هذا الفهم هو من بين هؤلاء الذين وصفتهم الآيات ب
أولئك هم الكافرون (النساء: 151).
وإذا كان النبي قد سبق وعرف وعلم ما يعلمه المتأسلمون اليوم عن آية الحاكمية، فلماذا لم يعرض الرسول نظام دولته الجديدة على الناس كما عرض عليهم دينه الجديد؟ أم كانت دولة الإسلام موجودة دون علم الرسول؟! (3) الإسلام وطرق الحكم
في الحفل الإعلامي الدعوي الدائم، المقام للصحوة الإسلامية منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى اليوم، تجد الإصرار على تهيئة العقل المسلم لقبول فكرة شديدة البطلان، مفادها أن الإسلام قد احتوى كل ما وصلت إليه الحداثة من مبادئ، وقيم، وحقوق إنسانية، وعقد اجتماعي، وأنظمة سياسية ديمقراطية، وحرية فردانية مقدسة ... إلخ.
فإذا كان المسلمون يملكون كل تلك الأدوات الحاكمة بين الشعب والحاكم في مؤسسات دولة، بما أدى إلى إرادة شعبية واعية أصبحت هي الحاكم الحقيقي عبر انتخابات حرة، فلماذا نحن في قاع الأمم، بينما شعوب الغرب الكافر قد صنعوا جنتهم في بلادهم وعلى أرضهم. إنها ذات قصة العلم والإيمان أن نعيش وهمنا الخاص لنؤكد لأنفسنا أن كل قيم التحضر كانت موجودة لدينا لكننا لم نعرفها حتى اكتشفها لنا الغرب الكافر الملعون.
إن معظم هذه المفاهيم عن عقد اجتماعي وحريات وحقوق إنسان ديمقراطية علمانية، هي بنت زماننا، ولم يعرفها الإسلام لأنها لم تكن قد وجدت في القاموس الإنساني بعد، ومن يقول بغير ذلك؛ فهو كمن يقول إن الصحابة والفقهاء عرفوا قيم العدل والتفوق والتحضر ولم يعملوا بها، وتركوا المسلمين تحت الاستبداد الخليفي والإمامي، وهي بهذا المعني جريمة تاريخية لا تغتفر ولا تليق بالصحابة ولا الفقهاء.
لنأخذ واحدا فقط من هذه المفاهيم «مفهوم العدل»، الذي يجمع عليه دعاة الدولة الإسلامية كقاسم قيمي مشترك لجميع التيارات، فلا أحد سيختلف على العدل كقيمة حقوقية واجتماعية واقتصادية وسياسية؛ فهي قيمة القيم جميعا وأسها المشترك. المشكلة تواجهنا عندما نبدأ التعامل مع مفهوم العدل بتغير المكان والزمان، وفي زمان مختلف عن زماننا، وفي مكان مختلف عن مكاننا، عاش أعدل حكام زمنه في الحجاز الخليفة عمر بن الخطاب، حتى صيغت حول عدله الأقاصيص والأشعار الشهيرة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر، وهو من تحولت بعض أقواله قرآنا نزل به الوحي مؤيدا لما رأى عمر، حتى روى الترمذي عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر»، وأجمعت الروايات أنه كان صليبا في دين الله لا تأخذه في الله لومة لائم.
كان من عدل عمر في زمانه أنه كان يوزع الأموال التي انهمرت على يثرب من البلاد المفتوحة، حتى لا يبقى في بيت المال درهم يحاسبه الله عليه ماذا فعل به؟ وكان أخشى الناس - فيما كان يردد - من مكر الله. فكثر المال ونزح الخيرات الضنينة الموجودة في الجزيرة دون إنتاج مواز، فدخلت أعوام المجاعة المعروفة بالرمادة؛ لأن الخليفة كان معياره وهمه الأساسي هو اتقاء مكر الله، وأن يضمن لنفسه النجاة يوم البعث والحساب؛ لأنه لم يكن رجل سياسة واقتصاد، فوقعت كارثة الرمادة رغم انهمار أموال الفتوحات.
صام الخليفة العادل عن أطايب الطعام وأكل الشعير الملتوت بالزيت حتى اسود جلده، مشاركا رعيته في مصابهم الجلل؛ ومن ثم أرسل لعمرو بن العاص يستغيث، فأرسل إليه بقافلة طعام وسوائم نفق معظمها في الطريق، فاستشار ابن العاص المقربين منه من المصريين عن أسلم وأسرع السبل لوصول المئونة إلى يثرب، فأشاروا عليه بإعادة حفر قناة سيزوستريس التي تربط النيل بالبحر الأحمر، لكن ذلك كان يعني بوار أرض مصر عدة أعوام، نتيجة انشغال اليد العاملة في سخرة القناة، فرد عليه الخليفة عمر: «اعمل فيها وعجل، أخرب الله مصر في عمار مدينة رسول الله» (الطبري، وعلى اتفاق بين رواة السير والأخبار، كتاب التاريخ، بيروت، مجلد 2، ص509).
وهكذا كانت منظومة ومنطق ذلك الزمان أنه على المهزوم أن يدفع ثمن هزيمته الدائم، وأن عمر كان لا يرى المصريين ضمن رعاياه؛ لأن رعاياه هم العرب المسلمون وحدهم؛ لذلك شاركهم في مصابهم، وطلب لهم الغوث ولو بخراب مصر.
وعمر هو صاحب عهد الذمة المشهور الذي تعامل مع غير المسلمين في البلاد المفتوحة بحسبانهم عبيدا أنجاسا مناكيد، يجب أن يعلنوا عن أنفسهم بلبس ما يغاير المسلمين حتى يعرفوا فلا يسلم عليهم ولا يتاجرون مع المسلمين، قال مالك بن أنس: «بلغني أن عمر بن الخطاب كتب إلى البلدان ينهاهم أن يكون النصارى واليهود في أسواقهم وأن يقاموا من الأسواق كلها»؛ ومن ثم لم ير في هؤلاء رعية له، بل كانوا مجرد أشياء نافعة كالسوائم، فهم مجلب ومصدر للفيء والجزية مع تحملهم المذلة والهوان طالما ظلوا غير مسلمين. وهو شأن غير شأننا اليوم؛ لأن في بلادنا مواطنين غير مسلمين لا نستطيع أن نسلبهم حق المواطنة، أو أن نعاملهم كدرجة أدنى في سلم البشرية.
وعلى مستوى جزيرة العرب حيث رعية الخليفة، فإن الخليفة إيغالا منه في خلوص ضميره، قام يقسم الفيوء الواردة من البلاد المفتوحة على عرب الجزيرة حسب منازل الناس في الدعوة، ففرض لمن حضر بدرا خمسة آلاف؛ لأنهم كانوا وقود النصر البدري ومفصل تحول محوري من ضعف إلى قوة، حتى إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال بشأنهم: «إن الله قد غفر لأهل بدر ما تقدم من ذنب وما تأخر.» وفرض لمن بعد بدر حتى الحديبية أربعة آلاف، ثم من الحديبية إلى نهاية حروب الردة البكرية ثلاثة آلاف، ثم لأهل القادسية والشام ألفين، وحتى اليرموك ألفا، وأدخل مع أهل بدر من ليس منهم، مثل الحسن والحسين وأبي ذر وسلمان، بل وفرض للعباس عم النبي متألفا الهاشميين، وكان العباس كافرا حتى فتح مكة، خمسة وعشرين ألفا، وأعطى كلا من نساء النبي من الفيوء عشرة آلاف عدا مماليك النبي من ملكات اليمين مثل ريحانة بنت عمرو بن خنافة. فتحزبت نساء النبي وطلبن المساواة بينهن في العطاء الحرة كالأمة، ففعل ثم زاد عائشة بألفين ردتهما عليه. وهكذا في سبيل خلوص ضمير عمر قسم الناس رتبا ومنازل بين المسلمين فلم يعودوا رعية، وانعدمت المساواة بالمرة، وهذا كله كان مقبولا في زمنه لأنه كان يحكم بضميره الشخصي كصاحب ومستشار للنبي عندما كان حيا. وما عاد ممكنا أن يتم حكمنا اليوم بهذه الطريقة الإسلامية؛ لأن المساواة بين المواطنين هي الأس الأول لقيام دولة حديثة ديمقراطية. حتى لو وافقنا على كل ما يفصلها عن زماننا من اختلاف في معنى القيم، وسلمنا بهذه القيم القديمة فإننا سنكون في هذه الحال بحاجة لعمر أو للنبي ليحكمنا لنسلم له رقابنا ونحن مطمئنون إلى عدله، وليس إلى القيمة نفسها، وليس بيننا اليوم من يمكنه أن يزعم هذا الزعم ويركب هذا المرتقى الصعب.
لهذا كله ومثله كثير في تراثنا نحن لا نصدق أصحاب الدولة الدينية ولا في شعيرة، ولا حتى في جناح بعوضة؛ لأنهم إنما يريدوننا ميراثا ورثوه عن سادتنا العرب الفاتحين، ولا نصدق إشاعتهم عدم شرعية الحكومات الإسلامية القائمة لعدم تطبيقها الشريعة، حتى يكون أهل الدين هم البديل الشرعي المرضي عنه من السماء. بينما الشريعة لا تطبق؛ لأنها أصبحت غير قابلة للتطبيق، فلم يعد العالم كله اليوم يسمح لأي دولة بالعقوبات البدنية، وعلى السعودية هذه الأيام ضغوط هائلة بهذا الشأن، تسجل فيها تراجعات يومية، ولا عاد يسمح بقتل من يختار دينا مختلفا، ولا عاد يقبل سبي الجواري وركوبهن في الحروب، ولا عاد يسمح بنظام الرق الذي كرسنا له فقها كاملا مطولا يقوم على ثلاث وعشرين آية قرآنية، فلا وجود اليوم لأمة أطؤها ولا أم ولد أعاشرها، وهي من لزوم ما يلزم الشريعة الإسلامية، هذا ناهيك عن كون الشريعة الإسلامية كما نعرفها اليوم قد وضعها بشر مثلنا لم يأتهم الوحي، وهي بهذا المعنى وضعية كأي قوانين وضعية لا تأخذ شكل الإلزام المقدس.
من العلمي أن ندقق هنا ونقول إن المسلمين قد عرفوا شكلا للحكم يقوم على توحد كونفدرالي للقبائل تحت سلطان قبيلة قائدة، لكن هذا النظام لم يتحول إلى معنى الدولة إلا بعد استيلاء العرب الفاتحين على دول قائمة ذات حضارات وأنظمة سياسية ممتدة في عمق التاريخ ، وعلقوا عليها يافطة الإسلام. أما قبل ذلك وفي جزيرة العرب، فإن شكل نظام الحكم وتداول السلطة كان بدائيا بدائية مكانه وزمانه. كان في زمانه ومكانه مشغولا بالحفاظ على ما تم تحقيقه من توحيد القبائل تحت سيادة قريش، وظل محافظا على هذا الشكل فلم يكن للدولة الإسلامية من فجرها جيش مؤسس متخصص على سبيل المثال، إنما كان النبي يدعو القبائل إلى الخروج للحروب، ولكل منها رأيتها المميزة لها، وعليها أن تأتي أيضا بأدوات الحرب من خيل أو دروع أو سيوف أو رماح معها، ويتم تقسيم الغنائم على العسكر المحاربين دون القاعدين، فهذا مجتمع بدوي بدائي عصابي التشكيل والمنهج «يقوم على العصبية أساسا». وليس هذا قدحا فيه بل وصفا لحاله وظرف زمانه ومكانه، فهذا أقصى ما كان يمكن الوصول إليه من توحيد لشراذم القبائل البدوية التي تكاد تكون كل منها دولة بمفردها، وكان مثل هذا التوحيد لقبائل العرب هدفا أعلى للإسلام، وعندما تحقق الهدف أعلن الله أنه قد اختتم المشروع الإسلامي بقوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ؛ وهو ما يعني اكتمال النعمة الإلهية بتوحد العرب تحت راية الدين الإسلامي، وليس أبعد من هذا. وبعدها ظل هاجس التفكك القبلي هو القائم والدائم، والذي أطلق عليه الفقهاء «الفتن والملاحم». كان هذا المجتمع يخشى أي تفكك يؤدي إلى فتن انفصالية، فخروج الفرد يعني خروج قبيلته معه، فيخرج مسيلمة لتخرج معه كل اليمامة، ويخرج الأسود العنسي لتخرج معه كل اليمن؛ وهكذا، وتاريخ العرب هو تاريخ تناطح سيادات القبائل وكبريائها فيما أسموه «أيام العرب»، وهي مذابح كانوا يفتكون فيها بعضهم ببعض لأتفه الأسباب، ويفخرون ب «أيامها»، مع العلم الوحيد عندهم وهو علم الأنساب، والذي يعني «علم عدم المساواة». كانت فتنة التفرق القبلي بحكم سلطان البيئة الصحراوية، دافعا للعمل بنظام ديكتاتوري صارم على مستوى السلطة والحكم، بل ودعم هذا النظام ليكون أقوى من كل القبائل، ويمكن أن يشن عليها الحروب لإخضاعها، ومن الفتن الصغرى إلى الفتن الكبرى، عانى التاريخ العربي الطغيان الشرقي الخليفي نتيجة نشأته وتكوينه البدوي.
في أيامنا نتحدث عن نظام ديمقراطي فيه أحزاب أكثرية وأقلية، حاكمة ومعارضة، وعن رئيس يتم اختياره من بين عدة مرشحين وفق أصول وضوابط دستورية، بينما في أيامهم قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا واحدا منهما» (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء).
هنا لا شيء اسمه أحزاب، ولا شيء اسمه معارضة، هناك حاكم واحد بيده كل السلطات لمنع الفتنة وانقسام المجتمع إلى قبائله الأولى. وتتداعى الأحاديث تدعم وتؤيد الأمير حتى لو فسق وفجر وظلم، «فاسمع للأمير حتى لو ضرب ظهرك وأخذ مالك» (حديث صحيح)، وعن عبد الله بن عمر: «إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرا، فعليه الوزر وعليك الصبر، فهذا امتحان من الله يبتلي به من يشاء من عباده، فعليكم أن تتقبلوا امتحان الله بالصبر والأناة لا بالثورة والغيظ.» وقال وهب بن منبه إن الله أنزل على نبيه داود: «إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.»
وفي تلك البيئة البدوية البدائية في شاسع جغرافي لا يتوحد إلا بقوة قاهرة، كانت فلسفة السياسة ترى ظلم السلطة للمواطنين عقوبة ربانية تأديبية، انظر الحديث الداعي المبتهل: «اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.» وعليه لا يعود الظلم ظلما؛ لأن الملك أو الخليفة أو الرئيس وفق هذا الحديث هو مندوب السماء لتأديبنا، وهو مفهوم شديد الابتدائية يبرر الظلم ويبرئ ذمة السفاح ويدين القتيل، وهو إن صلح لبيئته فهو لا يصلح لبيئات وأزمنة أخرى.
أما سبل الوصول إلى السلطة، فقد بينتها كتب تشرح مدى أهمية وجوب الإمامة والطرق إليها، يقول فصل في وجوب الإمامة وبيان طرقها من كتاب الإمامة وقتال البغاة، من كتاب روضة الطالبين فصل الطريق الثالث لتنصيب الإمام: «فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة، من جمع شرائطها، من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشركته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شأن المسلمين. فإن لم يكن جامعا للشرائط، بأن كان فاسقا أو جاهلا، فوجهان: أصحهما انعقاد الخلافة لما ذكرنا، وإن كان عاصيا بفعله.»
هذه المرجعية السياسية كانت زمنها في بيئتها ضرورة لا سبيل دونها لاستمرار تماسك هذا التوحد القبلي الكونفدرالي، وما زالت هي المرجعية الإسلامية التي يريدها دعاة الدولة الإسلامية، مرجعية لدولة يؤكدون أنها ديمقراطية! فكيف يلتقيان؟
كانت الخلافة طوال عصورها هي الاستبداد عينه، والطغيان ذاته، وانعقاد البيعة كان يتم بالاستيلاء أولا على السلطة، ثم سوق الناس لبيعة السلطان الجديد بالزواجير، وعندما امتنع آل بيت النبي من الهاشميين عن مبايعة أبي بكر، أرسل إليهم عمر بن الخطاب ومعه نار يريد أن يحرق بيت فاطمة بنت النبي على المجتمعين داخله، وكان أمر أبي بكر لعمر «إن أبوا فقاتلهم.» لا معنى هنا إذن لكلمة معارضة كما نفهمها اليوم، ولا علاقة لهذه البيعة بنظام دولة ديمقراطي أو غير ديمقراطي، كانت نظاما خاصا جدا، وكانت البيعة عبارة عن إعلان إذعان شعبي للحاكم الجديد؛ لأن الإمبراطورية الإسلامية قامت على مبدأ عنصري طائفي لا يعترف بأي تعددية وهو أم لا علاقة له بالدين في حد ذاته، وبالتأكيد لو تعددت سلطات الطوائف لتفكك المجتمع وتحارب، هكذا منطق التاريخ القاهر الصانع لما يلائم الزمن والمكان، وهو ما حدث في العراق عندما جعلت كل ملة وكل مذهب من رؤيتها دينا صحيحا تحارب به الدين الباطل، والباطل هو أي دين أو مذهب آخر حتى داخل الإسلام نفسه. فكانت مجازر لا تزال قائمة، ندعو لها بألطاف الله حتى ينزلوا الطائفة والدين من على سلم القيم الأولى، وأن يضعوا الوطن قبل الدين على سلم القيم الأساسية للمجتمع، حتى يتوقف نزف الدم المفجع المهين. إن التعددية في المبدأ الديمقراطي القائم على قيمة الوطن العليا التي لا تدانيها قيمة؛ لأنها التي تجعل المرجعية هي المواطنة والولاء لوطن يجمع الجميع على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم في مساواة تامة تخلق حرية فتخلق ديمقراطية، تعددية مسالمة منتجة تقوم على الترابط وفق عقد اجتماعي قانوني تتحدد فيه الحقوق والواجبات للجميع على السواء. هذه هي شروط قيام الدولة الديمقراطية، فأين هي مما رأيناه في الدولة الإسلامية المزعومة حسب شروطها الشرعية؟! (4) واقعنا بين الدولة الدينية والمدنية
في معظم عالمنا الإسلامي ديكتاتوريتان تتصارعان على استمرار الديكتاتورية وليس إقامة الديمقراطية: (1)
ديكتاتورية عسكر وأسر حاكمة ويمثلون الخليفة الإسلامي التاريخي، ويحاكون نظامه. (2)
ديكتاتورية دينية سواء حليفة للسلطة أو معارضة لها، ويمثلها الإمام أو الشيخ.
وكلاهما الحاكم أو الخليفة، والشيخ أو الإمام، في حالة صراعية حول من يأخذ أكثر من نصيب الآخر من الفريسة، لكنهما لا يختلفان مصيريا ولا منهجيا، إنه صراع الإمام والخليفة منذ فصل معاوية بين سلطة الحكم وإمامة الصلاة وعين للصلاة الجامعة شيخا إماما.
كلاهما لا يؤمن بمبدأ التداول السلمي للسلطة، كلاهما لا يؤمن بحرية الفكر والرأي والنقد، كلاهما يهدر كرامة المواطن بحرمانه من حقوقه كل بطريقته الخاصة، كل منهم يدعم نفسه بقوة جبارة: واحد بالقوة العسكرية وواحد بالدين وربنا، كل منهما يريد الانفراد بالفريسة ولا تشغله مصالحها. العسكريون يمتهنون كرامة المواطن بالسوط والمعتقل، والدينيون يمتهنون عقله، ويقمعونه بالتكفير والقتل وتضليل هذا العقل بالخرافات والأساطير وفتاوى بول الناقة وبول النبي ورضاع الكبير والحجامة والجن، الحكومات تقوم بمصادرة الكتب والصحف، ورجال الدين يصادرون بقدر أكبر، مفتي الحكومة يجرم فيلما، ومفتي الجماعة يكفر كتابا، الحكومات وأدعياء الدولة الدينية ضد حرية الاعتقاد، وضد الشيعة في المناطق السنية، وضد السنة في المناطق الشيعية، وضد الأقباط، وضد الأمازيغ، وضد الأكراد، وضد البهائية، الحكومات تجلد الناشطين الإسلاميين، والمجلودين يشرعون الجلد إسلاميا وهو فقط للبغال، يذهب المواطن إلى قسم الشرطة فينفخونه، ويذهب إلى الجامع فيهدرون كرامته ويحملونه كل خيبات أمة المسلمين.
أصحاب فكرة الدولة الإسلامية يقولون بالعودة إلى السلف، وهو ما كان صالحا لهذا السلف في زمنهم، فلو كان فيه خير لنا اليوم أو كان عندهم سبب لتقدم سياسي حقوقي لظلوا متقدمين وهم على قلب المسلمين من زمان، ولصرنا صناع الحضارة وحقوق الإنسان والتكنولوجيا، ولأمسينا أعضاء مجلس الأمن، ولأصبح الغرب هو النامي المتخلف يتلقى منا المساعدات زكاة وصدقات على اليتامى وأبناء السبيل من مشردي نيويورك ولندن.
الإسلاميون يعرضون أنفسهم باعتبارهم الإسلام مع فتاوى يكون عصيانها إثما، وهو ما يعني أن اختيار غيرهم جريمة دينية، عندهم وسائل دعائية كبرى منذ الصحوة والسادات ، وقبلها منذ عسكر يوليو وناصر مستعينين بالدين، كل كتبهم وقراراتهم تدعو إلى السلف والخلافة، والدعاة أحباب الله فكيف يرفض الناس انتخابهم؟! لذلك يتم الانتخاب على أساس ديني لا ديمقراطي؛ لذلك من نجح منهم في الاقتراع قد جاءت به الطائفية الدينية لا الديمقراطية؛ لأن الديمقراطية تأتي بالأكفأ أداء سياسيا وإداريا والأوعى بالمصلحة العامة للمجتمع، بينما الانتخابات عندنا تحولت طقس عبادة يظهر به المؤمن مدى حبه لربه وولائه لدينه بانتخاب الأكثر تقوى أو زاعما لها، أصبحت جهازا يقتلون به ويقتلون أمام الصناديق.
لقد جعلوا الانتخابات السياسية خيارا بين الإيمان والكفر نتيجة مزج الدين بالسياسة؛ ومن ثم سيفضل الناس الرب على الديمقراطية التي يتم هنا دفنها فورا، الانتخابات في بلاد المسلمين أصبحت استجوابا موجها إلى المسلم البسيط: هل مؤمن أنت مؤمن بقدرة الرب على حل مشاكلك كلها؟ هل تؤمن أن الإسلام مكتمل يحوي كل الحلول وأنه هو الحل؟ الإجابة لا بد أن تكون: نعم طبعا!
والحكومات الإسلامية تسمح بكل هذا، وباستيلائهم على الإعلام، ولا تطلق الحريات؛ لأن الحريات ستطيح بكليهما، وكلاهما مستفيد من هذا الوضع الديكتاتوري، فيبقى الحاكم في كرسيه بادعاء حماية المجتمع والعالم المتحضر من السلفيين، ويستفيد السلفيون ما يأتيهم من دعم مادي ووجاهة وقيادة اجتماعية وفرصهم البترولية، وفي النهاية يكون الإسلاميون هم الحاكم الحقيقي الذي يعمل في حماية حكومة تأخذ أجرها إتاوات من شعوبها وفسادا لم يسبق له مثيل، إن الشعوب في البلاد الإسلامية هي الفريسة والضحية لدولة هذا، أو دولة ذاك: إسلامية، أو أميرية، أو عسكرية، أو ملكية. (5) مستقبل الدولة الإسلامية
في زمن متسارع يلهث تطورا وتغيرا وتبدلا، لم يعد ممكنا بموجب معطيات أمس واليوم، التنبؤ أو بناء أي تصور افتراضي لما سيحدث غدا، وكان أهم حدث أذهل العالم، وغير كل التنبؤات، بل غير خط سير التاريخ، ومن المحتمل أن يكون سببا في متغيرات ستجري في جغرافية العالم المعتادة، حدث ما لم يخطر على قلب بشر، حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001م في الولايات المتحدة الأمريكية.
صاحب هذا القلم كان قد توقف عن الكتابة والنشر ما يزيد عن سنتين، يأسا من حدوث أي متغير في أحوال البلاد والعباد، حتى ضربت القاعدة أمريكا، فقرر العودة إلى الكتابة والنشر، فقد جاء الأمل لبلادنا على عكس كل التوقعات، جاء يركب مركبا من دمار ونار وهلاك للأبرياء في بلاد الحريات، وكان أول إصدار لي بعد التوقف بعنوان: «شكرا بن لادن». كان ركود الأوضاع في بلاد المسلمين دافعا لليأس والقنوط حتى تفكك الحلف الإسلامي الأمريكي في مانهاتن، وتشظى بشكل مبهر لم تتصوره أي عبقرية من عبقريات هوليود وخيالها الجامح. كان الركود قد ساد كل شبر من بلاد المسلمين، وأصبح لا صوت يعلو فوق صوت السلطان ومشايخه، وتحول الناس إلى رعية للراعي بالمعنى الدقيق والحرفي للكلمة.
كانت السعودية ومن ورائها دول الخليج قد سادت بنفطها ووهابيتها ثقافة وإعلاما واقتصادا ومرجعية دينية، وكانت السعودية الحليف العريق والأبرز لأمريكا ومعها العالم الغربي الحر. وحالفت أمريكا شرار الأرض من حكام ومستبدين بطول العالم الإسلامي وعرضه، وأغدقت تدريبا ومعرفة وتسليحا على العرب الأفغان، ومنحتهم أسرار مخابراتها وشاركتهم في برامجهم، لدحر السوفييت في أفغانستان. السعودية أمدت بالرجال وبالمال، ومصر، وباكستان، ومعظم الدول العربية جندت إعلامها للجهاد ضد الشيوعية في أفغانستان، ومولت المخابرات الأمريكية ما يزيد على 200 مؤتمر للطب الإسلامي وبقية العلوم المنسوبة إلى الإسلام، حتى ضرب بن لادن مانهاتن، فانقلبت كل الأوضاع رأسا على عقب في يوم لن ينساه التاريخ أبدا، واكتشف الأمريكان في لحظة مباغتة أعداء جددا ما كانوا بالحسبان، وتحول بلد مثل السعودية من حليف تاريخي إلى بلد مفرخ للإرهاب بين ليلة وضحاها، تتم الضغوط الهائلة عليها للإصلاح والتغيير، وتوضع أسماء سعودية كبيرة وذات شأن خطير على قوائم الإرهاب الدولية. وتسقط طالبان، وترتكب أمريكا غلطتها التاريخية وتحقق لابن لادن مراده. كان ابن لادن قد أعلن أكثر من مرة أنه ليس بإمكانه محاربة أمريكا في أمريكا، وأن استدراجها إلى المنطقة هو الخطة المثلى، وحققت له أمريكا مراده لتعود الخريطة التاريخية تتغير مرة أخرى بعد دخول العراق وبسرعة مذهلة.
بعد سبتمبر 2001م كانت أمريكا قد أعلنت للعالم إنذارها بلسان رئيسها وخارجيتها والبنتاغون أنها ستدخل تدخلا مباشرا في البلاد المفرزة للإرهاب، إن لم تقم بعمليات إصلاح تفضي إلى تراجع الإرهاب وبروز الديمقراطية، حتى قال الرئيس اليمني علي عبد الله صالح قولته المشهورة الساخرة من الذات، المعبرة بصدق مر عن الواقع: «اللي مش ها يحلق بكيفه، أمريكا هاتحلق له.»
ثم كانت الفرصة التي جاءت للحكام العرب على طبق من ذهب، وهي دخول أمريكا العراق. وفي حالة من الفجر العلني دعمت كل دول المحيط لكل ما استطاع إليه سبيلا، ما أسموه المقاومة العراقية، هذا بالمال وهذا بالرجال وهذا بالتدريب وهذا بفتح الحدود سداحا مداحا، ليتحول مشروع الحلم الديمقراطي العلماني إلى كابوس على المنطقة جميعا، عندما عادت الولايات المتحدة إلى حلفائها القدامى من مستبدين وأصبحت في حاجة إلى حلفائها من مستبدي المنطقة القدامى من جنرالات وملوك، لإنهاء الحرب في العراق بشكل ما زالت المساومات جارية بشان تفاصيله، بينما يدفع الشعب العراقي أفدح ثمن مع كل يوم وكل ساعة تطول فيها المساومات.
وفي مناخ كهذا حيث يصعب التنبؤ بمستقبل الدولة الدينية في المنطقة، يتبناها هانتنغتون تنبؤا بالمستحيل، فتستجد في نظره ظروف دولية تحتم وجود هذه الدولة كما تصور، في تحالف إسلامي تقوده الخلافة التركية مرة أخرى؟ وارتأى أن سلامة الغرب في التفاعل مع هذا الواقع والسير به إلى منتهاه حتى تعود الخلافة، لكن بعد أن تكون الخلافة نفسها قد تم تكريسها كتابعة للسيادة الأمريكية ولو عن بعد، ولتقوم الخلافة بردع أي اعتداء على المصالح الغربية.
وصاحب هذه الورقة يرى الأمور بشكل أكثر بساطة من هذا؛ لأن الدولة الدينية كانت مرحلة تاريخية انتهت بنهاية المرحلة التي ناسبتها، وحسب منطق التطور الذي أثبت صلابته عبر التاريخ فهو القانون العلمي الأوحد الذي تقوم عليه بقية القوانين. فإنه ما عاد ممكنا لدولة دينية أن تتعايش مع عالمنا المعاصر، وكما فرض التطور نفسه علينا بمنجزات علمية وحقوقية إنسانية في كل العالم؛ فإنه آت إلى بلادنا لا شك فيه ولا ريب، كل المسألة هي في المسافة الزمنية بين يومنا وبين يوم نضج الأوضاع أو ظهور مفاجآت تسرع من وصول بلادنا نحو هذا التطور أو تعطلها عنه، ويبقى بدلا من محاولة التنبؤ، أن نقوم نحن العلمانيين بالتأثير في الواقع المتحرك، حتى نضيف ثقلا لترجيحات التاريخ، ونكون موجودين يوم يقوم بالفرز والاختيار، بحسابات المصالح ووفق المنهج التطوري.
إن الحرب القائمة حاليا ضد الإرهاب الدولي هي حرب عالمية بكل معنى الكلمة، لكنها الحرب التي بدأت تفرض لونا خاصا من أساليب إدارة الحروب، ليست حربا بين عدوين على حدود مختلف بشأنها، أو مصالح اقتصادية يتنازعون حولها، إنها حرب وجود، حرب بين زمنين، زمن له مناهجه في التفكير والعمل، يختلف بالكلية عن زمن التفكير العلمي والحداثة الحقوقية، يدافع بشراسة واستماتة عن استمراره في الوجود أمام مد الحداثة الجارف، إنها زفرات الموت الأخيرة لعصر ما قبل العلم الحديث، وما ترتب على هذا العلم وتقدمه الهائل من إعادة صياغة مفهوم الدولة بعقد اجتماعي حقوقي دستوري. إنه صراع زمنين بمنهجي تفكير مختلفين بالكلية ولا يلتقيان، والقديم لن يفسح في المكان للجديد بهدوء، فهذا هو درس التاريخ الطويل.
الفصل التاسع
رئاسة النبي والراشدين في ميزان الدولة
سبقت وقلت إن الكيان الذي أقامه النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
بالجزيرة كان كونفدرالية قبلية ولم يكن دولة، وأنه كان في سلوكه السياسي نموذجا واضحا لطرائق البداوة ومنطق القبيلة. هنا سأقدم نماذج سريعة من تاريخ الدعوة ليس بقصد الحصر، فكلها لا تنطق بما نفهمه عن الدولة اليوم، ولكن بقصد ضرب المثل وكيف نعمل عقلنا في هذا التاريخ، حتى لا نتعثر ونحن نبحث عن خريطة طريق للخلاص والانعتاق للحاق بآخر قاطرة مغادرة نحو النور.
يروي ابن كثير عن سيرة محمد بن إسحاق عن أحداث عام الوفود.
وقال: محمد بن إسحاق: ولما قدمت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفود العرب، قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشراف بني تميم وقالوا: يا محمد جئنا نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال
صلى الله عليه وسلم : لقد أذنت لخطيبكم فليقل. فقام عطارد وقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن هو أهله، وهو الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددا وأيسرهم عدة. فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخر فليعدد مثلما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا في الكلام، ولكن نخشى الإكثار فيما أعطانا إنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا. ثم جلس، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لثابت بن قيس بن شماس من الخزرج: قم فأجب الرجل على خطبته.
وهكذا استعرض أشراف تميم ما يملكون من فخر بما يليق بمصادر الفخر في زمانهم، الذي يختلف بالكلية عن زماننا؛ فالناس اليوم تفاخر بما قدمت للعلم والطب والهندسة والقانون وحقوق الإنسان والنظم الاجتماعية والفنون رسما أو موسيقى. فلم يقدم بنو تميم في استعراض مفاخرهم شيئا مثل الهرم أو سور الصين أو حدائق بابل، إنما تفاخروا بقيم زمنهم وبيئتهم ومكانهم فيما تفاخر به القبيلة قبيلة أخرى، كان منطقا قبليا لا منطق فيه، وليس منطق وفد دبلوماسي في زيارة رسمية لدولة قائمة.
المضحك الكارثي في تاريخنا الميمون، أنهم كانوا يقولون فقط، يعني من يملك فما أكبر وصوتا أعلى هو الفائز، انظر ابن زرارة يفاخر بأن بني تميم هم أعز أهل المشرق، حديث من لا يدفع على كلامه جمارك، رغم علم ابن زرارة وعلم كل الحضور من كلا الطرفين أن الشرق يمتد إلى الهند والصين، ومن هناك تأتى تجاراتهم من بلاد الملوك حقا وصدقا، ومع ذلك زعم أن قبيلته هي أعز أهل المشرق وأنهم ملوك هذا المشرق ببساطة مدهشة.
انظر ابن زرارة يقول: «وإنا لو نشاء لأكثرنا في الكلام» كان الفخر عند العربي بكثرة الكلام ومن لا يحسن الكلام أعجم أي حيوان لا يستطيع الكلام؛ لذلك تسمى الحيوانات عجماوات، فهم أفضل من الحيوان لأنهم يعرفون كيف يتكلمون، بينما الحيوان لا يعرف كيف يتكلم! ولا يفوت ملاحظ تركيز آيات القرآن على السمع والاستماع والاحتفاء بالبلاغة والبيان، وكيف أن الكلام هو منحة ربانية للإنسانية «وجعلنا له لسانا وشفتين.» كانت كل ثروتهم هي الكلام الذي هو كنز حضارتهم، وقال ابن زرارة فخره الكاذب دون أن يوقفه النبي
صلى الله عليه وسلم
أو يقول له كذبت يا هذا، لجأ النبي إلى الأسلوب القبلي ذاته لكنه الحاسم، قال لثابت بن قيس الخزرجي أن يجيب الرجل فأنشأ يقول: «الحمد لله الذي السموات والأرض من خلقهن وقضى فيهن أمره ووسع كرسيه وعلمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خيرته رسولا، أكرمه نسبا وأصدقه حديثا وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله في العالمين، ثم دعي الناس للإيمان به، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكثر الناس أحسابا وأحسن الناس وجوها وخير الصحابة فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة واستجابة لله نحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم» (المصدر نفسه).
كذب التميميون وبالغوا في فخرهم وزعموا أنهم خير أهل المشرق، فأجاب المسلمون بالطريقة ذاتها لكنها مصحوبة بالإنذار بإجراءات عملية لها سوابق معلومة، فكان الرد صادقا. «نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه» ومن لا يخضع راغما «كان قتله علينا يسيرا.»
ومع الفخر نلحظ كيف يمن المسلمون على الله بإسلامهم، ويفاخرون الناس بدين من عند الله وليس من عندهم وليس محل فخرنا فهو ليس منتجنا ولا إبداعنا، فنصرة الدين من عند الله وليس من عند أحد من الناس ليفاخروا بهذه النصرة.
كلا الفريقين بدأ حديثه بحمد الله والثناء عليه لما منحه له ليفاخر به الفريق الآخر، وكلاهما يعترف بفضل الله، إذا ما الحاسم في الموقف؟ الحاسم هو أن عندنا نبيا وليس عندكم نبي، وعليكم الاعتراف به أو يكون قتلكم علينا يسيرا.
وإذا كانت المسألة هي الإيمان بالنبوة المحمدية أو القتل اليسير، فكان الأولى أن يدور النقاش والتحاور في صلب الدين والعقيدة، وعلومه وفقهه وتفاصيله وقوانينه وثقافته ومعارفه وفضائله وفضيلته على غيره من أديان، لتكون مناظرة بين الإسلام وبين الجاهلية، لبيان ما جاء به للبشرية من جديد لم يسبق أن اهتدت إليه البشرية من قبل؛ فالفخر بالدين غير جائز لأنه لكل الناس وليس لفريق على فريق.
يعود عطارد بوفده إلى بطاحه، ليعرض ما تم في اللقاء على أهله وقبيلته ووجهاء تميم، ليتخذوا قرارا بإيفاد وفد يحمل الإجابة، وعلى رأسه هذه المرة الزبرقان شاعر تميم المبرز، الذي وقف ينشد النبي:
أتيناكم كي يعلم الناس فضلنا
إذا اختلفوا عند احتضار المواسم
بأنا فروع الناس في كل موطن
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وأنا نذود المعلمين إذا انتحوا
ونضرب رأس الأصيد المتفاقم
وأن لنا المرباع في كل غارة
تغير بنجد أو بأرض الأعاجم
جاء الزبرقان أذكى من رفيقه ابن زرارة وابتدأ الموضوع من آخره؛ فهو أعلم إلى أين يمكنه توجيه النظر وتركيز الاهتمام فيحوز على آذان مستمعيه، يعلم الآن ما هي اللغة التي يلزم أن يخاطب بها الصحابة ونبيهم، خاصة أن هذه اللغة لم تتأثر بالدين الجديد؛ لذلك ظلت القاسم المشترك بين مضارب ومرابع العرب كافة، فجاء خطابه غير نثري، إنما شعريا، ليضفي عليه موسيقى تطريه وتجعله لطيفا سهلا غير متشنج، تحدث عن ضرب وشن غارات وأنهم أهل لذلك، وهو أول مشترك متفق عليه بين الطرفين ويطرب له كلاهما، وليس هنا مجال للمفاوضات والحوار الفلسفي والمنظقي للنظر فيما جاء به الدين الجديد، لقد جاءت حكمة الزبرقان لترضي الصحابة بعد أن فهم المطلوب بدفع الزكاة بالإسلام أو الجزية مسبوقة بالتسليم والخضوع للمسلمين عن يد وهم صاغرون، أما ما عدا ذلك من شئون العبادة؛ فهو لا يعود بفائدة على أحد، يمارسها الجميع على مختلف الديانات للرب حمدا وشكرا ومعونة معنوية؛ لذلك لم تكن العبادات وأصولها موجودة في مثل تلك المفاوضات، لم تطلب الأمم المفتوحة مثلا تخفيض عدد الركعات في الصلاة، أو تعديل شكل الصيام؛ لأنها لن تشكل خسارة مادية لمؤديها، ولا مكسبا ماديا لفارضيها؛ لذلك كانت العبادات خارج دائرة التفاوض؛ لأن أداءها لا يشكل إذلالا لمؤديها، بعكس الجزية التي تقدم عن يد وهم صاغرون فتمس الكرامة وتعني الخضوع والمذلة؛ لذلك كان التصدي لها متضمنا في شعر الزبقان: «وأن لنا المرباع في كل غارة، تغير بنجد أو بأرض الأعاجم» أي أنهم هم من يأخذ بالجزية (المرباع) نصيبا من أي غارة تحدث، سواء في بلاد الحجاز أم بلاد العجم، وفي المبالغة الشعرية الكاذبة، مجرد صوت عال وادعاء وهمي وفم وسيع لذلك جاء وقت عودة الزبرقان للوعي بالواقع، عندما أجابه شاعر الرسول حسان بن ثابت يتحدث عن موقف الأنصار من النبي ومن الناس فيقول:
نصرناه لما حل بين بيوتنا
بأسيافنا من كل باغ وظالم
جعلنا بنينا دونه وبناتنا
وطبنا له نفسا بفيء المغانم
ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا
على دينه بالمرهفات الصوارم
بني دارم لا تفخروا إن فخركم
يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم
لنا خول ما بين ظئر وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا
ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم
بغض النظر عما يتضمنه شعر حسان من المن على الله ورسوله، وكيف نصروا النبي وتنازلوا له عن جزء من نصيبهم في المغانم (الفيء)؛ فإنه لا يجد غير سبيل الوضوح التام وكيف دخل الناس الدين الجديد بمرهفات الأنصار الصوارم مع الإجبار والإذلال، إنها حرب نفسية وسيلتها الكلام أو الشعر، موضحا أن المسلمين يعلمون جيدا أن وفد تميم الثاني قد جاء يدفعه الخوف والرعب، لكنهم ما زالوا يحاولون تفاخرا خجلا رده عليهم حسان وقال لهم بوضوح جارح ومهين إنهم مجرد خدم وخول للمسلمين، أو الأحرى يمكن أن تصبحوا كذلك وأن المسلمين يعلمون أنهم جاءوا يستجدون حقن دمائهم وأموالهم من أن تكون غنائم يقتسمها المسلمون؛ لذلك سخر من فخرهم الذي سيعود عليهم وبالا، ثم أنهى الموقف بعبارته الباترة: إن كنتم حاضرين لحقن دمائكم وأموالكم فأعلنوا التبعية والتسليم.
إن لقاء كهذا هو لقاء بدوي قبلي تماما لا علاقة له بالدول والمؤسسات، بقدر ما هو مرتبط بالطبيعة البدوية والسلوك البدوي والحياة الصحراوية بكل معانيها، فلم يفاخر أحد الطرفين خصمه بما يمكن أن يباهي به العالم خارج صحرائهم أو خارج نطاق المفاهيم القبلية البدوية.
انظر نهاية الاجتماع الرسمي في قول الأقرع بن حابس التميمي بعد فراغ حسان من شعره: «وأبي إن هذا لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا» (ابن كثير، التاريخ، عام الوفود). هكذا انتهت المعركة الكلامية الباردة، علم التميميون أن محمدا مؤتى بوحي سماوي، حتى أقسم الأقرع بأبيه إن هذا لمؤتى له، وقد استمد الأدلة على ذلك من عدة شواهد وأدلة وقرائن، أن شاعره أشعر من شاعرنا، وأن خطيبه أخطب من خطيبنا، وأن أصواتهم أعلى من أصواتنا، وهي كلها مفاهيم بدوية بحتة لا علاقة لها بما نفهمه من المنطق، فأشهر الوفد إسلامه بعد اقتناع بعلو الصوت؛ أي أنهم انتقلوا من مرحلة المباهاة والمفاخرة إلى انتكاسة لا تريد الاعتراف بالجبن عن المواجهة، بل إعلان الاقتناع بالدين الجديد الذي لم يعلموا عنه شيئا بعد!
وإذا كانت الرئاسة التي حازها النبي لأنه كان نبيا فكانت له كونفدرالية في شبه دولة كخاصية من خصوصياته النبوية، فماذا نسمي شكل الحكم الذي مارسه خلفاؤه الذين يعرفهم تاريخنا بالراشدين؟ يعمد دعاة الدولة الإسلامية لدعم الخلافة الراشدة ومشروعيتها بأنها كانت بأمر من النبي في حديث منسوب إلى النبي يقول: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ...» إلخ.
فإذا كان ما يقوله دعاة الدولة الإسلامية صحيحا فلماذا لم يذكر أبو بكر هذا الحديث في صراع السقيفة على السلطان دعما لموقفه ولحسم الأمر من بدايته؟ ولماذا لم يذكر النبي أبا بكر عندما سأله المسلمون أن يوصي لهم بمن يخلفه؟ هذا ناهيك عن كون الحديث المذكور يفيد الاقتداء في شئون الاعتقاد والإيمان وتفاصيل الدين، وليس فيه ما يشير إلى رئاسة ولا إلى دولة تحتاج إلى حاكم، وتحتاج من الرعية إلى طاعة هذا الحاكم وليس الاقتداء به، لأن الاقتداء يعني أن يكون الرعية كلهم حكاما اقتداء بهم! إن الرسول لم يقر للمسلمين بوجود دولة للمسلمين وإلا لبينها في حديث واحد من أحاديثه المؤلفة آلافا، ولشرح لهم تفاصيل نظامها السياسي والاقتصادي والعسكري والقضائي والإداري، ولكان أمره للرعية بالطاعة مع نظام حكم واضح وليس بالاقتداء.
تعال قارئي لتجهد نفسك معي قليلا مع بعض الصبر لتعذرونا على ما نعانيه في بحثنا في تراثنا الطويل العريض الغليظ، لنقرأ معا الطبري يروي أحداث تولي أبي بكر الرئاسة: «حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة - وكان الغد - جلس أبو بكر على المنبر فحمد لله وأثنى عليه بالذي هو أهل له، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرد له حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحدكم الجهاد في سبيل الله فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»
أول ملحوظة هي أن الدعوة في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة قد اختفت وانتقل أبو بكر مباشرة إلى الجهاد في سبيل الله، دون وجوب تعميم الدعوة على الدنيا أولا في حمله دعاية لشرح هذا الدين القيم للناس؛ لذلك كان شعار الفاتحين لبلادنا: «الإسلام أو الجزية أو القتال» دون أن يعلم المفتوحون شيئا عن ذلك الدين المطلوب دخولهم فيه حتى لا يذلوا بأداء الجزية أو الموت قتلا. خاصة أن مراجعة معرفة صحابة الرسول الفاتحين لما يعلمونه عن الإسلام، ستكشف أنه لم يكن، ذلك العلم الكافي لإجراء المناظرات بين المسلمين وغيرهم لعرض الدين الجديد، نعلم أن صحابة النبي الأقربين وأهله المبشرين بالجنان لم يكونوا عارفين بكل تفاصيل الدين، ألا ترون عمر عند وفاة النبي يصيح ويهدد من يقول بموت النبي بالقتل، وأنه لم يمت وسوف يعود، ناسيا أو جاهلا أن هناك آيات قرآنية قد أفادت بحتمية موته كما يموت الناس. ثم نجد فاطمة الزهراء بنت النبي وعمه العباس يذهبان لأبي بكر يطالبان بميراثهما عن النبي وكانا لا يعلمان بحديث عدم التوريث الذي قاله أبو بكر «نحن الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة.» كانا لا يعلمان وأحدهما بنته الأثيرة والثاني عمه الأثير.
وهذا العباس بن عبد المطلب يأخذ بيد علي بن أبي طالب ويقول له: «ألا ترى أنك بعد ثلاث (بعد موت النبي) ستكون عبد العصا، وإني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا، وإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر من بعده؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإذا كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، فقال علي والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطينا إياها الناس أبدا، لا والله لا أسالها رسول الله أبدا.»
السؤال هنا يقفز قفزا يريد من أنصار الدولة الإسلامية اليوم جوابا لا يحيرونه، إذا كان الصحابة والأقربون وأهل بيت النبي لا يعلمون كثيرا من شئون الدين، فكيف كان حال من فتحوا بلادنا؟ وهل سيكون حكامنا الجدد في الدولة الإسلامية المرتقبة أعلم من هؤلاء جميعا وهم رفقة النبي وأهله بوجود دولة ونظام حكم في الإسلام؟
تعال قارئي نتابع جولتنا لنختر عشوائيا ما يصادفنا حول تولي أبي بكر الخلافة، لنقرأ مثلا ابن الأثير في الكامل، ج2، ص424، يقول: «كان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم «بالأجر»، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم : الآن لا يحلب لنا مناتح دارنا فسمعها فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيروا ما بي ما دخلت فيه، فكان يحلب لهم. ثم تحول إلى المدينة بعد تسعة أشهر من خلافته وقال: لا تصلح أمور الناس مع التجارة وما يصلح إلا التفرغ لهم، والنظر في شأنهم، فترك التجارة وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يوما بيوم ويحج ويعتمر، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل فرضوا له ما يكفيه.»
إن مثل تلك الرواية تفيد بوضوح أن النبي لم يحدد مهام وظيفة الخليفة وسلطاته وما هو عليه وما هو له، حتى يتبعها أبو بكر قناعة بأوامر النبي، إن الكونفدرالية القبلية برئاسة قريش هي نظام عربي يفهمه العرب وليس بحاجة لإعادة تعريف أو تحديد؛ لأنه مأثور قديم من فجر تاريخهم لم يتغير، كل ما تغير هو سيادة قبيلة على بقية القبائل ولكنه لم يكن البتة دولة كالدول المجاورة في بلاد فارس أو بلاد الروم.
ونلاحظ أيضا أن المسألة كانت تتم بالتجربة والخطأ والصواب واجتهاد الشخص، فعندما قرر أبو بكر التفرغ كان للنظر في أمور الناس وليس في سياسة الدولة، كان من حقه أن يبقى بالحلب والتجارة، ولا يرتكب إثما؛ لأن الدين لم يقرر عليه نظاما بعينه يدير به هذه الكونفدرالية.
لقد وحد الإسلام القبائل في قبيلة أكبر تقوم على عصبية الدين بديلا لعصبية الدم، ووجه طاقاتهم القتالية نحو الخارج بدلا من الداخل.
نتابع لننتقل إلى مصدر آخر هو المنتظم في التاريخ أحداث سنة 12ه (مواصلة الفتوحات) نختار عشوائيا فنقرأ: «ولما صالح خالد أهل الحيرة خرج إليه صلوبا صاحب قس الناطف، فصالحه على بانقيا وبسما على ألوف في كل سنة، ثم أن خالد كتب كتابين إلى أهل فارس وهم في المدائن مختلفون لموت أردشير (ملكهم)، وكان في أحد الكتابين: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد؛ فالحمد الله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك كان شرا لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوز إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة. وكان الكتاب الآخر: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس ، أما بعد فالحمد لله الذي فرق كلمتكم وفل حدكم وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا وإلا فأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الخمر.»
ابن الوليد يطلب منهم في أمر قاطع التبعية بالدخول الطائع في دين يجهلونه، أو أن يدفعوا الجزية أو أن يقوم بذبحهم؛ ومن ثم لم يكن الدين في الموضوع أصلا، فإما الدفع ويظلون على أديانهم الوثنية دون مانع، أو يتحولون إلى عبيد وجوار بعد قتل المقاتلين، أو أن يتحولوا جميعا إلى الإسلام والاشتراك في فتوحاته كمرتزقة مقدسين والنهل من نعيمه الدنيوي الواضح والفوز بنعيمه الأخروي، وهو الأمر الذي لم يحدث مرة دون إكراه؛ لأنه لا يوجد صاحب دين يترك دينه لدين آخر ببساطة، خاصة في تلك العصور البدائية.
تعالوا ندقق أكثر في ما سردناه، لنجد السلطة التنفيذية كلها بيد خالد؛ فهو كان وزير الخارجية، وكان هو قائد الجيوش، فكان هو المهيمن على هذا الكيان عسكريا وسياسيا، يعقد المصالحات ويوجه رسائل إعلان الحرب للملوك الأجانب، دون الرجوع في أي من تلك التصرفات إلى الخليفة، فكأن هناك سلطتين قد ظهرتا بعد وفاة النبي الذي جمع كل السلطات بيده، وأصبح هناك خليفة ديني هو أبو بكر، وخليفة عسكري هو سيف الله المسلول، وكان خالد هو من يحدد مقدار الجزية ومواعيد استلامها، وتكليف من يتولى مهامها، وينظم الجيوش ويخاطب الملوك باسمه لا باسم الخليفة، وهو من يضع قواعد المعركة، ويقرر متى يمكن إبادة الأسرى كما في فتح أليس التي ذبح فيها سبعين ألف أسير، أو متى يطلق سراحهم، وكيفية التصرف فيهم بالبيع عبيدا أو بالفداء بالمال.
هذا شكل قبلي لشيخ في الحجاز، وشيخ آخر يقود الفتوحات دون أي أنشطة مدنية مما نفهمه من أنشطة الدولة، سواء في مجال العلم أو الزراعة أو الصناعة ، فكان المجتمع يعتمد كليا على ريع الحرب وما تجلبه من أموال وعبيد وسبايا وحاصلات زراعية، أو مواش أو منتجات صناعية لشعوب أخرى كالمنسوجات، بينما كان أبو بكر يملك ولا يحكم، فكان خازنا لمنتجات حروب خالد وهو كله ما لا يتفق مع معنى الدولة بالقطع وباليقين، بقدر ما يتفق مع المنظومة العربية التي قامت على الغزو منذ ظهرت على الأرض.
نقلب صفحات مأثورنا بحثا عن الدولة والحكومة لنقف عند مرحلة فاصلة، لقد سبق وتم اختيار أبي بكر خليفة، تأويلا لأمر الرسول له بإمامة المسلمين في الصلاة في مرضه الأخير، واليوم مرض أبو بكر بدوره مرضه الأخير فكيف سيتم نقل السلطة؟ ولمن؟ وليس في المقدس بطوله وعرضه ما يحدد طريقة تبادل السلطة. نقرأ عن أبي بكر في مرض الموت «أنه عقد الخلافة من بعده لعمر، ولما أراد ذلك دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال: هو والله أفضل من رأيك فيه ولكن فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذاك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه. ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر، فقال عثمان: أنت أخبرنا به، إن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك، ثم قال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد أبي بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يؤمن الكافر ويوقف الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم، ثم أغشي عليه فكتب عثمان: إني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب، فلما أفاق أبو بكر قال: اقرأ علي فقرأ عليه، فكبر وقال أراك خفت أن يختلف الناس إن أفلتت نفسي في غشيتي. قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر، وأمره فخرج على الناس بالكتاب فبايعوه لمن فيه، وعلموا أنه عمر فدخل عليه قوم فقالوا: ما تقول لربك إذا سألك عن استخلافك عمر وأنت ترى غلظته، فقال، أجئتم تخوفوني، خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول اللهم إني قد استخلفت عليهم خير أهلك.»
العجيب في هذا الشكل من المنطق، أن الموافق والمعترض يحتجان بما يرضي الرب وما لا يرضيه، أبو بكر يرى اختيار عمر يرضي الدين والله بدليل قوله لعثمان لما كتب عمر خليفة: «جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.» والمعترضون من الصحابة يرون أن اختيار أبي بكر لعمر هو مأثمة في حق المسلمين ويعلمون أن الرب الخالق سوف يسأله عن ذلك. الملحوظة الأهم أن أبا بكر لم يلتفت إلى المعارضة وأصر على اختياره، مؤكدا لنفسه ولهم أنه اختار خير أهل الله ليخلفه في الحكم. المسألة هي رأي من يغلب وليس هناك أي معيار واضح للاختيار بين الموقفين.
ولما كثر اللغط أشرف أبو بكر على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة وإني استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، فقالوا سمعنا وأطعنا، ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله. وأوصاه بتقوى الله.
هنا لا نجد شيئا واضحا خاصة ما تعلق بالناس، فمن هؤلاء الناس الذين أشرف عليهم أبو بكر؟ ومن الذين قالوا سمعنا ومن الذين قالوا أطعنا؟ وإذا كانت هذه طريقة جديدة في تبادل السلطة، فكيف سيتم هذا التبادل في حال حضور عمر الوفاة؟ الملحوظة الثانية أن أبا بكر يقول للناس: «قد استخلفت عليكم عمر.» ويقول لعمر لقد استخلفتك على أصحاب رسول الله، ولم يرد على لسانه ذكر لشيء اسمه دولة المسلمين، وهم يعلمون بالتأكيد بنظام الدولة باحتكاكهم التجاري بدول المحيط، فعمر لم يكن خليفة على دولة إسلامية لكنه خليفة رسول الله على أصحابه، ولم يوصه أبو بكر بحسن إدارة الحكم والدولة، إنما أوصاه بتقوى الله وهو ما يعني مراعاة العدالة في التقاضي بين الناس، وهي المهمة الأولى والأساسية لشيخ القبيلة، فكان الحاكم هو القاضي، ومعلوم أن عهدا طويلا مر بقبائل بني إسرائيل عاشوا النظام ذاته بشيخ القبيلة القاضي منذ خروجهم من مصر وعلى مدى 480 سنة، حتى قرروا التحول للنظام الملكي فكان أول ملوكهم شاول ثم داود وسليمان، بينما ظل مفهوم شيخ القبيلة القاضي البدوي هو النموذج حتى زمن الراشدين بالحجاز.
المهم أن أول عمل قام به الخليفة عمر عند توليه الرئاسة هو عزل خالد بن الوليد «وأول ما تكلم به عزل خالد وقال: لا يلي لي عملا أبدا، وكتب إلى أبي عبيدة إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه، فانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله. فذكر ذلك لخالد فاستشار أخته فاطمة فقالت: والله لا يحبك عمر أبدا، وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك، فقبل رأسها وقال: صدقت، فأبى أن يكذب نفسه، فأمر أبو عبيدة، فنزع عمامة خالد وقاسمه ماله.»
لم يستطع المسلمون منع أبي بكر من تعيين عمر مع غلظته، بينما تمكن عمر نفسه من عزل غليظ فظ آخر كان هو السلطة التنفيذية الكاملة زمن أبي بكر، هو خالد بن الوليد. هذا إذن شأن قبائل لا شأن دولة لا رأي للناس والرأي لشيخ القبيلة، وقول فاطمة لأخيها خالد: «والله لا يحبك عمر أبدا.» إنما يعني سيادة القيم الذاتية القبلية المعبرة عن المزاج والعواطف، وغياب القيم الموضوعية وقوانين إدارة الدولة التي لا علاقة لها بحب أو كراهية أو مزاج، وذلك لعدم وجود دولة أساسا، ففي الدولة يخضع الجميع لدستور الدولة الذي يحميه القضاء بالقوانين، كمراقب يحدد الحقوق والواجبات للجميع حكاما ومحكومين، فاكتفى الراشدون في إدارة شئون الناس بعادات القبيلة باعتبار أن القائم هو اتحاد قبائل، وتأسيسا على أن نظام الحكم في هذا الاتحاد غير منبثق من الدين؛ لأن الدين واحد وما ينبثق عنه يظل واحدا، بينما تباينت سياسة الخلفاء من خليفة إلى آخر. وهل كان قرار عمر مقاسمة خالد أمواله استردادا لأموال نهبها خالد من البلاد المفتوحة وغلها لنفسه أم كان عقوبة لخالد؟ وهل لو كان خالد مرضيا عنه من عمر كما كان زمن أبي بكر هل كان سيتنازل بسهولة ويسر عن نصف ماله حتى لو غلولا؟ ولماذا لم يطلب أبو بكر هذا الغلول رغم علم الجميع؟ هي إذن قبيلة كبيرة يديرها مزاج كبرائها ولم تكن دولة قط.
عادة ما يطربنا مشايخنا بأسلوب عمر بن الخطاب في إدارة السلطة التي بيديه، فيحكي تاريخ أبي الفدا أحداث سنة ست عشر زمن خلافة عمر فيقول: «قدم جبلة بن الأيهم ودخل في زي حسن وبين يديه جنائب مقادة ولبس أصحابه الديباج. ثم خرج عمر إلى الحج هذه السنة فحج معه جبلة، وبينما جبلة طائفا إذ وطئ رجل من فزارة إزاره، فلطمه جبلة فهشم أنفه، فأقبل الفزاري إلى عمر وشكاه، فأحضره عمر وقال له: افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك، فقال جبلة كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال عمر: إن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة في الحد، قال جبلة: كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية، قال عمر: دع عنك هذا، قال جبلة: إذا أتنصر، قال عمر: إن تنصرت ضربت عنقك، قال أنظرني ليلتي هذه، فأنظره، فلما جاء الليل سار جبلة بخيله ورجاله إلى الشام، ثم صار إلى القسطنطينية وتبعه خمسمائة رجل من قومه فتنصروا عن آخرهم، وفرح هرقل بهم وأكرمهم.»
إن هذه الرواية المكررة هي إحدى وسائل الدعاية للدولة الإسلامية العادلة التي لا تفرق بين الملوك والسوقة، وأن العربي البدوي الذي يدخل في هذا الدين الجديد يستطيع أن يحصل على حقوقه كاملة، بما يحفظ عزته وكرامته بل ويرتفع بها لتطاول الملوك، كما توضح أيضا أن الخروج على الإسلام بعد دخوله يقابل بالقتل، حتى لو كان هذا المرتد من الملوك فأي عزة وأي كرامة وأي عدالة؟!
مثل هذا الحكي الإعلاني يعتمد الترغيب والترهيب ولا علاقة له بالاقتناع بالدين من عدمه، ودخول الإسلام والخروج منه لا يعتمد على الفكر والتفكير والحوار والجدل بالتي هي أحسن، والبحث عن فضائل الإسلام مقارنة بغيره من أديان، هي المصالح فقط وتحقيق الرغائب سبب الدخول أو الخروج ، ليس عن قناعة وإيمان من عدمه فلو كان جبلة بن الأيهم قد دخل الإسلام عن قناعة ومعرفة بمبادئه، ما كان ليخرج نتيجة لطارئ كهذا، الأخطر أنه عندما ارتد ارتد معه خمسمائة من أتباعه، وهو ما يؤكد مرة أخرى أن دخول الإسلام لم يكن عن قناعة؛ لذلك يسر عليهم تركه وتمسك جبلة ورجاله بكرامتهم دون تمسكهم بدينهم، ولا شك أن التساؤل الساذج البسيط: أين كانت الدولة هنا؟ وكيف يخرج رجل برجاله إلى بلاد العدو طوال هذه المسافة الهائلة؟ وأين كان جيش الدولة ومخابراتها وأمنها لمنع ذلك؟
لقد تسببت الطريقة العمرية في الحكم بارتداد خمسمائة مسلم بدون مبرر مكافئ لهذه الخسارة، وكانت نتيجة العدالة العمرية أن الفزاري لم يأخذ حقه الذي أراده له عمر، مضافا إلى ذلك ارتداد جبلة ورجاله! فلا أخذ الفزاري حقه ولا ظل جبلة ورجاله مسلمين، إن جعل القصاص من لطمة أعلى وأفضل من نشر الإسلام هو ليس من السياسة ولا حتى من الكياسة، فتقديم جزء من الدين (القصاص) على الدين نفسه هو صد عن هذا الدين.
كان بإمكان عمر أن يعوض الفزاري عن اللطمة من بيت المال دون أن تتحقق هذه الخسائر، لكنها سياسة الفرد شيخ القبيلة الذي قد لا يلتفت إلى حلول أخرى يمكن أن ينبهه لها شركاؤه في الحكومة من وزراء ومتنفذين، كما هو الحال في بقية دول الدنيا؛ لأنها ببساطة لم تكن دولة.
الجزء
نحو تأسيس ثقافي للقيم
قبل أن تقرأ الموضوع
نعتني أحدهم بالقمام الذي لا يجمع سوى قمامة التاريخ، والقمام بالبلدي الفصيح هو «الزبال»، معبرا بذلك عن كوني جامع قمامة، وجمع القمامة في التراث العربي الأبي التليد هو مهنة حقيرة ومحتقرة أراد الكاتب تحقيري بها؛ لأن العربي أصلا يأنف من العمل اليدوي كالزرع والحصد والصنع، ويحتقر الإكارة «الفلاحة»، فما بالك بمن ينظف له قمامته؟ المهم أنه بعد أن ينظف لهم القمام قمامتهم يحتقرونه، بهذا المعنى قصدني الأخ المسلم، دون أن يسأل نفسه من أين لي بهذه القمامة؟ وما هي هذه القمامة بالضبط التي أسقط عليها وأجمعها؟ أليست قمامة ثقافتك يا أخي المسلم أم أني صانعها؟ إني عندما أنظف عقلك أكون باحثا محترما لا يخجل من النبش في القمامة؛ فالباحث كالطبيب ينظف الجروح من القيح والوسخ ويطهرها من الأدران، ثم يرقى فوق ذلك بكونه ينظف الدماغ مما فيه من قمامة، ولنركز هنا إذن على القيم الأخلاقية التي هي الملكية الخاصة للمسلمين التي يباهون بها الأكوان بدلا من القمامة.
تعال يا أخي المسلم نكشف معا عن قمامة ثقافتك ومناهجك في التفكير، حتى تعود سليما معافى تشارك الدنيا في العطاء وتنعم مع المنعمين فيها بالتقدم والسعادة والرفاه والمعرفة والرقي العلمي والأخلاقي، عوضا عن القتل والقتال.
الفصل الأول
تبسيط مفهوم القيم
يقول الدكتور محمد إبراهيم كاظم في دراسته «التطور القيمي وتنمية المجتمعات الدينية»: إن الاتفاق على تعريف جامع مانع للقيم صعب المنال، وإن اتفق على أنها مقياس أو معيار نحكم بمقتضاه ونقيس به ونحدد على أساسه المرغوب فيه والمرغوب عنه، سواء كان هذا المقياس هو الإنسان أو المجتمع أو الله. (صادر عن المركز القومي، 1997م، ص11) إذن الطرف الأساسي هنا هو الإنسان؛ لأنه من سيطبق حكم القيمة وعليه فلا وجود لأي قيم في غياب الإنسان؛ لأنها بدون الإنسان لا يمكن لها أن تفعل ولا حاجة لها ولا أثر ينتج عنها؛ لذلك تختفي باختفائه، هي ظل الإنسان على الأرض، هي كالحضارة تماما التي ما كانت لتوجد لولا موجدها الإنساني، وعندما أوجد الحضارة بدأ فرزها القيم.
إذن فالقيم أولا هي علاقة تقوم بين الإنسان والكون من حوله علاقته بالأشياء مثلا، فهو من يستطع أن يحكم على اللوحة الفنية بالجمال من عدمه، وعلاقته أيضا بالأفعال، كالتصدق على الفقراء أو المشاركة في عمليات إنقاذ، وتعريفه لفعل الزنا وتقبيحه كقيمة مرفوضة بحسبانه فعل اعتداء، كذلك السرقة بحسبانها أفعالا مخلة بقيمة الشرف، والقيم توجد فقط داخل الإنسان فتوجهه ليختار بين السهر تهجدا في الحسين أو السهر في ملهى ليلي في حي الهرم، فتعامل الإنسان مع محيطه من أشياء وأفعال هو ما يؤدي لظهور القيم. ولو وضعنا الإنسان في مكان خال من الأشياء والتفاعل السلوكي فلن يكون بحاجة للقيم، مثلا يخترع الإنسان السيارة ثم يضع لها قيمها كإرشادات المرور وذوق القيادة، ثم يضع القوانين التي تحمي هذه القيم ما بين مسموح ومحظور ضمانا لسلامة الناس، ومع كل جديد تظهر قيم جديدة يوضع لها ما يناسبها من قوانين لتحميها.
القيم هي أهداف للإنسان ونهايات لسلوكه ومحطة وصول أمانيه ورغباته في علاقته مع بيئته ومجتمعه ليعيش آمنا سعيدا، فإن لم تظهر تلك القيم لظل الإنسان كبقية حيوانات الأرض. ومع تطور الإنسانية على الأرض تطور سلم الإنسان القيمي، وكان ظهور القيم الأولى هو بداية لمرحلة رفض التقهقر إلى الوراء؛ لأنها تفتح أمامه آمال الانتقال إلى مراحل جديدة أكثر تقدما ورقيا بقيم جديدة، قارن مثلا الإنسان بين الذي يتعامل مع الحيوانات لأن عمله الرعي، وبين الإنسان الذي يتعامل مع الأجهزة الرقمية لتلمس الفارق القيمي الهائل.
وعليه فإن القيمة هي ناتج تقييم الإنسان للتفاعل بينه وبين مشاعره وأحاسيسه وبين العالم من حوله، وما ينتج من أفعاله نتيجة هذا التفاعل، فيصدر الطرف العاقل في المعادلة حكما قيميا، ويكون الشعور أو الفعل أو الشيء خيرا أو شرا بما يترتب عليه من لذة، أو أن يكون قيمة موضوعية تتعلق بالأشياء كالقيمة الاقتصادية السعرية التي نمنحها للأشياء، وأيضا تتشكل القيمة حسب مستواه المعرفي، فلم يكن لليورانيوم من قبل قيمته اليوم، وهو كله ما يعني أن الإنسان هو مكتشف القيمة وصانع قوانينها والحاكم عليها بالخير والشر، بالنفع أو بالضرر.
وللقيم الموضوعية التي نعطيها للشيء بعد أن تنقلها الحواس من الواقع إلى العقل عدد من المدخلات والموصلات المتعددة، وهذا النقل من الواقع إلى العقل يتأثر بمجموعة حواجب وفلاتر وطرق مفتوحة وأخرى مغلقة، كالغرائز والحاجات والألم واللذة وتعليمات الدين والعادات والتقاليد.
القيمة إذن هي حكم بشري يصدره الفرد أو المجتمع كناتج لعلاقة تفاعلية بين الفرد والمجتمع، وموضوع التقييم يكون فكرة أو سلوكا أو فعلا أو شيئا، سواء أكان واقعيا أم محض خيال أسطوري، ففي الدماغ البشري مراكز تقوم بأعمال التقييم فيما يشبه لجنة محكمين، لكل محكم اختصاصاته وقناعاته، ومن هؤلاء المحكمين من يغيب أحيانا، ومنهم من يمتنع عن التصويت خوفا ورهبا، ومن هؤلاء المحكمين المحكم الديني والمحكم الاقتصادي والمحكم البيئي الغريزي والمحكم النفعي والمحكم الأسطوري والمحكم العلمي والفلسفي.
وهؤلاء المحكمون هم أصحاب الرأي في الحكم والتقدير والتقرير، لكنهم ليسوا في قوة واحدة، فهم في دماغ ديكتاتوري لن يعرفوا التصويت الديمقراطي، وفي الدماغ الديمقراطي سيقوم الحوار والتصويت واتخاذ القرار، ولكن عندما يعجز هؤلاء المحكمون عن الخروج بالقيمة، يلجأ الفرد للأحكام الجاهزة سلفا في خضوع الفاشل، سواء أكانت تلك الأحكام صادرة عن سلطة سياسية أم دينية أم قبلية أم عنصرية. فهي تتدخل مقدما لرغبات جهة الضغط. لذلك حتى يأتي حكم القيمة صوابا، يجب أن يكون غير خاضع في التحكيم لمحكم واحد، فيغيب الحوار داخل العقل نتيجة تسلط مندوب الدين فيعطينا قيما زائفة؛ لذلك فالقيمة السليمة لا وجود لها في غياب الحرية الكاملة للفكر والرأي، للاختيار والمفاضلة والمقارنة. مع غياب الحرية لا توجد سوى القيم المزورة، التي تعطل كل قيم التقدم المبنية على إعلاء العقل البشري الحر على أي مصدر معرفي سماوي أو أرضي.
والقيمة أيضا هي لازمة وضرورة حياتية حتى للحيوانات، فإن أعطيت كلبا تفاحة وعظمة سيختار العظمة؛ وهكذا يمكن أن يكون الشيء نافعا ونرفضه بتقييمه تقييما خاطئا، فقد كان الهنود الحمر يعطون ذهبهم وألماسهم مقابل مرآة، وقد يكون للشيء قيمه عالية ونرفضه، وقد يكون حقيرا ونعطيه قيمة، مثل قيمة بول الجمل، الطبيب يقول إنه مجموعة سموم، والشيخ يعطيه قيمة موجبة لكنها زائفة؛ لأنها جاءت من محكم غير متخصص لكنه مسيطر، وقل مثل ذلك في العلاج بالرقية الشرعية والتداوي بالطب النبوي والأحجبة والتلاوات، ومع هذا التزييف يتم تحول الخطأ إلى صواب؛ لأن محكما ضمن محكمي دماغي فيهم الجاهل والتاجر وعدم الضمير، ومنهم البراغماتي النفعي، ومنهم الغريزي، ولكل محكم قواعده وخياراته السابقة وثقافته وتربيته التي يركن إليها في إصداره قراره، فإذا تغلب محكم كالعنصر مثلا، أو المذهب، اتجه حكم القيمة للطاعة والخضوع لقرار رجل الدين أو رجل السياسة، فيمكنك أن ترى تمثالا فنيا ثمينا وتعطيه قيمته الجمالية بموضع يليق به في بيتك، أو تراه مجرد صنم لا يستحق سوى التكسير بالحرام والحلال، ويلقى بالقمامة، لو سألت طفلا عن لون السيارة التي يفضلها سيقول الأحمر لأن الطفولة سيكولوجيا تتأثر بالأحمر، لكنه في سن آخر سيختار لونا آخر، وسيتأثر ذلك بظرفه الاقتصادي، وهل سيختارها رياضية أم رصينة ... إلخ الشيخ يقول للشاب كي يطلب الخلود لا بد أن يقاتل ويقتل، يعني رايح يكوتن والغريزة ترفض، هنا أيهما يكون الأقوى فسيكون هو صاحب القرار.
إن الأشياء أسبق في الوجود من أسمائها، والإنسان هو من أعطاها الأسماء؛ فالميكروبات مملكة بل إمبراطورية بل إمبراطوريات حية هائلة حجما وأثرا، ومع ذلك تعذر على الإنسان معرفتها قبل اختراع الميكروسكوب، رغم أنها كانت موجودة منذ نشأة الحياة على الأرض وتمارس كل أنشطتها دون أن تحمل اسما أو لفظة تدل عليها، إلا أنها أخذت اسمها ودلالته عندما اكتشفها الإنسان.
فالأشياء موجودة قبل الأسماء، والأحاسيس موجودة قبل الألفاظ المعبرة عنها، والمفاهيم موجودة قبل فض دلالاتها في مخارج حروف، وكان الدور في التسمية والتعبير وبسط الدلالات هو دور الإنسان الفرد والإنسان الجماعة. فلفظة «خير» بدلالاتها ليست من كشف فرد واحد فهي لفظة ودلالة ذات علاقة بالمجتمع كله وتطلبها كل المجتمعات؛ فالخير هو المرغوب فيه من الفرد ومن كل مجتمع، فإذا كان مرغوبا من فئة بعينها في المجتمع أو جماعة أو طائفة أو مذهب أو عنصر، تحول عن دلالته الخيرية وأصبح مصلحة خاصة، وإذا اختلفت جماعتان مجتمعيتان مختلفتان على معنى الخير لم يعد خيرا، وإنما مصلحة لطرف وهذا معنى خيرها، وضرر لطرف آخر وهذا معنى شرها. وهكذا لا يجوز القول بأن الخير مخصوص بأمة المسلمين أو يخص مذهبا أو عنصرا بعينه؛ وهكذا نشأت القيم كأدوات قياس وكمراتب تقدير معيارية في المجتمع الإنساني منذ آلاف السنين، أخذ كل منها طابعا محليا نتيجة تباعد المسافات وصعوبة الاتصالات بين الشعوب والدول والحكومات، إضافة إلى الصراعات بين الشعوب التي أخرت الاستقرار العالمي فترة طويلة. إلى ما وصل إليه اليوم من استقرار نسبي وأمن عالمي وتواصل عظيم، فأصبح المجتمع الدولي يتدخل في أي مكان لحماية الأقليات وفرض الاستقرار وحماية مبادئ الحرية والديمقراطية، وفي ظل هذا التواصل يتم تبادل التأثير والتأثر القيمي مما يؤدي كما سبق وأدى إلى تبلور فريد من الرقي القيمي بعد أن أصبح الإنسان الحر الكريم هو الهدف.
هكذا فإن الإنسان أسبق على وجود الحضارة والقيم؛ لأنه هو من صنعها وهي بدونه لا شيء، ورغم هذه البداهة الواضحة فإن فقهاء المسلمين لا يرونها لأنهم يعتبرون الإسلام هو مصدر كل القيم؛ وهو ما يعني أن الإنسانية عاشت قبل الإسلام بلا قيم، بينما فجر الضمير كان في مصر، وفجر القانون كل في بابل، وفجر الكتابة كان في لبنان، وفجر الديمقراطية كان في أثينا، وفجر الدستور كان في روما. إنهم لا يرون أن القيم في غياب الإنسان لا قيمة لها، وأنه لا وجود للجنة أو النار في غياب الإنسان، كذلك الحضارة كلها بمنجزاتها وعلومها وكشوفها لا وجود لها في غياب الإنسان، فإن اختفى فلمن تكون القيم ساعتئذ؟ وكذلك يكون الرب ربا؟
إن الكون والطبيعة كانا موجودين منذ بلايين السنين، وكان الرب كذلك فيما يعتقد المؤمن، في ذلك الزمن البعيد قبل ظهور الإنسان بعقله وفكره وتحضره، قبل وجود مجتمعات بشرية وحضارات وعلوم وفلسفات ومعدات، وبالطبع ولا أي قيم؟ فالإنسان هو الوجود الحقيقي لأنه من يدرك هذا الوجود وهو من يؤثر فيه بل ويستخدمه لمصلحة رفاهته، الإنسان هو الكائن الحقيقي وكل شيء، وقبله لم يكن هناك أي شيء.
وإذا كان الكون والمخلوقات والخالق موجودين قبل وجود الإنسان، للزم أن يخلق الله القيم بدورها قبل خلق الإنسان، كما خلق الشمس والقمر والنطفة والعلقة. ولو تخيلنا أن ذلك قد حدث وأن القيم موجودة في كتاب محفوظ قبل خلق الإنسان، فيترتب على ذلك عدم تطور القيم لثبوتها مع ثبات النص الأزلي في كتابه المكنون. ولو حدث هذا ما عرف الإنسان البدائي ما عرفه من تقدم وتطور وخلق أثناءه الحضارة وقيمها. فلا يوجد شيء على حاله منذ خلق الخلق إلى يوم الدين، كل شيء يتغير ويتطور، وهي الحقيقة الوحيدة في الوجود.
وإن تطور القيم، وظهور الجديد منها فرضا على يد الرسل والأنبياء ، فهذا ينفي نسبتها إلى الرب؛ لأن الرب يخلق خلقا مباشرا تاما غير قابل للتطور حسب الاعتقاد الديني. فالكون كله مخلوق خلقا ربانيا مباشرا هو اليوم على صورته كيوم خرج آدم من الجنة، وهو ما يخالف ما نراه بعيوننا ماثلا في الواقع، والغريب المبهر أننا لا نراه ليس لعمى في العيون وإنما لعمى العقول!
إن الاعتقاد بالخلق المباشر يستلزم أن يخلق الرب الشيء وقيمته داخله وجزءا من مكوناته، لا أن يخلقه ثم يتذكره بعد ألوف السنين فيرسل لنا ملحقا بكتالوج يخبرنا فيه عن قيمته. إن القيم التي وضعتها الحضارة الإنسانية هي الأصدق من القيم المحكية عن الفقهاء والكتب التراثية في شكل كتالوجات غير حقيقية. ولأن القيم إنسانية ونسبية، استباح الخليفة عمر لنفسه الاختلاف على نسبة العاصمة يثرب مما يحصله الولاة على البلاد المفتوحة، فاختلف مع عماله جميعا تقريبا، وكان الخلاف على المال، ولم تكن هناك قيمة غير المال، وراء ذلك، واستباحت السيدة عائشة الثورة على عثمان ثم استباحت الحرب على الإمام علي، لم تكن هناك قيم متفق عليها، لم يكن مشتركا بينهم سوى وجهات النظر النسبية، التي أجاز كل طرف لنفسه صحتها الدينية.
إن الذي خلق مصاحبا للإنسان موضوع داخله. هو الغرائز، وقد تم تزويد الكائنات كافة بهذه الغرائز من الإنسان إلى القردة إلى الحشرات، كلها كالإنسان، غريزة البقاء وغريزة الحفاظ على النوع، وهو الصراع الرهيب الذي دخله الإنسان الأول في بيئة قاسية لا ترحم، لكن من بين كل هذه الكائنات وحده الإنسان الذي لم يكتف بالغرائز تدير له حياته؛ لأنه لو اكتفى بها لظل يعيش بدائيا في الأحراش والغابات يقتل ليأكل، أو يقتل ليؤكل، أو يقتل ويؤكل، هذه البيئة التي أنزله الله فيها، هي مستنقعات وكهوف وضوار وأحراش وبواد، في البداية عندما بدأت منظومة العقل المعرفية اكتشف وجوب تغطية سوءته فلم يتوافر لديه إلا أوراق التوت ساترا له، فهذا ما وفره له الخالق في جنته بعد أكل الثمرة المحرمة.
وعندما نزل آدم إلى البراري والمستنقعات والكهوف لم تعجبه تلك البيئة المعدة له من قبل خالقه، وتمرد عليها وحولها اليوم إلى ناطحات سحاب، لم تعجبه الخيل والبغال والحمير والإبل التي خلقها الله واستعان بها كل الأنبياء، فصنع الطائرة المكيفة والسيارة المترفة، فعندما تمرد هذا المخلوق على حاله البدائي وبيئته استبدلها بما هو أفضل منها ملايين المرات، وترك ورقة التوت التي ستر بها عورته، وورقة التين التي كان ينظف بها مؤخرته، فلبس أجمل فنون الأزياء وأنشأ دورات مياه هي أعلى ذوقا وفنا ونظافة من مقرات عروش الملوك القدامى. هذا المتمرد لم يعجبه أن يكون ذليل غرائزه فقام بتعديلها وتحسينها وتطويرها إلى الأفضل، وابتدع القيم وفلسفات الأخلاق ليرافق تطوره المادي تطورا معنويا وخلقيا بمعايير قيمية تليق برقيه.
والأضرار التي تترتب على القول بقيم دينية تبدأ أولا من قواعد الدين نفسه التي لا تقبل المناقشة ولا استعمال العقل وإنما تطلب التصديق والطاعة. بينما القيم اختيار ومفاضلة وعقل يمايز ليعطي القيمة، ولذلك لو قلنا بقيم دينية ستكون قيما زائفة باطلة لأنها تخلو من الاختيار العقلي. وما يعطيه الدين لم ينشئه العقل إنما استقبله دون حوار بقرارات قدسية ومسلمات وتحليلات وتخريمات؛ لذلك عندما يتدخل العقل بقيمه العلمية وكيميائه سيكشف لنا كمية الأضرار والسموم في بول الجمل الذي يتداوى به المسلم حسب النصوص.
أما الضرر الأفدح فسيكون في الصراع الدموي الذي لا بد يترتب على القول بقيم دينية، وذلك لاختلاف الأديان وقيم كل منها، وهو لا يليق بعدالة السماء، ما يليق هو أن ننسب القيم إلى منشئها الإنسان، ولأنها غير مقدسة وقابلة للتغيير فإنه يمكن التنبؤ بالتقارب بينها والتآلف مع التطور لإقامة مجتمع أرضي مسالم سعيد.
الفصل الثاني
قاصمة الظهر
سلسلة من الكتب التي دونها المشايخ الدكاترة الأزاهرة كانت مهمتها ترسيخ القيم الإسلامية الرفيعة، وتبخيس وتدعير القيم الإنسانية الوضعية كما هي في بلاد الطاغوت، قبل أن تقرأ أيا من هذه الكتب سيخطر لك السؤال: إذا كانت هذه الكتب التي تنتقص القيم الإنسانية مكتوبة باللغة العربية، فليس مقصودها إذن إصلاح نقص تلك القيم في بلاد الأجانب، ولا تبليغهم بدعوة الإسلام وضرورة استبدالهم قيمهم بقيمنا، رغم أن ذلك الهدف يبدو هو المعلن بطول الكتب وعرضها وكل الكتبة هم رتبة الدعاة، فإذا كانوا يوجهون الدعوة إلى أهل الغرب كان يجب أن يكتبوها لهم بلغتهم، لكنهم ما داموا قد كتبوها باللغة العربية ونحن من يقرؤها، فكأنهم يوجهون الدعوة إلينا رغم أننا أسلمنا منذ أربعة عشر قرنا مضت، إذن المقصود المعلن هو تلبيس الإسلام للعالم كله أخذا بيده إلى أنوارنا، بينما الحقيقة الكامنة والكاملة أنه لا أحد يلبسه سوانا!
إنه خطاب يقف ضمن أيديولوجيا متكاملة تقوم على إقناع المسلمين أنهم بحالهم هذا هم أعظم الناس في العالم كله، وأنهم قد فازوا بالشهادة العليا التي لا تصل إليها أي درجة جامعية في العالم الطاغوتي.
وعلى مستوى بلاد المسلمين بعضها مع بعض، تجد الشيخ السعودي يقول لشعبه إن الإخوان في مصر يخرجون في مظاهرات كي يصبحوا مثلكم، إذن أنتم الأميز والفائزون بالدنيا والآخرة، يعني أن السعودي في بداوته هو في نعمة لا يعرفها من يعيش في وادي النيل، سيقتنع السعودي حين ذلك أن بناة الأهرام لم يستطيعوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه السعوديون، وحين يعتقد شعب أنه يمتلك الدنيا والآخرة، سواء أكان مصريا أم سعوديا فلن يرجى منه أي تطور أو تغيير ممكن، وبذلك الاطمئنان للتميز بالدين عن بقية الدنيا يضمن الشيخ - كمرجعية في كل شأن - استمرار وجوده سيدا على المسلمين.
ونموذجا للسادة هؤلاء يقول د. مصطفى حلمي: «دعا جارودي الغرب إلى الأخذ بالقيم الدينية والمبادئ الإسلامية والإيمان بالله الواحد وكتبه ورسله، بدلا من الإيمان بالصنمية والتي تتمثل في: التنمية، والتقدم، وتمجيد الأمة، وأصنام القوات المسلحة والقوة المسلحة والجيوش الجرارة، وغيرها من أصنام وطواطم» (الإسلام والمذاهب الفلسفية، الدعوة للنشر، 1985م، ص264-267).
مرة أخرى أكرر أن هذا الخطاب يجب أن يكون موجها لأهل الغرب إذا كان صلاح الإنسانية وانتشار الإسلام هما ما يشغل مشايخنا، أبسط الأمثلة يقول لنا إن الصنمية تتمثل في أشكال منها التنمية، بينما هو يعلم أنه ليس لدينا شيء اسمه تنمية أصلا، وما يقال عن تنمية في بلادنا هو نوع من الكوموفلاش، مثله مثل حرب 1967م التي نعاني آثارها المروعة حتى اليوم، دخلناها كوموفلاش! وإذا كان عندنا شيء اسمه تنمية، فلماذا لدينا أعلى نسبة أمية في العالم؟ ولماذا نحن أكثر الناس إيمانا بالخرافات؟ ولماذا تجد العفاريت يستحسنون ركوب المسلمين عن ركوب الحمير والبغال أو غيرهم في بلاد الدنيا؟ نحن لا نصنع شيئا، نحن نستورد ولا نبدع، لقد تغير المصطلح وأصبحوا يشيرون إلينا بالعالم المتخلف بعدما كانوا يقولون العالم الثالث؛ أي أننا انحدرنا درجة في تصنيف الأمم.
ثم تتمثل الصنمية كما يقول فضيلته في الفردية، ونحن كما يعلم مشايخنا لا نؤمن بفردية أي مواطن أكان مسلما أم غير مسلم، نحن نؤمن بالقبيلة وبالأمة وبالعنصرية والمذهبية والطائفية على أشكالها وألوانها كافة، فلدينا هذا نصراني وذاك مسلم، وهذا رافضي وذاك من النواصب، هذه مصطلحاتنا بعضنا مع بعض فعن أي فردية صنمية يتحدث مشايخنا؟ المصيبة أننا حتى عندما نمجد الأمة نمجدها قولا لا فعلا، ونتفكك إلى قبائل تخوض صراعا دمويا لأسباب تعود إلى أكثر من ألف عام إلى الوراء، ما بين عرب ويهود في فلسطين بحقوق تاريخية بين كل منهما، وما بين سنة وشيعة في العراق، وقبائل مسلمة إفريقية ومسلمة عربية في دارفور، كذلك الصومال، كذلك الجزائر، كذلك لبنان، كذلك مصر، كذلك أفغانستان، كذلك باكستان، كذلك الكشح، كذلك كنيسة الإسكندرية، كذلك مذبحة الأقصر، كذلك تفجيرات جدة والرياض، هذه هي ثقافتنا، القبيلة العنصرية الطائفية التي لا تعرف شيئا اسمه الفردية. (1) ماذا بقي لدينا من صنميات مرفوضة؟ صنمية القوة المسلحة!
فماذا يا مشايخنا عن الجهاد الإسلامي؟ وماذا عن قوله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم (الأنفال: 60)، وماذا عن الطير الأبابيل التي انحازت لقبيلة قريش رغم وثنيتها ضد الجيش الحبشي زعم إيمانيته، وأبادت هذا الجيش، وماذا عن فتوح البلدان، وماذا عن
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى (الأنفال: 17). أليس ذلك تمجيدا للقوة ومطالبة دينية برعاية القوة والتميز بالغلبة العسكرية.
مقصود مشايخنا الدكاترة المعلن هو تبليغ العالم المتقدم ما لدى العالم المتخلف من بدائل، وبذلك يصبح الإسلام دينا عالميا لتدخل فيه شعوب الدنيا أفواجا.
هذا بينما الواقع حولنا يشهد أن نظم الغرب الحر «الكافر الطاغوتي» هي من صنع عالمية الدين، ففي بلادهم ستجد البوذي والمسلم والشيعي والسني والملحد وعابد البقرة والوثني، ستجد المسلم في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وكوريا وأستراليا والسويد والدانمارك وألمانيا ... إلخ، أليس في ذلك عالمية للإسلام؟
نظام الغرب الحر سمح لكل الأديان بالوجود فأصبحت كلها عالمية وأصبحت قيمها عالمية، واستقبلت بلاد هذا الغرب موجات من الهجرة محملة بعادات ونظم وتقاليد تقبلها هذا الغرب بصدر رحب وتفاعل معها ولم يعتبرها غزوا ثقافيا، كل الأديان أصبحت عالمية بما فيها الإسلام؛ لأن أصحابه يوجدون في كل دول العالم، وهم من سيمارس مطالب الإسلام وشعائره.
إن مثل هذا الخطاب هو دعوة للكراهية وتحريض عليها وتأسيس عداء قدسي للآخر واحتقاره والحط من قدره لكونه غير مسلم فقط. وهو ما يعني أن مجرد وجود هذا الآخر الكافر هو اعتداء على نظام الكون القدسي الذي يخضع بالكلية للمفهوم الإسلامي، وهو ما يعني أيضا ضرورة مواجهة هذا الآخر المختلف. ولأن الآخر المختلف هو الأقوى والأقدر فإن دعوتهم للكراهية تقف عند حدود خطب التحريض للأفراد المسلمين لأخذ الأمر بأيديهم «من رأى منكم منكرا فليصلحه بيده»، على أساس ثقافي لتعديل أوضاع العالم بما يرضي الله، لينفلتوا متفجرين في كل مكان وفي أي مكان.
ومع التحريض يتم تأسيس التمركز حول الذات المتميزة بالإيمان الصادق عن بقية الذوات، دون أن تسأل هذه الذات نفسها: لماذا تمكن المجتمع صاحب القيم المادية المنحطة والسلوك الفاسد والمنحل، ويعاني من العري والاغتصاب والقلق والإدمان والاغتراب، باختصار كيف تمكن مجتمع بهذه الصفات التي تنزله منزلة الحيوان، أن يصنع حضارته العظيمة التي لا ننكرها بل نفيد منها ونسعى لاقتناء منتجها؟ ولماذا نحن أصحاب الأخلاق الإسلامية الرفيعة، نحن الذوات الملائكية، لماذا نحن في قاع مزبلة الأمم؟
من حق كل مجتمع أن يدعي لنفسه ما يفخر به ويعتز ويشعره بالعظمة والذات المتميزة، وذلك باسم أخلاقها، أو بتاريخها المجيد، أو بمنجزها الحضاري العظيم، لكن المجتمعات والأمم لا تتفاخر بما لم تنجز الذات، ذواتنا تتوهم امتلاك تميز ممنوح لها من السماء؛ مما يعطيها الحق في وجوب تسيد الكون كله لضبطه حسبما يحب الله ويرضى، وتقع على أصحاب الحق الإلهي مسئولية إدارة الكون.
وعادة ما يعبر فقهاء زماننا عن رأيهم وعن أنفسهم، لكنهم يسوقون هذا الرأي بحسبانه هو الدين ذاته، فيتحول الرأي عن كونه مجرد وجهة نظر إلى حرم قدسي. ونموذجا لذلك رأيهم في القيم الإنسانية التي توافقت عليها المجتمعات حسب ظروفها البيئية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية والزمنية، فيصفونها أولا بكونها قيما وضعية، أي أنها من وضع البشر وليست من وضع رب السماء، حتى يسوغ بعد ذلك تسخيفها وتدعيرها وإقصاؤها.
اسمع معي أحد الدكاترة الأزاهرة الذي تتخرج من تحت يديه الأجيال وقد تشربوا منه المعرفة وحددوا المواقف، اسمعوه يقول: «إن القيم الوضعية لا تستطيع أن تؤثر في معنويات المجتمع تأثيرا قويا كما يجب وكما ينبغي، حتى تجعل من أفراده وأبنائه أصحاب أخلاق مثالية» (د. الصاوي أحمد، القيم وثقافة العولمة، ص28).
الرجل مثل كل فريقه من المنشغلين علينا بالإسلام لا يرى في غير المسلمين أي فضيلة ممكنة، ولو أعملنا رأيهم هذا في تاريخ البشرية؛ فهو ما سيعني أن الهند والصين واليابان وبابل ومصر القديمة واليونان، كلها كانت حضارات بدون قيم سليمة؛ لأنها لا تعرف القيم السماوية ولأنها وضعت قيمها حسب ظروفها وبأيديها، فلا كان الفرعون نبيا، ولا كان كونفوشيوس رسولا ولا كان حمورابي من العارفين بالله، وكانت أديانهم وضعية أي من اكتشافهم وصنعهم، كذلك قيمهم كانت وضعية. ولا تجد بين البشر من ينكر على تلك الحضارات تحضرها وتمتعها بالخلق الرفيع سوى مفكرينا المسلمين وحدهم، نفعنا الله بهم؟!
ولأن مفكرينا المسلمين لا ينجزون شيئا ولا ينتجون؛ فإنهم لن يشعروا بالتميز إلا إذا أنكروا على المنجز إنجازه وعلى المبتكر ابتكاره، لتتساوى الرءوس ولا يبقى من فارق في أسنان المشط سوى التقوى، التي يصفون بها أنفسهم من باب التميز عن سائر الناس، دون أثر واحد حقيقي لتلك التقوى فيما يقولون أو يفعلون، وهو ما سنثبته الآن!
لو راجعنا التاريخ الديني فسنجد أن التقوى لم تمنع نبيا من أولي العزم مثل إبراهيم من قوله عن زوجته سارة إنها أخته فيتزوجها الفرعون المصري، وذلك بحسب التوراة لأسباب: «قولي إنك أختي ليحصل لي خير بسببك وتحيا نفس من أجلك» (سفر التكوين). هذا بينما القيم الوضعية المصرية هي التي دفعت الفرعون إلى طلاق سارة وإعادتها إلى إبراهيم تاركا لها مهرها لها، بل ومزودا لها بخير عظيم كتكفير عما لحقه من عار الزواج بامرأة ذات بعل.
القيم السماوية لم تمنع الأسباط الكرام من بيع أخيهم يوسف طفلا في سوق النخاسة، بينما القيم الوضعية المصرية هي التي أعطت الفرصة ليوسف عندما أثبت المهارة ليتبوأ منصب وزير خزانتها، وهو غير مصري، وهو المبيع لها عبدا، وهو ما تمكنت أمريكا من إنجازه مؤخرا بعد قرون من العنصرية البغيضة، وانتخب الشعب الأمريكي أوباما الذي هو من أول جيل مهاجر لأمريكا، ناهيك عن كونه قدم بالأمس من أصول زنجية إفريقية، هذا بينما عندما فتح العرب أصحاب القيم السماوية مصر أو العراق أو بلاد الشام، لم يتخذوا من أبنائها واليا أو وزيرا. وكان يأتيها الوالي والوزراء وكبار المتنفذين قرشيين من عاصمة الخلافة، أو عثمانيين من بعد.
وإذا تساءلنا عن السر في العداء الصريح للقيم الإنسانية، أجابونا: «إن القيم الوضعية توضع لحفظ النظام العام في حياة المجتمع، ولا تعالج إصلاح القلوب والضمائر، أما القيم السماوية فإنها تقوم بإصلاح القلوب والضمائر لكل شيء، وتكسبه قوة العقيدة، والإيمان، والسلوك الحميد» (المصدر نفسه).
وهذا إنما يعني أن القيم الوضعية لها مهمة هي حفظ النظام العام، وهي مهمة ليست بالقليلة ولا بالهينة ، لكن هذه القيم لا تجعل أهلها أصحاب خلق كريم، وهنا يأتي دور القيم السماوية. وهو ما يعني أن ما يتعلق بالنظام العام للمجتمع ليس مهمة القيم السماوية؛ وهو ما يعني أن القيم الوضعية لها ضرورة لحفظ هذا النظام؛ وهو ما يعني أن القيم السماوية قاصرة عن الاهتمام بالمجتمع ككل لذلك يلزم اللجوء إلى القيم الوضعية لاستكمالها كي تحفظ لنا نظام المجتمع العام. ناهيك عن الدورين وأهمية كل منهما وعمق أثرهما في المجتمع ككل؛ فالقيم الإنسانية/الوضعية ينعكس أثرها على المجتمع ككل، وهي ابتكار توافق عليه المجتمع ككل، بينما القيم الدينية، حسبما يشرحون لنا، تتعلق بضمير الفرد وصلاح قلبه وأن مهمتها إكساب الفرد قوة العقيدة والإيمان! ودمتم!
وهكذا تجدهم يدركون جيدا دور كل من اللونين من القيم ومع ذلك يعيبون بشدة القيم الوضعية ويبخسونها، كما لو كانوا يضربون النظام العام للمجتمع في مقتل وهو ما أثبت جدارته وفعاليته في اختفاء وتواري القيم الإنسانية في بلادنا بعد الصحوة الإسلامية، وبقاء القيم الدينية وما نتج عنها من تفشي جرائم التحرش والاغتصاب بنسب غير معهودة في بلادنا، وتفشي التقوى ومعها الفساد والنصب والاحتيال بشكل لم يسبق أن عرفه تاريخنا سوى أيام المماليك والهكسوس.
لا تفهم مشايخنا هنا، ولا تفهم مبرر مهاجمتهم للقوانين الوضعية، ما داموا يعترفون بأن القيم السماوية لا يمكنها القيام بالعمل كله؛ لذلك نستوضحهم قولا حاسما وحاكما فيقولون لنا: «إن القيم الوضعية لا تستطيع أن تخفف من محبة الدنيا وحب المادة، أما القيم الدينية فإن من خصالها القدسية التي تخفف من محبة الدنيا وحب المادة الوضعية» (المصدر نفسه).
أول ما يتبادر إلى الذهن هنا فورا لماذا لا يريد لنا مشايخنا أن نحب الدنيا ومادتها التي يسميها الإسلام متاعا أي متعة وبهجة وسرورا؟ وإذا لم نحب دنيانا فهل نكون فاعلين منتجين مبهجين؟ وهل إذا لم نسعد في هذه الدنيا ونفرح فيها يعني أن ذلك هو التقوى؟ ولماذا تشترط التقوى كراهة السعادة والسرور؟ وهل لذلك حرموا علينا كل الفنون؟ كراهة الفنون التشكيلية لأنها تصنع أصناما، ومعها كراهة الفنون الموسيقية رغم أن هبل لم يكن ممسكا بربابة! وهل لهذا كله علاقة بنصيبنا في إنجازات شعوب الدنيا وهو صفر حقير؟ وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا لا يوضحون لنا أسماء وأصناف القيم التي سادت مجتمع الصحابة الأوائل زمن الخلافة الراشدة ؟ ولماذا لا يشرحون لنا كيف تصدت هذه القيم لحب الدنيا الذي غلب على الخليفة عثمان، كما غلب على الصحابة الذين قتلوه لأنهم لم ينالوا نصيبهم كبني أمية من الأموال المنهوبة من البلاد المفتوحة؟ وأن يبرزوا لنا كيف منعت القيم السماوية بني أمية من الضغط على الخليفة عثمان لينالوا النصيب الأعظم من جاه الدنيا دون بقية الصحابة، فكانت الفتنة الكبرى وما تلاها من فتن أكبر وأعظم وأكثر خزيا. ثم هل صانت تلك القيم دماء الخلفاء الراشدين الأربعة بعد أن ماتوا جميعا صرعى الاغتيالات؟
فإذا كان السادة الأزاهرة الدعاة الدكاترة يعلمون تفاصيل تاريخنا الدموي يقينا، فهل تراهم يكذبون على المسلمين؟ وإذا كان هذا الفرض صحيحا، فلأي غرض ولتحقيق أي هدف؟
إن التنفير الدائم من كل منجز بشري ونعته بالوضعي تقزيما وتحقيرا رغم أنه نعم الوضع ونعم الإنجاز، ليس مقصوده وهدفه توفير الإسلام؛ لأن ذلك يهينه ولا يوقره، بقدر ما يضحون بتوقير الإسلام في سبيل لبس المسوح الدعوية ووجاهتها الاجتماعية ومردودها التجاري العظيم. القصد والهدف هما ليس توقير الإسلام وإلا ما كذبوا عليه، القصد والهدف هما توقير الشيخ الفقيه الدكتور، ثم الصعود إلى درجة أعلى لتقديس ما يقول الشيخ، وعندما يقول إنسان قولا مقدسا فقد حاز رتبة النبوة وإن لم يعلنها، فكان أن امتلأت بلادنا بالأنبياء الكذبة!
بينما الوقائع أمام عيوننا مترجمة إلى مكانة اجتماعية رفيعة في مجتمعات جهولة ومسوح دعوية من بيوت الأزياء العالمية من الغترة السويسرية إلى السروال الطلياني، ومكاسب مادية ببذخ معهود في الفضائيات البترولية، ويسعى الناس إليهم بالنذور يقبلون الأيادي طلبا للرضا السماوي، الهدف المقصود عند مشايخنا ليس الإسلام، الهدف والمقصود هو اكتساب الشيخ للقدسية وتوابعها من أطايب الحياة الدنيا التي يريدوننا أن نتخلى عنها، حتى لا نأخذ جزءا من نصيبهم فيها، فيصرفوننا عن التطلع إلى ما بيد شعوب الدنيا من عز وسعادة ورفاه، ليحدثونا عن ارتفاع نسبة الانتحار في تلك البلاد نتيجة الشبع والبطر، الذي لم يحقق لهم السعادة حتى أنهم يعضون الأنامل غيظا لما نحن فيه من جهل ومرض وخراب ضمائر جمعي وفساد عمومي هو العار نفسه؛ لذلك علينا بالفقر والجهل والمرض نعض عليها بالنواجذ فهي منقذنا يوم الدينونة أمام الرحمن الرحيم.
ولا يبقى سوى الشيخ حلا وحيدا وقدسيا بلا منافس في سوق الفكرة، وتقام له الموالد بعد موته وينال خلود الذكر في الدنيا كما في حالة الشعراوي مثلا، فأي مكسب أعظم من كل هذه الحظوظ مجتمعة؟ إنها الحظوظ التي تدفع بصاحبها إلى امتلاك الأرض والناس، فلماذا لا يرنو إلى الملك والكرسي الأعظم بالدعوة إلى دولة الخلافة؟
ومع التطور العملي في وسائل الاتصالات كثر شيوخ الدعوى والفتوى، من شيوخ تقليديين إلى دعاة جدد أو مودرن، ناهيك عن شيوخ الفضائيات ومشايخ الفيديو كليب، لأن المكاسب المتحققة من جهل أمة ضحكت من جهلها الأمم هو الأعظم بين كل المكاسب.
إنهم يتاجرون بنا وبديننا وبنبينا وبربنا وبالمسلمين وبالوطن في سوق فساد علني وسوق نخاسة نحن فيه العبيد، محمي برايات القداسة وأعلام الشرف والطهارة، مجرد أعلام وشعارات لا علاقة لها بما يفعلون بنا حقا.
وإذا كان فقهاء زماننا يريدون عالمية الإسلام، فقد تحققت هذه العالمية، لكنهم إذا كانوا يعنون بعالمية الإسلام إلزام العالم كله بدين الإسلام وهم في قاع الأمم، فتلك والله لقاصمة الظهر!
الفصل الثالث
من القيم الذاتية إلى القيم الإنسانية
في البدء لم يكن الإنسان قد صار إنسانا بعد، في البدء كانت البيئة الوحشية والطبيعة القاسية تفرض عليه صراع وجود حياة أو موتا، وخلال هذا الصراع الطويل الذي بدأ من فجر الوجود البشري على الأرض حتى اليوم، حقق الإنسان نقلات هامة حاول فيها أن يحقق انتصاره على الطبيعة، حتى وصل إلى ترويض كثير من عناصرها وتسخيرها لخدمته ليصبح على الأرض سيدا لها.
في صراعه الأولي الابتدائي استعان بالسحر والتعاويذ والقرابين للتعامل مع مظاهر وعناصر الطبيعة، وفي مرحلة تالية انتقل إلى فكرة التعامل المباشر مع ما تصوره قوى محركة تقف وراء مظاهر الطبيعة، عطاء أو شحا خيرا أو دمارا، فاستدعى للطبيعة آلهة يمكنه مخاطبتها، كانت آلهة متخصصة، فكان لكل ظاهرة طبيعية ربها، فكان للجبل إله، وللنهر إله، وللنار إله، وللخير إله، وللمطر إله، وللشر إله، وللخصب الجنسي إله يدبره، وللأنوثة إلهة، وللذكورية إله فحل، وللطفولة إلهها ... إلخ.
ومع الاستقرار على الأرض بعد اكتشافه الزراعة، وتوسع هذا الاستقرار في أقاليم معبدية تنشأ حول المعبد، ثم أقاليم مدينية تقوم حول مركز الحكم، ثم توحد هذه الأقاليم في مدينة دولة مملكة، ثم في دولة كبيرة تضم عدة مدن ممالك إن سلما أو حربا، حدث التحول والتطور ذاته في عالم الآلهة، التي نزعت بدورها نحو التوحد في إله واحد يحوي كل الآلهة القديمة على اختلاف تخصصاتها وحتى اختلاف فضاءاتها الجغرافية البيئية القديمة في ذاته الواحدة العلية، وظل الأمر على حاله بسيادة رجل الدين حليفا أول للسلطة، حتى ظهور المنهج العلمي في التفكير ثم الثورة الفرنسية وصراع عصر النهضة، الذي انتهى بسيادة المنهج العلمي، الذي كان أهم ما حققه هو إعادة الحدث والظاهرة إلى سببهما الحقيقي وإدراك الإنسان للعلاقة السببية بين السبب والنتيجة، ليرضى بالسبب الأقرب الواضح المادي، حتى لو لم يكن كافيا للتفسير التمامي، بديلا من الرحيل إلى ما وراء هذا السبب المادي إلى ميتافيزيقا تصورية وهمية. فأمكن علاج كثير من الأمراض والتصدي لمعظمها حتى تم القضاء عليها من التاريخ، بعد اكتشاف الميكروبات والفاكسينات والمضادات الحيوية، فكان أن حل العلم الإنساني محل كل التراث القديم للبشرية، وخرج الرب وأنبياؤه وكهنته من الموضوع، وحل العلماء محل الأرباب بعد أن أثبتوا بالآيات البينات الواضحات مساندتهم الحقيقية لبني الإنسان في مواجهة الطبيعة القاسية التي ظلوا رهن نزواتها وكوارثها وحوائجها وأوبئتها طوال الأزمنة الخوالي.
وفي كل مرحلة ونقلة تطورية كانت تظهر بما تناسب المرحلة وتعبر عنها حتى وصلنا إلى زمن العولمة الإنسانية حيث توافقت البشرية على قيم تناسب زمنها وتعبر عنه.
وعودة نحو البدء وبصحبة سؤال القيم لن تجد هذا البدء سوى ما يمكن تسميته قيما ذاتية، وهي في معظمها غرائزية تتعلق بالحفاظ على النوع وعلى الحياة. ولكن مع اللحظة التي أبدع فيها الإنسان شيئا لم يكن موجودا في واقعه، ظهرت لأول مرة فيها من نوع جديد لم تكن معلومة من قبل، بعد أن توافق الناس على تقييم هذا الجديد وإعطائه قيمة وتثمينا، ثم وضعوا له القوانين التي تحمي هذه القيمة، والمؤسسات التي تضع القانون وتلك التي تسهر على تنفيذه. وانتقل الإنسان من العيالة على الطبيعة وقيمها الغريزية الحيوانية ليكتشف مع الفلاسفة مباحث القيم وعلم الأخلاق، وهي مرحلة تالية للدين؛ لذلك لم يعرف الدين هذه القيم. وظهرت لنا اليوم قيم ما خطرت في بال الأقدمين، كالقيم المصاحبة لعلم هندسة الوراثة وما يحكمها من قوانين، وقيم لها علاقة باكتشاف الطاقة النووية وقوانين تشغيلها وشروط دفن نفاياتها. لكن هذا لم يعن انتقال البشرية كلها إلى قيم زماننا، فما زال في زمننا في الصحارى وأواسط الغابات والأحراش الإنسان ذو القيم الغرائزية البدائية العنيفة إلى اليوم.
رغم كل محاولاتي هنا التبسيط وولوج الأمر باليسير من العبارات، إلا أنني مضطر للاستعانة بالمتخصصين والتعامل مع هذا التخصص بالتبسيط والتيسير، تشرح لنا الدكتورة فوزية دياب معنى القيمة فتقول: «إنها تفصح عن أهمية حكم الآخرين تقديرا واستحسانا واستهجانا للشيء أو للسلوك، فهي عندئذ تعبر عن المرغوب فيه والمرغوب عنه في نظر المجتمع. ولفظ قيمة مصطلح علمي في دراسة الفلسفة والاقتصاد والفن وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأنثروبولوجيا (ولم تذكر الدين) ويرى بعض العلماء أن اصطلاح القيمة يرادف
useful
أو لائق
Expedient
وهناك من يقول إن القيم هي الأفكار الاعتقادية المتعلقة بفائدة كل شيء في المجتمع. وقد تكون الفائدة صحية جسمية، أو توقدا في الذكاء، أو نشوة ولذة، أو بسطة في الرزق، أو حسن السمعة، أو غير ذلك من المنافع الشخصية، وعلى كل حال فإن فكرة المنفعة أو الفائدة يجب أن نأخذها بكل تحفظ، فما من شيء يكون نافعا أو مفيدا لذاته، بل يكون كذلك لحاجة في نفس الشخص، تجعله يرى هنا النفع أو هذه الفائدة، فما هو غير نافع لشخص أو ضار قد يكون نافعا لغيره. والمثل يقول: مصائب قوم عند قوم فوائد» (ص25).
ما يمكن إضافته هنا التنبيه إلى أن هذا النفع قد يكون توهما وليس حقيقة، كالاعتقاد في فعل السحر أو أن أدعية تأتي بالمراد، أو أن التعاويذ تمنع غير المرغوب فيه، أو أن الصلاة تسقط المطر أو أن رجم إبليس له أية قيمة، خاصة أنه رغم طول مدة الرجم على مر العصور؛ فإنه بحسب أهل الدين لم يرتدع عن إغوائه للمؤمنين.
وكي يتمكن الإنسان من إصدار حكم قيمة فلا بد أولا أن يملك حريته بإطلاق؛ لأنها هي ما تمكنه من إصدار حكمه القيمي، بينما لو كان واقعا تحت سيطرة خارجية تسير إراداته، فإن حكم القيمة لن يكون معبرا عن رأيه بل عن رأي المتسلط المسيطر، سواء أكان هذا المتسلط حاكما أم رجل دين أم المجتمع ذاته؛ لذلك فشرط أحكام القيم السليمة الأول هو الحرية المطلقة في اختيارها.
ومن شروط تمام حكم القيمة أن يكون هناك تماس مباشر بين الإنسان والشيء، أو الفعل محل التقييم؛ لأنه الطرف الثاني في المعادلة، وهو الطرف الموضوعي الخالي من العقل والعاجز عن الإفصاح عن قيمته، ويكون محل حكم الطرف الأول «الإنسان» عليه بحكم قيمة، بعد أن يكتشفها العقل الإنساني فيه.
المسألة أيضا ليست بهذا القدر من البساطة لأن هذا العقل كي يتصل بالموضوع، فإن هناك موصلات ومدخلات يمر منها الموضوع إلى العقل الذي سيصدر حكم القيمة، بالطبع أول المدخلات هو الحواس الخمس، وهي تخضع لمؤثرات عديدة أهمها مدى جودة هذه المدخلات أو الموصلات، فبعضها ضعيف وبعضها معيوب، وبعضها محاط بتعليمات مجتمعية أو دينية تعوق التوصيل السليم فتؤثر سلبا أو إيجابا في الموضوع وهو يتحول من صورة وشكل في الواقع إلى معلومة عقلية، وأثناء هذا التحول تتدخل المؤثرات فتنتقل شيئا قد يخالف الموجود في الواقع الماثل قليلا أو كثيرا.
الموصلات أيضا تتداخل معها الغرائز والحاجات والمشاعر ألما أو لذة، والقيمة الاقتصادية وتعاليم الدين والمجتمع كالعادات والتقاليد، ولكل مؤثر هنا دور في عملية تحويل الموضوع إلى معلومة ذهنية، كل حسب اختصاصه، فإن كان المؤثر الغريزي هو الأعلى لن يلتفت الرجل إلى عقل المرأة قدر التفاته إلى دوائر فخذيها؛ ومن ثم يصطبغ الموضوع غير الغريزي في الواقع، بصبغة غريزية عند تحوله إلى معلومة ذهنية، صبغة لم تكن موجودة في الواقع الماثل. كذلك إذا كان المؤثر دينيا هو الأقوى فسيقودني إلى ضعف المؤثرات الأخرى في عملية النقل، فيأتي الحكم مصبوغا بحرام وحلال خاص بدين صاحبه، ولا علاقة له بما هو في الواقع من حيث هو خطأ أم صواب، صحيح أم باطل، نافع أم ضار، وفي حال تعادل المؤثرات فإن حكم القيمة سيأتي حكما مجودا مدعما بالثقافة العامة والمصالح المشتركة للمجتمع والتربية السليمة، يأتي حكما يراعي كل المؤثرات فيظهر القيمة الحقيقية للموضوع، وينقل الموضوع كما هو بذاته في الواقع ليصبح فكرة ذهنية مطابقة لما هو في الواقع بكل دلالاته ومعانيه.
ولأن فقهاء المسلمين لا بد أن يعرفوا في كل شأن، ويدلوا بدلوهم في كل بئر؛ لأنهم أحاطوا بالمعارف كلها عبر المقدس التام الشامل المانع؛ فإنهم لا يجدون أي بأس من القول بشيء اسمه «القيم الدينية»، المشكلة في المزايدين من رجال العلم في بلادنا الذين يريدون إثبات طاعتهم لأصحاب القداسة، انظر مثلا أستاذ الفلسفة الدكتور توفيق الطويل في كتابه أسس الفلسفة، إذ يؤسس لشيء عجيب بقوله: «هناك من يرى أن وظيفة القيم الدينية هي المحافظة على القيم الإكسيولوجية الثلاث: الحق والخير والجمال، أكثر من وضعها قيمة رابعة تضاف إليها» (ص378). وأستاذ الفلسفة يريد أن يقول بقيم دينية ويعطيها وظيفة غير موجودة في الواقع، فوظيفتها المحافظة على القيم الإكسيولوجية، والمعنى المتضمن أنه لا تعارض بينها، لكن المتضمن أيضا أن الإكسيولوجية كانت هي الأسبق في الوجود، وأن القيم الدينية جاءت لاحقة لها، وكي تكون لها مهمة ولو مخترعة لمجاملة سدنة الدين، يعطيها مهمة المحافظة على القيم الإكسيولوجية، والأنبياء لم يقولوا لنا سوى عبادات ومعاملات وأوامر ونواه.
ما نقوله هو محاولة الإجابة عن السؤال الساذج هنا هو: أنه إذا كانت هناك قيم دينية فما هو مصدرها؟ وما هو نوعها؟ يعني هل هي قيم ذاتية تعبر عن الذات الإلهية ورغباتها أم أنها موضوعية ضمن طبيعة الأشياء وفي هذه الحال لا تكون دينية؟ لأن الله عندما خلق الأشياء خلق معها قيمها، وفي هذه الحال تصبح قيما موضوعية في واقع الأشياء، أم خلق الأشياء ثم تذكر أنه قد سها عن وضع قيم لها، فأرسل لها ملحقا توضيحيا بقيم دينية مع الأنبياء والرسل؟
وإذا كانت القيمة هي معيارا نزن به ونفاضل بين الأشياء أو الأفعال؛ فالفعل كله إذن بشري ولم يكن الدين طرفا منه، لكن إذا كانوا يقصدون القيم الذاتية فهي بالمئات وضمنها الدين كعنصر من عناصرها وليس هو كلها، فهناك مؤثرات أخرى في القيم الذاتية كعامل الوراثة والبيئة وشكل المجتمع ونظامه السياسي ونظمه الاقتصادية وعاداته وتقاليده ناهيك عن الغرائز والحب والكراهية ... إلخ ... إلخ.
والقيم الذاتية غير القيم العامة التي تضع معيارا لها هو نفع أو ضرر الجماعة كلها، فالملك الذي لا يحب أكل الملوخية لا يحق له إصدار قرار بتحريمها على شعبه، ومن تعف نفسه شرب الخمر أو أكل الدم أو لحم الخنزير فلا يفرضها على غيره؛ فهي شئون ذاتية تتعلق بالذوق الخاص جدا ولا تلزم الآخرين بها، في شهر رمضان مثلا يقيم الغني التقي مائدة الرحمن، بينما جاره الأغنى والتقي بدوره لا يقيمها، مثل هذه الحرية في الأداء تعني أن المسألة وجهات نظر وليست متفقا عليها، هذه التي يسمونها قيما دينية لا معنى لها بعدم إلزام الناس جميعا بها، حتى الفروض والشعائر الدينية كالحج هي قيم ذاتية شخصية يعود نفعها على صاحبها وحده؛ لذلك لا تجد حكومات إسلامية أي حرج في وضع قيود على الحج لعدم سحب الأموال الوطنية إلى بنوك السعودية، رغم أن الحج يلزم كل من استطاع إليه سبيلا. حتى إنه أحيانا يكون لكل جماعة قيم خاصة بها، بل ولكل طائفة، بل ولكل أسرة، بينما القيم العامة هي قيم إنسانية تلزم المجتمعات الإنسانية في أي مكان، مثل عدم تشغيل الأطفال، أو محاربة المخدرات البيضاء باتفاق عالمي لتأكيد ضررها الذي سيمس الجنس البشري كله أو حقوق الإنسان، أو عقوبة جرائم الحرب ... إلخ .
مشكلة سادتنا الفقهاء مع القيم الإنسانية ليواجهوا بها القيم الدينية مشكلة غير مفهومة؛ فالقيم الإنسانية لا تلغي القيم الذاتية، أن تشرب القهوة سادة أو مع سكر زيادة أو تتزوج أو تعيش عازبا، هذه مسائل شخصية، لا تتدخل فيها القيم الإنسانية بالإثبات أو بالرفض. واستدعاء قيم زمن الدعوة الإسلامية لا يعني أنها كانت قيما دينية، بقدر ما كانت مغرقة في ذاتيتها وبدائيتها وغرائزيتها، بحكم زمنها وطبيعة بيئتها القاسية، كانوا يؤمنون أن الناس رتبا وقبائل وأنسابا ومنازل؛ لذلك لم يعرفوا قيمة عرفتها مجتمعات أخرى وأزمنة أخرى، هي قيمة المساواة في الحقوق والواجبات، بل لم تخطر لهم على بال رغم ما يرفعون من شعار أسنان المشط؛ لأنها أسنان مشط واحد هو التقوى في الإسلام، وغير ذلك لا يدخل ضمنها. في ذلك الزمان ستجد حتى بلاد الحضارات تؤمن بقيم شديدة الذاتية، حتى ما وصل إليه اليونان والرومان من رقي في عقدهم الاجتماعي الديمقراطي؛ فإنها كانت «الديمقراطية» قيمة ذاتية لمجتمعهم فقط، ولا يصدرونها كقيمة إنسانية عالمية إلى بقية الشعوب، وكان الرومان يرون أن الشعوب غير المحكومة بدستور وقانون هي شعوب دون رتبة الإنسان ولقبوهم بالبرابرة. بينما في زماننا فإن الأمم المتحدة تسعى إلى تعميم الديمقراطية على شعوب الأرض، وهو كله ما يؤدي إلى الاعتراف بأنه ليست هناك قيم دينية أزلية ثابتة صالحة لكل زمان ومكان؛ لذلك تكثر الحروب الأهلية وينتشر التخلف وتتكاثر المشاكل، حيثما نجد المجتمعات التي ما زالت تعمل وفق القيم الذاتية. فعندما يحرم مجتمع الموسيقى والغناء والنحت وهي كلها قيم إنسانية؛ فإنه يحرم نفسه ارتقاء الروح والإحساس بقيمة الجمال؛ لذلك يكون تحريم التذوق الفني ارتدادا عن الإنسانية؛ لأن الإنسان هو الفنان الوحيد بين الكائنات الحية الذي يبدع الفنون ويتذوقها ويعطيها قيمة، إن مثل هذا التحريم يعود بالمجتمع ليس إلى زمن القيم الذاتية الصحراوية فقط، بل يعيده إلى الحيوانية؛ فالإنسان هو الوحيد الذي يستطيع أن يرسم، فلم نسمع عن جمل يرسم أو عن بغل يغني، رغم أنهما لنركبهما وللزينة، وعندما يرفض الإنسان الزينة والفن ويكتفي بالركوب يصبح هو وما يركبه من الفصيلة ذاتها.
ولو عدنا إلى زمن الراشدين مثلا لنكتشف شكل القيم فيه، لوجدنا أن كل شخص له قيمة وله معيار خاص للقيمة، وتنتصر قيمته ومعياره بقدر مكانته وقوته في المجتمع، هي قيم رتبة السنانير، عندما اختلف عمر الخليفة مع عماله على الأمصار حول المغانم والفيوء المنهوبة من البلاد المفتوحة، لم يختلفا حول جواز مهاجمة الشعوب وسلبها خيراتها كقيمة خيرة أو شريرة، إنما اختلفا حول نصيب كل منهما من هذه الفيوء، دون حتى قواعد واضحة لتفعيل التقسيم العادل، كانت المسألة أنت وشطارتك، فإن تمكن الخليفة فإنه يشاطر ابن العاص أموال المصريين، وإن أمكنه ناصف خالد بن الوليد أموال العراقيين، وقاعدة الغزو نفسها والسلب والنهب للآمنين لم تكن قيمة سلبية ولا مشينة، بل هي قيمة إيجابية تدل على السطوة وفروض السيطرة؛ فالقيمة عند البدوي تنبع منه، وهو من يحددها حسب مصلحته. اختلفوا حول الأنصبة وليس في حلال أو حرام؛ لأنه حسب القاعدة الدينية حلال بلال زلال، كذلك لا حديث عن المنهوب المجني عليه هنا؛ لأنه غير شريك في الإنسانية، هو من العجماوات وليس له ما للعرب من حقوق، هو من يعمل ويدفع وهم من يقبضون لقدرتهم على القبض وعلى الإنفاق، وكله في سبيل الله.
يهولنك حجم الجرأة على الحق عند من يزعمون أنهم الحق، انظر معي الفقيه قرضاوي وهو يؤكد على وجود القيم الإنسانية كأساس في منظومة الدين الإسلامي، فيتحدث في كتابه «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» فيقول: «ويقوم ذلك المجتمع على آداب وتقاليد خاصة تجعله نسيج وحده غير مقلد لغيره ممن بعد عنه زمانا أو بعد مكانا، مجتمع يقوم على القيم الإنسانية الرفيعة التي تقوم على احترام كرامة الإنسان وحريته وحرماته وحقوقه وصيانة دمه وعرضه وماله وعقله ونسله بوصفه إنسا، ونركز هنا على مجموعة من القيم الإنسانية وهي العلم والعمل والحرية والشورى والإخاء» (مكتبة وهبة، ص109).
أولا لا تفهم سر النزوع الغريب إلى تأكيد أن المسلمين لون خاص من البشر بلا شبيه ولا نظير، ولماذا يجب ألا يقلد هذا المجتمع غيره ممن بعد عنهم مكانا أو زمانا؟ إن هذه القاعدة من البداية تشير إلى لا إنسانية المعيار نفسه، فهو يميز بشرا عن بشر ويرفض الاهتداء بما قد يصل إليه البشر الآخرون من فوائد للإنسانية، إنها أصل وأس القيم الذاتية البدائية التي ترى ذاتها أم كل القيم ومعيار كل الأشياء.
المهم أن قرضاوي في كتابه سيركز على القيم الإنسانية الرفيعة في الإسلام وهي احترام قيمة الإنسان.
فهلا أشار لنا قرضاوي أو أي قرضاوي آخر أين نجد تلك القيمة في تاريخ الفتوحات الإسلامية التي فتحت العالم لأنوار الإسلام؟ وفي أي حادثة؟ وأحداثها كثيرة وهائلة ومهولة ومرعبة ولا مثيل لها في تاريخ القسوة حتى لو قارناها بجنكيز خان وهولاكو.
هل من احترام قيمة الإنسان جلده وتقطيعه وسمل عيونه وتقطيع أوصاله من خلاف والذبح صبرا؟ وأي إنسانية الحقوق التي تفترض التساوي إزاء القاعدة القرآنية «الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى»؟ هل من احترام قيمة الإنسان بعد ذبحه في المعركة ركوب نسائه في ساحة الوغى بحق حلال أحل من لبن الأم، مع سبي أطفاله وبيعهم في سوق النخاسة أو استعمالهم جنسيا ولا غضاضة؟ وهل من ضرورات نشر الدين ورضا رب الإسلام ركوب نساء المهزوم؟
وهل من احترام قيمة الإنسان: أن يدرس أبناؤنا في معاهدنا الدينية حتى اليوم فقها كاملا على المذاهب الأربعة مدونا في مئات الصفحات ليشرح لهم فقه الرقيق في الدية وفي الميراث والبيع والشراء والمباضعة والمناكحة والمخارجة، إلى آخر أبوابه الطوال.
أين هنا «كرامة الإنسان وحريته وحرماته وحقوقه وصيانة دمه وعرضه وماله وعقله ونسله بوصفه إنسانا»؟ وكيف أمكن تفعيلها إزاء الرسالة الفاتحة تدق أبواب البلدان بالرعب «الإسلام أو الجزية أو القتل»؟! الآيات تقول:
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29) هنا قيم ذاتية بالتمام والكمال، ويصبح القول بقيم إنسانية إفكا افتراه قرضاوي ويعينه عليه آخرون؛ لأن كرامة الإنسان وحريته وحرماته وحقوقه وصيانة دمه وعرضه بوصفه إنسانا، قيم إنسانية حققتها البشرية بعد صراعات تاريخية طويلة ضد القيم الذاتية التي تقوم على مبدأ القهر والغلبة، ولم تنضج إلا مع الثورة الفرنسية واستمرت معاركها ومكاسبها حتى اليوم، وما زالت تتأسس قيم جديدة مع حاجات الإنسانية وتطورها لحماية هذا التطور من الانتكاس إلى الخلف.
يعيش قرضاوي بيننا في القرن الحادي والعشرين ويحدثنا عن مجتمعه المتفرد عن كل المجتمعات، يحدثنا حديث عرب الحجاز في القرن السابع الميلادي الذي كان يرى الدنيا مكونة من عالمين: عالم البدو وهو عالم الحق المطلق، وعالم العجم وهو الباطل المطلق؛ لذلك جعلوا من ذواتهم مقياس كل شأن ومعيار كل حق، حتى قدسوا المعيار ومعه عالمهم الذي هو الكمال نفسه، بعد أن أصبحوا أمة القرآن؛ لذلك يكون طبيعيا أن كل ما عداها ناقص، مع التعميد الرباني لهذه القدسية بآيات
كنتم خير أمة أخرجت للناس ، وأن غيرنا يعض علينا أنامله غيظا مما حظينا به من فرادة وتكريم وتشريف بالإسلام. والأغرب أن يسود تصور بأن هذه الخيرية والقدسية تتحول إلى موروثات جينية متأصلة في المولود المسلم
Built in
مع شعور أعجب هو أن المسلم يحمل بهذا الميلاد واجب استتباع الآخرين ووجوب أن يتشبهوا بنا؛ لذلك نفهم السر في الإصرار على محو لغات وثقافات الشعوب المفتوحة، لتركهم بلا هوية مع تحقير ما قبل تاريخ الفتح، مع طبعه بطابع البداوة، فيتم تراجع قيمة الوطن والمواطنة، والتميز عن بقية المواطنين بزي بعينه، وآداب مائدة من نوع خاص، وأطعمة مقدسة وشافية ومانعة للسحر وعلاجات نبوية وقرآنية كبول النياق وبول النبي والأطعمة المستحبة كالجراد والعسل والتمر والثريد.
ولا يميز مجتمع عن مجتمع بكونه يحرم السرقة والقتل ويدين الكذب والخيانة ويرفض الغش بألوانه؛ فهي كلها قواعد متعارف عليها في مختلف المجتمعات والديانات.
إن أي دين من الأديان لم يكن قد حضر بعد تحقق الرقي البشري إلى مستوى القيم الإنسانية؛ لذلك فإن أي دين وضمنه الدين الإسلامي يحول قيم الأخلاق إلى تجارة؛ فالحسنة بعشر أمثالها، بعد أن يفرغها من مضمونها الراقي للفعل الخير دون انتظار مردود، فيربطها بنظام من المكافآت والعقوبات، فيلغي بذلك دور الضمير والحس الإنساني الأخلاقي الراقي ليحولهم لأتباع عميان لتعاليم وأوامر ونواه، ليس لأنها تستحق الاتباع ولا لأنها تحقق فوائد عامة للمجتمع أو للإنسانية، ولكن لأنها أوامر إلهية فقط!
إن القيم الإنسانية تقصد خير الإنسان في أي مكان بغض النظر عن لونه أو دينه أو لغته أو جنسه، وغيرها هو قيم ذاتية محلية طائفية تقصد مصلحة طائفة بعينها أو فئة أو جماعة أو ملة أو مذهب، وهي بهذا المعنى تظل قيما أنانية لا تعبأ بالآخرين، ولا تهتم ولا ترى ما يلحق بهم من أضرار ما دام النفع يعود على الطائفة أو الجماعة؛ لذلك لن تجد أي شعور بالألم أو الندم للأحداث التي روتها لنا حروب الفتوحات، بقدر ما تشعر بالزهو والفخار والمجد والسؤدد والبطولات المبهرة.
يشغلني هنا قول هام للأستاذ راضي عاقل وهو يعقب على القيم الأخلاقية والأديان، سأجتزئ بعضا مما قال وهو لا يغني عن العودة إلى مدونته المحترمة لما فيها من تفاصيل هامة وكثيرة، يقول الأستاذ عاقل: «هناك مسلمة أن الإسلام مرادف للأخلاق وأن من لا دين له هو بالضرورة لا أخلاق له، بينما الدين عموما والإسلام خصوصا هو نقيض للأخلاق، ويساهم بشكل فعال في تشويه نفسية المؤمنين، به قتل حسهم الأخلاقي؛ فهو لا يسرق، ولا ينام مع أمه، ولا يقتل، فقط لأن كتابه قال له ذلك، وطمعا في الحور اللواتي يرجعن عذارى بعد كل نكاح، وخوفا من الشواء الأبدي وتبديل الجلود المتكرر بعد النضح، وليس لأي مبدأ أخلاقي من أي نوع من الأنواع، فلو لم يكن هناك عقاب ولا ثواب فسيقومون بكل ذلك، فأين هي الأخلاق؟
إن الدهماء والغوغاء واللصوص هم من يحتاجون للعقوبات لضبط تصرفاتهم، ولكن القوانين البشرية تستطيع ردعهم دون الحاجة للآلهة، إن الإسلام قانون عقوبات ومكافآت دنيوية وآخرية، فأين الأخلاق في الرشوة والترهيب؟ وأكد على أن عقل الإنسان قاصر لا يمكنه التمييز بين ما ينفعه وما يضره ويجب بالتالي أن يتبع توجيهات الإله الذي خلقه، وبالتالي فهو أعلم منه بما ينفعه وما يضره، وأصبح الناس في خدمة الأخلاق عوضا عن الوضع الطبيعي الذي هو أن الأخلاق وجدت لخدمة الناس.» انتهى.
إن فقهاء المسلمين يرفعون شعارات لا علاقة لها لا بالإسلام ولا بأي دين آخر، يذكروننا أيام كانت ألمانيا الشرقية الشيوعية كاملة الاستبداد تسمي نفسها رسميا ودوليا ألمانيا الديمقراطية؟ ينسبون قيم غيرهم لأنفسهم ولا يكتفون بذلك بل يسلبونها عن أصحابها الذين اكتشفوها بعد تاريخ طويل من الصراع لإرسائها قواعد إنسانية راقية. بينما قيم فقهائنا تطلب تكفير أصحاب تلك القيم الإنسانية وقتلهم وسبي نسائهم وهتك أعراضهم والاستيلاء على أموالهم، يسلبون الآخر قيمه ويكفرونه ثم يركبونه، لكن لو قدر أن نفذت تلك القواعد الإسلامية على المسلمين فإنهم يعتبرونها مسبة عار عليهم، هي للتطبيق على غيرهم فقط، فعندما استباح صاحب الزنج وثواره وطء السبايا من المسلمات القرشيات ثارت النخوة العربية كلها لإخماد ثورة الزنج، وعندما استباح إبراهيم باشا الدرعية لم ينسها السعوديون لمصر حتى يومنا هذا.
مشايخنا يصيبون مجتمعنا كله بالكساح العقلي والضمور المعرفي والخلل في الضمير عندما يعطون المسلمين القيمة ويسلبونها عن غيرهم، فهم المؤمنون وغيرهم هو الكافر لذلك هم الصواب وغيرهم الخطأ، هم أهل الجنة وغيرهم أهل الجحيم، تحويل المجتمع بقرار فردي للجهاد، احتلال الغير لبلادنا قبيح، واحتلالنا لبلاد الغير نشر للنور وتفضل عليه وتكرم.
وترى المأساة كاملة عندما تجد مشجعي القيم الإسلامية لا يريدون فرضها علينا وحدنا، إنما هم يريدون عولمتها، يريدون فرض قيم ذاتية صحراوية مضى عليها أربعة عشر قرنا على دنيا اليوم أجمع، على اختلاف البيئات والهويات والمستويات. فإذا كانت تلك رغبة إلهية لما كلف بها الفقهاء ولأرسل الرب أنبياءه على التساوي والتماثل لكل مناطق العالم وبمجتمعاته باعتبارهم جميعا من خلقه، لكن ما حدث هو العكس، فإن الله في «كتبه المقدسة الثلاثة» أكد أن توحيد القيمة الدينية كونيا هو أمر مستحيل، حتى أنه بعد أن أزال كل مخالف لهذه القيمة من على وجه البسيطة بإبادة جماعية بطوفان نوح، فإن ذلك لم يؤد إلى هذا التوحيد، وعاد البشر بعد الطوفان يصنعون قيمهم المختلفة مره أخرى.
الفصل الرابع
هل غير المسلم ذو خلق بالضرورة
أعراض عصابية سيكوباتية شديدة الاستعصاء، أصابت القيم الأخلاقية عند المسلمين في مقتل، وهي لون من المسلمات التي لا دليل على صدقها في الواقع، بل إن الواقع ينفيها ويكذبها، مسلمة تقوم على ما يشبه الاعتقاد الديني، وهو أن الإسلام تحديدا من بين كل أديان الأرض سماوية وأرضية المعبر الصحيح عن القيم الأخلاقية، وأن غير المسلم هو بلا أخلاق بالضرورة، لكونه غير مسلم فقط.
مشكلة المسلم مع القيم شديدة التعقيد؛ فهو يقيم مناهجه القيمية على عقائد دينية، ولأنه يعتقد أن عقيدته وحدها هي ما تملك الأخلاق الذي يلازم تمامية المعرفة بالضرورة. لكن ذلك تحديدا هو ما يجعله يفترض بالضرورة أن غير المسلم لا يملك معرفة سليمة، كذلك هو بالضرورة لا يملك أخلاقا سوية حتميا، وكان سلب القيم الأخلاقية عن العدو وما زال سلاحا فعالا في الحرب النفسية لتجييش من يظنون أنهم الأبرار والأطهار ضد الأشرار، فيتم تنجيس وتبخيس الغير أولا حتى يكون الضمير مرتاحا عند قتل هذا الغير في عقيدة الجهاد، يكون قد استحق مصيره وشن الحرب عليه وقتاله وقتله.
ولهذه الأسباب تحديدا، وعلى مثل هذه العقائد بالذات وبالتخصيص، قامت حروب الفتن الإسلامية وحروب الفتوحات التي حصدت ملايين المسلمين وغير المسلمين (حوالي مليون ونصف مليون إنسان خلال السنوات الأربع الأولى من الفتوح خارج الجزيرة في زمن كان المليون إنسان رقما هائلا بحسب تعداد المجتمعات حينذاك)؛ لأن هذه الحروب قامت على اعتقاد بامتلاك المسلمين للحقيقة النهائية في فهم الدين والدنيا، ثم امتلاك كل طرف مسلم في حروب الفتن للحقيقة التامة، وأنه وحده من يملك قيما أخلاقية، في مقابل اعتقاد الطرف الآخر للاعتقاد ذاته في قيم أخرى مخالفة تقوم على فهم آخر للإسلام، فكانت قيما ذاتية تتأسس على الهوى وليس لها في الواقع معيار محدد يثمنها بالإيجاب أو بالسلب، من يحدد القيمة ويصنعها هو شخص صانعها وعادة ما يكون هو القوي المنتصر. هذا رغم أن العالم حينذاك كان قد اكتشف القيم الموضوعية «الإكسيولوجية» منذ فلاسفة اليونان قبل الإسلام بقرون وأزمان، وتواضع الفلاسفة على ثلاث قيم مطلقة لا يختلف حولها اثنان، لذلك هي موضوعية يفهمها الكل بكل وضوح، وهي: الحق والخير والجمال. لكن الإسلام لم يظهر لا في أثينا ولا في روما، وإنما في فيافي الحجاز، وخاطب الناس في هذه البوادي القاسية بلسانهم وفهمهم ومعارفهم وقيمهم وليس بمعارف الأعاجم وقيمهم.
كانت القيم الذاتية في الجاهلية الأولى هي الشأن الطبيعي في ثقافة العربي؛ لأنه لو طبق القيم الغيرية كالكرم والإحسان لمات في بواديه جوعا، فكانت القبائل تتحرك في البوادي بحثا عن خيرها الضنين، فتتقاتل عليها قتالا صفريا لا توجد فيه موائد صلح ولا مبادرات سلام، فإما قاتلا وإما مقتولا، فتقتل القبيلة من تقدر عليه من القبيلة المهزومة، وتستولي على ما تملك جميعا عيون الماء والسوائم والمتاع، وتبقي من البشر على من يمكن الاستفادة منه فقط لأن له فما يأكل، فيجب أن يكون لوجوده ضرورة، وعدم وجوده أفضل؛ لذلك كانت العبودية عمودا من أعمدة المجتمع البدوي من فجر تاريخه، بينما لم تعرف مصر مثلا نظام العبودية طوال تاريخها إلا عندما دخلها البدو اليهود زمن النبي يوسف والهكسوس، ولم يرتق العرب إلى التواضع على قيم كالكرم والوفاء بالوعد والصدق في القول إلا مع الاستقرار المدني لمكة، التي تحولت إلى مركز تجاري ترانزيتي، ثم أمسكت بعنان تجارة العالم إبان الحرب السبعينية بين إمبراطورتي الفرس والروم، وفرضت مصالح التجارة وضرورة سيولتها وسلامتها التي تعود بالنفع على الجميع، ضرورة توافق العرب على قيم النخوة والمروءة والأمانة والنجدة والإجارة والكرم والوفاء بالعهد، وكان ذلك تحديدا إبان العصر الجاهلي الثاني منبع كل فضائل العرب، والذي انتهى بظهور الإسلام والعودة بالعرب إلى قيم الجاهلية الأولى حيث قيم الغزو والسلب والنهب والسبي والحرب الصفرية.
وهو الأمر الذي تعبر عنه رواية ابن عبد ربه في عقده الفريد (ج5، ص132) عن صحابة لرسول الله جلسوا يتذاكرون الجاهلية الأخيرة مقارنين بينها وبين زمن الصحابة، قيل لبعض أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قالوا: كنا ننشد الشعر ونتحدث بأخبار جاهليتها. وقال بعضهم: وددت أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية، ألا ترى عنترة الفوارس جاهليا لا دين له، والحسن بن هانئ مسلما له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانئ دينه، فقال عنترة في ذلك:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
فقال الحسن بن هانئ مع إسلامه:
كان الشباب مطية جهل
ومحسن الضحكات والهزل
والباعثي والناس قد رقدوا
حتى أتيت حليلة البعل
قامت حروب الفتن الإسلامية على اعتقاد كل فريق بصوابتيه المطلقة، فيخوض حربا صفرية ضد الطرف الآخر، وكانت الحرب الصفرية إبادة تامة بمعنى الكلمة، وهو ما تمثل في إبادة بيوت بأسرها كما في أبشع مثال مخز في تاريخنا إبادة آل بيت الرسول حتى قتلوا الأطفال الرضع، ثقافة أكلت بيت مؤسسها، وتمثلت أيضا في حروب الفتوح حيث تمت إبادة ممالك بأسرها مثل مملكتي الغساسنة والمناذرة اللتين انتهتا من الوجود في الجغرافيا وفي التاريخ، وكانت ممالك عربية، لا فارسية، ولا رومية.
حرب العربي إما كل شيء، وإما لا شيء، من النهر إلى البحر ولو فني الجميع؛ لأنه لا يرى الآخر مطلقا ولا حق لهذا الآخر في الحياة، فهذه مفاهيم حديثة لم تكن قد وجدت في القرن السابع الميلادي بعد في مجتمعات البداوة، التي لم تعرف لا قوانين روما ولا فلسفة الأخلاق اليونانية ولا ديمقراطية أثينا، ولم توجد في بلادنا حتى اليوم لأننا ما زلنا نعيش في القرن السابع الميلادي بعد، بل حولنا بلادنا إلى القبلية العنصرية الطائفية المتناحرة، زيادة في الإخلاص حتى نعيش المكان نفسه والزمان نفسه عند خير القرون. وبقيم ذلك الزمان، وهي القيم التي تحتاج إلى دراسة متأنية مستفيضة؛ لأنها الموجه لسلوك المسلم اليوم وتصرفاته، وتقف وراء تفكيره وأهدافه، لبحث مدى تأثير هذه القيم إن إيجابا أو سلبا، في عملية الهدم والبناء الضرورية في عملية الإصلاح المرتقبة.
تعجب اليوم في العراق - الذي عشقته كمصر وتيمت به وبأهلي وناسي هناك - إذ أخذه أهلي وناسي (ليمزقوا نياط قلبي) إلى نفق الطائفية المظلم، فعاثوا في عراقنا فسادا وسفكوا الدم البريء، في فتن جديدة تقوم على فتاوى جديدة ترى كل منها ذاتها الكمال كله وعداها الباطل كله، عادوا قبائل متفرقة بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يصبحون بنعمته إخوانا.
مصر القديمة تحولت إلى بلد حضاري مستقر متماسك منذ ما يزيد على سبعة آلاف عام، ولم يكن فيها إسلام هو الحل، وأيضا لم تحدث فيها تلك الفتن بين أهلها وبعضهم، لم تحدث في مصر حرب أهلية واحدة في أزمنتها القديمة. هنا الفارق الثقافي الذي تصنعه البيئة مع الإنسان جنبا إلى جنب، ليبرز الفارق القيمي بين قيم الاستقرار وقيم التبدي. كذلك كان العراق، فمن اسمه اشتق اللسان العربي معنى «العراقة»، ومع الغزو الحقيقي التتري التكفيري للعراق، آتيا من السعودية ومصر وإيران وسوريا والجزائر واليمن، بعد سقوط الطاغية، وكل بفتواه، وكل قد حول الرأي إلى قول مقدس، فتقدست الفتوى إلى حد يباح فيها دم الذي لا يأخذ بها فهو من الكافرين، إن سنة نبي الأمة كان فيها ما إن لم نأخذ به لم نأثم، فجاءنا فقهاء آخر الزمان بفتاوى قاطعة الثبوت والدلالة قاطعة الصحة واليقين، دون أن يشيروا إلى مصدر قدسيتهم التي تعلو على صاحب الوحي جبريل وعلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟! فتاوى تصل إلى قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ لأنهم يرون الحق كله معهم وحدهم.
ما الذي سيترسخ في ذهن الطفل الصغير عندما يتعلم ويحفظ الآيات القائلة:
أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين (الماعون: 1-3).
إن معنى الدين في الإسلام هو الإسلام وحده، وإن الذين لا يؤمنون بهذا الدين، هم الجفاة القساة غلاظ القلوب، إنهم يدعون اليتيم، بل وزيادة على هذه الخشونة في الضمير هم أشرار، فهم لا يكتفون بدع اليتيم، إنما لا يتداعون بينهم بالنصح والإرشاد لإطعام المسكين. إن فهم هذه الآيات منزوعة من سياقها الزمكاني التاريخي والموضوعي في أحداث الأرض زمن الدعوة، هو فهم سطحي سريع، وليس في وقت المسلم اليوم أمام المكتبة الإسلامية الهائلة كما وكيفا ما يجعله يبحث عن السياق وعن التاريخ، هو في حاجة لمختصر مفيد بسيط، يكرره الفقهاء ويصدقه العوام، وهو أن غير المسلم بلا أخلاق وبلا إنسانية، بل إنه من البديهيات لمن يعلن أنه مسلم، أنه بالضرورة وبالتلازم القسري صاحب قيم أخلاقية رفيعة، ألا ترون عبد المنعم أبو الفتوح القطب الإخواني ذائع الصيت في حوار معه على شبكة إسلام أون لاين، يقول متسائلا مستغربا مندهشا مستنكرا: «كيف يتصور أن يكون هناك أخ مسلم يدعو الناس إلى الصدق والأمانة، ثم يكون في سلوكه وأعماله صورة سيئة ضد الصدق والأمانة؟!»
ومثله الشيخ قرضاوي يحدثنا عن المجتمع فيقول: «ويقوم ذلك المجتمع على آداب وتقاليد خاصة، تجعله نسيج وحده غير مقلد لغيره ممن بعد عنه زمانا أو بعد عنه مكانا» (ملامح المجتمع، مكتبة وهبة، ص109). وفي كتابه (الإخوان المسلمون، مكتبة وهبة، 1999م) يقول الشيخ قرضاوي ناقلا عن سيده حسن البنا، واصفا المجتمعات غير المسلمة: «من أهم الظواهر التي لازمت المدنية الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي، والإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز، والأثرة في الأفراد، فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه، والربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة للتعامل، وقد أنتجت هذه المظاهر المادية البحت في المجتمع الأوروبي فساد النفوس وضعف الأخلاق، والتراخي في محاربة الجرائم، فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة، وأثبتت المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني، وفشلت في إسعاد الناس» (ص139-140). وهو ما يكرره قرضاوي بعد ذلك كمسلمات في معظم كتبه؛ فهو مثلا يقول في كتاب (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، مكتبة وهبة، 2001م): «إن المجتمع المسلم متميز عن سائر المجتمعات بمكوناته وخصائصه؛ فهو مجتمع رباني إنساني أخلاقي متوازن، والمسلمون مطالبون بإقامة هذا المجتمع حتى يمكنوا فيه لدينهم ويجسدوا فيه شخصيتهم، ويحيوا في ظله حياة إسلامية، تقودها المفاهيم وتحملها الآداب الإسلامية، وتهيمن عليها القيم الإسلامية، وتحميها التشريعات الإسلامية، وتوجه اقتصادها وفنونها وسياستها التعاليم الإسلامية» (ص7).
انظر حركات الشعوذة وأساليب الحواة الرخيصة والثلاث ورقات، إن الفقيه المسلم التقي الورع يسم غير المسلمين جميعا بكل نقيصة أخلاقية يعددها واحدة فواحدة، وذلك كي تظهر الفروق بين المجتمع المسلم والمجتمع غير المسلم، ثم يمنح المجتمع المسلم كل الصفات الإيجابية لأنه مجتمع رباني إنساني متوازن ... إلخ ... إلخ، ثم تكتشف فجأة أن هذه المقارنة تتم بين واقع غير المسلمين، وبين المجتمع المسلم الذي يطالبنا الشيخ بإقامته؛ فهو مجتمع غير قائم بالفعل، مقارنة بين واقع أهل الغرب، وبين وهم وحلم بمجتمع غير موجود بيننا. ناهيك عن عنوان الكتاب المخصص لبيان (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده)، الشيخ قرضاوي بعد مضي ألف وأربعمائة سنة وربع القرن ونيافة عليه، جاي النهارده يبحث لنا عن ملامح المجتمع المسلم المزمع إيجاده إن شاء الله؛ لأنه ما زال في مرحلة التمني؛ فهو «الذي ننشده»، فكم من القرون سننتظر يا ترى؟ هل هناك خلل فادح في أخلاق المسلمين كذبا على الذات أظهر من هذا وأجلى؟ هذا الرجل من كبار أولي الأمر ولفتاواه أثرها الجليل الذي نراه اليوم في مجازر العراق وغيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين. فانظر إلى ما يعتور قوله المدهش دون أن يشعر هو ولا أتباعه بأي عوار ولا بأي دهشة!
ثم يكرر قرضاوي عاطفا مقارنا بين المجتمع غير المسلم والمجتمع المسلم الوهمي المتخيل، فيعطينا وصفا لهذا المجتمع المسلم، حشده بطول كتابه وما أطول كتبه من حيث المساحة، سأحاول هنا العثور على ما أجمله فيها من عبارات بلسانه: «فهو مجتمع العدل والإحسان والبر والرحمة والصدق والأمانة والصبر والوفاء والحياء والعفاف والعزة والنجدة والسخاء والشجاعة والإباء والشرف والبذل والتضحية والمروءة والنجدة والنظافة والتجمل والقصد والاعتدال والسماحة والحلم والتضحية والتعاون والغيرة على الحرمات والاستعلاء عن الشهوات والإيثار للغير والإحسان للخلق كافة وبر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الجار، والإخلاص له والتوبة إليه والتوكل عليه. مجتمع يحرم كل الرذائل والأخلاق الرديئة فيجعلها في مرتبة الكبائر، فيجرم الخمر والميسر والزنا والشذوذ الجنسي ويحرم عقوق الوالدين وإيذاء الآخرين باليد أو باللسان ويجعل من خصال النفاق الكذب والخيانة والغدر وإخلاف الوعود والفجور في الخصومة» (ص90-91).
وهكذا حشد الشيخ كل ما تفتقت عنه قريحته من أحلام بدوية على قيم حداثية على فضائل متخيلة، للمجتمع المنشود الذي سيقيمونه عندما يتمكنون في الأرض، يمني به المسلمين أماني وأحلاما بالمدينة الفاضلة التي لم تقم على الأرض يوما، ويتفاخر به على قيم وأخلاق الكفرة العراة الفساق الفجرة؟! فخر بما لا يملك في الواقع بدليل أنه يتمناه ويرسم له الخطط، فخر العربي الكاذب الفقير الجاهل القليل المريض العاري القائل:
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
شاعر آخر عبر عن قيم العروبة في العداء الصفري بقوله:
ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
فيعطيه الواقع القبر دون العالمين.
الأخ أبو الفتوح لا يتصور من أخ مسلم غير الصدق والأمانة فقط لأنه أخ مسلم، ولو كان يقصد الإخوان وحدهم فهو يصورهم لنا مجتمعا من الملائكة الأطهار، وهو بمقارنته بالواقع يظهر كلامه مجرد شعر فخر كاذب، فلا هو تخر له جباه الجبابرة والملوك ساجدين، ولا هو حقيقة، هو مجرد شعارات ترويجية ليس أكثر، ألا ترونهم يعلنون تحريم الربا ويتحايلون عليه ألف حيلة في بنوك إسلامية هي ربوية بالكلية وإلا سقطت وانهارت بين بورصات الأوراق العالمية. ويفعلون وهم يعلمون، «ويل للذين يحرفون الكتاب بأيديهم وهم يعلمون»، ويخادعون ربهم علنا عيانا بيانا، فأي مرض عصبي وعقلي لحق بالضمير المسلم؟!
يتكلم قرضاوي وأبو الفتوح عن الشرف، لكنهما لا يعلنان انتهاء العمل بأحكام آيات انتهى زمنها، لا يعلنان انتهاء زمن هتك عرض غير المسلمين والسبي.
يتكلمان عن الحريات ويقيمان علم فقه كامل للعبودية يدرسه عيالنا في المدارس الدينية حتى اليوم.
يتكلمان عن حقوق الإنسان وهو مفهوم معاصر لم يكن في تاريخنا ولا تاريخ غيرنا في تلك الأزمان، وفي الوقت ذاته لا يعترفان بأي حقوق لغير المسلمين، فهم كفار، إنهم خارج الإنسانية؛ فالإنسانية للمسلمين وحدهم.
يتحدثان عن حق الأمن والسلام ويريان أوطان غيرهما ديار حرب، ومن الشرع في أرفع الدرجات الاعتداء على غير المسلم وقتله وسلبه ونهب وسبي عياله ونسائه حسب عقيدة الولاء والبراء، والجهاد.
الشيخ المسلم وهو يكذب على نفسه وعلى المسلمين، سواء أكان مرجعية داعية للجميع مثل قرضاوي، أم عنصرا سياسيا حركيا مثل أبي الفتوح، يتحول إلى نصاب من وجهة نظر القيم الأخلاقية، أليس نصابا من يعطي قيمة لشيء ويسلبها من مثيله؟ أليس أفاكا من يعلن على رءوس الأشهاد منحه القيم لهؤلاء وسلبها من هؤلاء، بينما هو يمنح شيئا ليس بيديه ليميز به بشرا لا يستحقون عن بشر يستحقون، أترون إلى أين وصل الخبال بالعقل المسلم؟! إن من لا يملك يعطي من لا يستحق ببساطة وخفة وعلى رءوس الأشهاد جهارا نهارا، بالكلام والبلاغة، فنجرة بق، مجرد كلام لا أصل من واقع له. إن من يعلن نفسه مانح القيم أو صاحبها الأصلي هو نصاب أشر؛ لأن القيمة الأخلاقية ليست ملكية خاصة لقوم دون قوم، وليس فيها عرب وعجم، القيمة هي جزء أصيل في الموضوع أو في الواقع، وتظهر إلى الوجود عندما يتم اكتشافها وتفعيلها في أي مكان أو زمان، بينما المسلمون يمنحون أنفسهم القيم منحا كريما وسخيا إلى حد الابتذال؛ لأن العاطي في هذه الحال هو رب المسلمين الذي خص أمته وحدها بالخير دون بقية عيال الله في الأرض جميعا، وأعلنها خير أمة أخرجت للناس.
وهكذا هو ينفي القيم الأخلاقية الموجبة عن غير المسلمين جميعا؛ لذلك يتحدث عن حقوق الإنسان لكنه لا يعطي المرأة في بلادنا حقوقها كالذكر من باب العدالة؛ لأن هذا الحق تحديدا ظهر عن الغربيين وهم بلا أخلاق لأنهم غير مسلمين، وبهذه الطريقة ينفي الرقي عن قيم غير المسلمين لأنها عنده لا تخضع لمعيار الصواب والخطأ والنفع والضرر والخيرية والشرية، إنما تخضع لمعيار الحلال والحرام كمنظومة قيمية ربانية ثابتة لا تقبل تغيرا أو تطورا. هنا سيكون الكلام عن حقوق الإنسان كحريته في اختيار معتقده، أو حريته في نقد دين من الأديان كعمل بحثي أكاديمي، أو نقده لبقاء فقه الرق حتى اليوم في معاهدنا الدينية، سيكون ذلك كله فهما غربيا في بلاد يعيش أهلها «حياة بهيمية»، كما يصفهم كما التوحيد المقرر على أول ثانوي بالسعودية المباركة. ومثله بالضبط سيكون الكلام عن الحرية هو قولا كفريا ضد الدين؛ لأن الدين فيه فك رقبة! فكيف سنفكها إن لم نفعل فقه الرقيق ونعمل به حين نعيد فتح البلاد لأنوارنا؟ الخلل حادث نتيجة القيم منح لأنفسنا وسلبها من غيرنا، فلا نفهمهم ولا يفهموننا، ونتحول إلى عالمين متباعدين في وقت تتوحد فيه الأرض كلها، الخلل أن المسلم لا يدرك أن الحرية كقيمة أو أي قيمة أخرى لا علاقة لها بأي دين، لأن القيم بما نفهمها من قيم اليوم الراقية لو كانت موجودة في أي دين لأمر بتحريم الرق فورا وهو ما لم يفعله أي دين لأن منطق زمانه ونظم عصره كانا على غراره.
وما زالت لنا وقفات ربما ستطول مع القيم الأخلاقية والمسلمين. (1) قيمة الوفاء بالعهد (صحيفة المعاقل كنموذج أول)
ما قرأت عملا حديثا صادرا في مصر عن فلسفة القيم، إلا ابتدأ تصديره بالقيم الإسلامية السامية؛ وهو ما يعني أن قيم الآخرين ليست كذلك. وهو أمر متواتر حتى بين أهل الفلسفة وعلمائها المتخصصين، تجده يحيلك أولا على قيم الإسلام بالضرورة، ليعود بعد ذلك معلما أكاديميا يشرح القيم الإنسانية «الإكسيولوجية»، ناسيا أنه لم يعد هناك محل لبحث جدي، بعدما أثبت للقيم الإسلامية وحدها في تصديره، كل الإيجابيات التامة الجامعة المانعة.
تجدهم في علم الاجتماع قد صاروا كذلك، في الفيزياء (سبحان الله) وصحة القوانين العلمية (بمشيئة الله)، والجغرافيا والفلك، وباء انتشر، كتب علم النفس تتصدر باحاتها آيات وأحاديث وردت فيها كلمة النفس عرضا. حتى الطب لم ينج من المصير ذاته، يبدأ صاحب المرجع الطبي مرجعه بالآيات
وإذا مرضت فهو يشفين ، ونقابة أطباء مصر تضعها على «البادج، الأيقونة، الرمز »، وفي طب الحمية مرجع منتشر تتصدر صفحته الأولى:
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ، ولا تفهم هنا قيمة بعد ذلك لصفحات المرجع الكبير، ما دام إذا مرضت فهو يشفين؟! أسلوب يذكرني بالحانوتية الذين يعملون بمهنة دفن الموتى، ولافتتهم المشهورة: كل نفس ذائقة الموت! ولا أي معنى لتوقيع حكومات بلادنا على مواثيق دولية تؤسس لقيم جديدة اكتشفتها الإنسانية وتوافقت عليها، قيم لم يسبق أن وجدت لا في تراثنا الإسلامي ولا في أي دين من الأديان، بل بعضها يتعارض بالكلية مع ما جاء في هذه الأديان، كما في حال حقوق الإنسان مثلا (حقوق المرأة، حق الاعتقاد ... إلخ) فإذا كانت قيم الإسلام قد جمعت فأوعبت كل القيم الإيجابية حتى نهاية الأزمان، فلماذا لا تعرض حكوماتنا قيمنا هذه على الأمم المتحدة أثناء المناقشة في الهيئة الأممية، خاصة أنه عالم حر يناقش ويستمع ويقبل ويرفض عن بينة وقرار ديمقراطي، وهو لن يرفض قيمنا إن رآها أرقى من قيمه، فقيم المواثيق الدولية شاركت فيها كل الإنسانية وقالت تجربتها وكلمتها حتى تم وجوبها وثيقة دولية، وبنيت لها نصوص قانونية لحماية هذه القيم وصونها.
أم أن حكوماتنا تعلم سلفا أن في قيمنا ما يعتورها بمقاييس اليوم الأخلاقية؟ يبدو أن حكوماتنا توقع الاتفاقات الدولية «تقية» أي كذبا ومداراة وخوفا وخزيا وعارا، أي تعلن عكس ما تبطن، ويبدو أن تلك هي الحقيقة الصادقة الصادمة. وخير نماذج التقية الورعة، استقبال شيخ الأزهر الدكتور سيد طنطاوي للجنة الحريات الدينية، وتوقيع الدكتور فوزي الزفزاف العهد الدولي للحقوق الدينية، بإشراف د. سيد طنطاوي الشيخ الأكبر وبحضور وفد الاتفاقية، ثم إعلان الشيخ الأكبر فيما بعد أنه لا سمع بهذه الوثيقة ولا يعلم عنها شيئا. رغم أن الحدث موثق بالصور التذكارية لحفل التوقيع بمكتب الشيخ الأكبر، ورغم احتساب الفقهاء أن قيمة الوفاء بالعهد اختراع إسلامي قح.
شيخ أكبر آخر هو مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة أجاب بالإيجاب القاطع في أمريكا عن سؤال حول حق المسلم ترك الإسلام، وبمجرد عودته قامت دار الإفتاء كلها تؤكد أن كلام المفتي تم تحريفه عن معناه كعادة الضآلين والمغضوب عليهم في التحريف، لأن الإسلام لا يسمح بخروج المسلم من دينه بالمطلق.
هذه مشاكل فضائحية تحدث علنا دون أي تحرج، فأي حديث هذا عن القيم الأخلاقية؟ وأي قيمة في التوقيع حرجا أو جبنا ثم الرجوع الكاذب والمخالف؟
المشكلة تصبح أعوص مع تسليمنا أن القيم الموجبة كلها جاءت في إسلامنا؛ لأن هذا التسليم يعنى ضمنيا ويقينا رفض الحداثة والقيم الحقوقية الإنسانية وقيم العلوم الغربية كلها؛ مما يعني خروجنا برغبتنا من التاريخ ومن المستقبل؛ لأن ما عندهم هناك هو الباقيات الصالحات وليست هنا. رؤيتنا تجعل كل ما حققه العالم الحر هو أدنى قيميا وخلقيا وعلميا، ألا ترونهم يعضون علينا الأنامل حسدا لما نحن فيه من سعادة ونعيم مقيم؟! إنهم يحسدوننا على إسلامنا ومع ذلك يكتفون بالحسد والمؤامرات ولا يدخلون إلى سعادته ولا يختارون نعيمه وجنته وقيمه، نكاية فيه! إن الاعتقاد بكلانية القيم إيمانيا يعني ضمن ما يعني أن الاعتقاد برقي المجتمع الغربي هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة! وهو ما يترتب عليه عدم رؤية ما بيد هذه المجتمعات من وسائل رقي وتقدم والاكتفاء بالذات المريضة.
سنضطر باستمرار إلى الرجوع إلى القطب المرجعي الفقهي الشيخ قرضاوي عافاه الله مما هو فيه، وهي دعوة صادقة مخلصة، باعتباره معتمدا من الحكومات والجماعات الإسلامية بأطيافها كافة، ومن الإخوان، ومن الأزهر، ومن قاطعي الرقاب، وهو من يركز حديثه الدائم حول الفارق الأساسي بين المسلم وغير المسلم، المتمثل في القيم الأخلاقية التي هي السمة والعلامة العظمى لرقي الإسلام وسماوتيه. ويقيم الشيخ هذه المسلمة على آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأحداث وقعت إبان الدعوة الإسلامية وبعدها، بادئا بأهم تلك القيم وهي «الوفاء بالعهد»، وأوفوا بالعهود إن العهد كان مسئولا. ليورد النص القرآني الذي يؤكد هذه القيمة:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا (البقرة: 177).
ثم يعقب الشيخ بأن الله ارتقى بقيمة الوفاء بالعهد إلى درجة وضعها وضع بقية العبادات المفروضة كالصلاة والزكاة.
في التاريخ الإسلامي وخاصة زمن التأسيس «زمن الدعوة» أحداث جسام متتالية، يمكن البحث فيها عن قيمة «الوفاء بالعهد»، وهي واحدة من القيم التي أولدها بين العرب العصر الجاهلي الثاني قبل الدعوة، والمتوسط بينها وبين الجاهلية الأولى، وهو العصر الذي تعود إليه مكرمات ومفاخر العرب القيمية الأخلاقية، وهو التوليد الذي وقفت وراءه مجموعة من الأسباب الموضوعية على الأرض حينذاك.
تعد قيمة «الوفاء بالعهد» أحد المظاهر المتعددة التي تتجلى من خلالها قيمة أعظم، هي قيمة «الأمانة». وكلاهما «الأمانة» وتجليها في «الوفاء بالعهد» لم تكن شيئا معلوما في الجاهلية الأولى التي كانت قسوة وشظفا وتركت أثرها أخاديد وبثورا أبدية في وجه العربي القيمي. كانت البيئة شحيحة، بيئة ندرة وجوع كافر، ومناخ أشد كفرا؛ لذلك كان القتال حتى الفناء أو الإفناء في صراع صفري دائب على مواطن الماء والكلأ حتى ينضب، فتتحرك القبائل إلى موطن غيره في عيالة وطفيلية شديدة على الطبيعة ومنتجها الشحيح. في مثل هذه البيئة تكون معاني القيم شديدة الاختلاف عما نفهمه منها اليوم؛ لأن القيم الأخلاقية التي يجب أن تسود هي ما يضمن الحياة في بيئة لا ترحم، لذلك يكون الحديث عن الرحمة بمفاهيم أي زمان أو مكان آخر مختلفا بالكلية عن مكان وزمان الجاهلية الأولى.
ولا يكون هناك معنى لكلمة «أمانة» وما يترتب عليها؛ فالأمانة في العربية أصلا من الأمن والأمان، وهما لا يتوافران بالأمانة بل القوة القتالية البحتة المجردة التي تحقق الأمن.
وتحدث أحداث عالمية ذات تأثير واسع، ستؤدي سريعا إلى تغير وجه التاريخ والجغرافيا معا، عندما تدخل الإمبراطوريتان الرومية والكسروية حربهما السبعينية، لتطارد كل منهما الأخرى في أقاصي الأرض، عدا مكان واحد لم يرغب فيه أي منهما، هو فيافي جزيرة العرب. مما هيأ للجزيرة فرصة القيام بأعباء تجارة العالم بعد قطعها في البحار ، من سواحل اليمن إلى سواحل الشام وبالعكس في رحلتي الشتاء والصيف. وهي التجارة التي قامت عليها قبيلة قريش محولة مكة من مجرد استراحة على الطريق إلى مدينة وحاضرة ذات أسواق كبرى، وشارك كل عرب الجزيرة في القوافل التجارية بأموالهم، وحرسوا طرق التجارة حرصا على أموالهم ومنافعهم، فكان أن نشأت قيم هي فرز زمنها وظروفه ، وأصبحت «الأمانة» القيمة الأولى الواجب احترامها حفاظا على سيولة الطريق التجاري وضمنها الوفاء بالعهد، فكتبت قريش عهود الإيلاف للقبائل والملوك برعاية الطريق، وجعل مكة لمن دخلها مكان أمن وعبادة وفرح وعربدة وسعادة وتجارة ولهو وجنس يأمن فيه الجميع من الجميع في أشهر حرم معلومات توافقوا عليها هي شهور السفر والتجارة. وتم التأكيد على الوفاء بالعهود التي كتبتها قريش مع القبائل الضاربة على الطريق لتضمن عدم اعتدائها على القوافل التجارية، نظير عهد مقابل هو دفع جعالات من دخل القوافل لهذه القبائل المتناثرة بطول الطريق التجاري، كان عهدا تجاريا بحتا، حتى القيمة مدفوعة الثمن. لذلك كان التأخير في دفع تلك الجعالات يقابل مباشرة بقطع الطريق حتى تفي قريش وكبار التجار بالتزاماتهم. وكان أن يرأس أحدهم قافلة فيتلاعب بأسهم الناس فيها؛ فهو ما كان يعني دمار وبوار وخراب تلك التجارة؛ لذلك حرص التجار من قواد القوافل الكبرى على حيازة لقب «الصادق الأمين»، ليأمن الناس على أموالهم وتسيل التجارة وتفيض على الجميع بنفعها.
لكن العقائد الدينية لم تتمكن من التخلص من بدائية العبادة، التي كان يتم فيها التقرب إلى الآلهة بالقرابين البشرية من الأطفال الإناث (في ظاهرة الوأد) والذكور (كما في حال عبد الله أب النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
الذي افتداه أبوه عبد المطلب من الآلهة بمائة من النياق)، حتى جاء الإسلام ونقل العرب نقلة دينية ألغت وجرمت وأنهت القربان البشري في الطفولة، وجعلته قربانا يحدث عن قناعة عاقلة للشخص الراشد في عقيدة الجهاد.
وقد علمنا أن الإسلام قد عاد بالعرب إلى بعض الجاهلية الأولى مضطرا لحسابات ظروف موضوعية ستأتي بمكانها من هذا البحث، عندما عاد إلى شرعية الغزو والسلب والنهب والغنم (وكلها مصطلحات إسلامية بالكتب الأمهات في إشارتها للفعل العسكري الجهادي زمن الدعوة)، وهو ما حاصر قريشا اقتصاديا وأصابها في مقتل حتى سقطت ثمرة ناضجة بيد القوة الإسلامية الطالعة، كانت الغاية بحاجة إلى تلك الوسيلة؛ لذلك جعلها الإسلام وسيلة مشروعة، بل مطلوبة بل مأجورة ومثابة أعظم الثواب، وقال النبي بوضوح شديد : «أحلت لنا الغنائم ولم تحل لأحد من قبلنا، وذلك أن الله تعالى رأى عجزنا وضعفنا فوهبها لنا.» (متفق عليه بكل الصحاح)، بل كان للنبي خمس ما يغنم المسلمون في معاركهم
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (قرآن كريم)، وكان القرآن شديد الدقة والوضوح في العودة إلى زمن الغزو والسلب والنهب والغنم بقول الله تعالى للمسلمين:
فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا .
وهو الأمر الذي يترتب عليه إعادة السؤال حول قيمة الوفاء بالعهد، وهل استمرت في الواقع الفعلي للمسلمين بعد ظهور الإسلام، أم تراجعت مع ما تراجع من قيم الجاهلية الثانية إلى قيم الجاهلية الأولى؟ نطرح هنا نماذج حدثت إبان وجود النبي
صلى الله عليه وسلم
في يثرب. (2) نقض عهد صحيفة المعاقل (أول نقض رسمي لعقد اجتماعي وعهد سياسي مكتوب)
يقول البيهقي: «وأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين، فلم يبق في المدينة منافق ولا يهودي إلا وهو خاضع عنقه لوقعة بدر» (الدلائل، ج3، ص117).
بعد النصر البدري المؤزر وحصول المسلمين على غنائم عظيمة خاصة السلاح استرسل الوحي يقول:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم (الأنفال: 60).
وعدو الله وعدو المسلمين معروف هو ملأ مكة، أما الآخرون الذين لا يعلمهم المسلمون، فهم ما أوضحته الأحداث التالية ابتداء بنداء النبي
صلى الله عليه وسلم
لرجاله: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» (السهيلي، الروض الأنف، مج3، ص164). في منعطف تاريخي مفصلي جاءت مفاصله في آيات تنسخ حرية الاعتقاد، لتنهي العمل بآيات من قبيل
لكم دينكم ولي دين (الكافرون: 6)، ونسخ الصفح الجميل والصبر الأجمل، بقانون جديد حاسم هو
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19) (انظر نواسخ القرآن في أي مصدر للنواسخ، متفق عليه).
وتتالى الأحداث سراعا، فيروي الزهري عن عروة: «نزل جبريل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بهذه الآية:
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أنا أخاف من بني قينقاع (إحدى القبائل اليهودية الثلاث بيثرب)، فسار إليهم ولواؤه بيد حمزة» (ابن سيد الناس، عيون الأثر، ج1، ص353). وانجلت غزوة قينقاع عن طردهم من يثرب كأولى قبائل يهود يتم إجلاؤها، بعد أن استولى المسلمون على كراعهم وأسلحتهم وأرضهم؛ مما زاد في قوة المسلمين العسكرية وراحتهم الاقتصادية.
وعندما رأت قريش نفسها محاصرة في رزقها بعد أن قطع المسلمون عليها طريق الإيلاف الشامي، أجمعت على قتال محمد وذلك في الوقعة المعروفة بوقعة أحد التي انهزم فيها المسلمون هزيمة مريرة، أدت بالبيهقي إلى تصوير حال يثرب بعد الهزيمة بقوله: «وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل» (البيهقي، دلائل النبوة، ج3، ص216).
وترنحت الدولة الطالعة، فتم اتخاذ إجراءات سريعة حاسمة عنيفة متتالية لا تهدأ لإصلاح ما أفسدته أحد، بالقضاء على رءوس المعارضة (المنافقين) فتدحرجت رءوس كبار القوم، تم اغتيالها ليلا مثل رأس «سلام بن أبي الحقيق» المعروف بأبي رافع، «وأبي عفك عمرو بن عوف»، و«عصماء بنت مروان» عقيلة بني خطمة، و«خالد بن سفيان» سيد هذيل، و«فاطمة بنت ربيعة» زعيمة فزارة ومحل شرفها (انظر ابن حبيب في محبره ص117، وابن كثير في البداية ج4، ص39 أو 142، وابن سيد الناس في عيون الأثر، ج2، ص145، السهيلي، شرح السيرة، مج4، ص244-245، والطبري في تاريخه، ج3، في ص156) إعلانا عن أن السيف المحمدي وإن كسرت منه الذؤابة في أحد؛ فإنه ما زال قويا مقتدرا وعنيفا، إعلانا عن الإصرار على استدامة الدولة الناشئة مهما كلف ذلك من أرواح.
ويحكي ابن كثير أحداث العام الثاني للهجرة بقوله: إنه فيها «حولت القبلة، وفرض صيام رمضان، وزكاة النصب وزكاة الفطر، وفيها خضع المشركون من أهل يثرب واليهود، صانعوا المسلمين وأظهروا الإسلام وهم في الباطن منافقون، قال ابن جرير: وفيها كتب الرسول
صلى الله عليه وسلم
صحيفة المعاقل، وكانت معلقة بسيفه.»
وابن كثير إذ يوقت الصحيفة بنهاية العام الثاني للهجرة؛ فهو بذلك يختلف عن رواة آخرين قالوا إنها كانت أول عمل للنبي عند وصوله إلى يثرب مهاجرا من مكة. هذا علما أن ابن كثير نفسه يثير التناقض بذلك مع ما سبق له أن ذهب إليه مع الجمهرة، بأن صحيفة المعاقل قد تمت كتابتها بين أهل يثرب جميعا وبين المسلمين المهاجرين عند وصول النبي إلى يثرب، حيث تبدو يثرب جميعا قد عمها الإيمان، ويظهر فيها النبي سيدا مقبولا من الجميع عن رضا غير واضح الأسباب بمن فيهم اليهود، فكتبوا معه صحيفة المعاقل التي ترد كل أمر في يثرب إلى النبي وحده. وهو كله ما يخالف ويناقض واقع الأحداث، ذلك الواقع الذي يحيلنا على النبي وأتباعه المكيين مهاجرين ضعاف متخفين هاربين من بلادهم، ومن بين أهله بالعصب «أعمامه» إلى حمى «رحمه» أخواله اليثاربة من بني النجار الخزرجيين، وهو ما يحيط الصورة التي رسمتها كتب الأخبار والسير للاستقبال الهائل، وطلع البدر علينا، والطاعة الكاملة من الجميع لسيدهم الغريب المكي، بكثير من الشك وعدم المصداقية حيث المصادر ذاتها تؤكد أن معظم أهل يثرب كانوا يهودا أو وثنيين، وإن كثيرا ممن دخل منهم حلف المسلمين كان منافقا أو دسيسة؛ لذلك رجع ابن كثير عما قال في بداية الفصل ليؤخر زمن صحيفة المعاقل إلى السنة الثانية للهجرة، بحيث تبدو الأحداث أكثر منطقية مع مقدماتها، فاختار الزمن الذي تحول فيه المسلمون إلى قوة قادرة على فرض هيمنتها.
ولمزيد من التدقيق نجد غزوة قينقاع لم يرد فيها أية إشارة لتعاقد المسلمين مع اليهود، ولم نقرأ فيها ما يشير إلى منابذة قينقاع للنبي بنقضه للعهود، كما حدث في الوقائع التالية مع قبيلتي النضير وقريظة، وهو ما يشير إلى أنه حتى غزوة قينقاع لم تكن هناك عهود ولم تكن صحيفة المعاقل قد وجدت بعد.
وإن هذا الاختلاف والتناقض يدفع الباحث إلى محاولة جديدة للتزمين الأوفق لصحيفة المعاقل، حيث نعتقد أن تلك الصحيفة قد كتبت ضمن مجموعة الإجراءات الحاسمة مع تراجعات محسوبة، والتي تمت بعد هزيمة المسلمين في أحد.
معلوم أن هزيمة أحد هزت معنويات المسلمين بعنف حتى نادى المهاجرون بالعودة إلى قريش ونفض أيديهم من الموضوع كله. (البيهقي، الدلائل، ج3، ص21) بينما قال صحابة آخرون من الأنصار اليثاربة:
لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا (آل عمران: 154) وهو ما يعني إنكارهم الوحي والدين معا. لكن أحد لم تقض على مخزون السلاح البدري الذي تم استخدامه في حملة المسلمين الأولى على اليهود (قينقاع) وانتهت بمزيد من قوة المسلمين بعد استيلائهم على ممتلكات قينقاع، ثم في حملتهم الثانية على اليهود، وكانت على بني النضير، وتؤكد كتبنا «أنها قد حدثت بعد وقعة سبقتها هي وقعة بئر معونة» (ابن كثير، البداية، ج4، ص76)، ونحن نعلم من الكتب ذاتها أن بئر معونة قد وقعت بعد أحد بزمن، وبعد غزوة أخرى أسبق هي وقعة الرجيع التي وقتها الواقدي في صفر سنة أربع للهجرة. ونعلم أيضا أن بني النضير قد نابذوا النبي في تلك الوقعة بنقضه للعهود والمواثيق؛ مما يشير إلى أن صحيفة المعاقل كانت قد عقدت قبل غزوة النضير المشهورة، حتى نفهم منابذتهم له بنقض العهود، وأنها نمت في الزمن الواقع بين غزوتي أحد والنضير، وهو ما يمكن الكشف عنه في قراءة البيهقي للحكاية إذ يقول: «اجتمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوا وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله بالكتائب فحصرهم فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه، فأبوا أن يعطوه عهدا، فقاتلهم يومهم هذا، فعاهدوه، ثم غدا على بني قريظة بالكتائب ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه فانصرف عنهم» (دلائل النبوة، ج3، ص179).
ومن الخبر نفهم أن يهود النضير أرادت وضع حد لمشكلة علاقتهم بالمسلمين، إما بالدخول في الإسلام بعد جدل وحوار يثبت فيه الإسلام جدارته عن اليهودية بالدليل والبرهان، أو بعدم الدخول فيه إذا لم يقتنعوا به مع إيجاد صيغة سلامية للتعايش وتهدئة للموقف المتوتر بعد قطع الرءوس من أشراف اليهود. وأن يتم ذلك بالجدل والحوار والمناظرة، لكن النبي رأى أن يتعامل معهم بمنطق آخر فجرد عليهم الكتائب حتى نزلت النضير على عهد مكتوب، ثم رضيت قريظة بالعهد دون قتال، ولا نعلم عهودا تمت مع اليهود سوى صحيفة المعاقل.
وعليه فإن المعاقل قد تمت فيما نذهب إليه (عن محاولة اجتهادية لا قطعية)، ضمن سلسلة الإجراءات السريعة الحاسمة، لإصلاح ما أفسدت أحد وعلاج آثارها لرفع روح المسلمين المعنوية، وبداية اهتمام واضح بالجبهة الداخلية لتأمينها أولا قبل معارك الغزو، وضمن هذا التأمين قدم النبي تنازلا تراجعيا وضح في النص: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم» (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، 1985م، ص61).
لكن ما حققته الصحيفة من إيجابيات هو أنها حولت المسلمين من لاجئين إلى مواطنين على ذات درجة أهل يثرب، ثم إعادة الأمر كله إلى سيد المدينة الجديد الذي غدا بلا منافس يعد قطع رءوس سراة القوم وسادتهم، ولعل في تعليق الرسول
صلى الله عليه وسلم
للصحيفة بسيفه رمزا واضحا يحمل معنى السلام القائم على القوة والاقتدار. أما أهم بنود الصحيفة فهي تلك التي تقول في مفتتحها: «هذا كتاب من محمد النبي الأمي» والمقصود نبي الأميين (جمع أمم) أي نبي الأمم أي (الجوييم) أي غير اليهود. والمفتتح يشير إلى المعاقل كفرمان صادر من سلطة النبي السيادية، فأطراف الصحيفة لم تكن متكافئة؛ فهو سلام مفروض فرضا، أو هي بمثابة كتاب أمان من النبي، أو عقد اجتماعي مفروض، مع فرض صفة النبوة للنبي في الوثيقة الرسمية، لتعني اعترافهم بذلك راغمين ولو لم يؤمنوا، وهو ما يعني عند العربي الإذلال بإحناء الرأس لأمر لا يعتقد فيه قهرا؛ لذلك كثيرا ما كان الإسلام يفرق بين المسلم والمؤمن؛ فالمؤمن هو صادق اليقين بعكس من أسلم خوفا أو رشوة بتأليف قلبه، وقد جاءت الصحيفة متجاوبة مع رغبة اليهود وبقية مشركي يثرب في الأمان بعدما اجتز السيف الإسلامي رءوس سادتهم.
إن أبرز المفاصل في الصحيفة هي: «وإنكم مهما اختلفتم في شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد
صلى الله عليه وسلم » هي خطاب من سيد لمسود «إنكم»، وليست (نحن الموقعين)، والأمر الأشد دلالة قانون بالصحيفة يقول: «وإن بطانة اليهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله» (ابن كثير، البداية، ج3، ص223-224).
وبين الأفخاذ القبلية التي تم تعدادها كأطراف للمعاقل تم وضع المهاجرين كأبناء البلد، وكفخذ من الأفخاذ البشرية الأصيلة فيها، بل إن الصحيفة أكسبت المهاجرين ليس الوجود الشرعي فقط ولا المواطنة عوضا عن اللجوء فقط، بل غدا الأنصار أنفسهم إزاء المهاجرين تابعين لا مجيرين ومتبوعين.
الأهم من كل هذا أنه لا بد من افتراض حدوث وقعتين ضد بني النضير لا وقعة واحدة هي المشهورة، وقعة أولى حاصرهم فيها المسلمون وفرضوا عليهم صحيفة المعاقل، تلاها بعد ذلك الوقعة المشهورة في تاريخنا والتي تم بموجبها إجلاؤهم عن يثرب والاستيلاء على ممتلكاتهم.
وتتتالى الأحداث، فيقتل المسلمون بعض الأعراب الوثنيين من بني عامر عرضا وخطأ، حيث كان بينهم وبين النبي عهد خضوع مقابل السلام، فقاموا يطلبون من النبي دية القتلى التزاما بالسلام وعدم إعلان الحرب.
هنا يحكي لنا الطبري أن النبي ذهب إلى بني النضير يطلب منهم مساعدته على أداء دية القتيلين العامريين؟! يقول الطبري: «فانطلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى قباء، ثم مال إلى بني النضير مستعينا بهم في ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن حضير، فلما أتاهم الرسول يستعينهم في دية ذينك القتيلين: قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت؛ مما استعنت بنا عليه» (الطبري، التاريخ، ج2، ص551).
وهكذا لم تسوف النضير ولم تماطل، ويبدو أنها قدرت الأمر بعمق، فما زال خروج قينقاع المهين ماثلا، وهناك صحيفة معاقل تضمن لهم قدرا من سلام لا يرغبون غيره، مع مسلسل اغتيال رجالها المقدمين، ناهيك عن معرفتها أن المسلمين قد غدوا مقتدرين ماليا على أداء مثل تلك الديات بعد الاستيلاء على ممتلكات قينقاع وأموال فك أسرى بدر من المكيين؛ ومن ثم كانت الحكمة تقتضي تلك الإجابة العاقلة بحيث لا يعطون أي فرصة لنقض صحيفة المعاقل التي لم يمض على عقدها سوى ستة أشهر.
ويتابع الطبري يقول: «وإن يهود النضير عندما أجابوا النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى ما طلب، قام النبي وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى انتهوا إليه، فقالوا: يا رسول الله انتظرناك ومضيت. فقال: يهود همت بقتلي وأخبرنيه الله عز وجل» (الطبري، التاريخ، ج2، ص551-552).
ويشرح ابن إسحاق في سيرته: «فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج عائدا إلى المدينة.»
ولم يكن هناك سوى رد واحد على خبر السماء، فقد هموا بارتكاب الخيانة، وأن الله قد علم ذلك، فأرسل النبي لهم: اخرجوا من بلدي؟! فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه (ابن سعد، الطبقات، مج2، ج1، ص41).
كانت اليهود تعتقد أن يثرب بلدها منذ قرون مضت، فإذ بها قد أصبحت مدينة رسول الله، وزاد النكاية في اختيار حامل هذه الرسالة للنضير، كان حليف النضير الأوسي «محمد بن مسلمة»، حتى تساءلت النضير عن حلفها مع الأوس وعقدها المتين قبل دخول الأوس في الإسلام، قائلة لمحمد بن مسلمة: «يا محمد ما كنا نرى أن يأتي بهذا رجل من الأوس ، فقال محمد: تغيرت القلوب» (البيهقي، الدلائل، ج3، ص360). أو بقوله في الطبري: «تغير القلوب، ومحا الإسلام العهود» (التاريخ، ج2، ص552). فكان ردهم محمولا إلى النبي مع محمد بن مسلمة: «إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك.» ويقول ابن كثير: «وحمى حيي بن أخطب (زعيم النضير)، وبعثوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود» (ج4، ص77). هذا بينما فهمت القبيلة اليهودية اليثربية الثالثة والأخيرة قريظة ما يحدث؛ فالتزمت بنود صحيفة المعاقل، وهو ما يقول ابن سعد في تقرير واضح: «واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم» (نفس الموضع)، وأعلن زعيم قريظة «كعب بن أسد»: «لا ينقض العهد رجل من بني قريظة وأنا حي.» ويحكى أن رأسا من رءوس النضير هو سلام بن شكم قال لرفيقه حيي بن أخطب: «يا حيي اقبل هذا الذي قال محمد قبل أن تقبل ما هو شر منه، قال: وما هو شر منه؟ قال: أخذ الأموال وسبي الذرية وقتل المقاتلة، فأبى حيي وأرسل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إننا لا نريم دارنا فاصنع ما بدا لك، فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكبر المسلمون معه وقال: حاربت يهود؛ أي أعلنت اليهود نقض الصحيفة بإعلانها الحرب على المسلمين.
وانتهى حصار النضير بأن «صالحوه على أن يحقن دماءهم وله الأموال والحلقة.» أي السلاح (الطبري، ج2، ص553)، ووافق النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأمر بتهجيرهم وأعطى لكل ثلاثة منهم بعيرا واحدا يركبونه حتى لا يمكنهم حمل المتاع. لتختم الآيات الأحداث بقولها:
سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب (الحشر: 1-4).
لا شك سيطرح السؤال نفسه هنا حول قيمة الوفاء بالعهد؟ ومن الذي نقض العهد حقا؟ ومن أطاح بهذه القيمة؟ لا شك نحن كمسلمين نؤمن ونصدق خبر السماء الذي أنبأ نبينا بأن اليهود يهمون بقتله، ونحن لم نسمع خبر السماء، لكننا عن يقين كامل نصدقه لأن ناقله هو خير البرية الصادق الأمين، لكن غير المسلم سيقرأ الأحداث قراءة أخرى، خاصة أن قيمة الوفاء بالعهد قيمة إنسانية لا تخص المسلمين وحدهم، فهم لن يصدقوا خبر السماء مثلنا بعد أن ختم الله على قلوبهم أكنة ولم يفتح بصيرتهم، سيقرءون الوقائع كما سردتها أمهات كتبنا الإسلامية المعتمدة، وسيعلنون مع الصحابي محمد بن مسلمة: أن الإسلام يجب العهود، بمعنى أن الإسلام يجب غيره، والتسليم له والاعتقاد في سلامته وحده، يترتب عليه نقض كل ما يخالفه، وكم حفل تاريخنا ببطولات لم تقف عند حد نقض العهود بل تمزيق عهد الأسرة تمزيقا، يقتل فيها المسلم أخاه، بل وأباه، وكم يتغنى بمن كان مثل أبي عبيدة بن الجراح الذي دفعه إخلاصه لدينه إلى ذبح رحمه وعصبه، قتل أبيه، وقال له وهو يذبحه: «خذها في سبيل الله» (أحمد شلبي، السيرة العطرة، ط12، ج1، ص375- 377)، وهو ما أفصح عنه رد المسلمين على نداء النبي بعدم قتل عمه العباس إذا لقوه في بدر الكبرى، قال أبو حذيفة بن عتبة: «أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه السيف» (ابن سيد الناس، عيون الأثر، ج1، ص310).
ليس هناك عقد في التاريخ كله أعلى درجة في القيمة من كل العهود كعهد الأسرة الذي أسس لقيام المجتمع الإنساني، لكن الإسلام جب حتى هذا العهد، فقتل الابن أباه في سبيل الله، وقتل إخوانه وعشيرته في سبيل الله. كل هذه المعاني تكتسب قيمتها من قدسية الدين لا من مشهد الوقائع على الأرض، فمشهد الوقائع ينفي عن كل تلك الأحداث أي معنى للقيم بمعناها الإيجابي الذي نفهمه منها اليوم بعد مرور أربعة عشر قرنا تغيرت فيها المفاهيم واكتسبت القيم دلالات جديدة، لكننا كمسلمين نصدق ونسلم بضمير مستريح كامل اليقين، ونرى أن لله حكمته في ذلك والتي تخفى علينا، لكن مثل هذا المأثور سيثير في الضمير المسلم الكثير من المشاكل لو تصورناها صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن كسر القيم الموضوعية لمصلحة الربانية، كان له هدف يتعلق بعرب الحجاز وتاريخهم وحدهم، عندما كان الإسلام يقيم لهم دولة كونفدرالية في حالة خاصة جدا بهم وبزمنهم وبيئتهم ونظمهم، ولا يتعلق بنا ولا بأوطاننا ولا بتاريخنا الوطني لا في مصر ولا في إفريقيا ولا في الشام ولا في فارس؛ لذلك فإن القول بالصلاحية لكل زمان ومكان لا بد أن يفضي إلى تناقض صارخ بين ما وصل إليه الإنسان اليوم من قيم وبين قيم كانت تناسب بيئتها البدوية القاسية وعاداتها الجافية، وظروفها السياسية التي استدعت بتصريح النبي للمسلمين ب«المكر والخديعة»، وإلا ما قامت دولة القبائل الاتحادية الإسلامية لعرب الجزيرة ولا توحدت قبائلها تحت رئاسة قريش.
كانت قيما ضرورية لزمانها، لكنها في زماننا هذا ستكون خللا فادحا في القيم، ومن يستدعها مؤمنا بقدرتها على الفعل الأخلاقي اليوم، يخرج نفسه عن الإنسانية جميعا وما تواضعت عليه من قيم هي الأرقى موضوعيا. وما قطع رءوس الأبرياء أمام الكاميرات مع التكبيرات الإسلامية بيد مشايخ الجهاد الزرقاويين ببعيد، هو عودة قاصرة إلى ظاهر الدين لا محتواه، ودون معرفة صادقة بظروف الوحي التاريخية، بل ورفض لهذه التاريخية أصلا، وهو ما شكل صورة المسلم القبيحة أمام العالمين، وهو بالتأكيد ما لا نريد لأنفسنا ولا لديننا، ولا يبقى سوى أن نؤمن ثم للصلح مع زماننا نسلم أن مثل نلك القيم إنما كانت تخص زمانها ومكانها وحدهما، وسحبها لزماننا لم يؤد إلا لما نراه من خراب الضمائر، ودمار الديار، وفساد وإفساد هائل لم تعرفه بلادنا قبل صحوتنا قط، لا بارك الله فيها.
أتابع النقض الثاني لصحيفة المعاقل التي عقدها النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
لكل أطراف المدينة وفرقها، ولم تعش شهورا، حتى تم تقضها، النقض الأول بغزوة النضير وإجلائهم عن مدينة يثرب فتوجه بعضهم نحو فلسطين، وتوجه بعضهم الآخر بقيادة زعيمهم حيي بن أخطب نحو واحة خيبر شمالي الحجاز على مبعدة حوالي 400كم من يثرب، ضيوفا على أهل ملتهم هناك، ثم النقض الثاني الذي انتهى بمجزرة قريظة وهو مناط البحث هنا.
في حديثه عن القيم في الإسلام يذكرنا الشيخ قرضاوي المرجع الفقهي الأشهر بالآيات الكريمة:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (المؤمنون: 1-11).
ويعقب بأن ذلك يعني أن الله قد جعل من قيمة الوفاء بالعهد قيمة ترقى في تلازمها مع أداء العبادات، فيكون المسلم متعبدا لربه عندما يراعي هذه القيمة (ملامح المجتمع المسلم، مكتبة وهبة، ص92-109).
معلوم في كتبنا التراثية أنه رغم النزاع الذي نشب بين قبيلة النضير اليهودية والمسلمين وانتهى بإجلاء النضير، فإن قبيلة قريظة اليهودية رفضت مد أي عون لشقيقتها النضير، وأصرت على الحفاظ على عهد صحيفة المعاقل، منعا لأي سبب قد يجر عليها ما هي في غنى عنه.
وقد حظي «حيي بن أخطب» سيد النضير بسهم وافر من الذكر في تاريخنا؛ لأنه هو من قام بحشد العرب وتحزيب الأحزاب ضد المسلمين، وجمعهم في حلف ضد يثرب لكسر شوكة المسلمين، ثأرا لقبيلتي قينقاع والنضير، فأخذ سادة العرب اليهود مثل سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وهوذة بن قيس الوائلي وأبي عمار الوائلي، وانحدر بهم إلى مكة ليدرك ثأره من محمد
صلى الله عليه وسلم ، واستجابت قريش وأحلافها العرب لوضع حد لما حدث لتجارتهم وأمنهم على يد المسلمين، مع رغبة أكيدة في الثأر لقتلاها، في حلف عظيم توجهت جيوشه نحو يثرب بغرض توجيه ضربة قاتلة ونهائية تجهز على الوجود الإسلامي في الجزيرة. جيوش جمعت فرسان كنانة وأهل تهامة وأشاوس غطفان وأشداء نجد الذين وتروا في زعامتهم المغدورة، (ولم ينس الفزاريون مقتلة عقيلتهم أم قرفة تمزيقا بين بعيرين على يد زيد بن حارثة، والتي تصورها أفلامنا السينمائية بالعكس، فتجعل من مسلمة فقيرة هي من تم تمزيقها بالبعيرين المتعاكسين على يد الأشرار الكفار، وهو ما يستدعي السؤال حول قيمة الصدق في مشايخ الإسلام، مع صمت كل الفقهاء والشراح والوعاظ عن هذه الكذبة الكبرى) لكن زعيم غطفان الجديد عيينة بن حصن الفزاري ما شغله ثأر أم قرفة قدر ما شغله العائد المادي، فمنحه يهود خيبر ثمر بلادهم لمدة عام كامل، «فلما سمع بهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضرب الخندق حول المدينة، وكان الذي أشار على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضرب الخندق سلمان الفارسي، قال: يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا» (الطبري، التاريخ، ج2، ص556).
سبق وأخذ النبي في أحد بمشورة شباب المسلمين المتحمسين فخرج إلى عدو أكثر عددا وعدة فهزم المسلمون شر هزيمة؛ لذلك قرر في الخندق أن يأخذ بنصيحة عبد الله بن أبي سلول التي سبق وقالها له في أحد كخبير عسكري، ولم يؤخذ بها حينئذ. قال عبد الله بن أبي سلول: «يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا وأصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم. ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإذا رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا» (السهيلي، الروض الأنف، ج3، ص149).
ومع ذلك فإن كتبنا التراثية لا تني تصف ابن سلول بكبير المنافقين، وذلك لأنه كان صوتا معارضا أحيانا فقط. لكن عندما تعلق الأمر ببلده أحسن النصح مخلصا. إلا أن ما يلفت النظر بشدة أن قريظة لم تقف على الحياد بل أخلصت لعهدها، فأمدت جيش المسلمين بآلات الحفر ونقل الأتربة «فاستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة ومساحي وكرازين ومكاتل» (الحلبي، السيرة، ج2، ص63).
وبينما وصل جيش الأحلاف إلى عشرة آلاف مقاتل، لم تتمكن يثرب بأقصى إمكانات الحشد من جمع سوى ثلاثة آلاف بين كبير وصغير وشاب وحدث، واشتد الحصار على المسلمين فنبأهم الرسول بفتح مدائن كسرى تبشيرا لهم ورفعا لروحهم المعنوية، لكن معارضا آخر لا يمكن احتسابه من المنافقين لأنه من أهل بدر الذين غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، هو معتب بن قشير (انظر: ابن هشام، السيرة بشرح السهيلي بالروض الأنف، ج3، ص61) الذي قال: «ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل! ويخبركم أنه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟» (ابن الأثير، الكامل، ج2، ص179). أو في قول آخر: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط» (ابن هشام، الروض الأنف، ج3، ص261).
حتى حفر الخندق أثبتت قريظة وعيها الدقيق بموقفها الشديد الحساسية، خاصة بعدما أصبحت بيوتها وحصونها جزءا من الخندق؛ فالخندق يحيط بالمدينة وينتهي عند جبل سلع من طرف كحصن طبيعي يكفيه بعض الرماة، ثم يصل حتى حصن قريظة على حافة المدينة بمواجهة الأحزاب مباشرة؛ لذلك كانت قريظة نقطة ضعف يثرب الوحيدة التي أدركها جميع الأطراف: المسلمون وقريظة والأحزاب، كان يكفي أن تفتح قريظة باب حصنها لتمر عبره الأحزاب لينتهي الأمر كأن لم يكن.
وعى الحلف نقطة الضعف، فذهب حيي بن أخطب الزعيم النضري المطرود إلى أبواب قريظة، فأبى أن يفتح له سيد قريظة كعب بن أسد القرظي، فظل يخاطبه ويذكره وينصحه ويخوفه من المسلمين وكيف جاءه بفرصة قد لا تتكرر للتحرر من سلطان المسلمين، حتى فتح له فدخل، «فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة وفي الغارب حتى سمع له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا، أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان عليه، فيما بينه وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم » (الطبري، التاريخ، ج2 ، ص571. انظر أيضا: ابن هشام في السهيلي، ج3، ص261. وابن الأثير في الكامل، ج2، ص180).
هكذا اطمأنت قريظة للحلفاء من الأحزاب واستقوت بهم؛ مما يؤكد ما سبق وذهبنا إليه في الدراسات السابقة عن عهد صحيفة المعاقل، وأنها قد تمت كتابتها تحت السلطان المحمدي وبدعم من القوة الإسلامية؛ لذلك ما أن اطمأنت قريظة إلى مساندة جيش الأحزاب، حتى بدأت تفرض شروط استمرار صحيفة المعاقل من عدمه.
وبلغ الأمر المسلمين المحاصرين المجهدين الفزعين مما يحدث في حصون قريظة، فأرسل النبي وفدا من الصحابة لبني قريظة، فاشترطت قريظة لاستمرار الالتزام بالصحيفة وفي مدد المسلمين إعادة بني النضير إلى المدينة مرة أخرى، فتشاتموا وعادوا ليخبروا النبي، وأمسى واضحا حجم الخطر الآتي.
وعاد المسلمون للتدبر ليصلوا إلى نتيجة، أنه إذا كانت نقطة ضعف يثرب هي قريظة ، فإن نقطة ضعف الأحزاب هي الأحمق الطماع المطاع (بوصف النبي له) عيينة بن حصن الفزاري زعيم غطفان، الذي يمكن تحويل موقفه بمزيد من الإغراءات المادية.
وتم التفاوض سرا مع زعيم عطفان على انسحاب الطماع برجاله مقابل ثلث ثمار المدينة، لكن عيينة طلب النصف على ألا يكتفي بالانسحاب بجيوشه، بل والإيقاع بين الأحزاب بالفتنة، يرسل من يوقع الشك بين الأحزاب وبعضها، وتمت الموافقة. وعندما أخبر النبي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة بعد انصراف وفد غطفان، احتجا وقالا: إنا نرى ألا نعطيهم إلا السيف، ليرد النبي: «فأنت وذاك»، فيتناول ابن معاذ صحيفة التعاقد ويمحوها قائلا: «فليجهدوا علينا» (ابن سعد، الطبقات، مج2، ج1، ص53).
بينما كان رجل غطفان الداهية نعيم بن مسعود ينفذ ما سمعه النبي وخطته للإيقاع بين الأحزاب، أو في مختصر مفيد قوله
صلى الله عليه وسلم
لابن مسعود: «خذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» (ابن هشام في السهيلي، ج3، ص265). فنقض المسلمون الصحابة عهدا وقعه النبي دون علم الطرف الثاني من العهد! بينما كان الطرف الثاني ينفذ جانبه من العهد.
بينما كان ابن مسعود يشكك قريظة في الأحزاب، طلبت قريظة من الأحزاب رجالا من كبار أشرافها ضمانا لهم يدخلون حصنهم معهم كما دخل حيي بن أخطب، بينما كان قد أخبر الأحزاب قبلها أن قريظة تتآمر بهم وستطلب منهم رجالا كبارا من زعماء الأحزاب تسلمهم لمحمد ليقتلهم.
وفي ليلة شاتية قاسية مرعدة مبرقة وقع الخصام بين قريظة والأحزاب؛ مما دفع أبا سفيان للنداء بعودة الجيوش بعد نفاد مخزون الزاد والماء واشتداد العاصفة. وهكذا أمكن لابن هشام القول: «وخذل الله بينهم» وليس نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني. (السيرة في السهيلي، ج3، ص265-266).
وصدق الله وعده لنبيه بانشمار الأحزاب راجعين إلى بلادهم، ناهيك عن النتيجة الأهم والأخطر وهي تحرير يثرب تماما من العنصر اليهودي، بعد أن همت قريظة بالخيانة، فقد زحف الجيش الإسلامي وحاصر قريظة، فأرسلت لمحمد أن يرسل لها أبا لبابة بن المنذر الأوسي، «قالوا: يا أبا لبابة: ماذا ترى؟ وبماذا تأمرنا؟ فإنه لا طاقة لنا بالقتال »، وجاء رد أبي لبابة بإشارة من إصبعه مرورا على عنقه (يريهم أنه الذبح) (ابن كثير، البداية، ج4، ص121).
يروي الطبري: «فقام إليه الرجال وأجهش إليه النساء، والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد، قال: نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح» (التاريخ، ج2، ص584). «وقد كان حيي بن أخطب النضري قد دخل على بني قريظة في حصونهم بعد أن رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان قد عاهده عليه» (نفسه ص583). فأي قيمة للوفاء بالعهد يعدل احترامها تقديم النفس للموت عن النكوص عن القيمة؟! «ثم استزلوا فحبسهم رسول الله، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق» (نفسه، ص588) (أي أمر بحفر حفر بالسوق، وذلك قبل صدور أي حكم بشأنهم).
قامت الأوس تتشفع عند النبي لحلفائها القرظيين كما سبق وتشفعت الخزرج للنضير فخرجوا بحياتهم تاركين أموالهم وعقارهم ومتاعهم، فرد عليهم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم. قالوا: بلى، قال: فذاك سعد بن معاذ» (نفسه، ص586). وحكم سعد على حلفائه اليهود القرظيين الذين أصبحوا (سابقين)، بحكم شديد القسوة؛ قال: «إني أحكم فيهم بأن يقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله لسعد: حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» (نفسه، ص558-587).
ومن ثم كشف الطبري سر الخنادق بسوق المدينة حيث أمر النبي بذبح القرظيين وكل من أنبت شعر عانته منهم من صبية صغار على تلك الخنادق، «فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، المكثر لهم يقول كانوا نحو الثمانمائة إلى التسعمائة، أتي بعدو الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال له: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك أبدا، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، ملحمة قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه» (نفسه، ص588: 593). وبقي من بينهم ذلك الذي سنعرفه بعد ذلك كصحابي «عطبة القرظي» الذي نجا من المجزرة لأنهم عندما كشفوا عن عانته وجدوها لم تنبت شعرا بعد.
ويحدد لنا البيهقي موقع تلك المذبحة الهائلة: «قتلوا عند دار أبي جهل التي بالبلاط، ولم تكن يومئذ بلاطا، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق» (دلائل النبوة، ج4، ص20)؛ وهو وما يعني أن الخنادق قد امتلأت بالدم ثم فاضت منها حتى أقصى السوق. ليختم القرآن الكريم الملحمة في موجز بليغ يقول:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا (الأحزاب: 25-27).
كادت قريظة أن تهم بنقض صحيفة المعاقل، التي كتبت قهرا وشوكة، فكان عقابها عملية إفناء كاملة. أليست العقوبة أشد بما لا يقارن بالجرم؟ في معيار القيم سيكون هذا الإفناء جريمة في حق الإنسانية بمقاييس اليوم وقيم اليوم وتكون الكارثة أعظم فداحة لو اعتبرنا ذلك دينا وقيمة سماوية، مع ملاحظة كيف نقض السعدان ابن معاذ وابن عبادة العهد مع غطفان بشديد البساطة، وكيف نقض سعد بن معاذ عهده مع حليفته وحليفة الأوس قريظة بإصداره حكما مرعبا شديد الوطأة وبلا شبيه في تاريخ الجزيرة بذات الهدوء والبساطة، إخلاصا لإسلامه ولنبيه، وهو ما تلحظه أيضا في موقف أبي لبابة الأوسي، مع ملاحظة أخرى في الموقف المبهر في وفاء حيي بن أخطب بعهده لصديقه كعب بن أسعد القرظي بالدخول معه إلى حصنه، وهو يعلم أن مصيره الموت لا محالة.
على مقياس القيم كما نفهمها لا بد أن يحتسب ما حدث خروجا على كل القيم الإنسانية، من أجل قيم تحتسب دينية بينما كانت سياسية وعسكرية لها ظرفها التاريخي، ورغم أن ما حدث كان مجزرة بكل المعاني، إلا أن التاريخ يمتلئ بالمجازر، والأهم كان في النتائج، وقد حققت مجزرة قريظة بعد ذلك دورها في إرهاب الجزيرة كلها بعدما تسامعت بخبرها مما سرع عملية الخضوع الطوعي لسيادة المسلمين، كان سعد بن معاذ يرنو إلى المستقبل وهو يصدر حكمه المخيف والمرهب لكل جنبات الجزيرة مدويا رجع صداه هلعا أينما سمع.
إن قيمة الوفاء بالعهد مع ظروف قريظة تفقد معناها القيمي، كما سبق وفقدته مع ظروف النضير، وإذا ما استند مسلم اليوم إلى قيمة الوفاء بالعهد فلأنها قيمة عظيمة في ذاتها، وليست لأنها مقررا إسلاميا؛ لأنها في واقع الحال لم تكن كذلك، والإصرار على نسبة كل شأن رفيع وصلت إليه الإنسانية إلى الإسلام قبل أربعة عشر قرنا وربع القرن فيه ظلم لواقعنا وظلم للإسلام في آن واحد. إن القيم هي ما يتوافق عليه الضمير العام في زمن ومكان بذاته ومجتمع بخصوصيته وقد تسمو فيتوافق عليها الضمير العالمي كله، أما الدين فهو أوامر ونواه لا علاقة لها بمفهوم القيم؛ فالقيمة تفترض حرية الاختيار بين بدائل مع فرز بينها وتجنيب لاختيار القيمة الأفضل، بينما الدين فروض وشعائر يحسن احترامها بتركها لزمانها وليست محل اختيار أو مفاضلة.
والحرب فعل سياسي، والسياسة لا تحترم سوى المصالح، وأعلن النبي
صلى الله عليه وسلم
ذلك بوضوح؛ فهي عملية خداع للآخر، ليس في السياسة عهود دائمة ولا قيم إلا إذا وافقت المصلحة، ولا بأس بنقض القيم في شئون السياسة والحرب، لكن إن نقضناها لأن ديننا أباح هذا النقض، وجعل ما حدث بشأن هذه القيمة في تاريخنا دينا كما قال قرضاوي نتعبد بها؛ فهو ما يعني الخروج على معنى القيم جميعا وتدريب النفس والروح على كسر القيم وتبرير ذلك الكسر بالخداع الشرعي المشروع.
هذا ما كان من الأحداث على واقع الأرض في زمن الدعوة، وهذا ما كان من تعقيبنا الذي لا يكذب ولا يتجمل، لكن يعترف بحقيقة الأحداث بهدوء ليتركها لزمانها دون تفعيلها في زماننا، أما قرضاوي فقد عقب على الغزوة بقوله: «النبي سامح في الأحيان وقال لقريش اذهبوا فأنتم الطلقاء، لكنه لم يقل ذلك لبني قريظة، قبل كده سامحهم فجاؤا وتألبوا عليه وألبوا العرب عليه، فلم يكن لهم كلمة». لكنه لا يذكر لنا كيف: (قبل كده سامحهم) ومتى وفي أي حادثة؟ ويرى قرضاوي أنهم: لأنهم «لم يكن لهم كلمة» فقد حقت عليهم العقوبة بالإبادة الشاملة. لكن أخلاقيا أو حتى عسكريا، لماذا؟ يقول قرضاوي لا فض فوه وذبح كارهوه: «أحيانا يكون العفو مطلوبا، وأحيانا يجرئ الظلمة على ظلمهم، والبغاة على بغيهم» (موقع القرضاوي في 29 / 2 / 2008م).
وهو ما يعني إمكانية تكرار الدرس بغض النظر عن قيمة القرضاوي العظمى في الوفاء بالعهد؛ لأن العفو قد يؤدي إلى اجتراء المعفو عنهم على العافي، وأحيانا يجرئ البغاة على تكرار بغيهم، ولأنه (أحيانا) ولأنه (قد)، فقد وجب الذبح الشرعي.
الفصل الخامس
قمة السقيفة كنموذج ثان
لعل أهم السمات الفارقة للعربي البدوي هو الاعتزاز القدسي بالنسب القبلي، حتى إنهم لم يعرفوا أن هناك علما أرقى ولا أهم من علم الأنساب، وكان لديهم متخصصون يرفعون النسب إلى الجد التاسع والعاشر، عارفون بأقدار الناس ما بين النسب الرفيع والنسب الوضيع. ويرتفع النسب وينخفض بحسب عدد أفراد القبيلة، والقدرة القتالية للقبيلة.
عيينة بن حصن الفزاري مثلا لم يكن بمقاييس الرجال أكثر من أحمق جهول، ومع ذلك حسبت له العرب ألف حساب، حتى نبي الإسلام تعامل معه على كفره وفق هذا المعنى، وكان يلقبه بالأحمق الطماع المطاع؛ لأن بإمكانه تجييش عشرة آلاف فارس في لحظة؛ ومن ثم كان تفاوت الأنساب والتفاخر بالنسب إن صدقا أو كذبا مدعاة لسيادة قاعدة عدم المساواة بين الناس كمفهوم أصيل لدى العربي، الذي وضع لعدم المساواة بين الناس علما يصنفهم درجات وطبقات هو علم الأنساب.
ومن ثم فإن عدم المساواة بين أقدار الناس أصيل في البنية التكوينية لطبيعة المجتمع البدوي، الذي يرى أن عدم المساواة هو طبيعة الأشياء ونظام الكون، وأن تراتب الخلق في منازل ورتب ودرجات قدر حتمي، ولأنه يتعلق بعدم المساواة في الرزق الذي لا حيلة فيه لإنسان؛ فهو قدر إلهي محتوم.
ونجد هذه القاعدة البدوية في التفرقة بين بني آدم أساس ومحور النقاش في سقيفة بنى ساعدة عندما تنافس الأنصار والمهاجرون حول أحقية كل منهما في رئاسة العرب بعد وفاة الرسول واكتمال الرسالة الإسلامية. وتمكن المهاجرون القرشيون من حيازة الأفضلية للرئاسة فأصبحوا من بعد هم الحاكمين وهم من كتب التراث الإسلامي تحت ظلهم وبتوجيه منهم. وقد حازوا تلك الأفضلية بالقرابة القبلية العشائرية من نسب النبي، فهم ذوو قرابته ومن دمه ورحمه. وأفضلية أخرى إضافية هي السابقة في الإسلام، وهي قيمة غير مفهومة في معايير زماننا؛ لأن الأسبقية في الإسلام لا يجب بموازين عدل اليوم أن تفضل طرفا على طرف تأخر إسلامه؛ لأن المعنى سيكون أنه كان مطلوبا في العالم كله وفي لحظة واحدة أن يعلن إسلامه حينما أعلن النبي نبوته، حتى تكون هناك مساواة، وسواء بلغته الدعوة فورا أم جاءته متأخرة. فالسابقة في الإيمان هنا لا يمكن فهمها إلا في ضوء حياة الغزو القبلي، القائمة على القدرة القتالية والانتصار بأي أسلوب ممكن، كالخطف حيث يكون الخاطف صاحب حق في المخطوف بمجرد خطفه، إن السابقة هنا تعني في المفهوم البدوي أنه قد سبق إلى الخطفة فأصبحت له، وهي قاعدة بدوية يفهمها كل البدو، ويرونها حقا منطقيا طبيعيا لا غبار أخلاقيا عليه بالمرة، ولعل قولة عمر بعد فوز أبي بكر بالخلافة: «إن خلافة أبي بكر كانت فلتة وقانا الله شرها» تعبير واضح عن تلك الفلتة أو الخطفة.
في السقيفة سنرى أول استثمار انتهازي للدين من أجل مكاسب دنيوية بحتة، وكان أول المستثمرين هم صحابة النبي المقربين، وهم من فتح الباب لاستثمار دين الله لأهداف دنيوية بحتة، وذلك بحسبانهم من قال عنهم النبي: «أصحابي كالنجوم؛ بأيهم اقتديتم، اهتديتم.» ومن ثم كانت قدسية الصحابة رصيدا قدسيا آخر، فتم إلباسهم قداسة الدين الذي تم استثماره في صراع أهل القمة في السقيفة.
وقد أثمر هذا الاستخدام الانتهازي للدين ولقداسة الصحابة تقسيما للمجتمع المسلم إلى قسمين: قسم له شرف الحكم، وقسم آخر تم تشريفه بكونه رعية للحكام المقدسين، وعليه واجب الطاعة والمساعدة ولا حق له في الحكم، وذلك تأسيسا على حديث أبي بكر عن النبي الذي حسم به الأمر: إن «الخلافة في قريش». وما كان ممكنا تكذيب أبي بكر وهو الصديق في هذا الحديث الذي لم يسمعه من النبي سوى أبي بكر وحده. بل وترتب على هذا الحديث أن جعل الحكم وراثيا في قريش وحدها دون بقية العرب، وتمت به مصادرة مدينة يثرب من أهلها الأنصار وخلوصها فيئا للمهاجرين دون حرب ولا فتح، بقرار ديني احتفظ به أبو بكر سرا حتى حان أوانه فأفشى به.
الملحوظة الثانية التي لا تقل أهمية فيما دار بالسقيفة هو أن طرفي الصراع كانا يتحدثان بحسبان الرسالة المحمدية موجهة للعرب وحدهم دون الناس، في خطبة أبى بكر يستذكر مع الناس ما مضى، وكيف جاء النبي بدعوته، وكيف «عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم.» (الطبري، 11، 19). فهو يوضح هنا أن الرسالة كانت موجهة للعرب وحدهم، ولم يرد في خطبته على طولها وتعدد محاورها ما يشير إلى غير العرب من فرس أو روم أو غيرهم من قريب أو بعيد.
المعنى ذاته تؤكده خطبة سعد بن عبادة الأنصاري، الذي قام بالسقيفة يعرض حجج الأنصار في الأحقية والأفضلية للحكم، موجها خطابه لأهله الأنصار وكيف استضافوا الدعوة وحموها وخرجوا بها خارج حدود يثرب في ظل سيوفهم ورماحهم، حتى استقامت العرب بسيوفنا لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داحرا، وحتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب.» وهكذا تكون الرسالة قد اكتملت بسواعد الأنصار وذلك في خاتمة سعد، «وتوفاه الله وهو راض عنكم، وبكم قرير العين.»
هنا أيضا كان العرب هدف الرسالة التي بلغتهم تامة كاملة، وليس مقصد الرسالة حسب فهم الصحابة هنا هو العالم، وعندما كانوا يتحدثون عن الأرض كانوا لا يقصدون بها العالم، إنما أرض العرب بالذات، «حتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب». فالأرض المقصودة هنا هي الأرض التي دانت عربها لأسياف الأنصار.
هنا اختلاف شديد في المفاهيم ما بين دلالتها عند عربي زمن الدعوة وما بين دلالتها اليوم، وهو الأمر الذي تهدف هذه الدراسة إلى التنبيه إليه، حتى يمكن أن نقرأ نصوص ذلك الزمان بدلالات مفاهيم زمنهم لا مفاهيم زماننا اليوم.
أبو بكر يدعم موقف المهاجرين المطالب بالحكم والسلطان فيقول عنهم: «فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله ورسوله، وهم أولياؤه وعشيرته، وهم أحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة.»
ويلفت الانتباه بشدة قول الصحابي الكبير «فهم أول من عبد الله في الأرض»، فلا شك أنه كان على علم بالنبوات السابقة في بقاع الأرض حول جزيرة العرب؛ لذلك عندما يقول الأرض فإنما هو يعني أرض الجزيرة تحديدا التي فيها كان المهاجرون أول من عبد الله حق عبادته وآمن بالله ورسوله، ويظل المفهوم من كلمة الأرض أرض العرب وحدها.
أما السبب الجوهري في أحقية المهاجرين بالرئاسة أو بالأمر فهو أنهم أولياء النبي وعشيرته وأهل نسبه القبلي؛ لذلك «هم أحق الناس بهذا الأمر من بعده». المسألة إذن كانت ميراثا قبليا وليست شأن الدين والإسلام، ليس فيها أسباب كالكفاءة أو مصلحة الرعية أو رأي هؤلاء الرعية، فهذا كله ليس سبيلا إلى «الأمر» أو الرئاسة، إنما السبيل هو القرابة والعصبية والنسب، ومن ثم تكون الأرض وإمارتها ميراثا وليس دولة تدار بأساليب إدارة الدول كما في بقية الدول المجاورة.
هنا لا تجد بالمرة تعبير «دولة»؛ فالعرب لا تعرف من دلالة دولة سوى التداول بتغير الأزمان، وتلك الأيام نداولها بين الناس، إنما كانوا يعرفون «الرئاسة» أي الحكم بمفاهيمنا ولكن بمصطلح «الأمر»؛ لأن الرئيس هو من يأمر فيطاع؛ فهو الآمر، وماهية منصبه هي «الأمر» ومنها الأمير؛ لذلك لم يعرف العربي معنى الدولة والحكومة كما نعرفه بدلالة أيامنا، إنما يعرف الآمر والمأمور فقط، ما يعرفه الأمر والأمير الآمر بلا منازع ولا معارض ولا شريك. الأهم وتأسيسا على المعاني الفطرية الأصيلة عند العربي في عدم المساواة بين الناس، هو أن أبا بكر كان يرى أن الله لم يساو بين المهاجرين والأنصار، وأن للمهاجرين أفضليتين واضحتين فضلهم الله بهما على الأنصار وخص بهما المهاجرين، الأفضلية الأولى سابقتهم في الإسلام، والثانية هي قرابتهم ونسبهم القبلي للنبي، وإلا لماذا لم يختر نبيه من بين الأنصار؟ ولماذا ظهر في مكة ولم يظهر في يثرب؟ حجة بدورها قبلية تقوم على منطق فبلي عشائري قح.
أما قوله: «لا ينازعهم ذلك إلا ظالم»؛ فهو ما يعني بوضوح فصيح أنه حتى بعد اكتمال الدين تحت سمع وبصر الصحابة، فإن من بين الصحابة من عجز عن إدراك العدل، وظهر من بينهم من هو ظالم لا يرى العدل عندما يكون ماثلا أمام عينيه، وهذا العدل ليس هو الوفاء للأنصار بما قدموا؛ إنما هو حق قريش في الحكم، وهذا الحق له أصول قبلية راسخة. وعليه فإن دلالة مفهوم العدل زمنهم تختلف بدورها عن فهمنا لها اليوم، فحق قريش بعيون اليوم سيكون غير مفهوم بالمرة، مقابل ما قدم الأنصار للدعوة من بذل وعطاء وفداء.
في قمة السقيفة حدثت تحولات وانقلابات أدت إلى تغير خط سير التاريخ، فبعد ريادة يثرب، وبعد ما كان الأنصار وقود الانتصارات الإسلامية المتتالية، أسفر اجتماع السقيفة عن نتائج أعادت إلقاء الأمر كله بيد قريش مرة أخرى، لتستمر قائدة للعرب بشكل شرعي، بعدما كانت سيادتها زمن الجاهلية سيادة عرفية غير ملزمة ودون اعتراف قبلي علني بهذه القيادة، لقد دق اجتماع السقيفة قريش وتدا في جسد الزمن والجغرافيا لتحكم بشرعية القرابة للنبي ودينه معا، بالانتساب إلى الدين رغم أنه حق مشاع لا يصح إليه انتساب دون انتساب، لقد تم تأميم الإسلام وتشخيصه في شخص محمد، ومن القرابة لمحمد تم وراثة الدين والدنيا معا في منظومة واحدة يعرفها العلم الحديث باسم منظومة الاستبداد الشرقي.
والنظرة الأكثر فحصا وتدقيقا لا بد أن تصل إلى أن قمة السقيفة لم تغير خط سير التاريخ، إنما هي أعادت هذا الخط إلى مساره الطبيعي الذي سبق وصنعته ظروف البيئة وظروف السياسة العالمية، عندما أصبحت مكة بقيادتها القرشية أهم محطة تجارية مالية، نتيجة للحرب بين الفرس والروم، عندما لم يعد في العالم طريق آمن للتجارة سوى الطريق الصحراوي القادم من اليمن في رحلة الشتاء فيما نحو الشمال حيث عالم الإمبراطوريات في رحلة الصيف. وما كانت يثرب في ذلك إلا حلقة في السلسلة الكبرى التي تم استخدامها في انحرافة تاريخية لضرب تجارة مكة، وقيام يثرب بغزواتها الإسلامية على الطريق التجاري وحصاره اقتصاديا لإخضاع مكة للسيادة الإسلامية، وما حدث في السقيفة إذن هو عودة الاعتدال لخط سير التاريخ نحو نتائجه المنطقية، فكان أن أصبحت يثرب نفسها مقرا لأول حكومة قرشية عربية بالمعنى الواسع لفيدرالية قبلية موسعة في جزيرة العرب. (1) ماذا أبقت السقيفة للأنصار؟
في خطابه بالسقيفة يتوجه أبو بكر للأنصار قائلا: «نحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو.»
هنا تبدو حكمة أبي بكر وحنكته في توجيه الاهتمام لما يحب العربي ويهوى. نحو الحروب والسبي والفيء والغنائم، مع تضمين التوجيه نحو الفتوحات طمأنة للأنصار على حفظ حقوقهم في الفيء، إنها الإشارة الهامة التي تهدئ الروع وتطمئن الفؤاد، ولا شيء هنا عن واجب الصحابة في نشر الدعوة الإسلامية، كل الحديث عن فيء مضمون لأصحابه (الطبري، 11، 220. هيكل، حياة محمد، ص403). والعدو المقصود هنا هو غير المسلم، فمجرد وجوده هو عدوان على المسلم يجب رده، وغير المسلم العدو سيكون هو محل تفعيل الحلف القديم «أنصارنا على العدو»، وهو مصدر الفيء الذي سيكون منه نصيب «لشركائنا في الفيء.»
ولا يفوت الصديق أن يقدم للأنصار التقدير والثناء فيقول لهم: «وأنتم معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم الهجرة، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.»
في عالم العرب كانت اللغة قادرة فعالة، قوم فخرهم اللغة، فخرهم أنهم يتكلمون، ولقبوا غيرهم بالعجم ولقبوا الحيوانات بالعجماوات أي التي لا تفصح فصاحة العرب، وهذه الفصاحة قامت بتحويل تضحيات الأنصار العظمى وإيوائهم النبي والمهاجرين ومحاربة العرب من أجله إلى منة من الله لينصر بهم دينه، فليس لهم أي فضل على الدعوة؛ لأن الحقيقة أن الفضل هو على الأنصار وليس لهم، ويكفيهم أنهم كانوا المختارين إلهيا للقيام بهذه المهمة وحدها؛ لذلك من الله عليهم بهذا الفضل فشرفهم بذلك وكرمهم، ورغم هذا التكريم الإلهي فلا يزالون أمام القانون القبلي في الدرجة الدنيا فهم بعد المهاجرين؛ لذلك فالعدل يفرض الأمراء «الآمرين» من قريش، والوزراء من الأنصار.
والقارئ المدقق لتفاصيل قمة السقيفة سيرى أول الملحوظات البارزة وهي العادة العربية الجاهلية في التفاخر بالنسب وعدد أفراد القبيلة وقوتها ومنعتها ودرجة القرابة من الرسول، والتعامل مع الأمر باعتباره ميراثا، دون أي إشارة تفيد بمعرفتهم لمبادئ الحقوق والواجبات، سواء أكانت تلك المتعلقة بالحاكم أم بالرعية، وعدم المعرفة هو التفسير الوحيد لعدم تعرض أي من الطرفين لها في المنافسة التي دارت بالسقيفة وسجلتها لنا كتب السير الإسلامية بكل دقة. أما الملحوظة النافرة الناتئة فتكاد تعمي البصر، هي أن أحد الفريقين لم يتعرض لما سيحرص عليه من أجل نشر الإسلام وتثبيته كهدف رئيسي. لقد تركوا جثمان نبيهم لأهله الهاشميين يغسلونه ويكفنونه ويلحدونه ، وراحوا إلى السقيفة يتصارعون على الإمارة، ولم يحضر الدين إلا لدعم كل طرف على الآخر، أما هو في ذاته فلم يكن هدفا واضحا في هذا الاجتماع التاريخي الفاصل.
لذلك لم يقبل الأنصار أن يكونوا الوزراء وقريش الأمراء، فتقدموا باقتراح آخر هو: «منا أمير ومنكم أمير.» فكان رد عمر بن الخطاب الحاسم الحازم: «هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متدانف لإثم ومتورط في هلكة.»
يقدم عمر هنا القانون العربي، سيرفض العرب أن يحكمهم أحد من خارج القرابة النبوية، وهو القانون الذي يرى أن محمدا كان صاحب سلطان وإمارة، وأن هذا السلطان وتلك الإمارة هما ميراث لأهله وعشيرته دون غيرهم.
الطريف أن الهاشميين الذين قاطعوا السقيفة والبيعة، قال زعيمهم علي بن أبي طالب فاضحا الموقف كله: «لقد احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.» أي أن المهاجرين الأمويين احتجوا للإمارة بكونهم شجرة النبي، بينما الحجة مردودة عليهم؛ لأنه وفق هذا المنطق كان الأحق بالإمارة هو علي بن أبي طالب فهو الثمرة على تلك الشجرة. أما الأنصار فلا نالوا إمارة ولا حتى وزارة كما وعد أبو بكر.
إن قول الأنصار: «منا أمير ومنكم أمير» يعني معرفة العرب الإمارة بمعنى الرئاسة، لكن أبا بكر تخير لنفسه لقب «خليفة رسول الله» ورفض لقب الإمارة؛ لأنه أراد أن يطمئن الأنصار لعدم رغبة المهاجرين في التآمر عليهم، وأن الأوضاع كما كانت عليه لم تتغير بوفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن القائم مقامه هو خليفته، وإذا كان الأنصار قد ناصروا النبي
صلى الله عليه وسلم
وآووه وأيدوه حتى أظهر الله أمره ونشر دينه بين العرب، فعليهم الاستمرار على العهد نفسه مع خليفته إخلاصا للنبي ولدينه، وأن يؤدوا لخليفة النبي ما كانوا يؤدونه للنبي ، هذا ناهيك عن اكتساب الخليفة قدسية النبي والدين بخلافة النبي في الدنيا والدين.
من جانب آخر كان اختيار لقب خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إعلانا عن مسئولية هذا الخليفة عن كل المسلمين وليس المهاجرين وحدهم، وهي طمأنة إضافية للأنصار، فوأد الفتنة ومنع قيام صراع بين المهاجرين والأنصار على إمارة مرفوضة، وليتمكن بسيوف الأنصار من استعادة المناطق الانفصالية والمرتدة. ثم إن لقب الخليفة أغنى من لقب الإمارة؛ فالإمارة سلطة زمنية أو عسكرية، أما الخلافة عن النبي فهي لقب يجمع إلى جانب الزعامة الدنيوية الزعامة الروحية أيضا.
وعندما تولى عمر رضي الله عنه وأحب اختيار لقب، فقالوا ليكن خليفة رسول الله، فقال والله إنه لشأن طويل، واختار لقب «أمير المؤمنين» بدلا من «أمير العرب» أو «أمير الحجاز»، وهو اختيار في وقته موفق إلى حد عظيم؛ فهو ما يعني أنه ليس أميرا لفريق دون فريق؛ فهو أمير كل المؤمنين، والمقصود بالمؤمنين هنا هم أهل الجيل الأول من الدعوة مهاجرين وأنصارا وقوادا وعسكريين وهم من قام الدين الجديد على سواعدهم، فكان لقب أمير المؤمنين طمأنة أنهم تحت الرعاية القصوى، وأنهم الأولى برعاية الأمير، هو أميرهم وهم المؤمنون. أمير المؤمنين يعني أنه لا يحكم على إمارة ولا على مملكة ولا على إمبراطورية ولا على دولة، إنما إمارته هي للمؤمنين وحدهم بعوائدها الجزيلة الآتية من غير المؤمنين، واتسعت رقعة البلاد المفتوحة وكان معظم سكانها من غير المؤمنين، وكان المؤمنون هم الأقلية الحاكمة؛ لذلك جاء لقب أمير المؤمنين كإعطاء عهد أمان للعرب النازحين من الجزيرة إلى البلدان المفتوحة، فأميرهم الحاكم الأعلى للإمبراطورية مسئول عن رعايتهم وعن مصالحهم دون غيرهم أينما كانوا، فهم وحدهم رعية أمير المؤمنين، وهو ما يفسر موقف الخليفة عمر عندما طلب الغوث زمن الرمادة من والي مصر عمرو بن العاص، فعرض عليه إعادة حفر قناة سيزوستريس لإيصال المعونة، لكن ذلك سيعني خراب مصر عدة سنوات، فقال عمر قولته المشهورة: اعمل فيها وعجل، أخرب الله مصر في عمران مدينة رسول الله، لم يكن المصريون من رعية عمر وخراب مصر في عمار مدينة رسول الله هو قيمة عليا عمرية وقربة إلى الله.
الفصل السادس
إنهم يغشون القيم
إذا كان ممكنا كسر قيمة «الوفاء بالعهد» لأهداف سياسية ودنيوية؛ فهو أمر معتاد في الشأن السياسي والعسكري، تفعله الدنيا كلها كلما تعارضت المصالح مع العهود بتطور الأحداث بعد العهد. لكن أن يكون هذا الكسر من الدين، ويتم في سبيل الله؛ فإنه يصبح بالإمكان كسر كل القيم في سبيل الله، ومع تعدد الفرق الإسلامية والمذاهب، تتعدد الطرق لهذا السبيل، حتى يكاد يكون تفسير شخص واحد تفسيرا للدين كله، ويمكنه تفعيل هذا التكسير للقيم من أجل مصالحه الذاتية الشخصية، بحسبانه مسلما الحق كله في جانبه؛ وبتفعيل ذلك وتوزيعه على مساحة الكاسرين لقيمة الوفاء بالعهد في سبيل الله، لن تجد على أرض الواقع شيئا بالمرة اسمه الوفاء بالعهد. وعليك دوما أن تتربص بالجميع حولك مهما كتبت من عهود؛ فالكل جاهز لنقض عهده في سبيل الله. لهذا أصبح حال الأخلاق في بلادنا ما نراه من انهيار قيمي حاد ومخيف، رغم انتشار الحجاب والنقاب واللحية والزبيبة في كل شارع وحارة، والقرآن يغمرنا والحديث يسمرنا، والشريعة بالمادة الدستورية الثانية تظللنا، والبسملة قبل كل كسر لقيمة باب مشروع في سبيل الله تتبعها الحوقلة. وإعمالا لذلك، وضع فقهنا الأصول لعدم احترام العهود في بنود هي كالآتي:
لا تزيد مدة المصالحة على أربعة أشهر، وإذا زادت لضرورات فلا تجوز الزيادة على عشر سنوات، فلا بد أن تكون المصالحة معلومة محددة لأن تركها من غير تقدير يفضي إلى ترك فريضة الجهاد.
تكون المهادنة والمصالحة لضعف طرأ على المسلمين؛ لذلك تحدد مدتها إلى أن يزول سبب الضعف.
إذا كان المسلمون في حال الضعف رخص لهم في الموالاة إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة المعاشرة الظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع.
الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائيا كفر بالله مخرج عن الملة لأن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكافرين هو القتال، وأن الاستثناء فيه هو السلم في هدنة أو صلح مؤقت، ولا يتم اللجوء إلى هذا الاستثناء إلا لضرورة عجز أو ضعف أو نحوه. (مالك، 1، 289. الطبري وابن كثير والقرطبي في تفسير آية 35 من سورة محمد، وآية 5 من سورة التوبة، وآية 28 من سورة آل عمران)
تعالوا نترك الفقه القديم إلى الفقه المعاصر، نستمع إلى الرجال الهامات والعلامات ذوي القامات الأبرز في الهيئات الإسلامية المعاصرة، الذين لا شك يمثلون القيم كأفضل ما تكون النماذج. منهم مثلا الدكتور أحمد الريسوني، الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي يرى أننا لسنا بحاجة إلى الديمقراطية، و«أن معظم الدول الإسلامية قد أصبحت لها مؤسسات شورية، إضافة للمجامع الفقهية الدولية»، هذا بينما يرى «الديمقراطية نظاما أو تنظيما إداريا لا يمكن أن نحل به مشاكلنا، الديمقراطية فيها عيوب معروفة، لقد جردت من الأخلاق، ونحن إذا مارسنا الديمقراطية فيجب أن نصحح الديمقراطية، فتكون ديمقراطية الأخلاق، ديمقراطية الصدق لا ديمقراطية الكذب، ديمقراطية الإخلاص لا ديمقراطية الغش، ديمقراطية الوضوح والصراحة، لا ديمقراطية التلاعب والتناور» (برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة، حلقة رأي الأكثرية في الشريعة الإسلامية). وهو الكلام المؤدي في النهاية إلى تحريض المسلمين ضد الديمقراطية لأنها تتنافى وقيمنا وأخلاقنا!
وقيمنا (قيمنا وحدنا فيما يبدو) هي مثل الصدق والإخلاص والوضوح والصراحة ... إلخ من جماليات أخلاقية راقية، نتحدث عنها لكنها غير موجودة بالفعل في أرضنا، حتى إن ناصحنا الأمين الدكتور الريسوني قد مارس في عبارته القصيرة تلك كل ما هو كذب وعدم وفاء مع انعدام تام للصراحة والوضوح، فما بالك برجل الشارع المسلم الاعتيادي إذا كان هذا شيخه الفقيه الخبير؟!
نعم لقيم المصارحة والمكاشفة والمصالحة، لكن مشايخنا لا يعنون ما يقولون. لإعادة قراءة تاريخنا قراءة علمية منصفة لا تغالي ولا تفرط ولا تبالغ ولا تبخس، تقرؤه كما كان، على أن نقرأه بعقلين؛ عقل زمانه لنحترم توافقه مع زمانه، وعقل زماننا الذي لا تصلح معه ظروف مكان وزمان سحيقين في القدم والبدائية. نعم لدرس تاريخ الإسلام، ليس بقصد اجترار وإعادة مضغ أو فخر برجال ليسوا منا بل كانوا لبلادنا فاتحين ولعرضنا منتهكين ولأموالنا ناهبين ولأوطاننا محتلين، بل لنحدد موقفنا من أنفسنا، ومن الدنيا عبر هذا التاريخ، لنعيد تأسيس حاضرنا على أعمدة راسخة تحددت فيها المفاهيم ووضحت المصطلحات من أجل فلسفة قيم تليق بزماننا الذي يحتاج إلى فعلنا ووجودنا فيه، بأدواته وأساليبه المحدثة، ليكون لنا مكان في الزمن الآتي، بعد أن أصبحنا - شئنا أم أبينا - في معظمنا شعبا مسلما يتحدث العربية.
إن الوهابية السعودية عندما أعادت فتح البلدان من حولها وبخاصة مصر، جاءتنا بدين جديد لا يعرف المذاهب المتعددة والآراء المختلفة رحمة بالمسلمين، دين هو وحده المؤمن بالله دون بقية المسلمين، وهو وحده الخلف الصالح للسلف الصالح، هو إنسان وديع مسالم، هو خلف السلف الذي فتح بلادنا ليخرجنا من الظلمات إلى النور، ولا تعلم هنا هل كان من ضرورات هذا الانتقال نحو النور، ومن لوازمه، هتك أعراضنا ونكاح نسائنا وذل رجالنا واسترقاق أطفالنا ونهب أموالنا، مع القتل في شكله المفرط، ثم الاستيطان في البلاد الموطوءة بالفتح؟
المسألة هنا تتعلق بالقيم، والقيم تتفاوت بتفاوت المجتمعات على سلم القيم؛ لأن هتك عرض المهزوم وإذلاله كان من فضائل القيم البدوية ومن مكارمها، لإرهاب من يليهم من بلدان سلفا، اضرب المربوط يخاف السايب، استباحة دير ياسين أدت إلى هروب الفلسطينيين من بلادهم أمام اليهود، ومذبحة قريظة في الحجاز أدت إلى رعب القبائل الأخرى ووفودها للمدينة تعلن الولاء، السؤال مرة أخرى، هل كان ضروريا لنشر دين الله أن تسبى جداتنا لتوزع حتى وصلت سبايانا لذة لأهل اليمن، بينما كانت جيوش المسلمين لا تزال عند بلهيب بالدلتا. هل كان من لزوم نشر الدين أن تخطفوا حريم بيت جدي لتنكحوهم في أرضكم المقدسة؟ لقد كان الفتح والنهب والنكح والإفراط في القتل عوامل تمكين حقيقية للقوة الطالعة، ولم يكن الدين هو هدف هذا الفتح ولا مبتغاه.
هؤلاء القوم وأسلافهم هم سدنة البيت الأموي السني حتى اليوم، وكما فتحوا بلادنا ونهبوها وأخرجوها من دائرة الفعل الحضاري، هم وسلفهم من كانوا الحجر الكئود في حياة نبيهم
صلى الله عليه وسلم ، وبعد موته ظلت النقمة على بيت النبي الهاشمي، ظل بنو أمية يرددون شعر ابن الزبعرى بلسان يزيد بن معاوية:
لعبت هاشم بالنبوة فلا
ملك جاء ولا وحي نزل
وعن هذا اليقين قضوا على آل بيت النبوة دون أي شعور بالإثم بل أبادوهم من الوجود حتى الصغار الرضع من البذرة الطاهرة تم ذبحهم، وسبوا نساء هذا البيت الطاهر وصادروا أموالهم ومثلوا بجثامينهم، وهتكوا عرض بنات الصحابة ونسائهم عندما استباحوا مدينة رسول الله، ودمروا الكعبة وحرقوها رميا بالمنجنيق، وتخلصوا من مخطوطات القرآن العديدة التي حرص على تدوينها صحابة أجلاء كعبد الله بن أبي وكعبد الله بن مسعود والإمام علي ... إلخ، فأحرقوا صحائف القرآن ليدونوا المصحف العثماني تحت إشرافهم وحدهم، وعندما اعترض كبار الصحابة على ما يفعلون بكتاب الله العزيز نكل بهم أشد التنكيل، منهم من أمر الخليفة بضرب أضلاعه بالأرض حتى تهشمت، ومنهم من ضربه الخليفة بنفسه «بالشلوت» فأصابه الفتق، والروايات كثيرة، وكلها مخجل محزن مؤسف .
هؤلاء القوم باعوا الدين مبكرين للسلطان ولا تعلم كيف يصدقهم المسلمون اليوم ويتبعونهم، في خيانة كارثية للإسلام ونبيه رغم أن الجميع يعلم بما حدث، وأن الخلف المشيخي السلطاني، أو الإمامي الخليفي، يحدثنا اليوم بلسان ذلك السلف العربي الذي ركب الإسلام، في تواطؤ فضائحي يشير إلى خلل عميق في معايير القيم لدينا. المصيبة أن هؤلاء في نظر العوام من يمثلون الإسلام، بينما يصبح قدحنا فيهم كفرا بالإسلام. أترون إلى أين وصلوا بنا؟ حتى قبلنا الخديعة في ديننا وتواطأنا معهم ومعها، في فعل فضائحي علني، وعقد نكاح باطل غير شرعي بين المسلمين ومشايخهم، لم يقم على الكتاب والسنة، بل على خيانة الكتاب والسنة علنا جهارا نهارا بيانا، ليس فيه من الشريعة سوى الإشهار الفاضح.
يقول الرجل الصادق الدكتور الريسوني إن الشورى مثل الديمقراطية في مسألة ترجيح رأي الأغلبية على رأي الأقلية؛ لأنها «مسألة فطرية ... والإسلام فطري يقبل الأمور الفطرية ويبني عليها ويؤسس شريعته». وذلك لأن «الديمقراطية جزء من الشورى ... هي أداة ووسيلة تنظيمية، أما الشورى فعقيدة وخلق وسلوك وثقافة» (الحلقة نفسها ).
إن محاولات تلبيس الإسلام بمفاهيم ومصطلحات بنت زماننا، كثيرا ما تضر بالدنيا وبالدين، ناهيك عن تشكيكنا في الأغراض الحقيقية لفقهاء زماننا إذ يكذبون علينا هكذا بشديد الخفة والبساطة دون أن يرف لهم جفن.
السيد الدكتور يعلم أن الإسلام على المستوى السياسي لا يعرف شيئا اسمه أقلية أو أكثرية، أنت مسلم أو غير مسلم، وليس هناك وسط بينهما ولا درجات، والأقلية المسلمة كانت خير أمة أخرجت للناس دون الأكثرية في كل الدنيا، تاريخنا السياسي الإسلامي لا يعرف أقلية وأكثرية، لا يعرف حكومة ومعارضة، بل يعرف إجماعا مطلقا فقط عادة ما يلتقي بالوساطة المشيخية مع إرادة الحاكم، وعداه لا يسمى معارضة ولا أقلية، إنما ردة بالخروج على الإجماع يكفر بها صاحبها ويستحق القتل ذبحا.
الإسلام لا يعرف منافسة سياسية على السلطة بين الأكثرية والأقلية؛ لأن الحديث المنسوب إلى النبي يقول: «من خرج يدعو لنفسه أو لغيره وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله فاقتلوه .» و«إذا بويع لخليفتين فاقتلوا أحدهما.» الحل البدوي هو القتل فهو لا يترك المهزوم معارضا، الصراع صفري دوما: إما أنا وإما أنت! ولا وسط! قابيل عندما رفض الرب خضرواته التي قدمها له قربانا، واستطاب اللحم قربان أخيه هابيل، لم يحاول أن يسأل نفسه عن سبب رفض الرب لقربانه، ولم يحاول أن يطرح على نفسه وسائل أخرى قد يقبلها الرب، فيجرب ويحاول مرة تلو أخرى حتى يحقق مراده، إنما على الفور قتل ربع الإنسانية حينذاك ممثلة في أخيه هابيل، قصة بدوية صفرية الصراع، لا حل عندها للمشاكل سوى إزالة العقبات بالقتل، نتعلمها في الطفولة لتصبح لنا مثلا ومنهجا عند اليفوع. كل شيء أو لا شيء، أنا أو أنت!
عرب إسلامنا لم يعرفوا في جزيرتهم المتبدية شيئا اسمه انتخابات؛ فالدكتور الريسوني يشرح لنا الفرق العظيم بين ديمقراطية الغرب وشورى الإسلام بقوله: «الشورى حسب أحد الفقهاء المالكية هي: على الأمير أو السلطان أن يستشير قادة الجند فيما يخص الحرب والقتال والسلم، وما إلى ذلك، وأن يستشير وجوه الناس في مصالح الناس، وأن يستشير الكتاب في مسائل الإدارة ... إلخ» (الحلقة نفسها).
وهكذا نجد الأمير أو السلطان قد تسلطن أصلا دون أي دور لهذا الشيء المسمى شورى في سلطنته، ومعلوم أن البيعة شقيقة الشورى في النظام السياسي الإسلامي، هي عقد إذعان وإعلان ولاء للنظام، الذي تسلطن مسبقا وجلس يطلب من المسلمين الاعتراف بسلطانه، كذلك كانت معظم الولايات في تاريخنا تقع تحت بند خلافة المتغلب؛ أي الذي غلب الناس بسيفه وعسكره وشوكته.
وهكذا تصبح البيعة والشورى عملية إكساب شرعية لنظام غير شرعي وليست العكس، ولا علاقة لها برأي أغلبية ولا أقلية، ولا تعرف شيئا اسمه الترشيح أو المنافسة أو الانتخاب أو حتى الاختراع العروبي الثوري المسمى استفتاء.
وبعد أن يتسلطن المتغلب ويأخذ الشرعية يسوق الناس لبيعته بالزواجير، وهو ما حدث في أخذ بيعة الإمام علي والهاشميين لأبي بكر قهرا، «من قهر الناس بجنده وتغلب عليهم بشوكته، لا يبيت المسلم مسلما وهو لا يراه أميرا له.» هذا حديث آخر منسوب إلى النبي ما أنزل الله به من سلطان لشرعنة اللاشرعية، ولكن بحجة وأد الفتنة فقط.
وبعدما يتسلطن المتغلب ويحشر الناس لبيعته، ويأخذ الشرعية بالرضا الكهنوتي، قد يستشير أهل العلم في الدين، وقادة الجند في القتال، وقد يستشير الكتاب في الإدارة. الدكتور الريسوني لكثرة ما طال به العهد وسط كتب التراث تحول هو نفسه إلى تراث معلب، ما زال أسلوب الحكم عنده هو سلطة واحدة وخليفة واحدا يدير كل شئون الإمبراطورية، لكنه خليفة ديمقراطي يشاور وجهاء سلطنته في كل شأن.
ويبقى السؤال يحيرنا حول معنى لقب دكتور ولقب مستشار ولقب فقيه وكلها صفات السيد الريسوني. ووجه الحيرة قوله مع كل هذه الألقاب السنية إن الأخذ برأي الأغلبية مسألة فطرية وإن الإسلام مع هذا المبدأ لأنه دين الفطرة. بينما ما حدث في تاريخنا أن المستبد الحاكم ممثل الأغلبية بحكم شرعيته الدينية، ما كان يسمح أصلا بظهور أقلية أو معارضة، وحتى عندما كانت تثبت تلك المعارضة وجودها، فذلك لأنها صارت في موطنها أكثرية كالمذهب الشيعي في إيران والعراق مثلا . أو ليشير لنا الدكتور في تاريخنا عن هذه المعاني، هو يعتمد الشورى فقط، وهو شأن يعني طلب النصيحة ولا علاقة له بالديمقراطية كمنظومة سياسية حقوقية، هو شيء أقرب إلى المهلبية منه إلى الديمقراطية.
ولا يجد الفقيه الريسوني حرجا عندما يأخذ برأي الأغلبية ليؤسس عليها شرعيته؟! أي حديث هذا؟ وأي عبث ذاك؟ إذا كان القانون الذي سيحكمنا هو الشريعة، والشريعة التي هي من عند الله، ولم يستشرنا ربنا عندما وضعها لنا ولا أخذ رأي أحد فيها ولا حتى أنبيائه، فما المعول على الأغلبية هنا؟ ماذا سيكون دورها، وكيف سيكون هذا الدور مع شريعة هي أوامر ونواه لا مجال فيها لرأي ولا استفتاء ولا أقلية ولا أكثرية، فلا اجتهاد مع نص ولا إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة؛ ومن ثم لن يبقى من الديمقراطية شيء، إنما تبقى الشورى التي تلائم ظروفنا وديننا، سيستشيروننا إن شاء الله في الشئون التي تخرج عن دائرة الدين، فإذا كانوا قبل أن يحكموا جعلوا كل شيء داخل دائرة الدين، فما هو شأنهم يوم يركبون الكراسي الكبيرة؟
والمعلوم أن الإسلام قد بدأ مع مسلمين أقلية فانحاز للأقلية مبكرا، ودعمها وخصها بالخير وذم الأكثرية ودمغها بالشر؛
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك (الأنعام: 116)،
ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت (الأنفال: 19)،
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث (المائدة: 100)،
ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا (التوبة: 25)،
منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (المائدة: 66)،
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء: 70)،
وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (النمل: 15)،
فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (الحديد: 26)،
ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (المائدة: 32)،
وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان (المائدة: 62)،
وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم (الأنعام: 119)،
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس (الأعراف: 179)،
إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل (التوبة: 34)،
وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون (يونس: 92)،
وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (الروم: 8)،
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله (البقرة: 249)،
إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (البقرة: 243)،
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (الرعد: 1)،
فأبى أكثر الناس إلا كفورا (الإسراء: 89)،
ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (الروم: 30)،
وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (المائدة: 59)،
نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (البقرة: 100)،
منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (آل عمران: 110) ...
ورغم تحول المسلمين إلى أكثرية فيما بعد؛ فإنها ما زالت تقوم بدور الأقلية المطهرة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وهي التي اختارها الله خير الأمم، ومهمتهم تحويل هذه الكثرة المخالفة إلى الإسلام؛ فالأقلية هي الطيبة المتسامحة التي يقع عليها الاضطهاد وعبء الدعوة والجهاد؛ لأنها الصواب المسلم. والحقيقة أنها ليست أكثرية ولا أقلية بما نفهمه منها الآن، ولا علاقة لها بمعنى الأقلية والأكثرية السياسية، هي شأن ديني طائفي خالص، وعندما كان الشأن واضحا كشأن سياسي تماما زمن الرعيل الأول، لم يحدث أن تم تفعيل مبدأ الأكثرية، فقد اختار أبو بكر الحرب على أهل الردة رغم معارضة أكثرية الصحابة وعلى رأسهم عمر، واختار عمر عدم الخروج على رأس الجيوش وأناب عنه قواد الفتوح، رغم استشارته لعشرة من الصحابة فقال تسعة منهم بوجوب خروجه على رأس جيوش المسلمين، وواحد فقط (عبد الرحمن بن عوف) قال ببقائه في المدينة، فأخذ برأي الواحد، والأمثلة أكثر من الحصر.
هناك لون آخر من الكذب لا يلجأ إلى تلبيس المفاهيم، إنما هو يكذب بشكل «قارح» على نفسه وعلى تراثه وعلى المسلمين المفترض أنهم يأمنونه على دينهم وأخلاقهم.
الدكتور فيصل مولوي الأمين العام للجماعة الإسلامية الدولية، مشغول مثل كل زملائه فقهاء أو دعاة أو جماعات بإقامة دولة إسلامية معاصرة؛ فهو يؤمن بالمعارضة كحل لتخلفنا وضعفنا، لكنه لا يريد أسباب القوة المعاصرة، من عصرنا، يريدها من تراثنا، من عصر مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا؛ لذلك يفرض على هذا التراث مفاهيم لم يعرفها العالم إلا قبل قرنين أو ثلاثة من الزمان، لا لشيء، إلا لحشر الإسلام في كل شيء.
يواجه مولوي هنا معضلة وجود مواطنين غير مسلمين في الدول المسماة إسلامية، وأن الإسلام يفرض عليهم الجزية، وأن الجزية انتقاص من المواطنة؛ فالمواطن يدفع ضريبة الجزية بسبب اختياره دينا غير ما ارتضته الدولة لنفسها. وبسبيل إثبات حداثة الفكر الإسلامي السياسي، يتنكر مولوي عن قصد لمعلوم من الدين بالضرورة فيقول: «ليس هناك مبرر لأن تفرض الجزية على هؤلاء؛ لأن الجزية تفرض بعد حرب ولا تفرض بعد اتفاق، ومع ذلك حتى بعد الحرب، ربما يحصل صلح بين المسلمين وغير المسلمين ولا تكون فيه جزية، وقد حصل هذا أيام عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» عندما أراد المسلمون أن يفتحوا بلاد النوبة ولم ينجحوا فيها، فصالحوا أهلها بغير جزية» (المواطنة في الفقه السياسي الإسلامي، الشريعة والحياة، الجزيرة).
الدكتور مولوي يقوم بدور المحلل بين المطلقين ثلاثا في بينونة كبرى، فينكر المعلوم طوال تاريخ الإمبراطورية الإسلامية والمعلوم من الشرع والدين بالضرورة؛ لأن الجزية مقصود منها الإذلال والصغار «وهم صاغرون»، وهي بمفاهيم اليوم الحقوقية تعد انتقاصا من حقوق المواطنة بسبب دين دون دين.
لو مد مولوي الحبل على استقامته وأنكر واستنكر الجزية التاريخية والشرعية، بحسبانها ما كانت تليق حتى بزمانها حتى نقبلها في زماننا، حسب المقاييس الأخلاقية، بل تتناقض مع القيم الدينية الدعوية، فإذا كان المقصود من الجهاد والفتوحات نشر الإسلام، فلماذا قبل المسلمون أخذ الجزية بغض النظر عن دين دافعها، بغض النظر عن دينه حتى لو عبد بقرة، فهل كانت الدعوة في سبيل الله أم في سبيل جمع الأموال؟
وقد أرسل النبي فيما نؤمن داعيا لا جابيا، وكان بإمكان الريسوني وضع الحدث في زمنه وتاريخه للخروج بأسبابه الموضوعية، والاعتراف المتواضع أنها كانت أسباب محلية لا علاقة لها بظرفنا اليوم.
لو فعل ذلك لقدرنا وفهمنا وبصمنا بالعشرة، لكنها المنطقة الملغومة التي لا يريدون لا الخوض فيها، ولا ترك غيرهم يفكك ألغامها، ويسمحون لأنفسهم بإنكار معلوم من الدين بالضرورة، ويرمون من يخاطرون بتفكيك تلك الألغام بالضلال والزندقة والكفران؛ لذلك يلجئون إلى المداورة والتضليل والتجميل في كذب مفضوح لا يليق بالدعاة الكبار.
ينكر مولوي المعلوم بالضرورة ليس بسند من حديث ولا لآيات ولا فقه ولا لحالة متكررة في التاريخ، إنما يذهب يبحث وينقب في تاريخ الغزو العربي لدول الحضارات التي شاء حظها العاثر أن تجاور جزيرة العرب، فلا يجد سوى حالة يتيمة لم يتمكن فيها العرب الغزاة من احتلال النوبة المصرية، وأصاب الإجهاد الشديد الطرفين، وسجل النوبيون بذلك بطولة غير مسبوقة لأنهم كانوا يحسنون الرمي الدقيق بما يصيب مباشرة عيون الأعداء؛ لذلك سماهم العرب «رماة الحدق». وانتهى الموقف بشبه انتصار للعرب فرضوا بموجبه على أهل النوبة أن يرسلوا للعرب عددا منهم سنويا، ليستعبدوا للعرب بعد أن كانوا أحرارا في بلادهم.
هذه هي الحكاية، ويعلمها مولوي جيدا وإلا ما رصدها وسط تاريخنا الهائل كما وكيفا ليجعل منها تكئة لتبرير محاولته كمحلل للطلاق البائن بالجزية بين المسلمين وغير المسلمين ، وهي لا شك محاولة مشكورة، لكنها تلفيقية لا تحسم الأمر بقدر ما تتحايل عليه. إضافة إلى اعتمادها الكذب، فما أحوجنا لفضيلة الصدق إذن!
وهو إذ ينكر ضرورة الجزية القرآنية لم يتمكن من اقتحام العقبة الكئود العمرية (عهد الذمة أو عهد الذلة)، فإذ به يقول: «المشكلة في مصطلح أهل الذمة عند كثير من الناس، هي مشكلة الجزية، وليست مشكلة أهل الذمة؛ لأن الذمة هي عقد، والعقد يتم بالتراضي بين المسلمين وبين إنسان غير مسلم يريد أن يعيش معهم، أو هو أصلا يعيش معهم، هم أسلموا وهو بقي على دينه، وحصل أن من أسلموا صاروا أكثرية، وأرادوا أن يحتكموا إلى شريعة الله، فهذا عقد الذمة يتم بالتراضي على كل بنوده، لكن ما حصل أن عقد الذمة عندنا يكون بعد حرب والحرب عادة يبدؤها غير المسلمين والمسلمون فيها مدافعون عندما خاضوا هذه الحروب، وانتصروا وقضوا على هؤلاء بدفع الجزية علامة خضوعهم لهذا المجتمع الجديد ليس أكثر، لذلك فالأهم في عهد الذمة هو خضوع هذا المواطن للأحكام التشريعية الدنيوية العامة للدولة، فإذا أخذت هذه الأحكام من الشريعة الإسلامية أو غيرها، فعليه أن يخضع لها، لأن هذا هو معنى المواطنة. المسلم الآن في أوروبا يخضع للقوانين العامة، كذلك على المسيحي في بلاد المسلمين أن يخضع للقوانين العامة.»
وهكذا غرق الرجل في مستنقع الكذب بكله وكليله حتى أنفه، وهو عالم بما يفعل، فأي جلل أصابنا في مشايخنا وقاماتنا الطوال؟!
مولوي الأمين العام لمسلمي المشرقين ومسلمي المغربين، يرى أن غير المسلمين في الدولة الإسلامية المرتقبة لن يدفعوا الجزية، في مجاملة وتنازل لطيف لا يملكه لأنه منكر لمعلوم ضروري من الإسلام، لن يقره زملاؤه عليه عندما يجد الجد وينتفي الهزل، وفي مقابل هذا التنازل الباهت غير صادق النيات، على غير المسلمين أن يقبلوا عهد الذمة، ويعرفه بأنه عقد يتم بالتراضي بين المسلمين وغير المسلمين في بلد واحد. ليس هذا فقط، بل عليهم قبول تطبيق الشريعة الإسلامية وخضوعهم لها لأن الشريعة في الدولة المرتقبة ستكون قوانين عامة للدولة، وأنه كما يخضع المسلم القاطن ببلاد الغرب لقوانينهم العامة، كذلك على المسيحي في بلادنا أن يخضع لقوانينا العامة كما لو كان هؤلاء مغتربين عندنا كما بعضنا مغترب في بلاد الغرب. وبعد أن يخدعنا بكذبه أن عقد الذمة يتم بالتراضي، يعود ليعترف أن التاريخ الإسلامي كله لم يعرف أي عهود للذمة كتبت سلما إنما كانت دوما إثر حروب ضروس، وبالطبع وفق شروط المنتصر، وذلك المنتصر كان الفاتح الإسلامي، وتلك الشروط مجرد تكرارها هنا مخز ومحزن ومخجل، أمثلة سريعة لبعض بنود عقد الذمة العمري مع مسيحيي فلسطين: «أن يكون لهم زي خاص حتى لا يتشبهوا بالمسلمين وحتى يعرفهم المسلمون من زيهم، مع شد زنار على أوساطهم، وألا يعلوا ببنيانهم أعلى من المسلمين، ولا يسمعونا صوت نواقيسهم، ولا تلاوة كتبهم ولا قولهم في المسيح، ولا يجاهروا بالخمر والصلبان والخنازير، وأن يدفنوا موتاهم بعيدا عن مقابر المسلمين ولا يرفعوا أصواتهم على موتاهم، ويمنعوا من ركوب الخيل لأنه مركب كريم شريف، ويسمح لهم بركوب الحمير دون برذعة إنما على الأكف (الليف الخشن) ويكون الركوب من جانب واحد، فإن صادف مسلما ماشيا عليه النزول عن حماره واللجوء إلى أضيق الطريق ليفسحه للمسلم ... إلخ ... إلخ.»
ومع التعامي التام والتغافل المقصود عن تلك البنود يستمر مولوي يقول: «إنه من أجل المحافظة على كرامة هؤلاء سموا أهل ذمة، كلمة ذمة ليست كلمة تعني شيئا من الإذلال، أو تعني شيئا من تجاوز الحقوق، بالعكس، تعني أن هذا الإنسان في ذمتي، يعني أنا مسئول أمام الله أن أحافظ عليه وعلى حقوقه وعلى كرامته وعلى المساواة بينه وبين جميع الناس، ولدينا الحادثة المشهورة عن الغلام القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص، عاد وهو يشعر بالمساواة ولم يدخل في دين الله؛ لأن الإسلام تقوم شريعته أساسا على المساواة في المواطنة.»
كان على السيد الدكتور أن يقول إن لديه عهدا جديدا للذمة؛ لأن ما يقول لا علاقة له بالمرة بعهد الذمة العمري المشهور، ولا بفقه الأموال والحسبة الذي يدرسه أبناؤنا في أزهرنا الميمون، كان عليه أن يقول: هذا عهد ذمة جديد نتعهد به لغير المسلمين في دولتنا الإسلامية المرتقبة، وحتى لا ينصرف الذهن لأي خديعة متربصة بنا، عليه أيضا أن يعلن إدانته لعهد الذمة العمري وكل العهود الشبيهة به في تاريخنا الإسلامي.
الأشد سوءا ونكاية في كل القيم، أن يكذب المحترم بفداحة ويردد كذبة تاريخية قد آن أوان مراجعتها والاعتذار التاريخي العلني الدولي عنها وإدانتها. وتوقيع عقوبة على من يقول بها، بالضبط كما فعلت دول أوروبا بعقوبة منكر الهولوكوست، كذبة يرددها المشايخ جميعا بلا استثناء، تدين المشيخة والدين وهيبة رجل الدين.
ألا ترون الرجل الصادق المؤمن يقول: «عقد الذمة عندنا يكون بعد حرب»، وقال قبلها إنه يتم بالتراضي والقبول السلمي بين الطرفين، لكنه يعلم أن أحداث التاريخ الإسلامي لا تقول ذلك، فيبرر عقد الذمة القهري الذي تم إثر شن الحروب على البلاد المحيطة بالجزيرة، باستطراده المفزع الصادم، «والحرب عادة كان يبدؤها غير المسلمين، والمسلمون كانوا فيها مدافعين عندما خاضوا هذه الحروب، ولما انتصروا فرضوا الجزية على المهزومين علامة الخضوع.» وفي رأيه يمكن استبدال هذه العلامة (الجزية) للخضوع بعلامة حداثية متحضرة، هي الخضوع للقوانين العامة للدولة، التي هي عنده الشريعة الإسلامية، فيكونوا قد استجاروا من الرمضاء بجهنم.
هل يشير لنا الدكتور وكل الدكاترة والدعاة ذوي الوجاهة والمناصب علماء الأمة، إلى الحادثة التي اعتدت فيها مصر على الجزيرة، أو العدوان الذي ارتكبه أهل العراق أو فلسطين أو الشام أو إفريقيا حتى الأطلنطي، أو كل بلاد ستان حتى الصين وكيف كانت حملاتهم العسكرية على نجود الحجاز الفاضلة ومدنه المقدسة، ومتى حدث هذا؟ أم أن حرب الفتوح والغزو كانت حربا استباقية قام بها العرب، لا تقوم على حشد المعلومات عن العدو، إنما تقوم على قراءة نياته العدوانية؟ ولماذا كانت نيات كل تلك البلاد المفتوحة قريبة وبعيدة هي مهاجمة المسلمين بالحجاز، وهو ما لم يحدث ولا مرة واحدة؟ فجاء العربي واحتل البلاد وأسر العباد واستعبد الأطفال ونهب الحلال ونكح النساء، كرد فعل على قراءة النيات بهجوم مفترض كانوا سيقومون به على المسلمين؟
إن هذه الرءوس والهامات لا حل لها، ولا حل لديها، ولو كان لديهم حلول لحلوا من زمان، ألف وأربعمائة سنة يحمون الدين ويجلسون على أكتافنا يبررون كل المظالم ولم يقدموا يوما حلا، حتى بات العالم كله يطالبنا بالإصلاح، فهل تراهم وحالهم هذا بقادرين على إصلاح أي شيء؟
الرجل يطلب من غير المسلمين في بلادنا الخضوع للشريعة كما يخضع المسلم المهاجر في الغرب للقوانين العامة هناك؛ لأن قانوننا العام هو الشريعة؟
أترون دكتورا يعرف بسائط المنهج العلمي يقول كلاما مثل هذا؟ إن الدكتور يعرف يقينا معنى القانون العام؛ فهو الذي ترتضيه كل أطياف وملل وألوان ونحل المجتمع في عقد اجتماعي سلمي؛ لذلك يعبر عن المصالح المشتركة لجميع المواطنين على ألوانهم دون أي طائفة أو دين لأنهم هم واضعوه وليس مقررا سماويا لدين بعينه، بينما مولوي يضع الشريعة الإسلامية قانونا عاما من عندياته باحتسابه ذلك مسلمة بدهية، ودون اختيارها من كل أطياف المجتمع، ودون أن تعبر عن الصالح الاجتماعي العام بقدر ما تعبر عن رؤية ومصالح طائفية دينية بحتة. أترون حجم العيب وما يستشعره الدكتور من عار فيخفي السوءات بأوهام تشف ولا تستر.
ولا ينسى مولوي في ملحمة الكذب أن يضيف الكذبة المشهورة عن المصري (ويسميه القبطي) الذي سبق ابن عمرو بن العاص فضربه، فشكا للخليفة عمر فأمر أن يقوم ابن الأذلين بضرب ابن الأكرمين قائلا قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؛ لأن ذلك الزمن كان زمن عبودية، ولا يضرب إلا الحيوان والعبد، فلما ضرب ابن عمرو المصري الذي سبقه، استفزت الحادثة الخليفة العادل عمر، لكن ليس لأن المظلوم قبطي، بل لأنه كان عربيا يمنيا، مصريا؛ أي حرا من عرب مصر، ولأنه لا يجوز أصلا السباق بين عربي مسلم وقبطي لفداحة المسافة بينهما؛ لأن القبطي في الشرع الإسلامي أدنى درجة في الحقوق من العبد المسلم، وغير مسموح له بركوب الخيل أصلا.
أما المساواة في المواطنة فقد قلنا وعدنا بشأنها وزدنا، فليرجع من أراد المزيد إلى أعمالنا المنشورة؛ فالإسلام والعرب لا يعرفان شيئا اسمه المساواة، بل يقسمان الناس منازل وأنسابا ورتبا تختلف حقوقا وواجبات، وأهم علومهم على الأنساب الذي هو علم عدم المساواة، الذي يكاد يكون العلم الوحيد عند العرب.
فإذا كانت هذه أخلاق الصدق لدى الرواد المشايخ الدكاترة العلماء الهامات الطوال، فهل ما نراه من تردي فضيلة الصدق في شارعنا الإسلامي هو ترديد الصدى لإسلام مشايخ الإسلام السياسي الذين استباحوا كل الفضائل في سبيل الغرض السياسي، فكانوا المثل المعلم لشعوبهم في انعدام الأخلاق والقيم؟
يبدو أننا بحاجة ماسة إلى الصدق مع أنفسنا ومع تاريخنا دون شعور بدونية ولا خجل؛ لأنه لا يصح قياس زمن الدعوة على زماننا؛ فهو ظلم لزمانهم في الفهم والفكر، حتى لا نضطر طوال الوقت إلى الكذب والتضليل، فنعتاد الكذب حتى يصبح هو حقيقتنا بينما يعلم العالم كله ويرى سوءاتنا؛ فالكذب لا يستر والوهم لا يصلح ما لا يصلح لزماننا.
وجه المصيبة هنا توافق مشايخنا على الكذب، ويبدو لنا بحكم أنهم علماء دين، أنهم على علم تام بتفاصيل ما يكذبون بشأنه على المسلمين، الذين ليس في طاقتهم تحصيل المعارف الدينية التي حصلها المشايخ.
إن هذا التواطؤ على الكذب يشير إلى شرعة عربية إسلامية؛ فالكذب في سبيل الله مطلوب، وفي الحديث كذب إبراهيم (النبي) ثلاث كذبات كلها في الله: عندما قال إني سقيم، وعندما قال فعلها كبيرهم هذا، وعندما قال لفرعون عن زوجته سارة إنها أخته. الكذب مطلوب تقية ومداراة إذا كان الصدق سيضر بالمسلم أو بدينه، علماء الحديث حبذوا أحاديث يعلمون أنها مختلقة مكذوبة؛ لأنها تؤدي إلى مصلحة أو تحث على فضيلة. فانظر يا مؤمن ولا تعجب من الوسيلة لبلوغ الفضيلة؟! (1) قيمة الحق في الخطاب الفقهي المعاصر
الحق هو أبرز الأسماء الجلالية للذات العلية؛ فهو الحق مطلقا والصدق مطلقا والعدل مطلقا؛ فالحق هو أبو الفضائل؛ لذلك وصف الحق تعالى به ذاته الكاملة؛ فهو حق لا يصدر عنه إلا حق ولا يحكم إلا بحق، لكن كل معاني الحق وما يترتب عليها من قيم وما تلحقها من فضائل، قد غاب عن مجتمعاتنا حتى صرنا نمارس الكذب على الذات، وعلى الآخرين وعلى الدنيا كلها. في العلم نكذب، في الاقتصاد نكذب، في وضع القوانين نكذب، وأيضا - وهنا الكارثة - في الدين نكذب والكذب في الدين يكون كذبا عليه وكذبا على المؤمنين به وكذبا على صاحب الدين جل وعلا. وليس أدل عندي من انتشار وباء الكذب والانحراف عما يلازم قيمة الصدق من فضائل؛ مما نراه في شارعنا، في إعلامنا، في مساجدنا، في كنائسنا، في تعليمنا، في سياستنا، في خطابنا الديني وهنا العار الحقيقي، وهو مناط البحث هنا.
من الأسماء البوارز في سماء فقهنا المعاصر الفقيه المرجع الدكتور يوسف القرضاوي، وهو مثل كل رفاقه لا يرى حلا خلاصيا لكبوتنا بين الأمم وتخلفنا المهين سوى إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كل شأن، فتنال رضا السماء، فتتدخل بقدراتها العجائبية لنصر أمتها التي أخلصت لها الدين، هذا بالطبع إن أخلصت لها الدين. والدين والإيمان شيء لا يمكن قياسه أو وزنه بأي معيار، فلا تستطيع أن تقول إن عندي عشرة كيلو إيمان، أو عشرين متر تقوى، فهذه شئون غير قابلة للقياس؛ لذلك يظل شأن الحكم بموعد التدخل الإلهي لإنقاذ أمته مرهونا بشيء لا يمكن تحديده ولا قياسه، مما يضع تلك المساحة المطاطية رهن الحبس الاحتياطي الدائم لدى مشايخنا، حتى تأتي الطير الأبابيل أو لا تأتي.
في برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة، حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، يسأل المذيع الشيخ قرضاوي مستنكرا: «ألا يتعارض القول بالشريعة الإسلامية في دولة بها مسلمون وغير مسلمين مع مبدأ المساواة في المواطنة؟!»
السؤال جد هام ومفصلي، والإجابة عنه يجب أن تكون جهيرة الوضوح والشفافية، صادقة حاسمة قاطعة، غير ملتبسة؛ لأن ما رأيناه مترتبا على تطبيق الشريعة في بلدان بها غير مسلمين، هو ما حدث في السودان، وفي الصومال، وفي أفغانستان، وهو ما لا نرجوه لأنفسنا؛ لذلك نبحث عسانا نجد في قول فقهائنا حلا حقيقيا للمشكلة، لا يدخلنا في حرب أهلية تأكل اليابس واليابس، فلم يعد لدينا شيء أخضر لتأكله، خاصة وأن هؤلاء الفقهاء هم من يقدمون أنفسهم كضمير صادق لأمتهم، وأنهم الحافظون لدينها والأمناء عليه منذ فجر تاريخه.
لقد سبق وأجاب الشيخ في كتبه المنشورة عن هذا السؤال أكثر من مرة، لم يتبدل فيها مرة عن مرة، وحدد في إجابته مفهوم الإسلام المعتدل لمعنى الوطن والمواطنة، نسمعه إذ يقول في كتابه (الإخوان المسلمون): «لقد شجع المستعمرون النعرة الوطنية، هادفين إلى أن يحل الوطن محل الدين، وأن يكون الولاء للوطن لا لله، وأن يقسم الناس بالوطن لا بالله، يموتوا في سبيل الوطن لا في سبيل الله، حتى قال شوقي:
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم
أن تجعلوه كوجهه معبودا»
ويتابع فضيلته شارحا للمسلمين كيف كان الاستعمار الفكري وراء قيام الدولة الوطنية، فهذا الاستعمار الفكري «عمل على تنحية الشريعة من القضاء، وحصرها في الأحوال الشخصية، وفصل بين المدارس المدنية والدينية. واستطاعت السياسة الاستعمارية أن تحارب شريعة الإسلام كفلسفة حياة ونظام تعامل ودستور يرسم للأفراد حدود المساواة والحرية، لم يناد حزب الوفد قط بالإسلام نظاما للحياة، لكنهم استعملوا الدين وسيلة لتوطيد زعاماتهم.»
المهم ينتهي قرضاوي في هذا الكتاب إلى أن الوطن والوطنية وفكرة الدولة ذات الحدود التاريخية، هي كلها «فلسفات علمانية دخيلة عزلت الدين عن الحياة»؛ وهكذا وبعد أن يقدم لنا سيناريو الانهيار المفزع، يبشرنا بمولد مخلص الأمة المنتظر ومبعوث العناية الإلهية، فيقول: «وفي هذا الجو الغائم والقاتم ولدت دعوة الإخوان المسلمين، لتكون دعوة للبعث والإنقاذ كما عبر عنها الإمام حسن البنا» (ص18: 22).
وإذا ما تساءلنا عما يجمع أبناء الوطن الواحد، إذن، وماذا عن ولاء المواطن لمواطنيه ولمصالحهم المشتركة، فإن قرضاوي يعطينا إجابة بعيدة بالمرة عن كل المفاهيم السياسية؛ فهو ينبه إلى أن «الولاء لله ورسوله، ومن اتخذ الله وليا، فقد اتخذ عدوه عدوا، ودار الإسلام هي الوطن الإسلامي وهي بلا رقعة، فوطن المسلم هو دار الإسلام» (ص79-80 من كتابه ملامح المجتمع المسلم)، لينتهي إلى تقرير يصوغه صياغة هي ضد كل ما يعني الوطن والمواطنة، فيقول في إيجاز مرعب حقا: إن القومية والوطنية أو غير ذلك هي من الأوثان. (كتابه الإخوان، ص24-25). إذن هي الحرب الأهلية، هي الصوملة، هي السودنة، هي اللبننة، هي الأفغنة، هي القوقزة، هي حيثما حلت بركات الفكر القرضاوي ورجاله فتوارى الوطن. كل ما لمسته بركاتهم تشظى وانقسم. هذه هي إجابة السؤال عندما نضحي بالوطن من أجل الأيديولوجيا دينية أو طائفية أو عنصرية.
الأكثر تشويقا في خطاب الشيخ المعتدل قرضاوي إعلانه أنه يسعى لإقامة دولة إسلامية تعمل بالشريعة، بحسبان «شريعة الإسلام فلسفة حياة ونظام تعامل ودستور يرسم للأفراد حدود المساواة والحرية.»
إن الشيخ يرذل الدولة الوطنية المدنية ويطلب الدولة ذات المرجعية الشرعية الإسلامية من أجل إقامة المساواة والحرية، وأول سؤال سيتبادر هنا كيف ستكون هناك مساواة بين مسلم وغير مسلم، ومثل هذه المساواة تخالف الشريعة نصا وروحا، ليس أحكام الشريعة التي وضعها الفقهاء وضعا فقط، بل تخالف آيات القرآن الصريحة والحديث الصحيح. وهو أمر له أسبابه التاريخية، حيث كان الإسلام يقيم لقبائل العرب الأشتات نظاما سياسيا في شكل شبيه بالدولة الابتدائية، وما كان ممكنا أن تقوم الدولة في مثل هذه البيئة البدوية المتبدية في قبائل متقاتلة متصارعة على خير الطبيعة الشحيح والضنين، على أساس العنصر وإلا تقاتلت العناصر حتى الفناء، لقد قرب الإسلام بينهم في صيغة تلائم ظروفهم؛ فالقبيلة كلها كانت على استعداد لأن تفنى عن بكرة أبيها من أجل فرد فيها، والفرد فيها ترس في آلة متكاملة هو جزء منها خاضع لها، لا يعرف ولا يرى في غير قرابته سوى أعداء محتملين دوما، وما كان ممكنا أن تخضع قبيلة لسيادة فرد من قبيلة أخرى، وهو ما فطن إليه ابن خلدون فقال: إن العرب لا يجمعهم إلا دين ونبي تخضع له أنوفهم المتكبرة، تجمعهم فكرة وأهداف مشتركة ومصالح، يخضعون لسيادة نبي لأنه لا ينسب لقومه بل للسماء التي هي فوق كل القبائل. لذلك جاءت صيغة الكونفدرالية العربية تركب أيديولوجيا دينية موحدة واحدة، تجمع كل الأشتات على قرابة واحدة، فيصبح كل العرب أبناء رجل واحد يصح لأي منهم أن يسود ويملك، فكلهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم؛ لذلك يرذل الشيخ قرضاوي الدولة بعد أربعة عشر قرنا في مكان وزمان مختلفين عن ذلك الزمن البدائي الأول بالمرة.
من هنا أصبح المتميزون بدين الإسلام طائفة جديدة خاصة بغض النظر عن قبائلهم وألوانهم وأصبحوا أمة من دون الناس، تختلف وتتميز عن غيرها من الأمم، بل هي خير الأمم؛ لأنها المكلفة بحمل الرسالة إلى العالمين.
إذن فأولا وأساسا لا يتم التساوي بين المسلم وغير المسلم في الشريعة الإسلامية فلا مجال لحديث هنا عن مساواة في وطن واحد يعيش فيه مسلمون وغير مسلمين تحكمهم الشريعة الإسلامية. فالناس حسب هذه الشريعة أصناف ورتب ومنازل ودرجات وطبقات تختلف بينها الحقوق والواجبات، فهناك الأولون السابقون وهناك المبشرون بالجنة، وهناك أهل بدر الذين غفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وهناك العربي العدناني والعربي القحطاني، والقرشي وغير القرشي، وداخل قريش الهاشمي والأموي وغيرهم، وهناك الرجل والمرأة، وهناك السادة والعبيد، وهناك الموالي الذين أسلموا في البلاد المفتوحة، وهناك أهل الذمة، وهناك العبد المسلم والعبد غير المسلم، ولكل من هؤلاء درجة وحقوق وواجبات تختلف عن درجة الآخر لذلك تضخمت الشريعة الإسلامية بالأحكام الكثيرة الهائلة عددا، ترتيبا على حقوق تلك المنازل والمراتب الاجتماعية العديدة المفرطة في تراتبيتها وأحكامها وفق هذه التراتبية.
فأي مساواة في شريعة الإسلام يتحدث عنها قرضاوي؟ إن المساواة اليوم تختلف بالمعنى وبالظرف وبالزمن بالكلية عن معناها الأولي في الشريعة، التي يجب أن نحترمها ونعترف بها وبأنها كانت تناسب ظروف زمانها، لكنها لم تعد تناسب ظروف زماننا، وليس في ذلك انتقاص منها، فقد أدت دورها في حينه وأثبتت نجاحها الذي صيغت من أجله وحققت مبتغاها فكانت صحيحة بمقاييس زمنها.
هذا ما كان عن دستور المساواة الذي يطلبه لنا قرضاوي من أعماق زمن سحيق، بل ويؤكد أن هذا الدستور هو الضامن للحرية الإنسانية.
إن الشيخ يحدثنا عن الحرية ولديه ثلاثة وعشرون آية تتحدث عن العبودية والرق وملك اليمين، ناهيك عن رتل هائل من أحاديث أحكام الرقيق، إضافة إلى ما يدرسه عيالنا في معاهد الأزهر من فقه كامل للرقيق على المذاهب الأربعة السنية، فعن أي حرية يحدثنا الشيخ؟
لقد سبق لصاحب هذا القلم أن طالب السادة المتفقهين والأزاهرة أن يعلنوا موقفا واضحا يتم بموجبه الإعلان عن إيقاف العمل بحدود وفقه الرقيق، بتعطيل أحكام الآيات، أسوة بصحابة وفقهاء سابقين، بعد أن عطلها تطور القيم الإنسانية في العالم، فلم تعد صالحة لكل زمان ومكان كما يوهمون بسطاء المسلمين، وإن إعلان هذا التعطيل بأيدي فقهائنا أجدى في شئون كثيرة من فرضه فرضا علينا بقوة القوانين الدولية والضمير الإنساني.
ولم أسمع من يومها غير التكفير والتخوين والتبخيس وحرب الإشاعة غير النظيفة، كما لو كنت أطالبهم بشيء إدا أو مستنكرا أو دعوة لشر، لقد كانت دعوتي هي الخير نفسه بغض النظر عن اتهامات مشايخنا عندما لا يجدون ردا محترما.
ويبقى السؤال الهام هنا، هلا يعلم الشيخ كل ما نعلم وزيادة بشأن المساواة من عدمها والحرية من عدمها في شريعة الإسلام وتاريخه؟ فإن كان يعلم ولا شك أنه يعلم فكيف نصنف ما قال؟ الإجابة واضحة لا تحتاج إلى تعليق.
أما قوله وهو يرفض المواطنة: «إن دار الإسلام هي الوطن الإسلامي، وهي بلا رقعة»، فهو ما يعني أن الشيخ ما زال يرى أن دار الإسلام هي العالم كله «بلا رقعة»؛ لأن دعوة الشيخ كما هي واضحة: الإسلام دين ودولة، والإسلام دين عالمي، فتكون النتيجة الواضحة: أن العالم هو دولة الإسلام؛ وهو ما يعني إعلان الحرب الإسلامية على العالم كله، في وقت يمثل فيه المسلمون أدنى أهل الأرض للضعف والجهل والتخلف.
أترون إلى أين يأخذنا مشايخنا يا مسلمين؟! (2) قيمة المواطنة
الداعية الكبير الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي ويلقب بالفقيه المعتدل، وهو مرجعية شئنا أم أبينا لمعظم تيارات المد السلفي السياسي، ويراه بعضهم الرجل الثاني من محركات الصحوة الإسلامية، وقوتها الدافعة، بعد المغفور له سيئاته الشيخ متولي شعراوي، إضافة بالطبع إلى جماعات التربح الأخرى من عينة العلم والإيمان والدعاة الجدد ودعاة الفيديو كليب وفضائيات الفتاوى التيك أواي وبنوك التقوى وجماعات الأمر بالمعروف والجهاد والقاعدة ... إلخ . كل هؤلاء يعتبرون قرضاوي مرجعية لهم؛ وهو ما يعني موافقتهم جميعا على فكرة أن الإسلام دين ودولة، وأنه لا وطن له حدود لبلاد المسلمين فدولتهم هي العالم كله. لكن مع ذلك يبدأ الشيخ بمصر الوطن ذات الحدود التاريخية والمنظومة المدنية الحديثة، حيث سيطبق الشريعة إن شاء الله، رغم وجود مصريين غير مسلمين يعيشون في هذا البلد.
لكن المرجع الفقهي الكبير يعلم تلك العقبة الكئود، فيضع لنا حل المشكلة، فيقول في فضائيته في برنامج الشريعة والحياة، حلقة (الدستور ومرجعية الشريعة):
إذا كان بلد فيه أغلبية مسلمة وأقلية غير مسلمة، الأغلبية المسلمة فرض عليها من ربها ودينها أن تحكم شريعتها، هل مطلوب من الأقلية غير المسلمة أن تمنع الأكثرية المسلمة من الاحتكام إلى أحكام الشريعة؟ هذا معناه أن الأقلية تفرض الديكتاتورية على الأكثرية، وإذا كنا سنحكم منطق الديمقراطية؛ فالأغلبية هي التي قلة قليلة في بلادنا تحكم، والذين يثيرون هذه الضجة أقلية هم العلمانيون، وهم قلة قليلة في بلادنا لكن لهم ضجة كبيرة؛ لأنهم يملكون المنابر الإعلامية والأبواق الإعلامية .
يصر المحاور على ألا يروغ الشيخ منه، فيعود يسأله: «هل في مرجعية الشريعة فعلا تمييز ضد غير المسلمين؟» يجيب الشيخ رمز الصدق والعدالة والوسطية بقوله:
لا يوجد قط في مرجعية الشريعة ما يتعارض مع عقائد هؤلاء القوم، الإنجيل لم يأت بتشريع إلا في عدم الطلاق، إنما يعتمد على تشريعات التوراة، المسيحيون لا يعتمدون على تشريع ديني، إنما يعتمدون على التشريعات الوضعية التي تأتيهم من أوروبا، الشريعة فريضة علينا نحن، فنحن نأخذ هذا على أنه دين. المسيحيون كالأقباط في مصر يأخذونه (أي الشرع الإسلامي) على أنه قانون، كما قبلوا قانون نابليون أو القانون المستورد من أوروبا، لماذا لا يقبلون القانون في الإسلام؟! ثم إن الأحكام الإسلامية الشرعية هي بنت بيئتنا يعني مش جايبينها من برة، هذه الأحكام صادرة من تراب هذه المنطقة، ولأنه لا يمكن أن يأتي في شريعة الإسلام ما يعارض عقائد الآخرين الدينية، فبناء عليه لا بد أن تراعي الأقلية غير المسلمة مشاعر الأكثرية المسلمة حتى لا تؤذي المشاعر وتحدث الفتن. (حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، الجزيرة)
لو كان هذا الشيخ يؤمن حقا وصدقا أن الله حق وأن الإيمان به حق، وأن من دواعي هذا الإيمان التزام الحق، ما قال ما قال، ولعل مثل هؤلاء النماذج والمثل، هم السبب لما نراه في الشارع المسلم من انهيار كارثي في القيم الأخلاقية. وتعالوا معي نرى شيخنا بهذا الحجم وهو يقول كلاما يؤاخذ عليه دينيا وأخلاقيا.
كلام قرضاوي يعني أنه علينا جميعا أن نرفض مصر وطنا وأما وعشقا وأملا يجمعنا، لأن فكرة الدولة الوطنية القومية هي من أوثان الاستعمار. لقد غاب عن الشيخ أن مصر كانت دولة وطنية قومية وأمة بالمعنى العلمي التام للتعريف، قبل أن تظهر النزعات القومية الأوروبية، وقبل أن تقوم لروما أو فارس إمبراطوريات، وقبل أن تقوم للعرب إمبراطورية خلافية، وأنها قد حددت لنفسها حدودها منذ استقر فيها أولادها الأوائل، وهي هي، مصر التي تحتضن كل الملل والنحل والأعراق، وكان هذا هو سرها العميق الذي اكتشفته الولايات المتحدة الأمريكية في مقاربة تاريخية مذهلة (مع أخذ الفارق الزمني وأثره بالاعتبار بالطبع).
إن مصر ليست بانتظار الشيخ قرضاوي وإخوانه القدامى العتاقي أو الجدد الشبابي ليقيموا لها دولتها، فدولتها قائمة ماكينة شغالة مما قبل التاريخ لم تتوقف يوما عن الوجود والأداء، جاء اليونان وهي تعمل وهي هي مصر وجاء الروم وخرجوا وهي تعمل وهي مصر، وجاء قمبيز والفرس وهي تعمل وهي مصر، وجاءها الغزو العربي وهي تعمل وهي مصر، وما دام الشيخ يتحدث عن النظم الأصلية بنت تراب المنطقة فلماذا لا يعود زيادة في الأصالة نحو ما هو أكثر أصالة واقتدارا؟
المشكلة أن صاحب الفضيلة يرذل الوطنية والقومية بحسبانها مبتدعات الغرب الحديث الكافر فيرى الوطنية نعرة كافرة واردة مع الاستعمار الغربي وأنها والفكرة القومية هي من الأوثان (كتابه الإخوان، ص19)، ومع ذلك يحدثنا عن الأكثرية والأقلية، وهي مفاهيم ومصطلحات لا علاقة لها بدين من الأديان، بقدر ما هي مترتبة على الصيغة المجتمعية لعقد الدولة الحديثة القائم على المواطنة المدنية أو العلمانية. فما لقرضاوي وتلك المفاهيم وهو يرفض كل ما تنبته تربة ذلك الغرب الوثني؟! ثم متى كان للأكثرية قيمة في تاريخ قرضاوي العربي؟ لقد كان دوما وأبدا مع الأقلية المطهرة في مقابلة الأكثرية الآثمة:
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك (الأنعام: 116)،
ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت (الأنفال: 19)،
وكثير منهم ساء ما يعملون (المائدة: 66)،
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث (المائدة: 100)، فلماذا لا يكون طائعا لمحارم دينه ويقف في صف الأقلية ولو مرة؟
إن قرضاوي هو وإخوانه وميليشياته عندما يقوم بعملية تهجين لمفاهيم بدوية عتيقة بنت قرون طويلة مضت وبين مفاهيم مدنية حداثية، ليتخذوا موقفهم الرافض للمواطنة ووجوب سيادة الطائفة الإسلامية لشرائعها على بقية ملل ونحل الوطن، اعتمادا على مبدأ الأكثرية والأقلية يصل إلى مسخ شائه لا علاقة له بوطن ولا بدين ولا بأصالة ولا بمعاصرة، يصل إلى نتائج مضللة حيث تصبح الأغلبية أغلبية بدينها الذي لم تصنعه وإنما ولدت داخله، وهو ما لا علاقة له بالأغلبية بالمعنى السياسي الذي تقوم عليه الدول، لأن الأغلبية والأقلية في المفاهيم السياسية هي نصاب سياسي، فيجوز للمواطن الانتقال بينهما وهو المستحيل بين الطوائف، ويمكن تحول الأقلية إلى أكثرية أو العكس، وهو أيضا ما لا يتوافر في الطوائف، كذلك يمكن أن تحكم الأقلية الأكثرية إذا فاز مرشحوها وهو ما ترفضه مدرسة قرضاوي المعتدل جملة وتفصيلا وبداية ونهاية وقولا واحدا. هذا بينما يجعل التعدد في العلمانية ميزة لا نقصا هو ذلك السماح والتسامح الذي تقبله الأقلية والأكثرية بحرية انتقال المواطنين بينهما في فضاءات حرة من أي خطوط حمراء ودونما تجريم وتكفير وتخوين؛ فهي اختيارات كلها محترمة في نظر المتصارعين سلميا.
هذا بينما لو طبقنا تلك المفاهيم المحدثة على أي مرجعية دينية لا بد أن تكون النتائج ما يحدث في العراق، ويكون الخصام والكراهية والمذابح كما في السودان، والتمزق والحرب الضروس في أيرلندا ودويلات إفريقيا، ولا يبقى سوى صراع التعدد المدني هو الوحيد ضامن التوحد والقوة، بينما يكون صراع التعدد الطائفي مزيدا من الدم والتخلف والاقتتال والدمار بدلا من التلاحم تحت راية الوطن الواحد.
ترى هل ما يقوله الدكتور القرضاوي هنا هو لون من الهزل؟ بالطبع هذا لا يصح مع حجم الرجل فلا شك أنه يعني ما يقول، وأنه ليس لديه أي سوء فهم للموقف لكنه يصور نفسه وقد انحاز للمبدأ الديمقراطي، وما كانوا يفعلون ذلك، لولا أنه مبدأ يستحق الانتساب إليه عزة وكرامة، ثم يكرسون الأكثرية الطائفية أمام أقليات غير مسلمة، في سيناريو، لا فيه حق ولا معه عدل ولا هو قول صادق. هو جريمة كاملة في حق العقل المسلم الذي تمت قولبته وزرع بفيروسات الواحدية المصمتة، فلم يعد يرى سوى أن الحق واحد وهو ما لدى المشايخ (لكنه لا يعترف بذلك وأن ذلك منطق إمبراطوريات ذلك الزمان لا يعيب الإسلام ولا يشينه). أما الفاجع فهو ألا يواجه رجل الدين رعيته بصدق وشفافية، ألا ترونه يقول بالقطع: «لا يوجد قط في مرجعية الشريعة ما يتعارض مع عقائد هؤلاء غير المسلمين.» إذن لماذا المسلمون مسلمون ولماذا المسيحيون مسيحيون؟ ولماذا السنة سنة ولماذا الشيعة شيعة؟ ولماذا لم يتحول الجميع للإسلام ما دامت الشرائع واحدة، أو لماذا لم يتحول المسلمون إلى أي دين آخر وخلاص ما دام الحكاية في بيتها وأهو يبقى زيتنا في دقيقنا؟!
إن الشيخ يعلم أن مرجعية الشريعة بشأن غير المسلمين هي القسوة المفرطة والصغار والإذلال، ومع ذلك يقول ما قال بشديد البساطة ويطالبهم بالخضوع للقانون الشرعي الإسلامي كما سبق وقبلوا القوانين الأوروبية؟ الشيخ يدرك الفرق الفادح بين قانون طائفي يميز في كل شأن بين أبناء طائفته والطوائف الأخرى، وبين قانون مدني نضعه بأيدينا حسب مصلحتنا العامة ونغيره بأيدينا عندما تجد المستجدات، بعكس القانون السماوي الثابت الواحد الذي لا يتبدل ولا يتغير.
ولا يرى الشيخ أن هناك مشكلة في تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، المشكلة فقط في العلمانيين الذين يثيرون هذه المشكلة وهم أقلية، لكن لهم ضجة كبيرة بما يملكون من وسائل الإعلام!
تعالوا نصدق هذا الكلام جدلا أو خبلا، فلماذا ينزعج قرضاوي من الأقلية والعلمانية، وقد اعتاد هو وفريقه عبر تاريخهم على عدم وجود شيء اسمه الأقلية، فالأقلية خاضعة للأغلبية في كل شأن وكل فكرة وكل ضمير حتى جعلوهم كالماعز، ثم ألم يكن المسلمون الأوائل هم الأقلية عندما فتحوا بلاد غيرهم؟ وظل المسلمون أقلية أرستقراطية حاكمة في تلك البلاد قرونا طويلة. كانوا أقلية وتسيدوا على الأغلبية بالسيف والحديد والنار.
إن من وضع القانون يجب أن يبدأ به نفسه حتى نحترمه وحتى لا نظنه نصابا مصابا بالحول الفكري، وبالعمى في الضمير، وبالضلال في البصيرة.
لقد قال الشيخ وسط سيل مقولاته كلمة حق وهي أننا كعلمانيين رغم عدم امتلاكنا أي وسيلة للوصول إلى الإعلام، إلا عند دعوتنا لمحاصرة بعضنا بعضا في الجزيرة أو غيرها، كان العلمانيون يحرزون في هذه الفلتات قصب السبق، نعم برز العلمانيون عندما كنتم تستدرجونهم لتهونوا من شأنهم، برزوا رغم الحصار الظالم والتهديد بالذبح والتعتيم الإعلامي والتشنيع والتخوين والطعن في الأخلاق، مع كل هذه الحملة أصبح العلمانيون موجودين ملء السمع والبصر بعد أن أثبتوا وجودهم، ولأن لديهم شيئا يريده الناس ليس موجودا عندكم يا أصحاب الفضيلة، عندهم منطق متماسك وقيم محترمة ومبادئ راقية نظيفة لا ترتزق على حساب الناس ولا الوطن ولا الدين.
الناس يستمعون إلينا لأننا نحترم حقهم في الحرية وفي تفهم ما شاءوا، لا نطلب منهم سمعا ولا طاعة بل مشاركة حوارية للجميع فيها حقوق متساوية، حرية مشاع دون تكفير وتخوين وتجريم؛ فالرأي بالرأي، والحجة بالحجة، مع ضمان حرية الاعتقاد وحماية هذا الحق لأصحابه وتحقيق الشعائر وأداء العبادات في حماية القانون. هذا ببساطة ما يريد العلمانيون الذين هم سبب مشاكل قرضاوي وفريقه. (3) دعوة مفتوحة لمناظرة قرضاوي
قال قرضاوي، وهو يفلسف لقيام دولة الشريعة في دولة بها ديانات أخرى، بوجوب قبول الأقليات الدينية في الدولة الإسلامية لتطبيق شريعة الإسلام، وبرر هذا الوجوب بطرافة غير معهودة لديه، بأن «الإنجيل لم يأت بتشريع، إنما يعتمد على تشريعات التوراة، يعتمدون على التشريعات الوضعية التي تأتيهم من أوروبا ، الشريعة فريضة علينا نحن، فنحن نأخذ هذا على أنه دين، والمسيحيون كالأقباط في مصر يأخذونه على أنه قانون، كما قبلوا قانون نابليون أو القانون المستورد من أوروبا، لماذا لا يقبلون القانون من الإسلام؟ ثم إن الأحكام الشرعية هي بنت بيئتنا يعني مش جايبنها من برة، هذه الأحكام صادرة من تراب هذه المنطقة» (حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، الجزيرة).
حيرنا الشيخ، هو مرة ضد أي فكرة عن مفهوم الوطن وتراب الأرض والمواطنة حتى إنه يصفها بالوثنية وأنها مدسوسة علينا من بلاد الغرب الكافر، ليعود ليؤكد أن شريعتنا الإسلامية تناسبنا مسلمين ومسيحيين لسبب موضوعي هو أن هذه الشريعة بنت أرضنا ونبتت في بلادنا؟ يعني فيه وطن يا شيخ؟ لكن يبدو أن وطن قرضاوي هو السعودية وليس مصر، لأن الشريعة ليست بنت مصر ولا هي فرز وادي مصر، ولا هي بنت الرافدين ولا فرز بيئتهم، ولا هي بنت الشام ولا فرز بيئتها، إنما هي جاءت إلى هذه البلاد وافدة عليها من بلاد الحجاز منذ ما قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، جزء كبير منها يعالج مشاكل محلية بدوية قبلية تتعلق بمكانها وزمانها فقط، مشاكل لم نعرفها ولم تعرفها بلاد الشام ولا بلاد العراق ولا بلاد فارس، ولا علاقة لنا بها، لاختلاف ظرف البيئات جغرافيا وطبوغرافيا وسكانيا ولغويا وتاريخيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، اختلافات كاملة المواصفات. كل شيء كان غير كل شيء، ثم تعال يا شيخ أفهمنا واشرح لنا: منذ متى تعتبرون المقدس فرز بيئة وظرفا اجتماعيا واقتصاديا وجغرافيا؟
عندما قال صاحب هذا القلم مثل هذا الكلام منذ حوالي خمسة عشر عاما أو يزيد، قامت الدنيا ولم تقعد إلا بعد محاكمتي بتهمة ازدراء الأديان، فمالك اليوم يا شيخ وهذا السبيل الصعب الوعر، تتيه فيه فتخلط الحابل بالنابل والمقدس بالدنيوي، ناسيا أو متناسيا أن الشريعة سماوية وليست أرضية، وليس فيها أي أكثرية أو أقلية ويلا شورى ولا بيعة ولا ديمقراطية، فقد وضعها الله في شكل أوامر ونواه، ولم يستشر أحدا وهو يضعها ولا حتى أنبياءه، أما في العلمانية فإن الناس على اختلاف مللهم يصطلحون على ما يناسب مصالحهم من قوانين يخضع لها الجميع راغبا لا راغما.
المهم أن الشيخ لا يرى الأقباط سببا في عدم تطبيق الشريعة حتى الآن، إنما السبب هو «الذين يثيرون هذه الضجة أقلية هم العلمانيون؛ لأنهم يمتلكون المنابر الإعلامية والأبواق الإعلامية» (الحلقة نفسها).
كيف يمكنك أن ترد على قرضاوي هنا؟ إن الرجل يقولها ولا يطرف، بينما هو يعلم والجميع يعلم حجم المساحة التي يحتلها التيار الإسلامي في الإعلام أو التعليم، ويعلم والجميع يعلم أن العلمانيين مستبعدون من الإعلام ومن الوصول إلى الناس، ومع ذلك يقول دون خشية من ملامة، فقد أصبح شخصا مقدسا يقول ما يعن له ولا يؤاخذه أحد، ولا يقول له أحد عيب يا شيخ، أو يرفع عليه قضية حسبة.
إذا كان قرضاوي صادقا، إذن فليسمح لشخصي الضعيف المتواضع بمنازلته في لقاء حول دولته الإسلامية المرتقبة، في قناته المفضلة التي يمتلك نصفها أو في أي فضائية تناسبه، وليحشد لي ويجهز ويرتب وله الاستعانة بصديق أو بمن يريد، وسأذهب مفردا لا أملك سوى فكرتي وحدها، ويقيني الوحيد أن الصدق منجاة والكذب مهلكة. ولنطرح الأمر أمام الناس ولن نجد قاضيا نطمئن إليه ونحترم أفضل من هؤلاء الناس، رغم أن قرضاوي يستنكر أن يكون الناس حكما في مثل تلك الشئون، وهو عالم أنه يتحدث عما يمس مصالح ومصير هؤلاء الناس؛ لذلك أراهم من جانبي هم أفضل قاض يمكن الاحتكام إليه في هذا الشأن. ورغم أن هؤلاء الناس قد تم تحشيدهم سلفا ضدي وضد كل العلمانيين ملحدين ومؤمنين، إلا أني كلي ثقة بثاقب نظرة الناس؛ لأنهم يستطيعون تمييز الطيب من الخبيث والكذب من الصدق ونظافة الضمير من تشوهه، أسلحتي ستكون الحجة والبرهان وأدلتي الصدق ومبتغاي وجه البلاد والعباد، فليحاجني الشيخ إذن عيانا بيانا لننتهي من هذه المنطقة على الأقل، بحل نهائي يرضي كل الأطراف بهزيمة أحد الطرفين في صراع فكري محترم، حتى يمكن الانتقال بالمجتمع إلى حلول لمشاكل أخرى، فنكون منتجين منجزين فاعلين. لننتقل من المشاكل الوهمية إلى الحقيقية، بحل لا يصارع طواحين الهواء، ننتقل من الجدل البيزنطي إلى الحسم والبناء على أسس سليمة تم التوافق عليها، أو بفوز يحسمه أحد الطرفين لمصلحة قضيته ورؤيته، ولا بأس هنا من مشاركة تفاعلية من مختلف الأطياف تغني الحوار وتثريه، ولتكن بداية لطرح مشاكلنا على طاولة مفتوحة على الناس نحو توافق اجتماعي متين.
نعود نتابع إصرار الشيخ على ما يقدمه من حلول لإصلاح شأننا المتردي، فيقولها واضحة جلية قاطعة في جملة مفيدة موجزة «إن هذه المنطقة العربية لا تستكمل سيادتها واستقلالها إلا بالرجوع للشريعة الإسلامية.»
الشيخ يعود إلى المنطقة العربية التي هي من الأوثان كما سبق ووصفها ليخصصها في حديثه بحسبانها ناقصة السيادة والاستقلال، رغم أنها في مجموعها دول مستقلة عدا فلسطين، والعراق بشكل مؤقت. فينشغل بهذا الوثن دون بقية بلاد المسلمين، ولا ينشغل بالناس في تلك البلاد بقدر ما ينشغل بالوثن نفسه، بالسيادة العربية المستقلة، بغض النظر عن حال عباد الله تحت سلطان تلك السيادة العربية المستقلة. المهم أنه لا يرى سبيلا لاستقلال الوثن العربي واستكمال سيادته الوثنية «الوطنية»، إلا بتحكيم الشريعة الإسلامية في رقاب الخلق (العرب دون بقية المسلمين في بقاع الأرض) ما علينا، المهم هو أن سبيل السيادة والقوة هو تحكيم الشريعة في أي حتة أرض ممكنة كخطوة نحو التمكين.
الشيخ وإخوانه لديهم دائما أداة الاستدراك «لكن» وأخواتها، فيستدرك استدراكا مفزعا حقا فيقول: «لكن على أن تصاغ الشريعة صياغة جديدة!» (4) لماذا يا شيخ؟
وكيف السبيل إلى ذلك وهي شريعة من عند الله وليست من عند العباد، أي أنها كلمة الله التي لا تقبل تبديلا ولا تعديلا كما تصر أنت على إعلانه في كل مناسبة؟ ولا مجال في الشريعة لكل أغانيكم عن الشورى والبيعة الديمقراطيتين لأن الشريعة أوامر ونواه لا شورى فيها لأحد ولا رأي لمخلوق؛ لذلك تسمى حدود الله، ويبدو أنها في نظركم قد أصابها العوار والعيوب، فأصبحت ليست بحاجة للتجديد أو الترقيع أو إعادة التفسير والتأويل، إنما هي ويا لهول ما قال، بحاجة «أن تصاغ صياغة جديدة»! فأين يرى الشيخ هذه العيوب تحديدا؟ هل هي في أحكام الرق؟ أم تراها في أحكام الردة؟ وربما تكون في أحكام الحدود بالعقوبات البدنية كالجلد والقطع؟ أو هي في الأحكام الإسلامية بقياسها على ما نفهمه اليوم من حقوق الإنسان؟ أم هي في الخداع المسمى بنوكا إسلامية؟ أم هي في الاقتصاد الإسلامي برمته؟
الباب مفتوح إذن لكل الاحتمالات، خاصة مع استطراده وهو يؤكد «إعادة الصياغة للشريعة» بقوله: «إنها ستكون صياغة جديدة تصوغها عقول تجعلها في شكل نظريات، ونجدد هذه الأحكام، هم فاهمين أننا نروح نجيب الأحكام القديمة كما هي ونطبقها؟! هذا لا نقوله، ولا يقول به عاقل.»
الشيخ أورد أكثر من قولة حق؛ فالشريعة الإسلامية غير مصوغة في شكل منظومة نظرية قانونية متفق عليها حتى تاريخه؛ لذلك هي في حاجة إلى عقول تجعلها في شكل نظريات. والحقيقة الأخرى هي ثبات أحكام الشريعة القديمة وتكلس مفاصلها وجمودها دون تجديد طوال العصور الماضية. حتى وصل حال الشريعة الإسلامية إلى درجة أن الشيخ وصف من يستدعيها اليوم بأنه مجنون مخبول معتوه، فهذا «لا يقول به عاقل.»
إذن ...
تعظيم سلام للجدعان!
نحن مع هذا الفقيه المعتدل نجدنا بحاجة أولية وأساسية لصياغة الشريعة الإسلامية من جديد، حتى يمكن تطبيقها عند قيام دولة الإسلام في الأرض. نحن بحاجة لإعادة صنع «صياغة» الشريعة، وتلك الصياغة ستقوم بها عقول بشرية لا وجود فيها لوحي ولا مكان فيها لجبريل ولا قدسية فيها لقول ولا لرأي.
وإذا كان القول بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على حالها القديم لا يقول به عاقل، إذن فإنه في الدين كما سبق وقلت وأكرر هنا ونعيد ونزيد: إن في الإسلام ما هو صالح لكل زمان وكل مكان كالتسامح والغفران والمحبة ... إلخ، ومنه ما هو صالح لمكانه وزمانه وحده، وهو قول قرضاوي نفسه ولكن من سبيل آخر.
ويبقى أن نتفق حول هذا الصالح لمكانه وزمانه فقط؟ يعني هل ضمن ذلك المحدود بزمكانه ولا يقول به اليوم عاقل: حدود العقوبات البدنية مثلا؟ هل ضمن ذلك المحدود: الجهاد والولاء والبراء؟ إذا كان هو من فتح الباب، فكل سؤال إذن سيكون مطروحا للبحث دون تحريم وتكفير وتجريم، إذن لماذا والحال كذلك ينزعج قرضاوي وكل المشايخ من العلمانيين الذين يحررون الخلاف بإحالته على مرجعية متوافق عليها هي أحكام العقل البشري، مع ترك القديم لزمانه. فلماذا إذن يزعجهم قولنا في وجوب استبعاد الشريعة من الدستور، واستبعاد الدين من المجال الاجتماعي العام، أليس في ذلك ترك القديم لزمانه حتى نضع شرائعنا بأيدينا بما يوافق ظروف زماننا ومصالحنا بالعقل؟
وهو ما وافقت عليه الآيات الصالحة لكل مكان حتى قالت: من شاء أن يكفر فليكفر.
هنا الكلام المفصلي الذي سيفصح عنه الشيخ في حلقة أخرى كان عنوانها: الصحوة الإسلامية ومآلاتها.
حيث يكشف لنا عن اللغز الذي حارت فيه الأفهام؛ فهو كما رأيتم يتفق مع العلمانيين في الوسائل والأهداف، لكنه على مستوى آخر يخالفهم لدرجة تكفيرهم وتخوينهم، رافضا ما يقولون به من تشريع بشري لقوانين وضعية تراعي المصلحة العامة. هذا رغم أن الرجل قال إنه سيعيد صياغة الشريعة بالعقل لأن الشريعة على حالها الآن لا يقول بها عاقل، لكن يبدو أن الشيخ يكسب عقله وصياغته لونا من القدسية، لا يجعلها وضعية كالقوانين الوضعية البشرية في مجالس تشريعية. الشيخ يصر على تأميم القانون لمصلحة الله فيما يزعم، رغم أن الله بذلك أصبح خارج الموضوع، فإعادة صياغة بالعقل يعني أنه وضعي.
ثم ما هي حكاية وضعي هذه التي يلوكونها كلما تحدثوا عن تشريع الشعوب لنفسها، هي وصم لهذه التشريعات بالبشرية، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك هو نعم الوضع، وأن تلك هي نعم التشريعات، وأن الشريعة الإسلامية نفسها التي امتد وضعها زهاء الأربعة قرون متواصلة، مضافا إليها عشرة قرون أخرى من تفسير المتون وشرح الهوامش. هي كلها من وضع البشر، هي من وضع الجعفري والحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي والظاهري والباطني، وما اتفقوا يوما على قول واحد رغم أنها أحكام تتعلق بمعاش الناس بل وبحياة الناس، ما بين رجم وقطع من خلاف والذبح صبرا.
إذن يبرز الخلاف في السؤال: من الذي سيضع أو يصوغ القوانين إن لم يكن الله؟ إجابتنا نحن العلمانيين بسيطة واضحة مفرطة في يسرها (من يضعها الناس عبر مجالسهم التشريعية المنتخبة انتخابا سليما سلميا حرا).
لكن قرضاوي لا يرى معنا هذه الاجابة؛ لأن لديه إجابة أخرى، يعود معها في انتكاسة شديدة ليطلب الشريعة التي كانت منذ قليل لا يقول بها عاقل، كمصدر ومرجع دستوري بقوله: «فمرجعية الشريعة هي المصادر المعصومة، مرجعية الوحي الإلهي.»
إذن هذا قرضاوي آخر يقول قولا على النقيض التام مما قال قرضاوي الأول، هذا شيخ وذاك شيخ آخر! فأيهما قرضاوي الحقيقي وأيهما نصدق؟
إن سر الانتكاسة ولعبة البيضة والكتكوت تفصح عن مخفيها عندما تسأل الشيخ عمن سيضع القوانين، فيقول محاولا الالتفاف على المعنى المقصود، في غير مباشرة جهيرة شفافة، «الشريعة تحتاج إلى اجتهاد واستنباط، وأهل العلم عليهم أن يعملوا عقولهم». يعود بنا إلى الشريعة مطروحة بغرفة الإنعاش تعاني نقصا حادا في عوامل الحياة والوجود، تحتاج إلى محاليل من عمل عقل البشر، وحتى لا تكون غرفة الإنعاش مباحة لكل من هب ودب، فقد أوقف قرضاوي على بابها زبانية غلاظا شدادا، حتى لا يقوم بهذه المهمة غير رجال الدين وحدهم الذين يسميهم العلماء، والذين فيما يبدو يملكون وحدهم دون بقية المسلمين ذلك الشيء المسمى عقلا! وهم وحدهم من يملكون الكلمة السرية لفتح المغارة والولوج إلى عالم الشريعة ومفازاته السحرية دون بقية خلق الله. يقول الشيخ: «وأهل العلم عليهم أن يعملوا اجتهاد عقولهم ليستخرجوا الحكم الشرعي من النصوص؛ لأن النصوص بعضها قاطع في دلالته، وبعضها ظني في دلالته، وبعض الأشياء ليس فيها نصوص قط، فنحن نعمل لنلحق ما لا نص فيه على ما فيه نص.»
كلهم يقولون «البق» نفسه! الدكتور أحمد الريسوني الخبير بمجمع الفقه الإسلامي العالمي (يا أخي شوف أسماء وألقاب جامدة وكبيرة تخوف بصحيح!) يأخذ الكرة من قرضاوي فيشرح ويوضح من سيقوم بصياغة الشريعة الحديثة. فيقول: «هم من سموا زمن الصحابة بأهل الشورى،
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ،
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . هذه أمور تخصصية تحال إلى أهلها، لذلك حينما نقول إن الأكثرية مرجحة لا يعني هذا أن الأكثرية معصومة، إن العصمة عند علماء الأمة» (حلقة رأي الأكثرية في الشريعة الإسلامية).
إذن تاهت ولقيناها.
وأهل العقل موجودون والحمد لله لصياغة شريعة إسلامية جديدة ومعاصرة، هم أهل الذكر، هم أهل الشورى، هم وحدهم الصواب المطلق، ولا معنى هنا لأغلبية وشورى وكلام فارغ، العصمة ليست للأكثرية النيابية، العصمة لعلماء الأمة؟ هل تسمعون يا مسلمين؟ العصمة لم تعد لله وحده، العصمة لم تعد لله ونبيه وحدهما، العصمة لم تعد لله ونبيه والصحابة وحدهم، ولكنها أصبحت أيضا للتابعين بإحسان إلى يوم الدين، ومن مثل مشايخنا تابعا بإحسان؟ إنهم يؤلهون ذواتهم ويقدسون قولهم دون بقية الأمة التي عطبت وهزلت وخرفت حتى لم يبق فيها غير أصحاب الفضيلة كبقية مقدسة من الزمن المقدس. إنهم يروننا ميراثا لهم لا فكاك منه، وأوصياء علينا دون اختيار منا، وأوصياء على دين الله دون أن يقدموا لنا أي بيان رباني بذلك.
المشكلة أن هؤلاء المعصومين منهم الشيعي الإمامي ومنهم الشيعي الإباضي ومنهم السني الحنبلي ومنهم السني الحنفي، ولم يسبق أن التقى النقيضان مرة واحدة، فكيف سيصوغون لنا شريعتنا وهم على حالهم هذا؟
اللافت للنظر أن الناس غير موجودين في خطاب مشايخنا بالمرة، لم يسألوا عن رأي الناس، بل كانت مشكلتهم هي إذا تضارب رأي المشايخ مع رأي السلطان، انظر بذات البرنامج والقناة حلقة فقه النصر والتمكين، وكان بطلها المغوار الدكتور (علي الصلابي) إذ يعلن كما لو كان علي بن أبي طالب يعلن سورة براءة من فوق الكعبة، بقرار وفرمان يقول: «ترتيب الدور الأول للعلماء الربانيين لأنهم أصحاب الفهم (يعني غيرهم بقر؟!) ولأنهم أصحاب الفكر (يعني غيرهم مخبلون)، ولهم القدرة على التأثير في الآخرين (انظروا مدى استصغارهم للجماهير التي تتبعهم مطيعة كالماعز). بعدهم يأتي دور صاحب القرار السياسي، أما إذا حارب صاحب القرار السياسي الدعاة والعلماء فسيكون عائقا». والشيخ الصلابي كان يتحدث على التلفاز وعلى ملأ وعلى حكومات وعلى مباحث، وعلى أمن الدولة، وعلى معتقلات؛ لذلك لم يشرح للمسلمين كيفية إزالة هذا العائق؟!
هذه دولتنا الإسلامية المنتظرة، دولة حداثية سيعمل رجال الدين فيها على صياغة الشريعة بالعقل وحدهم دون غيرهم، ترى بعدما قرأنا وعلمنا هل نثق بهؤلاء القوم حتى نضع مصيرنا بين أيديهم؟ وهل هذا ما يصفونه بدولة ديمقراطية مدنية ذات مرجعية إسلامية؟ أم هو الكذب والتدليس وغش المسلمين ودين المسلمين ورب المسلمين؟ (5) قيمنا وقيمهم؟!
ضمن سلسلة قضايا إسلامية التي تصدرها وزارة الأوقاف الإسلامية تم حشد عدد من المؤلفات تعنى بفلسفة القيم، وكالعادة لن تجد فروقا واضحة لا في الأهداف ولا في المنطلقات بين كتاب وآخر في هذه السلسلة القيمية، ربما اختلف الأسلوب بين كاتب وزميله، لكنها في النهاية تقول شيئا واحدا تؤكد عليه دوما، هو أن القيم لا تكون صحيحة وسليمة إلا إذا كانت في الأديان، ومن بين الأديان تسمو على الكل قيم الإسلام، وغير ذلك من فلسفات للقيم منذ سقراط حتى اليوم هي باطل الأباطيل وقبض الريح ، إن لم تكن هي الفساد نفسه.
سأعمد هنا إلى كتاب يشكل نموذجا مثاليا لكل زملائه، وقوله فيه هو تغريدة السرب كله وهو وكتاب «القيم الدينية وثقافة العولمة»، والذي دبجه الدكتور الصاوي الصاوي أحمد، لنناقش من خلاله ما يطرحه علينا حماة الإسلام ورعاة الدين ومفكروه.
كي يقدم الدكتور الصاوي فلسفة الإسلام في القيم يبدأ أولا بإدانة كل القيم في العالم غير المسلم، فيقول: «إن القيم المادية الوضعية تنزل بصاحبها إلى درجة السقوط، وذلك يرجع إلى طبيعة مستواها المادي المحسوس، الذي يجتذب الإنسان ويحركه نحو الفساد والطغيان لا نحو الإصلاح.» ومن ثم يبني على هذه الفرضية (أو الحقيقة من وجهة نظره) استطراده وهو يقول: «وبسبب السمو الذي تتميز به القيم الدينية؛ فإنها تفي بحق الإنسانية، وتخرج الإنسان الذي عانى بسب بعده عن الدين الصحيح، من القلق والاضطراب والتعاسة وفقدان مشاعر الأمن، وانتشار الجريمة والعنف والإدمان والأمراض النفسية والعصبية وزيادة نسبة الانتحار، والطلاق والاغتصاب والقتل وسيطرة مشاعر الاغتراب والوحشة والبؤس والرعب الذي ساد معظم دول العالم المتقدم.» وتأسيسا على هذه الصورة البغيضة التي رسمها سيادته لمجتمعات تخلت عن القيم الدينية وانغمست في قيم مادية دنيوية شريرة بالضرورة لا يبقى سوى قوله: «إن القيم الدينية هي من أهم القيم على الإطلاق، وهي الأساس الذي تنطلق منه جميع القيم الحاوية لكل القيم النبيلة؛ فهي تفوق جميع القيم، وترجع أهميتها إلى أن الدين هو أساس القيم والوعي بها والساعي دائما إلى تدعيمها، وهي قيم روحية قادرة على هداية حقيقية لأنها من صنع الله الذي خلق النفوس وأوردها فجورها وتقواها. لقد أرست الأديان جميعا وعلى رأسها الإسلام قيما منزهة عن كل منفعة شخصية» (ص38 وص35). تدهشك جرأة هؤلاء القوم على العلوم بكل أصنافها من الكيمياء إلى الفيزياء إلى الطب إلى الفضاء، والآن يجترئون على الفلسفة! كل ميدان صار مستباحا لهم إلا ميدانهم هم لهم وحدهم دون غيرهم، رغم أن القرآن الكريم والسنة النبوية لم تكن تعرف شيئا مما يقوله فقهاء أيامنا. وحسب الكتاب والسنة فإن ما يحرك الإنسان نحو الفساد والطغيان هو الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ولم يقل لنا الله شيئا عن القيم المادية الوضعية التي يبخسها مشايخنا كل التبخيس لكونها غير صادرة عن إسلام.
وأحيانا لا تفهم سر حملتهم الشديدة على كل ما هو مادي موضوعي وضعي، رغم أن آدم حسب النظرية الدينية مخلوق مادي، والحجر الأسود مادة، والكعبة نفسها أحجار مادية وكذلك كسوتها، ومقام إبراهيم وإبليس، كلها أحجار مادية ومع ذلك هي عندنا أسمى المقدسات!
وبدون شعيرة الرجم المادي بالأحجار ترمى على إبليس الحجري المادي يفسد الحج من أصله. ناهيك عن كون القيم الإنسانية أو الوضعية أو بمسماها الفلسفي الإكسيولوجية «الحق والخير والجمال» تخاطب روح الإنسان لا مادته، والأمر على العكس مما يقول فقهاؤنا؛ لأن القيم الدينية تخاطب المادة قبل الروح، فقد حارب الرسول والصحابة من أجل السيطرة والسيادة والغنائم المادية البحتة، إضافة بالطبع إلى نشر الدعوة. وحارب الصديق من أجل الزكاة، وحارب خالد بن الوليد وعمرو بن العاص والقعقاع وخيرة الصحابة الأجلاء من أجل الفيء والجزية، بل وتصارع كبار الأجلاء منهم على عرض الدنيا المادي، كما حدث بين الزهراء وبين الصديق بشأن ميراثها، وكما حدث في حروب دموية رهيبة من أجل السيادة والجاه حتى ضرب المسلمون كعبتهم بالمنجنيق، وحتى قتلوا خليفتهم وخاضوا الفتنة الكبرى، وحتى اقتحم المسلمون مدينة رسول الله واستباحوا فروج الصحابيات بنات الصحابة، وحتى ذبح المسلمون آل بيت الرسول في عملية إفناء مخزية، وطال الاقتتال الشيعي السني حول المسلمين كميراث مادي، هل هم ميراث أولاد فاطمة وحدهم أم هم ميراث قريش على المشاع؟ حتى يومنا هذا!
فأين كانت قيم الروح والدين في كل هذا الذي حدث في تاريخنا الرهيب الملطخ بدماء الأبرياء؟ وهي مجازر لم يكن فيها مكان لحق، بعد أن زعمت كل فرفة أن حقها هو الصواب المطلق وحده وغير باطل، ولم يكن فيها أي خير بقدر ما نالت شرورها عموم الناس مسلمين وغير مسلمين، وما كان فيها أي شيء يمكنك أن تصفه بالجمال، ولم يكن فيها مكان للدين، بعد أن فرض كل فريق وجهة نظره إسلاما يحارب به إسلاما مارقا لدى الفرقة الأخرى، فضاع الإسلام وبقيت الفرق المتحاربة على عرض الدنيا فرقا إسلامية، احتاج كل منها إلى الشرعية فظهرت الأحاديث وظهر المشايخ عند كل طرف يقدم له الشرعية ودعم السماء.
المشكلة مع مثل هذا الخطاب الفقهي هو قلبه للحقائق عن قصد مبيت وسابق علم وترصد، ليصور للمسلمين حالهم وكأنهم قمة البشرية وسنامها المقدس الحافظ لكل القيم الأخلاقية؛ لذلك ينعمون بالسعادة، وأن غيرهم يعيش البؤس والشقاء والتعاسة. وهو لون من الكذب والغش والتدليس، مع صرف متعمد للناس عن واقعهم المهين الذي وصل إلى أقصى درجات تدنيه، صرفهم عن محاولة إصلاح هذا الواقع، اطمئنانا إلى أن أهل الغرب الطاغوتي وبقية دول العالم المتقدمة الكفرية، لا تحلم بما نحن فيه من عز ورفاه وسعادة بفضل قيمنا الأرقى، وأن قيمنا الأخلاقية هي الأصح بالمطلق لأنها صيغة ربانية كاملة المواصفات سابقة التجهيز!
الأغنية نفسها ترنمها بقية المجموعة التي تناولت فلسفة القيم في سلسلة وزارة الأوقاف، كلها تندد بأخلاق المجتمعات الغربية حتى تكاد توحي إلينا بأنه مجتمع من الحيوانات أو أدنى، بل وتصرح بذلك كتب الفقه التي يدرسها أبناؤنا في مدارسنا وتؤكد «أنها مجتمعات حيوانية أقرب إلى البهيمية». إنه الأسلوب العربي ذاته في شعر الفخر والهجاء البدوي.
ولا يقولون لنا كيف أمكن لذلك المجتمع المنحل الخرب، أن يخلص البشرية جميعا دون تمييز بين الناس لا بحسب الدين ولا الجنس ولا الطائفة، من أمراض الطاعون والدفتريا وشلل الأطفال والجدري والكوليرا وبقية الأمراض الوبائية الفتاكة، وهي أمراض عجزت الدنيا قبل الغرب الكافر عن مواجهتها، علما أن هذا التاريخ كان يضم أنبياء كانت تكفي دعوة واحد منهم لرفع هذه الأوبئة، وهو ما لم يحدث ولا مرة واحدة.
إن فقهاء زماننا لا يقولون لنا كيف تمكن أهل المجتمع الغربي الأنجاس الملاعين بقيمهم السفيهة من توفير الطائرات التي قصرت رحلة حجنا العسيرة إلى مكة من ثلاثة أشهر نضرب فيها أكباد الإبل، إلى ساعتين من الرفاهية والمتعة والتسلية الرفيعة والمعاملة الإنسانية الكريمة. وكيف حولت الكعبة من بناء بدائي إلى بناء غاية في الفخامة بهندسة ومواد إنشاء كلها من بلاد الطاغوت.
في النهاية من تلك المجموعة من الكتابات لا يخرج المسلم سوى بحالة من الكراهية لهذا الغرب، هي كتابات تعيش حالة تحريض مستعر غير مفهومة، لنبقى مع قيمة القناعة التي هي كنز لا يفنى بما لدينا من الفقر والجهل والمرض والتخلف، حتى بتنا القاع الذي تنتهي إليه مزابل الأمم ونفاياتها، مع الحث على التمسك بقيمنا وحمايتها من أي تأثير قد يصيبها من قيم الغرب الذي نقنع أنفسنا بأنه تعيس، ودون أن يشكو إلينا أحد في هذا الغرب أية تعاسة يعانيها.
وإذا كانت القيم الدينية وبالذات الإسلامية تفوق جميع القيم، فهل يعني ذلك أن كل الشعوب والأمم التي لم تعرف الأديان السماوية مثل «اليونان القدماء: الإغريق، والرومان والفرس والفراعنة والهنود الحمر والمايا والأنكا والهند وشرق آسيا كله» كلها كانت أمما بلا قيم؟ فهل يمكن تصور قيام تلك الحضارات الكبرى الباقية شواهدها حتى اليوم أعلاما للعالمين، دون نظام قيمي معتبر؟
مثل هذه الرؤية العنصرية كانت سمة أوروبا في عصورها الوسطى وما بعدها بقليل، عندما أفتى رجال الدين المسيحي بأن سكان أمريكا الأصليين ليسوا من الآدميين ولا يملكون روحا بشرية مثلنا لأنهم ليس لديهم قيم دينية مسيحية؛ ومن ثم سوغت الأخلاق المسيحية للمستوطنين المسيحيين إبادة هؤلاء الوثنيين.
كان يسكن تلك البلاد بشر لا يعرفون الله الذي نعرفه ولا القيم التي تحكمنا، وحكم عليهم صاوي مع من أبادوهم أنهم لم يكونوا بشرا لأنهم لسوء حظهم لم يظهر عندهم أنبياء ليدلوهم على القيم الدينية. (6) من هو صاحب القيم الله أم الإنسان؟
للقارئ أن يتساءل هنا: هل كتب وزارة الأوقاف المصرية حول القيم الإسلامية موجهة للمسلمين وحدهم وبشكل خاص؟ أم هي موجهة إلى كل الدنيا باعتبار القيم الإسلامية والإسلام لكل الدنيا؟ وإذا كان ذلك هو الغرض فهل يقصد فقهاؤنا طرح قيم بديلة لما تعارفت عليه البشرية واعتادته الدنيا منذ زمن أفلاطون؟ وهل معنى ذلك أن مشايخنا يرون وجود تعارض بين ما لديهم من قيم دينية إسلامية وبين القيم الإنسانية، ويريدون بذلك إقناع أهل الغرب بما يجب عليهم الأخذ به كي يتقدموا ويسعدوا؟ أم أنهم يطرحون كلامهم علينا نحن المسلمين حتى نحذر القيم الإنسانية، حفاظا علينا من الانحدار من مستوى العالم الثالث إلى مستوى العالم الأول؟ وإذا كان الخطاب لأهل الغرب، فكيف سنقنع هؤلاء الأوغاد بالأخذ عنا وهم يرون أحوالنا في حضيض الأمم وهو ما لا يدفع أو يشجع أحدا للأخذ عنا.
كلنا يعلم أن أوروبا قد أقامت جزءا من نهضتها عما أخذته نقلا عنا منذ الزمن المعروف مدرسيا بزمن الرشدية اللاتينية نسبة لابن رشد، لكنها نقلت ما ترجمة العرب عن اليونان موطن الحضارة القيم، وكان هذا النقل عن قناعة منهم وبحسن بصيرة وعظيم فهم، ولم يحتسبوه غزوا ثقافيا، ومثل هؤلاء لن ينقلوا عنا اليوم ما تعافه البشرية ويزدريه العالم.
كلنا أيضا يعلم أن الحركة العلمية العربية كانت معظمها ترجمات عن حضارات سابقة لا علاقة لها بالسماء وأديانها، فهل كان هذا العصر الذي نزهو به يتعرض لغزو ثقافي، وهل كان علماء الزمن العباسي وهم ينقلون عن الوثنيين يونانا أو رومانا ومصريين أو هنودا على خطأ، وكان الصواب أن ينقلوا عن السلف وحدهم كما يفعل ويطلب مشايخنا اليوم؟ الحقيقة الناصعة هي أنه عندما انفتح المسلمون على غيرهم ونقلوا علومهم وتجاربهم رغم وثنية هذا الغير، كان ذلك هو عصرنا الزاهر، وحفظ به العباسيون للدنيا كلها أسس التحضر والتقدم بما حفظوه لنا من علوم الحضارات الوثنية القديمة.
وبين ثنايا فقههم يلقي مشايخنا بالقول تسليما من أنفسهم لأنفسهم بقدسية ما يقولون، دون أن تستند تلك الأقوال إلى سند من منطق أو واقع، وذلك مثل قول الدكتور الصاوي أحمد الصاوي في كتابه «القيم الدينية وثقافة العولمة» الصادر عن وزارة الأوقاف: «إن عقول العلماء والمفكرين والفلاسفة الذين يضعون أسس هذه القيم الوضعية، عاجزة مهما قويت عن الإحاطة بجميع مصالح المجتمع البشري». والمنطق البسيط يقول لنا إنه إذا كانت عقول فلاسفة الدنيا قاصرة عن الإحاطة بمصالح المجتمع، فلا ريب في المقابل أن تكون عقول فلاسفتنا أكثر عجزا، وأن تكون عقول عوامنا أعجز وأعجز، وينطبق الشيء ذاته على الفقهاء وأيضا على الأنبياء بصفتهم بشرا، وبالطبع على د. صاوي، ولا تفهم بعدها لماذا دبج كتابه هذا. وهكذا تكون مصالح المجتمع المحور الذي تدور حوله قضية القيم غير مستوعبة، فكيف إذن يمكن إيجاد قيم لهذا المجهول غير المحاط به.
فالغير محاط به غير مستوعب غير مفهوم، مجهول فكيف يمكن إيجاد قيمته بينما لم يستطع ذلك العلماء والمفكرون والفلاسفة من خيرة المجتمع البشري الإحاطة به؟ إن ما لا يمكن الإحاطة به يلقى في القمامة لأنه شيء لا يمكن التعامل معه، سيكون مثل العنقاء والقنطروس والخل الوفي وأبو رجل مسلوخة، لا يمكن التعامل معها لأنه لا يمكن الإحاطة بها حتى يمكن وضع قواعد سليمة للتعامل معها. وبعد أن يؤكد أن تلك المصالح المجتمعية غير مستوعبة حتى يضع لها الغرب القيم، يفاجئنا الدكتور صاوي بتوصيف وشروح بطول كتابه لتلك المصالح المجتمعية وقيمها الدينية الإسلامية، فأنكر على الجميع هذا الاستيعاب، وأصبح هو المستوعب الوحيد والراعي الرسمي للقيم، وأخذ يصف ويشرح هذا اللامستوعب، فكان كمن يصف لنا العفريت وكيف يأكل وكيف ينام وكيف يقضي حاجته؟!
إنهم وهو يسفهون أي شيء غربي إنساني يسقطون في مزالق مفهومية شديدة البساطة والصغر، فأحال الدكتور موضوعه كله (القيم) إلى وهم غير قابل للإدراك ومن ثم غير موجود.
ضمن ذلك الكلام الذي يلقى في الهواء إلقاء، قول سيادته: «إن الخصائص التي تتميز بها القيم الدينية على القيم الوضعية هي التي أدت لوقوف الأغلبية في جانب القيم الدينية والتمرد على القيم الوضعية» (ص38).
يقود الشيخ هنا حركة تمرد تخلق صراعا بين القيم الإنسانية (يسميها مادية أو وضعية) وبين القيم الدينية، في حين أصحاب الأديان من أنبياء لم يخبرونا صراحة ولا ضمنا بوجود قيم دينية، وهو ما سنقيم عليه الدليل في هذه الدراسات على التوالي.
أما الملقى في الهواء فهو الذي يستدعي التساؤل: من هم هؤلاء الأغلبية الرافضة للقيم الإنسانية ويفضلون عليها قيمهم الدينية أو المحلية؟ هذا مع ما هو معلوم ومسلم به أنه لو وجدت قيم دينية فستنحاز لدينها وطائفتها؛ فهي إن وجدت ستكون قيما ضد التماسك الاجتماعي والسلام الوطني والإنساني؛ لأنها ستكون طائفية عنصرية تختص بجماعة من المجتمع دون بقية الجماعات، وبأتباع دينها دون الإنسانية جمعاء، بينما الإنسانية كلها قد تواضعت على قيم عامة يقبلها جميع الفرقاء بالتصويت في الأمم المتحدة؛ فهي ترفض مثلا ترويع الآمنين، وترفض الإكراه في الدين وترفض التكفير، وتدعم بلا حدود إطلاق حرية العبادة والتدين ... إلخ.
إن ما يزعمه صاحب هذا القلم هو أنه لا يوجد شيء اسمه القيم الدينية، ولم يأت بها قرآن ولا أنبأنا بها رسول ولا صحابي، وأن حديث فقهاء زماننا عن القيم الدينية هو تأثر بالقيم الأخلاقية الإكسيولوجية الفلسفية المعلومة، فقاموا كعادتهم ينسبون كل تفوق إلى الإسلام، وادعوا ملكيتنا كمسلمين للقيم. علما أن فلسفة القيم الإكسيولوجية أسبق من الإسلام بألف عام، وقيم المصريين الأخلاقية أسبق من الإسلام بخمسة آلاف عام، وقيم الرافدين التي تجلت في قوانين تحميها وتحرص عليها منذ حمورابي لأكثر من ألفي عام، وكلها كانت خبرات ومعارف مكتسبة تمكن الإنسان عبر السنين من أن يستخلص منها ما له قيمة نافعة ليفرزه ويجنبه عما له قيمة ضارة، سواء أكانت القيمة مادية موضوعية تتعلق بتقييم الأشياء أم قيما سلوكية أخلاقية؛ فالقيم معرفة مكتسبة وليست قواعد دينية.
ولأن القيم دينية فلا بد من ربطها بالإيمان لذلك يقول الصاوي إنه قد «نادى الحكماء بالعودة إلى الإيمان الذي يمثل طوق النجاة واستعادة الأمن والأمل والثقة والتفاؤل والعدل والمساواة» (ص39).
وعلى هذا الكلام يترتب اعتراض ثم تساؤلات، والاعتراض هو على القول بأن الإيمان بالله قيمة من القيم الأخلاقية؛ لأن الإيمان بالله اعتقاد؛ لذلك تجد ملحدين ويعملون وفق مكارم الأخلاق ونبالة الإنسان لكونه إنسانا فقط، وتجد أديانا عديدة تؤمن كل منها بالله على طريقتها وتتضمن شرورا مستطيرة، وبالمقارنة ستجد فروقا واسعة بين هذه الأرباب حتى تكاد كل ثقافة تختص بإله له صفات بذاتها.
أما الإنسان فلا يوجد إلا ليصنع لنفسه قيما؛ لذلك فلكل البشر قيم، في حين ليس لدى كل البشر آلهة متماثلة.
إذن فبالإيمان بالله عقيدة قد توجد وقد لا توجد، لكن لا يمكن أن يوجد مجتمع دون قيم تحكمه، سواء أكان مجتمعا مؤمنا أم مجتمعا ملحدا أم وثنيا؛ لأننا لو قلنا إن الإيمان بالله قيمة تميز المؤمن عن غير المؤمن، فالمعنى أن الله أصبح لوحة مكتوبا عليها بأحبار ومطابع الغرب الكافر، مثله مثل السيارة عندما أشتريها أقوم بتقدير قيمتها، أو المعزة عندما أشتريها أضع لها قيمة، وهو مالا يليق بالذات العلية، بينما الله غير متفق عليه ما بين بلد وآخر ومجتمع وآخر، فلكل ثقافة ربها بمواصفات خاصة تجعله بعيدا جدا عن الآلهة الأخرى في الثقافات الأخرى، ولم يحدث أن اتفقت الأديان على مواصفات الإله، ولم يحدث إجماع على إله من بينها. بل إن هناك من لا يؤمن بأي إله وهم كثر خاصة في بلاد الغرب المتقدم.
أما القيم فمتفق عليها فلا يوجد إنسان بدون قيم منحطة أو حسنة وبدونها يكون حجرا غير حي، لكن بإمكان الإنسان أن يكون إنسانا بالمعنى الإيجابي للقيم الإنسانية ولا يكون مؤمنا بأي إله؛ لأن الإيمان بإله هو عقيدة وليس قيمة. وعليه فالقول إن الإيمان قيمة إيجابية يقابلها الإلحاد كقيمة سلبية هو قول غير سليم بأي معنى من المعاني؛ لأن الإيمان مسألة قلبية لا يمكن قياس كميته بالكيلو متر أو الكيلو غرام. ومن ثم لا يمكن تثمينه لتصنيفه على سلم القيم إيجابا أو سلبا؛ فالقيمة كما تخبرنا الدكتورة فوزية دياب تقتضي الاختيار والإيثار الذي يقوم على الترجيح والتفضيل، وللتبسيط أضرب مثالا بمن يذهب للشراء يحمل قيمة تختلف عن القيمة التي يحملها عندما يذهب للزواج وعن القيمة التي يحملها عندما يذهب للسياحة، وعند الشراء سيختلف حكم القيمة ما بين شراء الطعام وما بين شراء لوحة فنية أو تحفة أثرية، سلم القيمة سيختلف في حالة واحدة هي الشراء فكيف يمكن تركيب الإيمان على سلم القيم، إما إيمان وإما إلحاد ولا وسط بينهما لأن الإيمان في النهاية غير قابل للقياس.
ولا تفهم سبب انزعاج فقهائنا المحدثين من وجود الملاحدة في المجتمع رغم أن وجودهم ضرورة لتثبيت الإيمان، حتى قال الصاوي إن من لا يؤمن بالله ليس إنسانا. بينما وجودهم بيننا يعود على المؤمنين بالنفع العظيم؛ لأن المسلم متوسط التقوى قليل الورع يجد نفسه عاجزا عن أن يكون مثل عمر أو أبي بكر أو الشيخ قرضاوي أو الشاب عمرو خالد، فيصاب في إيمانه بالنقص مما قد يغويه بالمزيد من عدم التقوى والورع ما دام لا يستطيع أن يكرن مسلما حقيقيا، بينما عندما يرى الملحدين أمام عينيه فإنه يقيس نفسه عليه فيجد أنه بإيمانه المتواضع من أهل الجنة، وأن جهنم لن تسعى وراءه لتصطاده وأمامها هؤلاء المناكيد. ولا شك أنه سيطمئن باله ويهدأ ويشعر بالسعادة لا بالخوف، ولن يفكر في التطرف والتشدد لأنه سيرى نفسه في قائمة المحبوبين من الله والفائزين يوم يحشرون. ويخرج بذلك من دائرة التشدد لدائرة الإيمان السمح، ولن يكون مضطرا للسعي المستمر للحصول على درجة أعلى فلا يجد سوى رتبة الشهيد التي سترفع أسهمه فوق كل هؤلاء المؤمنين الكبار. إن وجود حرية الكفر هو ضرورة يعلمها الله لذلك أقرها في قرآنه.
أما التساؤلات التي يستدعيها هذا الكتاب فهي: هل هذه الدعوة موجهة لنا نحن المسلمين؟ أم هي موجهة إلى الغرب الكافر؟ إن كانت موجهة إلينا فهو ما يعني أن فقهاء زماننا يروننا قد أصبحنا خارج دائرة الإيمان لذلك يدعوننا للعودة إليها، وهو ما يعني أنهم يعتبروننا قد كفرنا بعد إيمان وبحاجة للعودة إلى هذا الإيمان؟ وبالطبع لا حل لعودتنا إلى حظيرة الإيمان خرافا مطيعة إلا بتمكين فقهائنا من السلطنة ليعيدونا إلى الإيمان؟!
أما إذا كانت هذه الدعوة موجهة إلى غيرنا حيث الغرب العاري المنحل، فلماذا البكاء على حال الكفرة الطاغوتيين؟ أم تراه يرهن رقي الغرب باتباعنا واقتناعه بقيمنا وتسليم قياده لكهنتنا، وإلا لا يمكن وصفه بالرقي والتحضر الذي صنعه لنفسه بيديه؟
إن للأديان بمختلف ألوانها ومشاربها قدسية عظيمة لدى أتباعها. والقواعد الدينية هي فروض وأوامر ونواه، بينما القيم تقوم أصلا على المفاضلة والتمييز بين أكثر من اختيار، وتترتب على سلم قيمي يفاضل ويمايز ويفرز ويجنب بين قيمة وأخرى، أما القواعد الدينية فهي فروض مفروضة فرضا على أتباعها بحيث لا يمكن مناقشتها عقليا بعكس القيم الإنسانية القابلة للأخذ والرد والمناقشة والمفاضلة والممايزة.
وبين تلك الأديان يحرص المسلمون على التأكد من سبق الإسلام لكل علم ومعرفة حدثت أو لم تحدث بعد، وضمن ذلك ما تفعله هنا وزارة الأوقاف بكتبها عن القيم. علما أن ربط القيم الإنسانية بالقواعد الدينية، وجعل هذه القواعد قيما أو مصدرا للقيم، لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى جمود القيم جمود القواعد الدينية.
أما ما يهولك فعلا أن نكون في قعر العالم ومؤخرته وتتلبسنا قناعة بأننا الأميز والأكفأ والأقدر على إسعاد الآخرين، كما لو كانت حياتنا في بلادنا الكئيبة المتخلفة المعتوهة هي نموذج السعادة، ونرى من واجبنا فرض قيمنا الدينية على الإنسانية كي تحصل على ما حصلنا عليه من نعيم ورفاهية ورخاء وتقدم، اعتمادا على اعتقاد أن الإله الخاص بنا قد أعطانا وعدا بذلك. ودون أن يمتلك أتباع هذا الإله أي مقومات تؤهلهم لامتلاك سيادة العالمين. وواقع الأرض والأحداث بعيدا عن التوهمات المريضة ينطق بحال كالعدم، فنحن نعيش بالمنتج التكنولوجي لهذا العالم وبإعانات من هذا العالم في كل مجالات حياتنا من الألف إلى الياء، ويبذل العالم جهدا مشكورا مأجورا لإخراجنا مما نحن فيه من أسن وعفن وعطب، بينما سادتنا المشايخ يحرضون على العداء لهذا العالم العاري الماجن (لماذا لا يرون في هذا العالم سوى الأفخاذ العارية؟! هل العيب في الفخذ العاري وسط منجزات كبرى هائلة أم في العين التي لا ترى سوى الأفخاذ؟!) ويشحنون المسلمين بكراهية المتقدمين حتى نظل بجهلنا رهينة عند مشايخنا وعند السلطان.
وما زال لنا مع القيم حديث يطول، لمحاولة هدم وبناء بنقد ما نعتبره أو نظنه قيما إسلامية وهي ليست كذلك حقا، نفتح الباب نحو تأسيس ثقافة للقيم متصالحة مع زماننا ومع العالم، كتأسيس لا بد منه، تمهيدا لأي إصلاح منتظر. (7) فلسفة القيم إبداع إنساني لا إلهي
بسبيل إنكار واستنكار القيم الإنسانية (الإكسيولوجية فلسفيا وهي: الحق والخير والجمال) إزاء القيم الدينية، يقدم الدكتور الصاوي أحمد في كتابه «القيم الدينية وثقافة العولمة» فرضية يطلب أن نسلم بها لتماسكها المنطقي، وهي الفرضية التي تؤكد من البداية استحالة قيام أية قيم إنسانية سليمة تكون من وضع البشر؛ لذلك لا مفر من اللجوء إلى القيم الإلهية. وهذا إنما يعني أن البشرية قد ظلت بلا قيم حتى جاء الإسلام؛ لأن دكاترة الأوقاف عندما يحدثوننا عن القيم الدينية يقصدون تحديدا قيم الإسلام؛ لأن الدين عند الله الإسلام فقط. وهو أيضا ما يعني أن جمع الأنبياء الذين ظهروا قبل الإسلام كانوا عديمي القيم، وهو أيضا ما يعني أن شعوب العالم غير المسلم شعوب بلا قيم ولا يشرحون لنا كيف تكون متحضرا ولا تملك قيما؟! بينما من يملك تلك القيم هو الغارق حتى أذنيه وعينيه في التخلف والجهل والتاريخ الآسن، وعليه يجب أن نفهم أن هناك قيما تصون التخلف وتبقي عليه، فيكون التخلف عائدا للقيم التي ترعاه، وهي بذلك قيم سلبية تحتاج إلى إصلاح بشأنها، مع الأخذ في الاعتبار الكامل قيما تدل عليها حياة أهلها الذين يرفلون في النعيم، وهذا النوع من القيم لا يسقط على أصحابه من السماء، إنما هم من صنعوه صنعا واخترعوه اختراعا. فالقيم موجودة لدى الجميع، لكن مجتمعا يحرص على ما لديه من قيم حتى لو كانت سلبية، وهو بحاجة لإعادة كنس وغسل وتطهير وتنظيف شامل للعقل وللضمير، ومعلوم أن كل شعب يمجد قيمه ولا يرى فيها أي سلبيات، حتى الغجر والمافيا يمجدان قيمهما ويعتزان بها؛ لأنها هي التي تحافظ على وجودهما وبقائهما غجرا ومافيا. والمعنى أن القيم تكون صالحة فقط للمجتمع والزمن الذي أفرزها فإن تجاوزت ذلك قد تصبح سلبية في مجتمع آخر وزمن آخر.
لكن السيد الدكتور يقدم لنا حجة شبه منطقية للبرهان على فرضه فيقول (ص9): «الآن القيم معايير ومقاييس من شأنها ضبط العدالة والمساواة بين البشر، فلا يجب ترك أمرها للأهواء البشرية، حتى لا تكون محلا للعبث والتلاعب والانتقاص، فلا يمكن أن يكون الإنسان نفسه محل الفعل والتقييم والمعايرة، وأن يكون هو أيضا المعيار والمقياس في الوقت نفسه، ولا يمكن أن يتصور أن يصبح الإنسان هو الذي يجري على فعله الصواب والخطأ أو القياس والمعيار، وإلا فتح الباب للأهواء والرغبات الذاتية، ومن ثم للفساد والاستبداد. وفتح المجال لتسليط الإنسان على أخيه الإنسان، بسبب فقدان الميزان والمقياس والمعيار الإلهي الذي هو أساس القيم.»
إن حجة عدم تصور أن يكون الإنسان هو الذي يجري على فعله القياس والمعايرة بالصواب أو الخطأ، قد يكون صحيحا فيما يخص الشأن الديني من طقوس وشعائر وعبادات وغيبيات، وأن الاحتجاج بعدم إمكانية جمع الإنسان بين وضع القوانين وتقييم أفعاله والحكم عليها مما يلزم عنه أن يكون هو المشرع وهو الحكم والمنفذ، وهو الأمر غير المنطقي ولا السليم عند الدكتور صاوي وجماعته؛ لذلك يرى وجوب ترك هذه المهمة للسماء وقيمها. وهو كما قلنا أمر يصح في العبادات وغيبها فقط، فليس من حقي كمثال أن أتدخل في تحديد عرض السراط، ولا عدد أجنحة جبريل، ولا أزيد من عدد الركعات أو أنقص منها، ولا أتدخل في الغيبيات كالعرش والجنة والجحيم، ولا أسأل عن أشياء إن بدت لنا مسيئة، فلا نسأل كيف ولدت الصخرة ناقة صالح وفصيلها معها، ولا الحكمة في إسراء النبي ومعراجه سرا لا علنا، ولا كيف مكث يونس في بطن الحوت، هي موضوعات إيمان لا موضوعات بحث، تقوم على التسليم وعدم المناقشة. أما فيما يتعلق بالحياة الدنيا، بالمجتمعات والدول والبشر وأنشطة الإنسان اليومية، سنجد الواقع يقول شيئا مختلفا بالمرة عما يقول فقهاؤنا؛ فالشرق والغرب والشمال والجنوب في كل بقاع المعمورة، يجرون على فعالهم الصواب والخطأ والقياس والمعايرة، وجميعهم كما نرى أحرار ناجحون متفوقون سعداء متميزون يعيشون كل الهناء والسرور، بينما نسعى نحن لتقليدهم لكننا نرفض قيمهم وننقل عنهم فقط ما قد تسمح بمروره ذائقتنا الدينية ومجموعة فلاترنا وخطوطنا الحمراء.
وبينما يستنكر فقهاؤنا أن يكون الإنسان معيار نفسه، فإن الواقع يؤكد أنه لا بد أن يكون الإنسان نفسه هو محل الفعل والتقييم والمعايرة، بدليل أن الله لم يرسل أنبياء لا إلى استراليا ولا أمريكا ولا شرق آسيا، ورغم ذلك فإن تلك البلاد متفوقة بما لا يقارن ببلاد من يزعمون امتلاك قيم سماوية.
إذا كانت هناك قيم سماوية؛ فهي فقط للعبادات وتخص كل دين على حدة؛ لذلك لم تتفق الأديان ولم تتوحد لعدم تطابق قيمها الدينية. وثمة فارق عظيم بين قيم تعبدية تختلف بين دين وآخر، وبين القيم الإنسانية الكونية الصالحة لكل البشرية. لقد نجحت القيم الإنسانية في توحيد البشرية وتوجيهها نحو قرية واحدة، بينما لم يتمكن أي دين من ذلك، وعندما أرسل الله نوحا وأحدث الطوفان، كان الهدف من هذا القرار الرهيب في حق الإنسانية كلها هو التخلص من الآخرين غير المؤمنين لتوحيد البشرية، ومع ذلك لم تتوحد البشرية، فجاء بعد نوح من خرجوا على الدين مرة أخرى، ولا شك أن الله كان يعلم ذلك سلفا، ومع ذلك استجاب لدعوة نبيه ولم يبق على الأرض من الكافرين ديارا، أطفالا ونساء عجائز وشيوخا كلت حواسهم عن إتيان المعاصي، مع من تمت إبادتهم. بينما القيم الإنسانية هي التي أدت للإنجاز الذي يتحقق اليوم تدريجا لتوحيد البشرية بالعولمة، دون دمار وطوفان وخراب ديار وإبادة للإنسانية على الأرض، إنما بمؤتمرات وحوارات بين الثقافات وما تقوم به اليونسكو الآن في (حوارات القرن الحادي والعشرين).
ثم إن الإنسان ليس نمطا واحدا، فلكل بيئة ناسها وظروفها الجغرافية والطبيعية والتاريخية، فما يتفق والنمط البدوي يختلف ويتنافر مع النمط النهري الزراعي، وما يوافق الأوروبي لا يوافق الحجازي. فإذا كانت قيم الإسلام تناسب منطقة ظهوره، فإن البشر في منطقة ظهوره كانوا من نمط يختلف عن نمط بقية البشر. بل من نمط خاص جدا تفاعل معه الوحي حسب فهم زمانه وناس مكانه فحدثهم بلغتهم ومعارفهم وبلسانهم، وخاطبهم على قدر عقولهم لا على قدر عقولنا.
وكما كان للصحراء قيمها كان لبيئة النهر قيمها، وقيم النهر أنشأت حضارات كبرى قبل الأديان وبعدها، والقول إن قيم الصحراء هي المثال النموذجي هو أمر يجافي حقائق الواقع على مدى التاريخ، وإلا لكانت جغرافية مهبط الأديان تحوي أقوى وأعظم الحضارات، ولكانت لها السيادة والريادة، ولما ظهرت اليوم دعوات الإصلاح لبلاد مهبط الأديان، ولقام العالم كله يسعى للتشبه بنا والنقل عنا لا العمل على إصلاحنا. وعليه فإن البيئة تشكل بمشاركة البشر ونتيجة تفاعلهم معها، ضميرا جميعا يتمثل واقعيا في مجموعة نظم وقواعد وعادات وتقاليد، تحكمها القيم التي توافق عليها هذا الضمير الجمعي. وهو ما يتم غرسه في الطفولة والتنشئة الاجتماعية، فتتحول القيم إلى معان داخلية تصع شروط السلوك، تصبح مثل أوبريتور داخلي باطني سبق تصنيعه، مهمته تشغيل السلوك وفق ضوابط تحمي هذه القيم؛ ومن ثم تتشكل القيم بحسب ظروف الجغرافيا والبيئة وشكل المجتمع وظروفه. وفقهاء زماننا يحرمون المسلمين من تشغيل هذا الأوبريتور باعتباره نقيضا للقيم الدينية؛ لذلك حرموا الإبداع بحسبانه بدعة، بينما قام الإنسان في الغرب بتشغيل هذا الأوبريتور فأبدع وابتدع وأفاد بعلومه وقيمه الإنسانية كلها.
إذن البيئة والإنسان يصنعان معا ما يلزم من تكنيك لإشباع الحاجات الإنسانية وفق نظام قيمي، ولحماية هذه القيم تم اكتشاف القوانين أو اختراعها اختراعا لضمان قيم الجماعة وصيانتها. فالبيئة حكمت على مصر مبكرا بإدارة محكمة ونظام تكافلي مقدس في مواجهة توحش النيل، للسيطرة عليه واستئناسه وتوظيفه بما يعطي أفضل منفعة؛ لذلك كانت القيم تناسب هذا الوضع الخاص، وهو وضع يختلف بالمرة عن بيئة الندرة الشحيحة الفقيرة في البوادي، حيث لا يمكن الحديث سوى عن قبائل متفرقة متقاتلة على خير البيئة الضنين، لا عن دولة مركزية إدارية.
ومثل الدكتور الصاوي فإن الشيخ الدكتور «عمر حسنة» يضع تعريفا للقيم في ثوب يبدو مدنيا بالكامل، بينما يستبطن الرؤية الدينية وحدها؛ فهو يقول: «إن القيم معايير ومقاييس للفعل البشري، ومحددات للسلوك، وضابط للنشاط الإنساني ومسيرة البشرية في المجالات جميعا» (المصدر نفسه). ولعل أول ملحوظة هي إسقاط هذا التعريف عن قصد وعمد، المشاعر والأحاسيس الإنسانية وقيمها ومعاييرها؛ مما يعني إنكار وجود أي قيم للتذوق الفني والجمالي، هو تعريف إسلامي في لغة محايدة، تعريف لا ينظر إلى الآثار المصرية أو تماثيل بوذا التي دمرتها طالبان بأنها أشياء ذات قيمة. فإن سألنا عن المعيار أحالونا إلى المعيار الإلهي. ولو ذهنا معهم إلى المعيار ذاته لوصلنا إلى نتائج مخالفة لمقدماتهم، فإذا كان هناك معيار إلهي للقيم، فلا شك أنه كان قديما أزليا سابقا لكل الرسل، ولأن آدم هو من كان مؤهلا لفهم القيمة والحكم عليها، وبدون وجود إنسان لا وجود لأي قيمة لأن من يعطيها القيمة هو الإنسان، إذن لا شك أن هذا المعيار الإلهي قد صاحب عملية خلق آدم؛ لأنه لن يصح القول إن الله قد خلق آدم بلا أخلاق وتركه وذريته ألوف السنين، ثم استدرك ذلك بملحق أخلاقي يحمله له الأنبياء، ناهيك عن كون آدم نفسه نبيا لأولاده حسب العقيدة الإسلامية. إذن لو سلمنا لفلاسفة القيم المسلمين بما يسمونه قيما إلهية لها معيار إلهي، فلا شك أن هذا المعيار هو الذي صاحب الإنسان في عصره الحجري في صورة قيم مغروسة فيه، تتناسب مع مطالب القوة البدنية للدفاع عن النفس والحصول على الغذاء في الغابات والأحراش في بيئة بدائية قاسية، وذلك للحفاظ على نوعه من الانقراض. كانت القيم تناسب الحال، كانت هي الغرائز والحاجات الأساسية والشهوات وحدها لا غير.
كان الإنسان نصف وحش نصف إنسان، كان بحاجة لما يواجه به البيئة المتوحشة، ولأن لكل مقام مقال، ولأن لكل زمن أو مكان ما يناسبه، فإننا لو قلنا معهم بقيم إلهية فستكون هي الغرائز والحاجات للسكن والطعام والجنس والأمن؛ لذلك أعطاه الله الغرائز، أعطاه حواس الإشباع لحفظ نوعه وحياته، وهي قيم كانت موجودة سواء جاء الأنبياء ليقولوا لنا عن القيم الإلهية أو لم يأتوا. كان كبقية الوحوش ينكح أخته كما في صراع هابيل وقابيل مثلا، وحتى زمن إبراهيم الذي تزوج من أخته سارة، وحتى زمن الأسباط عندما تزوج عمران عمته يوكابد. ولو كان لدى آدم ما لدينا اليوم من قيم إنسانية لفشل وانقرض لعجزه عن التعامل مع بيئة لا ترحم ضعيفا.
وعندما طور الإنسان بيئته طور قيمه لتناسب الجديد؛ فهو يطور البيئة فتتطور القيم لاحقا، وهو ما يفسر لنا بقاء قيم شديدة البدائية في المجتمعات المتخلفة التي لا تخترع ولا تنتج ولا تضيف جديدا، بينما يحاول العالم المتحضر مساعدة هذه المجتمعات للخروج من بدائيتها. وكان معنى الخير بدائيا ماديا بحتا فالخير هو الطعام أو الإحسان بالطعام والماء، مجموعة الأفعال المسببة للذة والسعادة كانت هي قيمة الخير، كانت عند البدائي حرة عشوائية بلا قيود، يجامع كالحيوانات أمام الآخرين دون حرمات، كل شيء كان مباحا فلو وجدت قيود وتحريمات لاندثر وانقرض. كان هو الوحشية الطليقة غير المقيدة، يأكل ويفترس غيره ويشبع غرائزه، حتى جاء فجر الضمير مع قيام دولة مصر القديمة الموحدة، فيما وصل إليه الحبر اليهودي الأركيولوجي الأمريكي جيمس هنري برستد، وقبلها كان الظلام الدامس، قبلها كان الإنسان لا يزال حيوانا بعد.
القاعدة الأساسية لقيمة الخير عند البدائي هي ما يخطط للإنسان حياته ونوعه، كل شيء مباح ما دام يحقق الراحة والسعادة واللذة، ومع التحضر والتطور أخذ الإنسان يهذب من سلوكه ويتنازل عن بعض حرياته للمجتمع، وبدأ تعريف القيم وسنت لها القوانين عند حمورابي وفي القانون المصري القديم وهو قانون شديد الثراء، وعني المجتمع بأن يعرف أفراده حقوقهم وواجباتهم عبر تعليم القوانين والعقوبات في المدارس كما وصلنا من العمق البعيد لتدريبات تلاميذ المدارس في مصر القديمة.
إذن حسب الرؤية الدينية فإن المعطى الإلهي كان الغرائز الموضوعة في خلقة آدم، مع معارف أولية بسيطة ابتدائية، ومثل هذه المعارف الأولية لا تندرج تحت معنى القيم اليوم إلا بمعناها السلبي، ويبدو أن المعطى الإلهي كان به شوائب كثيرة لحكمة يعلمها الخالق سبحانه وتعالى، حتى العقل الذي هو سر التكريم الإنساني كان أيضا ناقصا ومعيبا بدليل تعرضه للخداع من إبليس، وسقوطه ومعه ذريته حسبما نؤمن عن قناعة.
لم ينزل آدم إذن على محطة لمترو الأنفاق ولا أمام هوليود وناطحات السحاب، وهي مستحدثات تحتاج كل منها إلى تقييم يعطيها قيمة وقوانين تحمي هذه القيمة، حتى تسيل حركة المجتمع دون عوائق، فمثلا عندما استحدث الإنسان السيارة وضع لها قيمة ثم وضع للقيمة قانونا يحميها هو قانون المرور؛ وهكذا كان كل مستحدث من صنع الإنسان، يضع له القيمة الإنسان، ومن يعايره بقانون يحمي القيمة هو الإنسان؛ لذلك لا يوجد قانون مرور إسلامي مثلا لأنها مستحدثات لم يعرفها الإنسان البدائي، بينما آدم حسب القصة الدينية ما كان محتاجا لكل هذا، فقد نزل في برار وأحراش وغابات ومفترسين ومفترسات وأرض غير مستقرة ما بين إعصار وبركان، ومع التطور ظهرت قيم الحضارة في البلاد النهرية، ومع التطور التالي ظهرت قيم عصر النهضة ومع التطور التالي ظهرت قيم زمن العولمة، وفقهاؤنا المتفلسفون يحدثوننا عن قيم زمن العولمة كما لو كانت هي القيم الإلهية، بينما قيم العولمة في زماننا هي نتيجة تطور هائل حدث للمعاني والمفاهيم القيمية لتحمل دلالات جديدة تناسب زماننا، ولم تكن في مخزونهم المعرفي أصلا، لقد أنشا الله الغابة وأنشأ لها قيمها، وأنشأ الإنسان الحضارة وأنشأ لها قيمها. (8) القيم الأخلاقية والاسلام
في كتابه «الإخوان المسلمون» يشرح لنا الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي السر وراء رفض المسلمين لقيم البلاد المتقدمة مع قبول منتجها التكنولوجي، بداية وقبل كل قول. وهو ما يعني قبول الصنعة دون الصانع ودون القيم التي أدت إلى ظهور هذه الصنعة، وما يعني أيضا وجودنا الدائم في حال من الدونية والقزمية غير منتجين بل متطفلين على منتج الغرب المدني، عملا بقول الشيخ شعراوي تجاوز الله عن سيئاته، إن الله منحهم العلم والعقل ليشقوا بهما كالأنعام وينتجون لنا ونحن نستهلك على الجاهز بما أعطانا من بترول أو غيره. تصور يا مواطن هم في هذه المقارنة هم الأنعام! تصور!
المهم يقول قرضاوي وهو ينعى على المدنية قيمها الأخلاقية: «إن أهم الظواهر التي لازمت تلك المدنية الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي، والإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستماع وإطلاق الغرائز. والأثرة في الأفراد فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه. والربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة للتعامل، وقد أنتجت هذه المظاهر المادية البحتة في المجتمع الأوروبي، فساد النفوس وضعف الأخلاق، والتراخي في محاربة الجرائم فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة، وأثبتت هذه المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني، وفشلت في إسعاد الناس» (ص139، مكتبة وهبة، القاهرة).
والملحظ الأهم هنا هو بكائية الشيخ على خروج المسيحيين وغيرهم من أصحاب أديان على أديانهم بسبب المدنية والحضارة، كما لو كان معترفا لهم بصواب أديانهم رغم «أن الدين عند الله الإسلام»، وأنهم قد خرجوا على هذه الأديان إلى الإلحاد وإنكار الروح وجزاء الآخرة، بينما الأمر عنده سواء، سواء عبدوا المسيح أو عبدوا العجل أبيس، خاصة أن قرضاوي نفسه هو الذي يتعسر على لسانه تسمية المسيحيين باسمهم نسبة للمسيح، الذي تم تأميمه لمصلحة الإسلام فكان مسلما والمسيحيون لا يعلمون؛ لذلك يلتوي لسانه فينسبهم إلى مدينة الناصرة الفلسطينية ويسميهم «نصارى».
أليس هذا تلبيسا وخداعا ونفاقا يثير السخرية أكثر مما يدفع لاحترام القائل، بل هو يشين القائل ويقلل من قيمة ما يكتب ومصداقيته، وأن غرضه ليس الدين بحد ذاته. أما قوله بفشل المجتمع المدني الإنساني في دول الحريات في إسعاد الناس وتأمين حياتهم، فتلك والله فرضية كاذبة من العيار الثقيل، تعجب من المسلمين وهم يسمعونها من الشيخ، كيف يتابعون قولا له بعدها أم فتوى؟ وكما لو كانت ديار الإسلام هي ديار الأمان والرفاه والرخاء والإيمان والسعادة والهنا والسرور، وكلها ألفاظ نسمعها ولا نعرف لها معنى في واقع حياتنا. فلا أمان ولا رفاه إلا مع بترول اكتشفه لهم الغرب الكافر، ومنه يعيش الشيخ ومعظم المشايخ حياة الرفاه والسعادة ولا يعلمون عن المواطن المطحون شيئا، نحن لا نعرف لا الرخاء ولا الإيمان الصادق الذي يطرق القلب ويصلح الضمير، بقدر ما هو إيمان سطحي ظاهري يهتم بالشكل دون المضمون، أما السعادة عندنا فهي ما نسمع عنه مثلما نسمع عن بيضة الديك ولبن العصفور وحلاب جديه.
المفارقة في كون السادة المشايخ يفاخرون الغرب بأداء ما هو مطلوب من الإنسان أداؤه من سلوكيات بحسبانه إنسانا ، فليس للأب أن يفاخر بالإنفاق على عياله، ولا للأم أن تفاخر برعاية أطفالها؛ فالمفاخرة تكون عند أداء ما هو أكثر من الواجب، فرحمة القوي بالضعيف واجب لا يدعو للفخر والتباهي؛ لأنه ليس أكثر من المطلوب إنسانيا، والشيخ فيما يقول ليس فريدا في بابه، وليس مبتدعا إنما هو متبع لعادات العرب البدوية في حياتهم الضنك الجافية، وما تركه هذا الضنك حتى بعد الغنى البترودولاري من ثقافة باقية تعود لزمن أسبق، عندما كان الصراع الصفري حتى الموت على خيرات الطبيعة الشحيحة هو قاعدة البقاء حيا في الصحراء.
العرب تفاخروا بأدائهم الواجب؛ لأن قيم زمانهم غير قيم زماننا، فكان أداء هذا الواجب في زماننا هو أكثر من الواجب في زمانهم، وما كانوا يعرفون ما هو أكثر من الواجب، فإن قام أحدهم بأداء الواجب ملأ الدنيا صياحا وصخبا وشعرا ونثرا بمطولات ورباعيات وخماسيات، مفاخرا بأدائه الواجب الإنساني، الذي يعجز مجتمعه عن أدائه؛ لذلك استحق الفخر والشعر وتدبيج القوافي. فالفخر العربي بالكرم والشهامة والمروءة لأنها كانت أفعالا فريدة، فحاتم الطائي واحد فقط لا غير، ولم يشتهر بعده سوى جد النبي هاشم الذي هشم الثريد لقومه في المجاعة فسمي هاشما بدلا من زيد، حالات فرادى لتاريخ طويل يفضح مجتمعه بتأكيد ندرة تلك الأخلاقيات، الواجبة إنسانيا في مجتمعات أخرى وبيئات أخرى. الأمر نفسه يحدث اليوم وليته حادث عن ندرة أخلاقية بقدر ما هو حادث توهمي مريض، فحتى هذه الندرة الأخلاقية غابت واختفت، فنتباهى بتقليد الأمم المتحضرة بالتحدث مثلها وليس إتيان أفعال مثلها، فيشعر الواحد منا أنه قد حصل على جائزة نوبل في الأخلاق لتسامحه مع غيره؛ لأنها عندنا قديما وحديثا نوادر يتامى؛ لذلك تستحق في بلادنا الإعلان والتباهي والتفاخر؛ لأن أحدنا قد تمكن من أداء فعل واجب إنسانيا.
ولمزيد من التدقيق بشأن القيم الأخلاقية، علينا أن نميز أولا بين ما هو قيم ذاتية شخصية، تخص الفرد وهو حر في تفعيلها أو تعطيلها، وبين ما هو قيم موضوعية عالمية إنسانيا لا يكون الفرد معها حرا في القبول أو الرفض، مثل قيم حقوق الإنسان وقيم رفض التعصب للجنس أو اللون أو الدين، أو التفرقة بين الناس على أساس من تلك الاختلافات، هي قيم إلزامية وضعت لها البلاد المتقدمة قوانين تحميها من الكسر والتعدي عليها، تقف جميعا ضد التعصب والتطرف وحل المشكلات بالعنف المادي.
هتلر مثلا جعل من قيمه الذاتية قيما مجتمعية فجاءت عنصرية تجعل من الألمان قمة البشرية؛ مما أدى إلى حرب عالمية أكلت الحرث والنسل؛ لذلك فإن العالم من بعدها صار يجتمع على قلب واحد، عندما تخرج القيم الذاتية إلى خارج حدودها، وهو ما حدث في تحالف دولي ضد الإرهاب الإسلامي بينما الإرهاب عند المسلمين هو جهاد في سبيل الله وهو أسمى آيات الإيمان والتصديق والاستشهاد، لكنه قيمة ذاتية تخص بشرا بعينهم دون غيرهم؛ لذلك تؤدي إلى الحروب والقتال، بعكس القيم الإنسانية لأنها شاملة يلتزم بها الناس سعيا لأمان المجتمع البشري كله.
وكم لدينا من قيم محلية ذاتية تخص الذات المسلمة، وتعود إلى مجتمع من نوع خاص هو المجتمع البدوي الصحراوي، هو مجتمع خشن يرفض القيم الإنسانية لرقتها، بل ويعيب عليها الرقة التي هي ضد الرجولة الحقة، فنتمسك بدلالات عتيقة لمفاهيم كالرجولة والمروءة، ويقدم أحدهم على ذبح شقيقته أو ابنته لكسرها قواعد الشرف العربية في الكراهية ولأنها اختارت لنفسها من تحب، دون أن يصنف فعل القتل كجريمة أعظم من كل جريمة، وأن علاج الجريمة بجريمة أفدح هو خلل شديد في مقومات الضمير، بينما العالم كله قد تغير فأعطى هذه المفاهيم دلالات جديدة بالمرة.
نتمسك بسلوكيات قاسية لأنها تناسبنا، بينما حقيقتها أنها كانت تناسب زمنها وبيئتها، وخروجها خارج حدودها انتهى بحال بلاد الحضارات المفتوحة إلى ما هي عليه الآن، بعد أن اكتفينا بديننا الجديد وما جاءنا راكبا الدين من عادات ونظم وتقاليد بلاد غير البلاد وزمان غير الزمان، وأغلقنا على ذواتنا فلم نعد نرى نماذج عليا غير قيمنا الدينية غير الموجودة أصلا في الدين؛ لأن القيمة حتى نسميها قيمة لا بد أن تقف أمامنا في سوق عرض للأفكار، نختار بينها وبين غيرها ونفاضل، وهو الأمر غير المسموح به في الدين؛ فهو أوامر وتعليمات ونواه وقرارات قادمة من خارج الإنسان، بعضها في القرآن وبعضها في الحديث ومعظمها من المشايخ والفتاوى، فأي دين وليس الإسلام فقط هو مجموعة إملاءات وشروط.
بينما كي يتمكن الإنسان من إصدار حكم قيمة فلا بد أن يملك حريته بإطلاق؛ لأنها هي التي تمكنه من إصدار حكم القيمة. ولو وقع العقل والضمير الإنسانيان تحت سيطرة سلطة خارجة عنهما تقوم بتسيير الإنسان، فإن حكم القيمة الذي سيصدره هذا الإنسان، لن يكون تعبيرا عن رأيه، بل هو تعبير عن رأي المتسلط، فيأتي حكم القيمة معبرا عن رأي المسيطر، أكان حاكما أم رجل دين أم مجتمعا أم مذهبا أم أيديولوجيا؛ لذلك فإن المجتمع الذي يسمح بالحرية، هو من يصل إلى أحكام قيمة سليمة.
هذا إضافة إلى أن للقيم سلما تترتب عليه حسب الحاجة المجتمعية، وهو ما لا يمكن فعله مع ما يسمى قيما دينية نفاضل بينها وبين غيرها، وإذا كان من يحدد القيمة على السلم هو الفرد الحر، فإن القيم هنا تكون هي المتعلقة بحاجات الفرد المادية من مطعم ومسكن وأمن و... إلخ، وحاجاته الشخصية من أدوات وآلات؛ لأن القيم المعنوية المتعلقة بالأخلاق والمبادئ، هي محل التوافق الجمعي عليها. فإذا كان النظام السياسي فرديا دكتاتوريا فلن يقر قيمة التفكير والحرية وسيخضع الأفراد لإرهاب الدولة، وتتشكل قيم المجتمع على هوى الزعيم، وهي لا تمثل مصالح مجتمعه ولا مصلحة الإنسانية.
والتاريخ يحتشد بهذه الأمثلة، هتلر، هولاكو، القذافي، موسوليني، الترابي والبشير، ابن لادن، الزرقاوي، ميلوسوفيتش، محمد بن عبد الوهاب وآل سعود، عبد الناصر، عائلة الأسد، ستالين، صدام حسين ... إلخ ... إلخ، فما أكثرهم في التاريخ الإنساني؛ وهو ما يعني أن المجتمع المحكوم بسلطة الفرد لا بسلطة الناس، والمحكوم بالواحدية المصمتة، هو مجتمع لا ينتج قيما تمثل روح الإنسان الحر وفكره وعقله، وغياب حرية الرأي والفكر والاعتقاد هي ديكتاتورية تحول الأفراد إلى قطيع متوحش لا يضبطه إلا الراعي الديكتاتور؛ لذلك يقولون في المثل: «كل شعب يستحق حكامه»، والراعي ليس الديكتاتور كشخص إنما كمنهج، بمعنى فكر واحد واتجاه واحد ومذهب واحد، ومن يخالفه يقع تحت العقوبة؛ ومن ثم لا يكون هناك أي مجال للحديث عن تعددية؛ لأن التعددية مساواة ومشاركة لكل المختلفين. تفسح في المجال ليقول الجميع ويفكر الجميع ويؤثر الجميع فنصل إلى محصلة تمثل الجميع بلا تسلط، ويسقط الراعي المفرد.
لنتابع الشيخ قرضاوي ونتساءل: إذا كانت القيم الأخلاقية للمدنية الحديثة بهذا السوء، فما هي القيم الأخلاقية التي يجب أن نتمسك بها حتى نكون بشرا أسوياء؟
يقول الشيخ قرضاوي في كتابه «ملامح المجتمع المسلم»: «إن القرآن سور مكية، ومدنية، مليء بالآيات واللوحات التي تقدم لنا نماذج خلقية كريمة، تجمع المثالية والواقعية، لم تعرفها من قبل ولا من بعد شريعة ولا نظام» (ص94)، وإن آداب المجتمع المسلم وتقاليده تنطق بهذه النماذج الخلقية العليا؛ فالمجتمع المسلم «لا يأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، ولا يشرب الخمر والمسكرات ولا يقدم ذلك على موائده، وهو يأكل ويشرب باليمين ويبدأ طعامه باسم الله، ويختمه بحمد الله، ولا يأكل ولا يشرب في إناء ذهب أو فضة ... ومن آداب المجتمع المسلم الإحسان على الجار وإكرام الضيف وتشميت العاطس وعيادة المريض وتشييع جنازة الميت وتعزية المصاب» (ص102، مكتبة وهبة، القاهرة).
بين هذا الحشد من الصفات الحميدة لا تجد شيئا يتعلق بالقيم الأخلاقية، لا الأكل باليمين ولا بالشمال ولا تشميت العاطس ب «يرحمكم الله» ولا «شفيتم»، هو من القيم الأخلاقية، بقدر ما هو من العادات والتقاليد، إنما تلمح بين السطور حالة شعور بفخر بالنوادر كالإحسان للجار وإكرام الضيف وهو ما لا يستحق فخرا قدر ما هو واجب طبيعي من الإنسان تجاه أخيه الإنسان، مع ملاحظة احتساب فقهائنا أن القيم الذاتية هي قيم موضوعية لذلك يخلطونها بالعادة والتقليد، فعدم شرب الخمر أو أكل الدم أو عدم أكل الخنزير أو أكل الجراد والضب أو الحمر الأهلية هي قيم ذاتية، لا قيمة لها خارج المجتمع الإسلامي، فسواء أكل الخنزير أم التمساح، وسواء شرب الخمر أم مضغ القات، فذلك كله لا علاقة له بالقيم الأخلاقية؛ لأنها مسائل ذاتية تتعلق بالاعتياد والتذوق حسب المكان والزمان.
ثم يأخذنا الشيخ إلى المنطقة التي يصعب فيها النقاش، مقدما لنا القيم البديلة لقيم المدنية من آيات القرآن الكريم، وهو بذلك يقدم لنا ما يسميه القيم الإلهية وذلك مثل الآيات:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (البقرة: 177) (كتابه ملامح المجتمع المسلم، ص91).
إن التوجه وجهة الكعبة، والإيمان بالله والآخرة والملائكة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ... إلخ كلها فروض دينية يلتزم بها المسلم وليست قيما أخلاقية تسم صاحبها بأنه راقي الخلق، وللأسف الشديد فإن عكس هذا هو ما ترسخ في العقل المسلم الجمعي، الذي يرى أن الأخلاق لا تقوم إلا على تقوى دينية، ولا يصدر عمل ولا علم سليم ولا خلق كريم إلا عن الإنسان التقي دينيا بالمعنى الإسلامي وحده، وهو الأمر الذي يخلط الأمور المتنافرة بعضها ببعض فلا يبقى سوى فوضى القيم الذاتية، بلا علم وبلا أخلاق. بينما الشيخ يرى أن الإشارات للقيم الأخلاقية في هذه الآيات كالوفاء بالعهد وإيتاء المال للمحتاجين، عندما جاءت وسط قواعد إيمانية، جعلت من هذه القيم قواعد للإيمان، فالمسلم هو الذي يفي بالعهد ويكرم المحتاج كما يصلي ويحج ويصوم؛ لذلك نؤكد مرة أخرى أن القيم الأخلاقية هي تلك التي تعلو على الواجبات الإنسانية، وبدون الوفاء بالعهد وتكريم المحتاج لا يمكن أن يقوم أي مجتمع ولا أي لون من السياسة أو الاقتصاد في أي بلد مسلم أو غير مسلم؛ فهي ليست خاصية المسلم دون غيره من عباد الله، إنما هي خصائص إنسانية عامة تضمن تماسك المجتمعات في أي مكان وأي زمان. (9) التحريم بالأمر والنهي شر توقفه الحرية!
القيمة هي ناتج تفاعل الفكر الإنساني مع الأشياء المادية ومع الأفكار والمعاني، القيمة هي قدر أو رتبة أو ثمن، هي درجة تمييز تترتب تسلسليا على درجات، وأدوات قياس القيمة إنسانية نسبية ظرفية؛ لأنها مجموع معارفي وعلومي التي حصلتها في عصري. وللتبسيط غير المخل مثلا لو أخذنا لوحة «الموناليزا» لزمن الأنبياء وطلبنا تقييمها، سيتم تقييمها على الأكثر بثلاثة دراهم، درهم للخشب ودرهم للبويا ودرهم لقطعة القماش، فقيمتها تتشكل حسب مخزونه المعرفي وخبرته وعلومه. وعصا توت عنخ آمون عند البدوي البدائي عصا كأي عصا، العلم هنا يتدخل ليمنحها قيمة لم تظهر إلا بعد كشف حجر رشيد وفك رموز الهيروغليفية، فيقول لنا: «إن هذه العصا لا تقدر بثمن فقيمتها فوق التقييم»؛ لذلك يضعها في المتاحف ليراها كل الناس كحق قيمي مشاع، ويحيطونها بكل ألوان أجهزة الإنذار حرصا عليها وحماية لها. كذلك لو قارنا زمن نبي الإسلام بزماننا، فمن الجيد والجميل أن تقرأ حديث النبي عن عزل المرضى بالطاعون في رؤية ثاقبة ممتازة لزمنها، لكن زماننا قضى بالعلم البشري على الطاعون نهائيا بعد أن كانت مواجهته تتم بأدعية لا تستجاب.
والخبرة تزيد القيمة أو تنقص منها؛ وهكذا فإن الله لم يخلق القيم وإلا كانت ثابتة ثبات القرآن، أو لكان خلقها للكلاب والحمير وأرسل لها الأنبياء ليدلوها على قيمها وهو ما يعني أنه بدون حضارة إنسانية لا توجد قيم؛ لأن حكم القيمة سيصدر على منتج حضاري مادي أو فكري أو سلوكي، بينما آدم في الغابة كان يفعل وفق الغرائز ولم يكن بحاجة إلى نظام قيمي.
وإن إصرار فقهائنا المحدثين على شيء لم يرد في نص اسمه «القيم الإلهية، الدينية، الإسلامية بالطبع»؛ فهو ما يعني أن لله قيما يراها صالحة لعباده وعلى العباد التشبه بهذه القيم الربانية. هذا رغم أن آلهة جميع الأديان يفترض أنها كانت موجودة قبل وجود الإنسان، وهي بهذا المعنى ليست بحاجة لأي قيم؛ لأن الأرباب حسب العقائد الإيمانية معصومة، وليس لها بالقيم من حاجة، ليست بحاجة إلى معايير تثمن بها أفعالها؛ فهي ليست تحت الحساب، ولا هي تحاسب نفسها، والقيم والأخلاق تفترض ضميرا داخليا بالضرورة يحاسب ويقمع ويزجر، وهو أمر لا يجوز افتراضه مع الإله الذي لا ولد له ولا مأكل ولا مشرب ولا مسكن وليس بأي حاجة لأدوات تشبع حاجاته حتى يمكن تقييمها، ليس له حاجة لأنه هو الكمال المطلق، بغير حاجة لأي قيم لأنه لا يراجع نفسه ولا أحد يراجعه، والله لا ينتج إلا الصحيح من السلوك؛ لذلك هو ليس بحاجة إلى القيم التي تفاضل بين السلوك الصحيح والسلوك الخطأ، الله صواب مطلق.
لذلك فإن الإنسان وحده هو مناط التكليف الديني والإنساني أيضا؛ فهو الذي يمتلك حرية الاختيار ضمن خلقته؛ لذلك يكون مسئولا عن القيم الأخلاقية أمام المجتمع الإنساني وقانونه وأمام الله أيضا، أما الله نفسه فهو على العكس تماما من ذلك، إنه لا يسأل وهم يسألون، ومن لا يسأل لا يكون بحاجة لقيم أخلاقية، وإذا كان الخلق يخضعون لقيم قررها الله عليهم، فمن العسير تصور الخالق خاضعا لما خلقه من قيم؛ فهو لا يخضع لشروط وليس لفعله حدود؛ لذلك تكون محاولة توصيف فعال الرب وفق معايير قيمية أمرا غير جائز لأنه يكون مساءلة للرب، ومساواة لفعال الرب بفعال خليقته؛ لذلك فإن خلط الدين بمفاهيم هي من ابتداع الإنسان، وقيم هي خلاصة خبرات مجتمعية طويلة، يسيء إلى الدين وربه؛ لذلك لنترك الدين وربه وننصرف إلى إصلاح واقعنا القيمي بأيدينا، أما الله فهو يخلق ما يشاء وكيف يشاء وحين يشاء ولا معقب على مشيئته، وما يفعله فقهاء زماننا أنهم ينزلون الكامل من عليائه إلى رتبة مخلوقاته، بما يساوي بين الخالق والمخلوق، بتطبيق المعيار القيمي ذاته على كليهما، وهذا كله إنما يعني أن القيم مسألة إنسانية بحتة لا علاقة لها بدين من الأديان. والقيمة كي توجد لا بد أن تفترض الحرية في من يقوم بفعل المعايرة والتقييم لينتقي ما يناسبه من قيم؛ لذلك تختلف قيم الحجازي عن قيم الإنجليزي، أما فاقد الحرية كالملائكة فلا يمكن وصف فعلها بأنه خير أو شر أو ذو قيمة صحيحة أو باطلة؛ فهي لا تملك إلا الطاعة دون اختيار، كذلك النبي، مثله - مع فارق التشبيه - كمثل السلك الموصل للتيار من المصدر المولد إلى المصباح، لا يتدخل إنما يبلغ فقط؛ لذلك هو غير حر في قراراته، وليس بدوره بحاجة إلى التقييم والمعايرة.
ولا يبقى لدينا سوى الإنسان الذي يسعى لتحقيق ما يحتاج ويملك حرية الاختيار، فالقيم كلها صناعة بشرية، صنعها المجتمع الإنساني عندما ارتقى عن حيوانيته البدوية الأولى ليدير مجتمعه بما يفي بحاجاته، وطور من تلك القيم مع كل نقلة تطورية حضارية مادية، ولم ينزل الإنسان من الجنة مزودا بنظرية فلسفية متكاملة في القيم، إنما اعتمد على المحاولة والتجربة والخطأ والصواب ليختار ما يراه صوابا ويستبعد ما يراه خطأ، ويبقي على المفيد ويستبعد الضار.
السادة أهل الدين ينسبون إلى الدين ما لم يكن فيه؛ لأن فلسفة القيم نسبية متطورة، وما وصلت إليه اليوم لم يكن معلوما في معارف الأقدمين، إن النظرية النسبية لم تكن معلومة قبل آينشتاين، ومشايخنا كمن يقول لنا: إن الخليفة أبا بكر قد عرف النسبية ، ومثلها بالضبط: أن الصحابة قد عرفوا القيم. أهل الدين في بلادنا كل غرضهم تسفيه عالمنا المعاصر خاصة في البلاد المدنية المتقدمة، كي لا يبقى صحيحا سوى ما نعتقد، لأننا خير أمة أخرجت للناس وبقية العالم بهائم، وكي نكون على صواب، لا بد أن تكون الدنيا كلها على خطأ، حتى لو كان الواقع على أرضنا يقول بعكس رؤيتنا بالكلية.
ولعل ما يرد على نظرية الخلق الرباني لقيم دينية كاملة منزلة من السماء، هو ذلك التطور الذي لحق بالقيم على يد الأنبياء ذاتهم، وهم أنبياء الإله ذاته، ومع ذلك جاء المسيح فنسخ شريعة موسى بنظام جديد، وجاء محمد
صلى الله عليه وسلم ، فجب إسلامه كل ما سبق جبا، والموقف المنطقي السهل البسيط هنا لا بد أن يقف عند أحد احتمالين لا يجتمعان، فإما أن نقول ونقر بأن النبي الثاني جاء بقيم من أفكاره هو وغير ربانية بدليل مخالفتها للنبي الأول، بينما الله واحد! فيكون النبي الثاني قد خان ربه! وإما أن نقول ونقر بالتطور على كل المستويات، وهو ما يستدعي الاعتراف بعدم وجود قيم دينية ثابتة لا تتغير حسب المفهوم من الدين، وهو ما يرفع الإصر عن الأنبياء.
وإن إحالة القيم إلى الدين وربه يجعلها جبرية، والجبري لا يعطي الماديات قيمتها الحقيقية، كالتسعير الجبري للسلع في الأزمات، بينما السوق الحر هو ما يعطي السلعة قيمتها الحقيقية حسب العرض والطلب؛ لذلك فإن التقييم الذي تجبرني عليه السلطة أو الدين أو الإعلام الموجه، إنما يشكل وعيا زائفا وقيما بلا معنى وبدون دلالة واقعية.
ولمزيد من التبسيط نجد الإسلام يجعل المسلم لا يعطي للذهب كوسيلة زينة أي قيمة، بل هو قيمة سلبية محرمة على الرجل المسلم، ومثله الحرير، بينما يترك للمرأة منح ذهب الزينة قيمتها، والموضوع واحد، والمصدر واحد، هنا لا يقوم الخلاف حول قيمة الذهب لارتباط القيمة بالحلال والحرام، والفارق بين الرجل والمرأة، فإذا تحدثنا عن القيم إسلاميا لن نجد اتفاقا، فللذهب هنا قيمتان قيمة سلبية بالنسبة إلى الرجال، وقيمة إيجابية بالنسبة إلى النساء .
وللتمييز بين مفهوم الحرام والحلال وبين الصواب والخطأ، نجد أن من يعرف الحلال ويفرزه ويجنبه عن الحرام هو الدين، وكلاهما - الحلال والحرام - تم تبليغه للمسلمين من رب العزة، والمحاسبة عليه قد تكون في الدنيا وقد تكون آجلة بعد البعث والحساب، ويمكن العفو عن كل العقوبات بالتوبة والمغفرة وإسقاط الآثام عدا الشرك بالله، وهو شأن كله رباني لا دور فيه للبشر بالتعديل أو الإلغاء، أما مفهوم الصواب والخطأ فهو أمر دنيوي بحت يتعلق بأعمال الإنسان من فنون وإدارة وطب وهندسة، وهي مجالات لا مكان فيها لمفهوم الحلال والحرام؛ فهي لا تعرف سوى الصواب والخطأ والعلم هو من يضع لها معايير الصواب والخطأ، فحفظ المواد الغذائية في درجة حرارة معينة يكون صوابا، وفي درجة حرارة أخرى يكون خطأ، وإن إديسون أصاب باختراعاته لكن ذلك لن يؤدي بالتأكيد إلى دخوله الجنة، والذي يخطئ في امتحان الرياضيات ويرسب لن يدخل جهنم، والموظف الذي يخطئ يعاقب طبقا للقواعد التي أعدها البشر حسب الخطأ والصواب وليس حسب الحلال والحرام.
قد تصل العقوبة إلى فصل الموظف أو حبسه، لكنها أبدا لا تصل إلى الجلد أو الرجم أو الخلود في العذاب مهانا، والذي يحصل على جائزة نوبل ليس بالضرورة أن يكون مكانه الأخروي هو الفردوس الأعلى، والفشل في إطلاق صاروخ لن يدخل صاحبه جهنم؛ لذلك فالقيم هي إبداع إنساني خالص لا علاقة له بدين من الأديان.
سألجأ هنا إلى تعريف القيمة كما أوردتها أستاذة علم الاجتماع الدكتورة فوزية دياب في كتابها القيم «القيم والعادات الاجتماعية»، وهي دكتورة دروشة فيما ينطق به كتابها؛ لذلك تعطينا تعريفا واضحا، غير ملتبس، فتقول (ص29): «القيمة هي الاعتقاد أن شيئا ما ذا قيمة وقدرة على إشباع رغبة إنسانية، والقيمة هي صفة الشيء التي تجعله ذا أهمية للفرد أو الجماعة، وهي حقيقة سيكولوجية ليست قابلة للقياس، ولا بد من تمييز القيمة تمييزا دقيقا عن المنفعة لأن حقيقتها تكمن في العقل البشري لا في الشيء، فالشيء ذو المنفعة الزائفة تكون له القيمة نفسها كما لو كان حقيقيا إلى أن يتكشف هذا الخداع.»
ولو طبقنا هذا التعريف على كلام فقهائنا سنجده يتحدث عن قيم زائفة خداعية تبدو لنا حقائق، فيكون لبول البعير قيمة مقدسة رغم قذارته وضرره الأكيد، ويكون إرهاب الآمنين وترويعهم عملا شريفا بل وقمة من قمم نبال الفعال بالاستشهاد لأن هذا ما يتطلبه الخير الإلهي؛ ومن ثم تظهر القيم التي ينسبونها إلى الدين مشوشة على العقل البشري، لسبب بسيط هو أن قواعد الدين غير قابلة للنقاش أخذا وعطاء ونفيا وإثباتا بالعقل البشري؛ لذلك تؤدي بصاحبها إن حاول إلباسها غير ما فيها إلى أحكام خاطئة تقوم على مسلمات خاطئة، فتؤدي إلى نتائج كارثية لا علاقة لها بأي قيم. وللتوضيح بالمثال، فإن طقس الذبح في الحج هو قربان للإله، بينما هو في نظر القيم الإنسانية إهدار بلا ثمن لثروة حيوانية هائلة، وعملية وحشية بلا معنى تجز ملايين الخراف دون أي عائد سوى تركها لتتعفن، وظل أمرها طويلا محل أخذ ورد حتى أمكن التصريح بتعليبها وتصنيعها. ناهيك عن رجم إبليس الحجري وتقبيل حجر نيزكي وتقديسه والطواف حول بناء حجري، كلها طقوس دينية يقبلها المؤمن ويسلم ويطيع، لا مجال فيها لمناقشة أو حوار، لذلك يجب ترك الدين دينا، وعدم خلطه لا بعلم ولا بفلسفة؛ فهو غير قابل للمناقشة وخلطه بغيره يصيب العقل بالاضطراب، ويصيب الواقع بالكوارث، ويصيب الدين بما لا نحب ولا نشتهى.
أضف إلى ذلك لا بد أن يتبادر إلى الذهن السؤال حول قيم مثل سبي الجواري ونكاحهن في أرض المعركة كما حدث في غزوات النبي وبخاصة في خيبر، حيث فشا إتيان الحبالى بجوار الأب أو الزوج المذبوح، حتى نهى النبي عن وطء الحبالى، وحتى نهر بلال بن رباح وهو ينكح إحداهن إلى جوار أهلها القتلى، في عمليات هتك عرض جماعي علني للسبايا، وتحويل الأسرى في حروب الفتوحات من أحرار إلى عبيد يباعون في الأسواق، وكذلك مسألة ملك اليمين والجواري، وكذلك مصادرة ممتلكات الشعوب في نظام الفيء الإسلامي، كلها دين نسمع له ونطيع، لا نلتمس له تبريرا، ولا تجميلا؛ فهو ديننا الذي نؤمن به كما هو دون شعور بخجل أو عار، ونحبه دون حاجة لمبررات؛ لأن قيم زمانه لا علاقة لها بما نفهمه اليوم عن القيم.
لذلك تؤكد الدكتورة دياب: «إن القيمة مسألة إنسانية وشخصية وليست شيئا مجردا مستقلا بذاته عن السلوك الشخصي، بل هي متغلغلة فيه لأنها تنبع من نفسه ومن رغباته لا من الشيء الخارجي؛ فالأشياء من وجهة النظر الطبيعية التجريبية حيادية؛ أي ليست في ذاتها قبيحة أو جميلة إنما هذه أحكام نصدرها عليها، هي القيم المنبثقة عن اهتمامنا» (الصفحة نفسها).
إذن فالقيم كما يتحدث عنها الفلاسفة والمفكرون وعلماء النفس والاجتماع هي شيء لا علاقة له بدين من الأديان من قريب أو بعيد وليس أدل على ما أقول هنا، أن السلف الصالح والدين نفسه لم يبحثا موضوعها كما يفعل فقهاء زماننا اليوم.
وإذا كنا كمسلمين نعتقد أن ديننا قد ولد كاملا غير منقوص ولا يعاني قصورا لأنه يمثل قدرة صاحبه الكامل ، فإن ما يفعله فقهاء المسلمين المعاصرين من محاولات ربطه بكل كشف وكل حدث وكل علم وبكل فلسفة، يعني أنهم يشعرون مع كل جديد بنقص في دينهم لم يتوافر فيه هذا الجديد، فيقومون بمحاولة استكمال هذا النقص بالإضافة إليه والزيادة فيه، وهذا هو تعريف البدعة المكروهة في الإسلام. فالدين لا حاجة به لبشر يستكملونه لأنه قد ولد كاملا، إما أن نؤمن به بكليته دينا وإما لا نؤمن، لكن لا ندلس ولا نكذب كما يفعلون وهم المتحدثون باسمه، كذلك الدين ليس من صنع جيل من البشر، حتى يحق للأجيال التالية التعديل فيه بالإضافات المتكاثرة مع كل محدث.
هذا، ناهيك عن كون الدين الإسلامي لم ينتقد القيم الإنسانية الوضعية «الإكسيولوجية» بأي من أصوله قرآنا أم سنة ولم يندد بها، رغم وجود هذه القيم قبل ظهور الإسلام بقرون متطاولة عند فلاسفة اليونان، وقد سكت عنها الإسلام وعن ذكرها وعن انتقادها إيجابا أو سلبا؛ لأن الله كان عالما بطبيعة مجتمع الرسالة الخاتمة، وعجزه عن استيعاب موضوع القيم، وترك لأجيال المسلمين اللاحقة حين تكتمل نضجا ورقيا لتدرك القيم وتسعى إليها، وهو ما فعلته في التاريخ الإسلامي عن جدارة، الدولة العباسية حتى زمن الرشيد والمأمون. ولا تعلم لماذا كل هذا الجهد من دكاترة الأزهر والأوقاف في تدبيج كتب الكراهية ومهاجمة ما لم يهاجمه الله ورسوله، ويعيبون ما كان سببا في نهضة عباسية؛ وهي نقطة الضوء الوحيدة في تاريخنا المخيف.
وليس الإسلام وحده هو ما ننكر صلته بأي قيم بمعناها الدقيق، بل ننكرها على كل الأديان، فبينما القيم لازمة وضرورية لحياتنا العملية الدنيوية، فإن تعاليم الأديان تهمش الدنيا وتحقرها كمادة فانية، وما وجدت الدنيا إلا لتكون معبرا نبتلى فيه ونمتحن، فإن الدنيا ليست سوى مصيدة تصطاد منها جهنم فرائسها، وعلى المؤمن التقي أن يستثمر وجوده في هذه الدنيا ليستزيد من العبادة وأداء الطقوس والفروض والشعائر والبكاء والزهد والتهجد والانقطاع بحيث لا يقيم لها وزنا؛ لأنها في النهاية دنيا فانية زائلة لا أمل يرجى منها، وما المؤمن إلا عابر سبيل فيها نحو الأبدية.
هذا بينما فلسفة القيم تقوم أساسا على حب الحياة الدنيا واحترامها والعمل على صلاح هذه الحياة وصيانتها؛ لأنها محل ممكنات فعلنا وقدراتنا؛ فالحياة الأخرى الأبدية لا دخل لنا فيها ولا ممكنات لدينا لتغييرها، فلسفة القيم تتوج الاجتماع البشري بإرساء مفاهيم كالحريات بألوانها والكرامة والمساواة والمحبة بين الناس، ورفع الظلم وإحقاق الحق وعشق الجمال وصنعه وإبداعه فنونا ترقى بالحس والروح، ووضع القوانين اللازمة لحماية هذه القيم من التعدي عليها أو كسرها بما يتماشى ومصلحة المجتمع لا مصلحة الدين ولا مصلحة أي إله كان.
والحقيقة الواضحة أن الدين لا يعطي قيما لأنه لو أعطاها فستكون صارمة ثابتة، ولأن الله يعلم كما يعلم البشر أن للقيم درجات غير ثابتة ونسبية؛ لذلك لم يعطنا الله قيما دينية لأن الدين مجموعة أوامر وإملاءات. والدين نفسه يوظف حكاية إبليس توظيفا يؤدي إلى نتيجة مفادها: «أن الأوامر والإملاءات هي السبب الأول في ظهور الشر»، فحسب القصة الإسلامية نجد أنه قبل خلق آدم كانت الملائكة، وهي مصممة للتعبد والطاعة فقط؛ لذلك فعلها كله كان خيرا، ولم يعرف الكون الشر حتى ظهر آدم، وكان أول شر هو ما ارتكبه إبليس، ومصدره (أمر وإملاء) من الخالق ليسجد إبليس لآدم، وهو ما انتقص من تصميم إبليس وتركيبه الخلقي، فداخل هذا التصميم مبدأ ثابت وهو ألا يسجد لغير الله، فأطاع تكوينه وخلقته التي هي بمعنى من المعاني مساحة حريته؛ ومن ثم كان الأمر انتقاصا من هذه الحرية وأمره الله بالسجود لمخلوقه بعكس الكتالوغ الموجود الذي يعتقد أنه هو كل الحرية؛ فالعبودية لله هي الحرية ذاتها لأنه لن يسجد لسواه، فكان أن رفض السجود، وكان الشر الأول في تاريخ العالم. كان رفض إبليس السجود لغير الله هو أول الشرور؛ لأنه مارس حريته المتفقة مع خلقته في عدم السجود لغير الله، واختار ضد الأمر والفرض والإملاء، وعليه، عندما صدر الأمر الأول، جاء الشر الأول! إبليس وتمسكا منه بتوحيد الله وتنزيهه رفض السجود لغيره، خاصة وأن هذا الغير أدنى من الله مرتبة وأدنى من إبليس نفسه درجات، فعصى إبليس ربه فظهر الشر.
قصة أخرى تتضمنها الحكاية ذاتها، فمع أول أمر لآدم بعدم الأكل من ثمرة بعينها صاحبة ظهور الشر بالتمرد على الأمر؛ لأن كلا الأمرين: أحدهما أنقص من حرية إبليس ليكون حرا مختارا حتى يمكن تفعيل عقيدة الحساب يوم الدين بمسئوليته عن فعاله التي اختارها بخلقته الحرة. فحدثت أول الشرور لأن الأصل في الخلق البشري هو الحرية المطلقة غير المقيدة بقيم ثوابت رواسخ لا تقبل تبديلا على العكس تماما من حال إبليس. أي أنه على أي حال بين النقيضين فإن الأصل في الخلق هو الحرية، حرية إبليس في ألا يسجد إلا لله، وحرية آدم في الاختيار دون حد هذه الحرية، في درس رباني بليغ يشرح كيف جاء الشر بعصيان الرب من أعرف الخلق به وأقربهم إليه، من إبليس طاوس الملائكة، ومن آدم الذي خلق الله الدنيا كلها من أجله. فإن قالوا إن قيمة الخير غير قابلة للتعريف، نقول: إن الخير هو بشديد البساطة = الحرية.
والدرس المستفاد هنا من ترتيب رب العزة للأحداث التي ما كانت تحدث إلا بإرادة منه وتصميم مسبق، أن الأصل في الخلق هو الخير والخير هو الحرية التامة، وأن الأصل في الشر هو الانتقاص من هذه الحرية بأوامر ونواه تحد أو تحظر أو تمنع، الله يريد أن يبلغ أصحاب العقول منا أنه كلما زادت القيود والفتاوى والخطوط الحمراء، قلت الحرية، واستفحل الشر. (10) لا حريات إذن لا قيم
يذهب الشيخ قرضاوي إلى آيات القرآن الكريم يستخرج لنا القيم الدينية الإلهية، كما في الآيات الكريمة القائلة:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (المؤمنون: 1-11).
ويعقب فضيلة الدكتور بقوله: «في هذه اللوحة نجد الخشوع في الصلاة والفعل للزكاة هي معدودة في إطار الشعائر والعبادات جنبا إلى جنب مع الإعراض عن اللغو وحفظ الفروج عن الحرام» (ص92-93، كتاب ملامح المجتمع المسلم).
بل يرى الشيخ أن هذه الأخلاق الإلهية ليست قاصرة على المسلمين فقط فهي صالحة للدنيا كلها، فيقول: «المرجعية الإسلامية من سماتها أنها عقلانية ودنيوية، عقلانية مؤمنة، ودنيوية مربوطة بالأخروية، هي أخلاقية إنسانية عالمية وسطية؛ لأنها ترجع إلى الوحي الإلهي، وما يبينه من سنة الرسول؛ لأن الإنسان هو الذي يطبق هذه الشريعة وهو الذي يفسرها ويفهمها، وهي أخلاقية لأنها تعتمد على الأخلاق أساسا، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهي عالمية لأنها لم تجئ لجنس دون جنس ولا لإقليم دون إقليم، وهي وسطية دائما، تجدها مثالية وواقعية ربانية وإنسانية، ومادية وروحية، أرضية وسماوية، حاضرية ومستقبلية» (حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة).
وهكذا فالمسلمون هم من تصفهم الآيات بقولها:
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (الشورى: 37-40) (كتابه ملامح المجتمع المسلم، ص94).
إذن لا شك أن أولى الناس بمعرفة القيم كما عند قرضاوي، هم السلف الصالح من الصحابة الأطهار، ورغم ذلك لا نجد بين ما تزدحم به أرفف مكتبتنا التراثية، عنوانا واحدا باسم القيم، ولا مبحثا ولا حدثا ولا حكاية حكاها السلف الصالح عن القيم.
إن مشايخ زماننا يحكون لنا حكايات وحواديت في موطن الجد، وكان المفترض ألا يحكي لنا المشايخ كلاما نظريا توهميا عن القيم، إنما أن يستخرج لنا أحداث تاريخنا، خاصة أن المفاهيم قد تغيرت دلالاتها منذ ذلك الزمان وزماننا اليوم، فما عاد معنى الوفاء بالعهد ولا المساواة ولا الحق يحمل الدلالات القديمة ذاتها. ومشايخنا يسقطون الدلالات المعاصرة على مفاهيم قديمة تتعلق بزمنها ومكانها وحدهما. أو ليقول لنا مشايخنا إذن ماذا فعل الصحابة، وكيف قيموا الأشياء المادية وكيف قيموا المعاني الدافعة للسلوك، بدلا من أخذهم كلام ديكارت وروسو وفولتير، عند المشايخ 700 ألف حديث المفروض أن كلها قيم لو كانوا صادقين، فأين هي هذه القيم؟
تعالوا نفترض مع مشايخنا أنه ضمن القيم الإلهية الإسلامية تقع قمة المساواة والحرية، وقررنا اختبار هذا القول بالرجوع إلى التراث الإسلامي ذاته، هناك لن تجد ما تعنيه دلالة مصطلح المساواة اليوم، فقد أعطى الإسلام للمهاجرين ميزة على الأنصار، وأعطى كليهما ميزة على بقية العرب، وأعطى للعرب المسلمين ميزة على مسلمي البلاد المفتوحة «الموالي»، وأعطى للرجل ميزة على المرأة، وأعطى للسادة ميزة على العبيد، وأعطى جميع المسلمين ميزة على أهل الذمة، وأعطى أهل بدر ميزة على بقية المسلمين فغفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وكل رتبة من هذه الرتب تترتب عليها حقوق وواجبات غير بقية الرتب، وهو بدلالات مفهوم المساواة اليوم، سيكون انعدام المساواة نفسها، ولا تجد عند عرب الجزيرة قبل الفتوحات شيئا اسمه العلم غير علم واحد هو علم الأنساب، وهو علم عدم المساواة، حتى إن النبي نفسه
صلى الله عليه وسلم
ولأنه كان يخاطب ناس زمانه على قدر عقولهم، كان ينصح شاعره حسان بن ثابت قبل أن يقدم على هجاء الناس، أن يلجأ إلى أبي بكر الصديق لأنه عالم بأنساب الناس، ليعلم أين يخوض ويتحرى وأين يحاذر، ولا تجد أي صدى لحديث: لا فضل لعربي على أعجمي؛ لأن الفقه الذي يدرسه أبناؤنا بمصر والسعودية يؤكد على وجوب فسخ زواج الحرة المسلمة بالعبد المسلم، وزواج العفيفة بالفاجر، والعربية بالأعجمي؛ لأن ذلك عار يلحق المسلمين جميعا (روض المربع بشرح زاد المستنقع، ص384).
لهذا فإن تفضيل الإسلام بجعله سابقا لكشف القيم يسيء إليه، والأكرم أن نقول إن تلك كانت طرائق زمنه وطرائق العيش فيه ونظمه المجتمعية القبلية، وإنها لا تشينه، فلا هي جميلة ولا هي قبيحة بقدر ما تعبر عن واقع مجتمعها حينذاك وأنها كانت تناسب هذا المجتمع تحديدا، وإن صلحت له فهي مما لا يصلح بالمرة لزماننا. ومثل المساواة أيضا مفهوم الحرية الذي لا يوجد في ديننا بالمرة وبالمطلق، ولا في مجال لأي حديث عن الحرية مع تشريعات تشرع الرق ونكاح ملك اليمين. ولو قلنا إن تلك التراتبية الطبقية الموغلة في طبقتيها هي المعيار القيمي الإلهي؛ فهو ما يعني أنها كانت أدنى بدرجات من المعيار الإنساني الذي اكتشفته دول حضارات المتوسط، وبخاصة اليونان والروم الذين سبقوا إلى تأسيس القيم الإكسيولوجية في التاريخ، ثم أدنى من قيم زماننا بمراحل أبعد؛ ومن ثم لا يبقى بيدنا سوى نسبة مثل هذه المفاهيم لزمانها بدلالات زمانها، ودون إقحامها في زماننا حتى لا نهين الدين ونضل السبيل نحو الرشاد.
وإذا كانت القيم دينية إلهية، فهل كانت قابلة للنسخ كأوامر بآيات ناسخة؟ يعني هل تم نسخ قيم التسامح في الزمن المكي، بقيم القتال في الزمن المدني، بعد أن نسخت آيات السيف كل آيات حرية الاعتقاد والتسامح حسبما تقول لنا علوم القرآن؟
إذن صيانة للدين من عبث مشايخ آخر الزمان، علينا أن نقدم اعترافا هادئا متواضعا، أن ديننا ليس هو كمال الأزمنة والأمكنة التي ذهبت والتي لم تأت بعد، إنما كان دينا عاقلا رصينا متوافقا مع ظرفه التاريخي، يخاطب ناس زمنه على قدر عقولهم وعاداتهم وتقاليدهم ونظمهم ومعارفهم، وأن نسلم بأن الإنسان هو الوحيد المخير بين المخلوقات؛ لذلك هو الوحيد المؤهل لصيانة القيم؛ لأنها معياره للاختيار والمفاضلة ووسيلته وأداته، أن يختار القراءة في المصحف أو أن يختار مشاهدة هيفاء وهبي تتغنج، وقيم الإنسان هي التي توجهه لاختيار أحدهما: زيارة الحسين أو زيارة الملاهي الليلية، والحرية هي الأساس الوحيد لقيام إرادة الاختيار ما بين الماء والخمر، من هنا وحتى نقول بوجود قيم حقيقية لا أوامر مفروضة، يجب أن يكون الخمر والماء في السوق، عندها يمكن القول إننا أصحاب قيم عندما نختار، وحيث لا توجد سوى سلعة واحدة، ولا توجد حرية اختيار، لا يصح الحديث عن قيم؛ لأن المجتمع حينها يصبح كالحشرات وهي كائنات اجتماعية تسلك بموجب جبر طبيعي لذلك ليس لديها شيء اسمه القيم، رغم أن النحل ينتج عسلا والعقرب ينتج سما، فإن الإنسان هو الوحيد القادر على الفرز بينهما، لذلك نجد الإنسان المجبر على أداء سلوك بعينه هو مجرد حشرة أو هو ليس أكثر من حصان بلجام. والحصان لا يملك قيما، ومع اللجام لا يملك تصرفه ولا قراره. القيمة تكون عند الممسك باللجام، الذي يوجه الحصان. ألا ترون جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسوق الناس إلى الصلاة بالعصا؟ يسوقونهم إلى المسجد كمن يسوق الخراف إلى الزريبة، بينما الملائكة مسيرة للتعبد وحده وغير مخيرة في فعلها ونحن لسنا بملائكة، وعندما تكون القيم مفروضة لا نكون قد أصبحنا ملائكة، ولا نكون بقينا بشرا، إنما أصبحنا حيوانات للراعي، وأدنى بالنسبة له من العبد بالنسبة للسيد، فلماذا لا يستشعر السيادة ويقرعنا بالعصا؟
عند تمييز الإنسان عن الحيوان وضع الفلاسفة تعريفات للإنسان، فقيل في المبتدأ إن الإنسان حيوان ناطق، حتى اكتشف الإنسان أن لبعض الحيوانات لغات خاصة للتفاهم فيما بينها، فقيل إن الإنسان حيوان عاقل أي يستخدم عقله في الفهم والمعرفة، حتى تأكد أن العقل قسمة بين الحيوانات؛ ومن ثم جاءت الفلسفة الماركسية لتعرف الإنسان بأنه حيوان صانع؛ لأنه الوحيد بين الحيوانات الذي يستطيع أن يصنع شيئا لم يكن موجودا من قبل، حتى قيل اليوم إن الإنسان حيوان قيمي؛ فهو والحيوان يشتركان في كل التفاصيل الفسيولوجية، لكن الإنسان من بين كل المخلوقات هو الذي يتميز بأنه يصنع لنفسه ولمجتمعه قيما، ويصنع لهذه القيم قوانين تحميها فيتنازل بإرادته عن إشباع بعض رغباته مقابل العيش في الجماعة آمنا.
فالحرية لا مناص عنها عندما نتحدث عن القيم؛ لأن الحرية هي ما يتيح لي القدرة على التقييم والمعايرة والمفاضلة والاختيار، وحيث لا توجد حريات، لا توجد قيم.
والقيم الأخلاقية بالتحديد وبالتخصيص هي سلوك غيري، يضع الغير نصب عينيه عند أي سلوك، وعادة ما تكون في صالح الغير ولا تنفع فاعلها وعادة ما تضره، ورغم ذلك يفعلها الإنسان لذاتها دون أن يتوقع منها نفعا شخصيا. فعندما يكون التاجر أمينا وصادقا فهو يخسر أرباحا أكثر لو التوى وكذب ، والتزام الزوج بالوفاء للزوجة يحرمه من متع متنوعة، وعندما يحسن الإنسان بماله وجهده للفقراء؛ فهو يخسر أمواله، والامتناع عن السرقة هو حرمان من المال المفترض أن يسرق، بينما الزوجة التي لا تخون زوجها خوف القتل أو الطلاق أو الجحيم هي لا تملك أية قيم، هي خائفة ليس أكثر، واللص الذي لا يستطيع أن يسرق في السعودية لم يصبح شريفا وليس صاحب قيمة أخلاقية، بقدر ما هو خائف من قطع يده. والذي يحسن للناس علانية ليس لديه قيمة أخلاقية لأنه مجرد منافق، والأم التي ترعى ولدها كي يطيعها ويرعاها في كبرها هي مجرد مرابية تداين ولدها بدين تريد استرداده.
هذا بينما الفعل المندرج تحت معنى القيم غالبا ما يرتد على صاحبه، وهو ما وعاه المثل العامي المصري: «خيرا تعمل، شرا تلقى»، لكنه هو نفسه ورغم علمه بذلك الذي قال: «إعمل الخير وارمه البحر»؛ لأن الالتزام بقيم الأخلاق يعود على المجتمع كله بالأمن والسلام والسعادة (النماذج المضروبة في الفقرة السابقة لكاتب مجهول على النت).
وإذا كان فقهاء زماننا يطلبون لنا عادات وتقاليد زمن الإسلام الأول، فإن ذلك يستلزم أولا وجود الحكومة الإسلامية الأولى أو شبيهها، وثانيها وجود مجتمع القرن السابع الميلادي بنظمه وعاداته وتقاليده وبدائيته، وكله غير موجود اليوم، ومن ثم فإن أحكامه وعاداته وتقاليده لم تعد موجودة، ولا شك أن قيم مجتمع يركب الدواب لا بد أن تختلف عن مجتمع يركب سيارة كاديلاك أو غيرها من أحدث الطرز، وقائد الطائرة الذي يتعامل مع الطائرة معاملة البقرة المقرونة (المربوطة من قرونها) بدعائه في الميكروفون عند الإقلاع: «الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون»؛ أي ما كنا بقادرين على تلجيمها وإمساكها من قرونها دون تسخيرها لنا من قبل ربنا، (إن المشكلة النفسية أنك تتابع بهلع أخطر لحظة للطيران، ويقول لنا الطيار: إنا لمنقلبون!) مع إن المصري في مثله الشعبي يقول: (الملافظ سعد)، طيارنا عندما يقول هذا يكون كالعربجي يقود طائرة، وعليه فإن طيارينا لا يطيرون بنا بثقافة الطائرة (الحضارة والعلم)، إنما بثقافة العربجي؛ لذلك أنا شخصيا لا أحجز للسفر على أي شركة طيران عربية، ويا روح ما بعدك روح!
وعادة ما يربكك مشايخنا في القول بالنقيضين في آن واحد، فهم يحدثوننا عن العفة الجنسية والطهارة الجسدية، ومع ذلك يقرون حتى اليوم بملك اليمين، ولا يحيلونها إلى زمانها توقيرا لهذا الدين، ولا تفهم معنى العفة الجنسية وعفة الفروج، مع مبدأ استباحة الفروج في حال القتال، أو في حال الشراء أو في إعطائها الأجر، وقد تم استباحة مسلمين صحابة أجلاء لفروج صحابيات وبنات صحابة في أكثر من موقعة مخزية في أكثر من فتنة داخل الحرمين، تمترس كل أطرافها المتصارعين وراء الدين والقرآن والحديث. واعتبر غيره مرتدا، وبعدها أصبح هذا رافضيا وذاك من النواصب وهذا باطنيا وذاك خارجيا. هذا ناهيك عن استباحة فروج غير المسلمات في حروب الفتوحات واللائي كن بمئات الألوف.
وإذا كان فقهاء زماننا يصرون على الإبقاء على فقه كامل هائل للرقيق بدرسه أولادنا وبناتنا في مدارسنا الدينية حتى اليوم، والإبقاء على فقه الجهاد الذي يشمل السبايا والرقيق كغنائم طيبة حلال، ويريدون اليوم تطبيق هذه الشريعة، فلماذا لا يصارحون المسلمين بما يخفى عنهم في شئون دينهم بشفافية ووضوح، ويطالبون لهم بحقوقهم الشرعية في ملك اليمين، ووجوب إعادة فتح أسواق الرقيق مرة أخرى، حتى يمكن تفعيل الشريعة؟
ثم إن قيمة عدم الزنا لا شك قيمة محترمة، وحفظ الفرج قيمة محترمة بالتأكيد، لكن الخلاف هنا سيكون حول تعريف معنى الزنا. فالإسلام يعطي المسلم الحق في الزواج بأربع ويمكنه تطليقهن والزواج بغيرهن ما دام قادرا على الإنفاق، وهو ما فعله الصحابة، فتزوج الراشدون حتى تسع نسوة، وجمعوا ملك اليمين دون تحديد، وكان الحسن بن علي منكاحا لم يلمه أحد على زيجاته التي بلغت حوالي المئتي زيجة، وهو من هو؟! هو الحفيد النبوي العالم بشرع الله والأشبه بجده كما قال عنه النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومع كل هذه الإباحة لن يرتكب القادر ماليا جريمة الزنا، من سيقع في الجريمة هو الفقير الذي لا يملك مهرا ولا ثمن جارية؛ وهو ما يعني لنا اليوم بعد تغير الأزمان أن نساء المجتمع المسلم سيكن من نصيب الأغنياء وحدهم القادرين على الزيجات العديدة وشراء الغواني من سوق الرقيق، وهو أيضا ما يعني حرمان الفقراء من إشباع حاجتهم الطبيعية في ظل المزايدة على النساء، وهو ما يشكل بمعنى من المعاني طبقية من نوع شديد الخصوصية وشديد القسوة على المجتمع كله، الذي لا بد في هذه الحال أن يضع حلولا لهذه المشكلة حتى لا تنتشر فيه الرذيلة وجرائم الخطف والاغتصاب، عن طريق دعم الحكومة الإسلامية المرتقبة للفقراء، ورحم الله أخي فرج فودة عندما قال بضرورة إضافة بند إلى بنود بطاقة التموين الخضراء (دعم كلي)، فيضاف إلى بنود الزيت والشاي والسكر والسمن، بند بعدد من النسوان كملك يمين، حتى لا يحدث تفكك مجتمعي وحتى لا تنتشر الرذيلة تحت ستار تطبيق الشريعة.
نعم لا شك أن الآيات الكريمة عندما تصف المؤمنين بأنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون، فإنها تضع مبدأ رفيعا وإنسانيا، لكن هل طبق المسلمون ذلك فعلا؟ أو هل طبق صحابة الرسول هذه القيمة العظيمة حتى يحذو المسلمون حذوهم؟
أبو بكر الصديق خير عارف بالدين، عندما رفضت قبائل العرب الاعتراف ببيعته ومنعوا الزكاة تعبيرا عن هذا الرفض ووزعوها في مضاربهم على فقراء من ذوي قرباتهم حسب الأمر الإسلامي، أمر أبو بكر بقتالهم وذبحهم وأسرهم وسبي نسائهم، فقتلوا منهم مقتلة عظمى في مذبحة تاريخية كبرى لم يسلم منها الشيوخ ولا العجائز ولا الأطفال وهي حقائق يعلمها مشايخنا وتسجلها كتبنا التراتبية بكل فخر واعتزاز ولا يخلو منها مصدر من مصادرنا حديثا أو فقها أو تفسيرا أو سيرة أو تاريخا.
وماذا حدث عندما سمع أهل مدينة (أليس) جنوبي الفرات بما حدث لغيرهم على يد الغزو العربي، فقرروا المقاومة صيانة للأموال والأعراض؟ وهو ما أغضب خالد بن الوليد، فأقسم بالله أن يجري نهرهم بدمائهم، وأمر بسد مياه النهر، ثم أمر جيشه بأسر أهل أليس لا قتلهم، حتى يفي بقسمه لله، فجمع منهم سبعين ألف أسير، وأمر بذبحهم في مجرى النهر الجاف، واستمر الذبح ثلاثة أيام يأتون مصدفين بالحبال أرسالا (أي جماعات) ليذبحوا في مجرى النهر كي يجري بدمائهم، وحتى يبر خالد بقسمه لربه.
أين يا مولانا يمكن وضع هذه الدراما المرعبة من قيمة العفو عند المقدرة والغفران عند الغضب؟ وماذا عن قمع سعيد بن العاص لثورة مدينة طميسة، وعدد المدنيين الهائل الذي أخمده، ولم يستطع أن ينام حتى تم إسكات كل الأصوات من حوله، سواء أصوات الثكالى بقتلهن أو أصوات الجرحى بتعجيل موتهم (لا يخلو مصدر من مصادر السير والتاريخ الإسلامي من ذكر تفاصيل هذه الوقائع).
هل هذا ما يعرضه علينا مولانا عند الغضب؟ أم كان أبو بكر وخالد وغيرهما من أبطال الفتوحات يفعلون ما هو ضد قيم الإسلام؟ إما هذا وإما ذاك ويجب أن يختار مشايخنا: إما الاعتراف بحقيقة ما حدث وتسميته باسمه حتى نصدقهم ونحترمهم، وإما أن يظلوا على حالهم الهارب طوال الوقت من المناقشة العقلانية، وهو طريق وسكة بدأناها مع الصحوة الإسلامية، اسمها سكة اللي يروح ما يرجعش.
الجزء
جدل ثقافي
الفصل الأول
حوار لم يكتمل مع المرحوم عبد الوهاب المسيري
رحم الله أخي الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي كان يملأ حياتنا الثقافية ثراء وحراكا، قد أخالف المسيري في بعض ما كتب أو قال، أو في معظمه، لكن ذلك لا يعني سوى المخالفة في الرأي، ولا يقلل من احترامي لإخلاص الرجل لفكرته ودأبه العملي وبحثه الرصين الذي أعطاه حياته، سواء أكانت نتائج هذه الأبحاث إيجابية أم سلبية حسب وجهة نظر القارئ ودرجة ثقافته وحياديته ومدى اتفاقه أو اختلافه مع المطروح.
وقد سبق لي أن التقيت هذا الباحث المجتهد خلال برنامج الاتجاه المعاكس بقناة الجزيرة للحوار حول العلمانية والاستبداد، وقد تم تقديمه بوصفه مفكرا إسلاميا وتم تقديمي بوصفي مفكرا علمانيا، على قبول من كلينا بهذه التعريفات، ورغم اختلافنا بالكامل، فقد خرجنا من الأستوديو يتوكأ كلانا على الآخر، مع اتفاق مبدئي على لقاء شخصي نستكمل فيه مناقشة القضية بشكل أوسع وأكثر تفصيلا.
وبعدها بأيام فوجئت في صحيفة إسلامية إلكترونية بحوار مع الدكتور المسيري يقول فيه إنه لو كان يعلم أني الذي سيناظره على الجزيرة ما قبل هذه المناظرة. ولأن الرجل لم ينشر ذلك مكتوبا بقلمه، فإني لم أعتد به، خاصة مع تجربتي مع الصحافيين الذين أسمح لهم بإجراء الحوارات معي فيشوهونها ويقولون على لساني ما لم أقل؛ ومن ثم اعتبرت القول منسوبا للدكتور المسيري وربما لم يقله قط؛ لأنه كان أعقل من قول هذا بعد مبارزة فكرية خرج منها مهزوما، وهو ممن لا يلجئون إلى النقمة عن عدم كسب الجولة، فلا هو الإرهابي كمال حبيب ولا هو سفيه لندن هاني السباعي ولا هو التافه رفعت سيد أحمد، إنما هو باحث محترم.
ولكن المرض لم يمهل الرجل وسافر إلى سبيله الأخير بعد أن ترك لنا أعمالا أقل ما يقال بشأنها إنها رمز تفان وإخلاص الرجل لما كان يعتقده صوابا.
ولأن الموضوع المطروح كان شديد الأهمية له ولي، وهو محل كتب وأبحاث لي وله على تناقض موقفينا، فقد رأيت أن أستكمل النقاش مع طروحاته في كتابيه الشهيرين عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، في انتقاءات سريعة لمناقشتها من وجهة نظري كرجل علماني يفخر بعلمانيته ويزهو ويترفع، وإذا كان ثمة تعقيبات أو ردود خاصة، فإن الرجل لقي ربه لكن كلامه لم يمت، وله من المريدين والزملاء والتلاميذ من يمكنهم متابعة هذه المناقشة والقول فيها إن شاءوا.
في الجزء الأول من كتابه عن العلمانية يقول المسيري في المقدمة (ص5): «ستحاول هذه الدراسة أن تتناول قضية العلمانية في جانبيها النظري والتطبيقي، من منظور نتصور أنه مختلف بعض الشيء عما هو سائد وشائع، فنحن نفرق بين ما نسميه العلمانية الجزئية التي هي فصل الدين عن الدولة، وبين العلمانية الشاملة التي هي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة، في جانبيها العام والخاص.»
هنا نجده يقسم القيم إلى ثلاثة أنواع مختلفة، وهي القيم الإنسانية والقيم الأخلاقية والقيم الدينية، وهو تقسيم نوعي كيفي يجعل القيم الدينية شيئا والإنسانية شيئا والأخلاقية شيئا ثالثا.
بالنسبة إلى القيم الإنسانية منسوبة إلى الإنسان بحسبانه واضعها ومكتشفها، فهل ما نراه من القيم من نوع القيم الأخلاقية التي تحدث عنها الفلاح الفصيح في مصر القديمة، أو أفلاطون في بلاد الإغريق، فهل القيم الأخلاقية الإنسانية لا تتطابق مع القيم الدينية؟
ولو افترضنا وجود «قيم دينية» فعن قيم أي دين نتحدث، قيم البوذية أم الإسلام أم الهندوسية أم المسيحية أم اليهودية ... إلخ؟
في كتابه يجمع الدكتور المسيري كل الأديان في سلة واحدة في مواجهة ما أسماه القيم الإنسانية والقيم الأخلاقية، رغم الاختلافات البينية الشاسعة بين الأديان. بالتدقيق ستجد أنه قد أصاب كبد الحقيقة لأن القيم الإنسانية التي أبدعها الإنسان وطورها حتى يومنا هذا أنكرت العبودية واستنكرتها وحرمتها، ولم تعد تقرر سبي الجواري كما كان في الدين، وإذا كان الدكتور يرفض العلمانية الشاملة لأنها تفصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة، فهل هو مع القيم الإنسانية أم مع القيم الدينية في مثل هذا الموضوع؟ كان عليه أن يعلن اختياره، هل مثلا يقر القيمة الإنسانية في حرية الاعتقاد؟ وهل يرفض القيمة الدينية في الاتجار بالبشر وهتك عرض المغلوب؟ هلا أعلن أن نكاح ملك اليمن هو اغتصاب وعمل أصبح في أيامنا لا يتفق مع الأخلاق وقيم الإنسانية، وأن البشرية هجرته إلى غير رجعة؟
وفي الفصل الثالث من الجزء الأول يرصد المراجعات التي حدثت بشأن مصطلح العلمانية في الشرق والغرب، ثم يضيف قوله: «وهو ما يعطينا الحق في إعادة تعريفه بطريقة نرى أنها أكثر تفسيرية من التعريفات المتناقضة المتداولة الشائعة.»
المشكلة أن الدكتور المسيري كان يقدم نفسه بوصفه «المفكر الإسلامي»، وهو بهذه الصفة يعلم أنه ليس من حق المسلم التحاور مع ثقافته الدينية وثوابتنا القدسية؛ لأنها لو نوقشت ما صارت ثوابت، فإذا لم يكن من حقه التحاور الحر مع تراثه فلماذا يجهد نفسه ويجهدنا معه في البحث عن عيوب الآخرين أصحاب العلمانية الشاملة؟ وما هو العائد الذي سنستفيده من إصلاح المسيري لعلمانية ناس آخرين في بلاد غير بلادنا ولغات غير لغاتنا ومفاهيم غير مفاهيمنا؟ هل ترانا قد أكملنا نقد ما لدينا هدما وبناء وتحليلا وتركيبا، لإظهار العيوب واستكمال القصور المسبب لتخلفنا في ذيل الأمم، حتى نجتهد في تعريف الآخر بعلمانيته التي صنعها بيديه، ناهيك عن نقدها؟!
إن القيم الدينية ليست فعلا على خريطة العلمانية أكانت شاملة أم جزئية، وإلا ما عادت العلمانية علمانية، وإن أصحاب العلمانية الذين أنجزوها قيمة متميزة أثمرت وآتت حصادها على كل لون من العلوم والفنون والكشوف، هي قيمة نسمح للمختلف معها بنقدها دون تكفير واستتابة أياما ثلاثة، يأخذ بها من يريد ويرفضها من يريد وهو آمن، ودون تهديد غير المؤمنين بالعلمانية بالقتل أو تفريقهم عن زوجاتهم، ولم نسمع أن علمانيا أرسل تهديدا بالقتل للمخالفين، ولا طعن أحدهم في عنقه، وإذا كان هذا هو حالنا فهل ترانا نملك الحق في أن نعيد بفكرنا وعقلنا تفسير فكر العالم المتمدن العلماني نيابة عنه؟
إن العلمانية ليست بكل هذه المشقة التي تحتاج إلى تدبيج الكتب لرفضها؛ فهي سلعة لها نتائجها العملية الواضحة أمام عيوننا مطروحة في سوق الفكرة بخيرها وبشرها، من شاء أخذ بها ومن شاء ألا يأخذ بها فلا يأخذ؛ لأنها على الأقل لم ترسل إلى حدود بلادنا جيشا غربيا ينادينا: إما العلمانية وإما الجزية وإما الحرب وما يترتب عليها! والمعنى أن العلمانية كفكرة وإجراءات وقواعد ومؤسسات لها أصحابها الذين صمموها وطوروها عبر سنين من تراكم الخبرة بين الخطأ والصواب؛ لذلك هم الأدرى بمعناها وليس نحن، هم الأدرى بمكوناتها الدقيقة ونحن علينا أن نستمع لصاحبها وهو يشرحها لنا، هكذا جلسنا نستمع لأفلاطون في جمهوريته، ولآينشتاين في نسبيته، ولأحمد زويل في الفيمتو ثانية، وللمعتزلة ومبادئهم الخمسة، فليس من حق المختلف وغير المنتج أن يشرح ويفسر فكر الخصم المنتج، لنقده سلبيا من باب تصغيره وتحقيره وتبخيسه وتنجيسه حتى نجتنبه حرصا على طهارتنا.
إن من يواجه نظرية علمية بجديد يقدمه يجب أن يكون عالما في التخصص ذاته، ومن ينقد نظرية سياسية لا بد أن يملك الفلسفة؛ البديل الأفضل الذي سيعرضه على الناس ، ومن يواجه الفلسفة يواجهها بفلسفة مثيلة أكثر إقناعا، والمذهب الديني يواجه مذهبا دينيا مثله، لذلك فإن مواجهة العلمانية بالدين وقيمه، يعني أنها دين مقدس وهي لست كذلك، فلا هي تملك دورا للعبادة ولا لديها كتاب مقدس ولا حدود لها، ولا تشترط لنفسها أي خطوط حمراء ولا تفرض نفسها على أحد، تقبلها أو ترفضها سواء عندها؛ فهي شأن بشري لا يصح وضعه في مقابل ما هو رباني ثابت له كتابه وقدسيته وأوامره ونواهيه وطقوسه وله خطوطه الحمراء وحدوده التي لا يمكن تجاوزها. إن المقارنة هنا مقارنة باطلة، فالدين هو باب البشرية إلى جنة الرب أو ناره، حسب ميزانه ما بين طاعة وعصيان للتحريم والتحليل الذي تم تعريفه دينيا بدقة ووضوح. بينما ما نمارسه وفق العلمانية من فكر أو عمل أو نشاط فهو مما لا يدخل في ميزان الحسنات والسيئات، فكل اختراع أو فن أو اكتشاف أو نظرية فلسفية، أو إنجاز طبي أو شكل اقتصادي أو سلوك اجتماعي مدني، هو من آليات العلمانية وكله خارج نطاق الدين، لأن إجادة اكتشاف شيء نافع للبشرية بالعقل البشري لا الديني مثلما فعل باستير أو إديسون، فإن ذلك حسب الدين الإسلامي لن يدخلهما الجنة، وفشل علماء بلادنا في المساهمة بأي كشوف حضارية باعتبارهم من أعداء العلمانية لن يدخلهم النار أو لكان كل علماء الغرب الكافر مقرهم في الجنات العلى ينعمون بحضرة الرحمن الفردوسية، ولكان باستير بصحبة داروين وآينشتاين وغيرهما يزفون الآن إلى الحور العين تستقبلهم الملائكة بالدفوف والبيارق.
إن أصحاب القيم الدينية لم يتمكن أحدهم من القضاء على مرض واحد من أمراض البشرية، رغم الطب النبوي والمعجزات الكنسية والظهورات القدسية التي نسمع عنها ولا جدوى لها في واقعنا؛ فهي كالعنقاء والقنطروس ورجل الثلج وأبي رجل مسلوخة، بينما تمكنت قيم العلمانية الإنسانية الوضعية من القضاء على أمراض وبائية فتاكة كانت تطيح بكل المؤمنين من كل لون في إبادات جماعية دون رحمة، أين الطاعون اليوم؟ أو الكوليرا؟ أو السل؟ أو الزهري؟ أو السيلان؟ أو الجمرة الحمراء؟ أو السعال الديكي؟ أو الجدري؟ لذلك من الظلم البين وضلال النتائج إجراء أي مقارنة بين قيم الإنسان وقيم الأديان، هو ظلم لكليهما.
ووفق هذا المعنى يمكننا القول إن الدين نفسه وقيمه يمكن ألا يكون ملزما للحياة المدنية العلمانية اليوم، ليس لخصام بينهما ولكن لأن الزمن قد انتقل نقلة حضارية مختلفة بالمرة، من زمن الأديان إلى زمن العلمانية. فحديث القرآن عن الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ليس ملزما لنا اليوم في ضوء المنجز الحضاري العلماني، فهناك الباجيرو الهمر والمرسيدس والفيراري والطائرة، وإذا استخدمناها لن نرتكب معصية لأن هذه أمور دنيانا ولا علاقة لها بالدين؛ فالدين ليس أكثر مما يدخل في ميزان الأعمال تهيئة للطريق إلى الجنة أو النار، وما عدا ذلك هو شأن عملي حضاري علماني بالكلية.
والدكتور المسيري نفسه عندما كتب مؤلفيه في العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، كان في خلفية المشهد إشارات سريعة تؤكد علمه اليقيني بما نقول هنا، كما في قوله بالمجلد الأول ص9: «وقد كتبت هذه الدراسة بروح استكشافية، ولا يمكن أن أزعم امتلاكي اليقين الكامل، فمثل هذا اليقين مسألة إيمانية لا علاقة لها بالبحث العلمي.»
ورغم ذلك فإن قوله كان بحاجة إلى بعض التحديد والتدقيق خاصة فيما يقصده بمسألة يقين إيمانه، فهناك أعداد من اليقين الإيماني تساوي عدد الأديان والمذاهب في العالم وهي بمئات الألوف؟
ولو كان يقصد اليقين الإيماني بالإسلام وحده فهو بدوره مذاهب متعارضة متصارعة، تختلف جميعها حول معنى اليقين الإيماني، فيقين السنة غير يقين الشيعة، غير يقين المعتزلة، غير يقين فرق الشيعة وبعضها، غير يقين فرق السنة وبعضها، ويقين حماس غير يقين أحمدي نجاد غير يقين طالبان؛ وهو ما يعني في الخلاصة أن الدين يؤدي إلى التعدد في اليقينيات، وهو ما يعني اللايقين بالمرة، بينما العلمنة هي فكر واحد واضح بيقينه الذي هو العلم والارتقاء بالإنسان حضارة وأخلاقا وقيما، وأن هذا اليقين نسبي قابل للتعديل حسب المتغيرات للأفضل دوما. وعليه فالعلمانية بشكلها الحالي ليست نهاية المطاف أو نهاية التاريخ كما ذهب فوكوياما؛ فهي ليست قرارات سماوية بل هي إنتاج إنساني متطور دوما نحو الأفضل سواء في المكتشفات أو الاختراعات أو الفلسفات أو الفنون أو بقية العلوم والأخلاق والآداب الاجتماعية والنظم السياسية هي كائن حي يتطور بتطور البشر وحاجتهم.
الدكتور المسيري كمفكر مسلم حداثي (إن جاز التعبير) يقول ص17ج1: «نحن نذهب إلى أن ثمة فصلا حتميا نسبيا للدين والكهنوت في كل المجتمعات الإنسانية تقريبا.» بينما العلمانية تقول باستقلال تام لا نسبية فيه، حتى يتمكن الدين من الاستقلال عن الدولة والسياسة ويقوم بدوره المنوط به بتعريف الناس الطريق إلى الجنة، وتربية الضمير الحي بالطقوس والروحانيات، وحتى يتفرغ المجتمع والدولة إلى إدارة شئونهم وفق مصالحهم وحسب الظروف المتغيرة، وهو تفرع وانفصال مطلوب عن الدين، للتخفيف من ارتباك العقل بين النسبي والثابت، ويعطيهم الدافع لخلق جنتهم على الأرض بالعلم، والعمل، والإنتاج، ولا بأس من دعم معنوي من رجال الدين بالدعاء للعلمانية بالنجاح في مساعيها للارتقاء بالإنسان وتحقيق أمانه وعلاجه ورفاهيته وسعادته.
ومثل هذا الفصل التام سيرفع يد المؤسسة الدينية عن مؤسسات الدولة؛ لأن كل يد تدخل إدارة الدولة وليست منها ولا من مهامها، هي يد جاهلة بالإدارة لا تبغي سوى مكاسب يحققها هذا التدخل بالتحالف مع إدارة الدولة ضد المجتمع، ويحصل كل على نصيبه من الفريسة في مجتمع استبدادي يستمد فيه السارقان مشروعيتهما منهما معا، وهو تحالف تاريخي عرفته منطقتنا طوال تاريخها الأسود البغيض، وآن أوان فك عراه.
وكي يخلق الدكتور المسيري الاتصال النسبي إزاء الفصل الحتمي ما بين الدين ورجاله وبين المجتمع؛ فإنه يعطينا تعريفا للدولة يجعلها بحاجة إلى وجود الدين ورجاله؛ فهو يقول (ص18، ج1): «الدولة هنا تعني في واقع الأمر بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني مثل الجوانب البيروقراطية في إدارة الدولة، أو شراء نوع معين من الأسلحة، أو مناقشة أمور فنية تتصل بالميزانية العامة وهي أمور لا يعرفها سوى الفنيين، ولذا فليست في إمكان رجال الدين مشايخ أو قساوسة.» العبارة تبدو علمانية بشكل ناصع، لكنه تحدث عن الجوانب العلمية الفنية باعتبارها هي الدولة، ولكن يبقى الأهم والذي تعمل بموجبه كل هذه الشئون الفنية وهو دستور هذه الدولة، وشكل حكمها، وأنظمتها القانونية، وفلسفتها العامة التي تحدد مصالحها العامة. وهنا يورب الباب من خلف الستارة ليمر الدين ورجاله ليجلسوا في دماغ الدولة.
والرد السهل البسيط على هذا التعريف يحدث على أرضنا اليوم، فإن كانت الدولة مجموعة أجهزة بيروقراطية فنية، فلماذا يبكي الفلسطينيون خاصة الحمساوية على غياب الدولة؟ وهم يقومون بكل الأفعال البيروقراطية الفنية، فلديهم الوزارات والوزراء والإدارات والهيئات، وحسب الدكتور المسيري يكون الفلسطينيون قد حازوا كل حقوقهم وصارت لهم دولة طبقا لتعريفه.
إن الدولة سلطة مستقلة ذات فلسفة وطريقة حكم تستمد شرعيتها من أصوات مجموع شعبها الذي اختار نوابه لتحقيق أمانيه، ولذلك تفتعل حماس كل هذه الحرائق وتضحي بأبناء غزة في حروب بلا معنى ولا هدف سوى إجبار العالم على الاعتراف بسيادتها على الدولة وبفلسفة هذه الدولة، ليجلسوا معها على مائدة مفاوضات فيتم الاعتراف بسلطتها فتظهر لها دولة أو إمارة إلى جوار دولة الضفة.
ومن ثم يستطرد شارحا (ص9): «إن مسألة فصل الدين عن الدولة تنطبق على الآليات والإجراءات الفنية وحسب ، ولا تنطبق بأي حال على القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع والدولة.» وهو كلام خلاصته تحويل الدولة إلى موظف يعمل لدى السلطة الدينية، وبدلا من أن يصل إلى ما يسميه علمانية جزئية، يضل طريقه إلى سلطة دينية هي سلطة السلطات المطلقة، ولا يبقى سوى الفتوى مرجعا قانونيا والداعية سيدا مطلق النفوذ.
إن ما أصر عليه باستبعاد الدين من المجال العام كله ليس لمجرد المعاندة، وإنما لكي يتفرغ الدين والعلمانية كل منهما لتحقيق المراد منه لخير الناس، كل بأسلوبه وكل بطريقته، هذا عبر الروح، والآخر عبر العلم والعقل المادي، وإذا اتفقا على أن أهدافهما إسعاد البشرية، فإن الهدف إذا كان صادقا فلن يجعل أحد الطرفين يختلق المعارك والصراع ضد الطرف الآخر.
إن دخول الدين بمطلقاته إلى ساحة السياسة يخلطه بالرغبات البشرية في السيطرة والهيمنة والانفراد بالإدارة، ويكون الدين بذلك مجرد مطية ودابة تمتطى لأهداف ما أبعدها عن الدين ؛ لأنها لا تبغي مصلحة عباد الله بقدر ما تهدف إلى سلطان فئة أو طائفة واستئثارها بكل شيء تحت مظلة الرعوية الربانية. إن كان أهل الدين يريدون طهارته ونظافته فعليهم أن يمارسوا به نشاطا نهوضيا تقدميا تحضريا، والعمل دوما على الصلح بين فرق المجتمع بعيدا عن الصدام الذي يصل إلى سفك دماء الأبرياء لاختلاف على فهم فكرة، وعليهم دعوة الناس للعلم الحديث يمارسون واجبهم الإنساني في تعلمه والإضافة إليه لنشارك الناجحين في نجاحهم، فيكون نجاحنا نجاحين، ووفرتننا وفرتين، وتحضرنا تحضرين، أحدهما مصدره ديني والآخر علماني، وكما نسمع الأئمة في المساجد يدعون للسادة والمتنفذين على الرعية، بالتوفيق لما فيه مصلحة الرعية، يجب أن نسمع منهم دعاء مماثلا بنجاح العلمانية في بلادنا لما فيه مصلحة الرعية وتجنيب طوائف المجتمع التصادم وسفك الدم؛ لأن القول بطائفة تعلو بقية طوائف المجتمع بحد ذاته هو ضد الوطن، وضد أمن المجتمع، وضد المصلحة العامة، وخيانة كاملة للوطن؛ لأنه سيؤدي إلى حروب أهلية من أجل الرغبة في السيطرة والانفراد بالهيمنة لرجال دين علاقتهم المفترضة بالسماء وليس بالأرض وزخرفها. إن مجتمعنا سيسعد عندما يجد رجال الدين يساهمون في تخفيف معاناة الجياع وآلام المرضى والمنكوبين، والسعي إلى توفير المسكن والملبس للناس في الوطن دون النظر إلى هوياتهم الدينية، لا أن يتم تحصيل التبرعات والزكاة ونذور المساجد لتحويلها للإرهاب في البوسنة وكشمير والأفغان والشيشان وغزة والعراق.
وإذا كان المسيري بحكم حصيلته المعرفية قد طالب بعلمانية جزئية غير شاملة، فإن بقية التيار الإسلامي يكفر العلمانيين علنا وبالفم الملآن، رغم أن العلمانيين هم الذين أخلصوا إلى ربهم فقاموا يكتشفون قوانينه في الكون، وتوظيفها من أجل كرامة الإنسان الذي كرمه ربه؛ فالمخلصون لهذا الرب هم علماء العلمانية، يكفرونهم رغم أنهم وظفوا قوانين الله، ولم يوظفوا قوانين الشيطان في الكراهية والقتل والذبح والتكفير والتنفير، والقتل على الهوية واختلاف المذهب أو الرأي. في لقاء من نوع آخر قابلت فيه على قناة الجزيرة سفيه لندن «هاني السباعي» صاحب مركز المقريزي للإرهاب الدولي، وفي ذات البرنامج والقناة، كان كل هم سفيه لندن هو تسفيه العلمانية وإثبات فشلها في حل مشاكل الإنسانية وأنها في بلادها يتراجعون عنها الآن، بعدما شاهدوا من أمجاد أسود الإسلام الميامين، في مانهاتن ومحطات مترو لندن ومدريد وغيرها من أمجاد فوق الحصر.
وهو نفس ما قاله المسيري ولكن الفراق بائن؛ لأن المسيري قال ما قال لاستبعاد العلمانية الشاملة بأكاديمية مهذبة في جزئه الثاني، والسبب الرئيسي عنده هو استبعادها - كما يرى - للقيم جميعا عدا قيم السوق وحدها، مما يؤدي إلى تشيئ البشر، وتحويل الإنسان إلى مجرد سلعة في سوق العلمانية المادية.
وهو كلام مردود؛ لأنه إذا فشلت العلمانية في حل بعض مشاكل الإنسانية كالمشكلة الاقتصادية الحالية، أو مشكلة عدم الحصول على مصل لفيروس متطور جديد، فإن ذلك لا يجيز لغير المنجز ولا غير المنتج، الطفيلي العاجز، أن يتهمها بالفشل والمقصود بإعلان فشل العلمانية هو التمهيد للمشروع الإسلامي، رغم وجود المشروع الإسلامي في المشروع المسيحي والمشروع اليهودي، وبقية المشاريع الدينية في المشارق والمغارب، ولم ينجح واحد منها في حل مشكلة واحدة من مشاكل الإنسانية. إن العلمانية إن فشلت هنا أو هناك فلديها دائما الأمل في تجاوز الفشل، بعمل دءوب قائم في المختبرات والبحوث الاجتماعية على قدم وساق. ويصح أن يكون دور رجال الدين هو تصيد عثرات العلمانية، بل يجب عليهم إذا كانوا يبغون مصالح البلاد والعباد أن يدعموا العلمانية وتشجيعها على النجاح، لا العودة إلى النصوص لاكتشاف هذا النجاح في تراثنا، وأن يعلم رجل الدين العامة ويحثوهم على احترام العمل والعلم وتقديس العمل والعلم والعلماء، وقدسية القانون والوقت والملكية العامة ... إلخ.
إن العلمانية أدت إلى منتجات علمية يعمل عليها بشر، وتكون مهمة رجال الدين هو ضمير هؤلاء البشر كي لا يخرب الآلة العلمانية، ويعطل الإنتاج، وكي يخلص في الأداء ويتفانى في الجودة لا أن يترك العامل المؤمن سيمافور السكة الحديد ويذهب للصلاة ويموت المئات ويأخذ هو الثواب، إذا أراد الدين أن يعيش وسط هذا المتغير الهائل فعليه أن يتجه لوظيفته التي جاء من أجلها: ضمير الناس ودعم أخلاق العلمانية وقيمها.
وبمنطق الدين ذاته لا يمكن تصور إنجازات العلمانية في الغرب وما أدت إليه من تحضر وتقدم ووفرة ونمو ورقي، قد تم دون موافقة الرب ومباركته؛ لأن كل هذه النجاحات المبهرة لا يمكن دينيا تصورها تأتي رغم إرادة الرب وعدم رضاه. وإن من يدرك انضباط هذا الكون بقوانين الرب هم أهل العلمانية وأبناؤها من علماء، فطنوا إلى أن الرب قد خلق الكون وخلق له قوانينه، وأن على البشر الذين يخلصون للرب ويحبون مخلوقاته أن يكتشفوا قوانينه ليستحقوا الخلافة عنه في الأرض، ولماذا لا يرضى الرب وهو يرى نتائج العلمانية علما ورفاهية وشفاء ووفرة بين أيدي عياله في الأرض دون تفرقة، فحققت العلمانية المساواة الربانية والرحمة الربانية على الأرض منذ فجر الأديان حتى وصول العلمانية، باكتشاف فاكسينات الأمراض، وباكتشاف الحب الرباني باختراع الأدوات والأجهزة لتسهيل حياة عياله على الأرض، وباكتشاف العدالة الربانية بتسهيل وصول هذه المنتجات لكل الناس دون تفريق بسبب اللون أو الجنس أو العنصر أو الدين. فلم يحرم الرب أحدهم رغبته في المعرفة والتحضر لأنه ليس مسلما؛ لأن الرب بمنطق الدين ذاته ومن وجوب كمالاته ألا يشوبه النقص، والعنصرية والتخريب لبعض مخلوقاته دون آخرين هو النقص ذاته، والرب منزه بكماله عن هذه الوصمة. لهذا أثبت الرب عدالته ومساواته ورحمته في الأرض فأعان من أراد المساهمة أيا كان دينه، وساعده على توظيف بحوثه العلمانية لإسعاد البشرية وهي قمة الخلق في تراتب مخلوقات الرب.
الفرق البسيط بيننا وبينهم، أنهم سعوا فبارك الله سعيهم، أما نحن فنكتفي بأداء الفروض ودعاء الرب أن يقوم بنفسه بكل شيء دون أي جهد من جانبنا، لأننا هنا قاعدون، وربك سيفرجها من عنده ما بين غمضة عين وانتباهتها، إذا أخلصنا سبغ الوضوء والصلاة وأدينا الفروض.
يقول د. المسيري (ص118، ج2): «يدور الإيمان الديني الحق حول الإيمان بأن ثمة إلها خالقا للكون هو مركز العالم (الإنسان والطبيعة) وهو مركز مفارق له، وهذا الإله خلق العالم بغرض وهدف، ولم يهجره وإنما يشمله دائما برعايته وحكمته، ولا يترك مسار التاريخ يتحرك بدون عطفه ورعايته، وهذا الإله هو مصدر تماسك العالم ووحدته وهو (وكل ما يوحي إلينا به من نظم معرفية وأخلاقية وجمالية) المرجعية النهائية المتجاوزة. ووجود الخالق المفارق يؤدي إلى ظهور ثنائيات أساسية وهي ثنائية الخالق والمخلوق، التي يتردد صداها في الكون على هيئة ثنائيات مختلفة، أهمها ثنائية الإنسان والطبيعة التي تعني أن الإنسان مختلف عن الطبيعة متجاوز لها، فكأن ثنائية الخالق والمخلوق الناجمة عن وجود الإله المفارق هي ضمانة للوجود الإنساني.»
الدكتور يحدثنا عن العلمانية بأبعد الألفاظ عن العلمانية؛ فهو يحدثنا عن الحكمة الإلهية والرعاية الربانية والرحمة السماوية بحسبانها المؤسسة الإدارية للكون، ومثل هذه المصطلحات ليست خاصة بالإسلام وحده، بل بدأت مع البدايات الأولى لاكتشاف الإنسان ما حوله وتفسيره بأساطير وأديان الأولين، ورغم معرفة هذه المصطلحات من فجر البشرية فإنها لم تصلح شيئا ولم تقدم شيئا سوى العزاء بسلوان وهمي؛ مما عطل الإنسانية طويلا عن التفكير العلمي ومحاولة اكتشاف قوانين الله في كونه. ولم تتبدل الصياغات والمصطلحات فقط بل تبدلت المعاني والمفاهيم. ولم يعد التفكير العلماني يعرف خطاب العاطفة والأشعار الوجدانية واللطائف السماوية والبلاغة اللغوية، ولأن الزمن قد انتقل نقلة تطورية هائلة، فإن الكهنة والسدنة الذين لا يعرفون معنى كلمة قانون علمي ولا ما هو المنهج العلمي، وأثبتوا حتى اليوم عجزهم عن هذا الفهم، فلا شك مع سيطرتهم إعلاميا وتعليميا أنهم سبب بقائنا عند القرن السابع الميلادي، وسبب تخلفنا عن اللحاق بقاطرة الحداثة. لقد جالست يوما كبيرا منهم يعد بين الأقلية التي لها علاقة بعلوم الدنيا، وطلب مني أن أشرح له نسبية آينشتاين، وصبرت وصابرت وجهدت وجاهدت (لأنه كان صديقا لأبي) حتى أعياني حقا وليس مجازا؛ لذلك لو ألحقنا رجل الدين بأفضل جامعات العالم فلن يدرك معنى حديثنا عن الحريات وحقوق الإنسان لأنها قيم ترتبط بسلة علوم كاملة اسمها العلمانية، ويلزم الشيخ أن يكون قد راكم قدرا من العلم يسمح له بالتعاطي معها؛ لذلك غير مطلوب منه هذا الجهد ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
تراهم يحدثونك عن توراة موسى ولا يعلمون عنها شيئا وهي في متناول الجميع، وزبور داود (مزامير) وهي متيسرة بالكتاب المقدس لمن أراد أن يقرأها ليعرفوا عم يتحدثون، والأنكى أن يحدثوك عن الفرق بين اليوم الإلهي واليوم البشري وكيف مركز الله كعبته على اليابسة وكيف انشق البحر وكيف ولدت الصخرة ناقة الله، وكيفية النفاذ من أقطار الأرض إلى السموات تمشيا مع هبوط الإنسان على القمر. وكله حديث الجاهل جهلا مطبقا، الذي يخلط الأساطير بالخرافات بالدين بالعلم، وكله عند العرب صابون؛ لذلك لا نكلفهم بما ينوء به كاهلهم، كل المطلوب منهم أن يكتفوا بتخصصهم في صناعة ضمير يؤدي بالناس إلى سبيل الرشاد نحو الجنة واتقاء السعير.
كان الناس، كل الناس في قديم الزمان قبل ظهور عصر العلم والعلمانية كمنهج تفكير وحياة يعتقدون جازمين أن الكون يعمل ويتحرك ويفعل ويتفاعل عن طريق إرادة خاصة به، فكان لظواهره شخصية وعقل وروح كباقي المخلوقات الحية، ونتيجة هذه القناعة كان الإنسان البدائي يتصور أن بإمكانه التأثير في إرادة الظاهرة الطبيعية والتأثير فيها لتتصرف وتعمل على غير إرادتها، بل بموجب رغبته هو وإرادته التي يريدها ، فاخترع التعاويذ والسحر والأحجبة والتلاوات والصلوات والأدعية لتلك الإرادات المخفية العديدة في آلهة عديدة تكمن وراءها.
ومع التطور نحو التوحيد ارتأى أنه من الأسهل إدماج كل تلك القوى في قوة واحدة يتم احتسابها هي أعظم من كل القوى الأخرى وأنها القاهرة الوحيدة المريدة في هذا الكون، وبالتالي يمكن التعامل مع شخص واحد هو الأعظم، هو رب الكون وخالقه، هو الأسهل والأقل مشقة وتكلفة، وحتى لا تتضارب الإرادات مما يكلف تقدمات وقرابين لآلهة عديدة متصارعة، ناهيك عن الصراع الذي حدث بين تلك الآلهة لجذب الزبائن من غير أتباعهم مما فتح الباب لحروب دينية دموية، فكانت الحروب تتم بالنيابة عن قوى وهمية، لكن مع مكاسب أرضية عينية وسيادية مؤكدة لحامل راية الدين المنتصر، ووقودها كان الناس البسطاء الذين لم ينالوا من خير هذه الحروب بقدر ما نالوا من بأسها وشرها.
ونتيجة تصور وجود إرادة لظواهر الطبيعة يشرح المثال الإسلامي الموقف من إمكانية دوران الشمس مثلا في الاتجاه المعاكس، وهو ما حدا بإبراهيم أن يتحدى النمرود بأن ربه يأتي بالشمس من المشرق، فهل بإمكان النمرود أن يأتي بها من المغرب. الشمس هنا لها إرادة وفهم وتستمع إلى الأمور وتفرز سيدها لتطيعه وتعرف الغريب فلا تطيعه، أو بنص الآيات:
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (البقرة: 258).
واستمرت هذه القناعة في بلادنا حتى بعد ظهور العلم الحديث، فما زلنا نطلب الغيث بالصلاة، والغوث بالدعاء، والعلاج ببول الجمل والطب النبوي، بينما النبي نفسه إنما كان يتطبب بطب زمانه، ولم يقل إنه طب نبوي ولا سماوي. إن كل دعواتنا وصلواتنا لن تأتي بتغيير في اتجاه الرياح المحملة بالسحب والمطر إلى الحجاز حيث خير أمة أخرجت للناس، ولن تؤدي لسقوط أمريكا ولا لدمار إسرائيل.
ذلك يشعر رجال الدين بالخطر على مكانتهم من التقدم العلمي؛ لذلك حاربوا في أوروبا حربا لا هوادة فيها حتى تمكنت العلمنة من فرض مناهجها وعلومها وطرقها، وهو ما يحدث في بلادنا اليوم، نحن نقف عند النقطة الحرجة في عشية الليلة التي كان فيها روسو وفولتير ومونتسكيو يخطون طرق الإصلاح. أما العلمانية نفسها فهي لا تعادي أحدا، ولا يشغلها التصدي لدين من الأديان إلا إذا تجاوز حدوده إلى المجال العام، وهدفها سعادة البشرية وسلامها، وأمنها ورقيها، بإلجاء الدين إلى مكانه الطبيعي داخل معابده لا يجاوزها ولا يؤدي غير وظيفته المنوطة به فقط «ضمير الناس».
الفصل الثاني
فلما اشتد ساعده رماني!
منذ أسابيع تناول الكاتب العلماني البارز الأستاذ حامد حمودي عباس ما أكتبه بمقال مهذب يليق بعلمانيته الراقية، يناشدني فيه الانتقال بمشروعنا إلى المستوى التالي والأعلى، وإذ أشكره على حسن ثقته واختياره لشخصي من بين كل الأقلام العلمانية المحترمة التي أقرأ لها للتصدي لهذه المهمة الكبيرة، فإني أسرعت بالرد عليه لأوضح وجهة نظري في أن الموقف الآن لا يحتمل مطلبه، بذات اللطف والأدب والاحترام الواجب بين زملاء قيمة كالعلمانية. والذين تكاثروا في العقد الأخير وكلما ظهر قلم جديد نبت لريشي العجوز المتراخي ريشة شابة جديدة تملؤني فرحا وطربا ورغبة في الطيران معهم ببلادنا وأهلنا نحو النور.
ومنذ أيام طالعت للكاتب المتميز الأستاذ نادر قريط موضوعا بعنوان: «نوستالوجيا: محنتي مع سيد القمني»
www.sstcaw.org/or/show.art.t=2faid=172959
ومن الطبيعي أن أقرأ ما يكتب عني هنا أو هناك صدفة أو بتنبيه يأتيني من صديق، وبين تلك الكتابات من يطعن في شرفي، ومن يطعن في أمانتي، ومن ينتهك خصوصيتي ليتحدث عن سيرتي الذاتية، ومن يخونني لمصلحة أي جهة حتى لو في المريخ، ومن يدفع لي الأموال تنهال علي مدرارا شيكلات ودولارات، وكله كلام لا يرد عليه لعيه الشديد وضعفه وهزاله لمرضه المزمن بفكرة المؤامرة، ولكني أطالعه من باب قياس مدى التقدم أو التأخر في مستوى الرأي العام.
أما أن يكتب كاتب أحترمه مثل الأستاذ قريط نقدا لما أكتب، فلا ريب سيكون محل اهتمامي الأول؛ لأنه - ولا شك عندي - يريد أن يصلح لي شأنا أغفلته، أو أن ينبهني إلى خطأ ارتكبته لأتلافاه مستقبلا، أو يشير إلى هفوة هنا أو زلة هناك، من باب المزيد من التلاحم بإفادة بعضنا بعضا وتقوية بعضنا بعضا في مواجهة من لا يرحمون، الذين يعرفون كيف ينتظمون ويتضافرون ضفيرة واحدة من أجل تحقيق مآربهم، ويدارون سوءات بعضهم بعضا المنكرة، وينكرون ويستنكرون إذا ما تسرب عن أحدهم فضائح تزكم الأنوف تتصاعد من داخل أروقتهم السرية، حيث يجتمعون وأحيانا يجامعون.
الحق أقول لكم، إني بعد ما قرأت ما كتب زميلي قريط ترددت كثيرا في التعاطي مع ما كتب، حتى أنه ثنى بموضوع ثان بذات الخصوص دون رد مني، وتدخل أكثر من زميل نقاشا مع ما كتبه قريط، وسر التردد الذي أخر ردي هذا عن ردي السريع على الأستاذ حمودي، هو أني سأكون مضطرا مع هذا الرد للحديث عن ذاتي، وهو أسوأ موقف يمكن أن يضعني فيه أحدهم، فذاتي هي عالمي الخاص بحلوه ومره أحب أن أداريها وأنأى بها عن المجال العام؛ لأن زميلي الأستاذ قريط ركز معظم موضوعه عن سيد القمني الشخص والذات الإنسانية، دون أن يتطرق إلى موضوع بعينه يتجادل معه منطقا ومعرفة ليشرح مكامن الخلل فيه، إذ كنت أتوقع فوائد جمة من نقده، لأني إنسان يخطئ ويصيب، ومع الظرف الصحي يمكن أن يتزايد السهو، ومع تقدم السن يتكاثر الخطأ الناتج عن كلل الذهن والبدن، لهذا أقبلت على موضوعه أبحث عن تنبيه لطيف من زميلي الشاب ليصلح الخطأ أو يشير إلى مكامن السهو، ولكني للأسف وجدت شيئا آخر لو أردت وصفه وصفا دقيقا سأرتكب الزلل الفاحش. وهذا هو العامل الثاني في التردد والتأني قبل الرد، حتى لا أسمح لحمية الغضب بخلق معارك وهمية بيننا، ولا أسمح لحزني علينا بارتكاب الزلل. وهنا لا بد أن أعترف أني قد كبرت سنا وأن حواسي قد كلت وأنهكني المرض، وربما أثر ذلك في نوع اختياري للمنهج وسبل الوصول إلى الناس، وربما اخترت الأسلوب الأيسر المناسب لممكناتي، ولكن لا يزعجني أبدا أن تكون من قرائي ثم يشفيك الله من هذا المرض، فأنا لا أعلم من يقرؤني ومن لا يقرؤني؛ لأن ذاتي وذات القارئ ليستا في الموضوع، كذلك أعترف أني مهما حاولت إرضاء مختلف الأذواق؛ فإنها غاية لا تدرك، ومن الطبيعي أن نختلف، ومن الطبيعي أن يتعلم مثلك من مثلي، ومن الطبيعي أن تأتي مرحلة جديدة أصبح فيها أنا القديم العتيق وأنت الجديد الحديث، وكل منا يلائم مرحلته فهو ابن فرزها، وهي سنة تطورية حادثة لا محالة؛ فالنجوم محل التشبه بها في الظهور والانتشار، هي نفسها تذبل وتخفت وتموت، ومع اطراد سرعة التطور الهائل في زماننا، فقد تسارعت أيضا وتيرة الإحلال والتبديل وظهور الجديد قبل أوانه الذي اعتدناه من قبل، فكنا ننتظر عقودا طويلة حتى يظهر طه حسين آخر أو علي عبد الرازق آخر أو كواكبي آخر، أما الآن فقد أصبح الفرز والتجنيب والتجديد والإحلال أسرع كثيرا في وتيرته عما كان عليه قبل ثورة الاتصالات.
لذلك أنتظر من الأستاذ قريط عطاء يفوق عطائي بحكم ظروفه الآن التي تختلف بكثير عن ظرف كنا نقرأ فيه على لمبة غاز نمرة عشرة، ويصلنا الكتاب بعد لأي وعنت وعسر ومشقة وضيق ذات اليد، ولا شك أن هذا العطاء سيكون متفوقا بما لا يقارن بمثلي، ليأتي الجديد ويتراجع القديم، ويفوق التلميذ أستاذه ويبز الخلف السلف، وهو كله فرح مهرجاني للعجوز مثلي، وهو يرى شبابا قد أتى وملأ علينا دنيانا وكلهم نبتي وأولادي، ولأن ظهورهم الآن في حد ذاته دلالة قاطعة على نجاح أبناء جيلي الذي يتهيأ للرحيل ليفسح في المجال للآتي.
اختار أخي قريط أن يبدأ موضوعه بالمباغتة بما لا يتوقع، فإذ به يتحدث عن صورتي وعن رقم تليفوني في مدخل درامي لا يخلو من كاريكاتور هزلي يقول: «لم أعد أقرأ للقمني كسابق الأيام، صرت أكتفي بتأمل صورته أعلى المقال فهي تشي ببعض المرح والتجهم معا، وقبل المغادرة أنزل إلى كعب المقال لأتفقد التعليقات وأستعرض حرس الشرف وجماهير المهللين، وبطريق العودة أتفقد رقم التليفون الذي يحرم المكالمات الخميس والجمعة، فهذان اليومان يذكرانني بأفلام مصرية تتخللها زغاريد وبهجة وتحضير شربات، وسيدة عرمرمة تقول: كتب الكتاب والدخلة الخميس الجاي.»
أضحكتني خفة ظل قلم أخي قريط وذكرتني بأيام زمان ومرحلة الصبا في لقطة مرحة تتضمن مؤشرات خفية لمن يجيد قراءة المسكوت عنه في ظاهر اللفظ، وهو شأن عرفناه ضمن القيمة الفنية لقلم أخي قريط رشاقة ولطفا، ولكنه إن كان يقصد بذلك التندر والتنقص من شخصي المتواضع؛ فإنه في مقاله لم يقدم رغم كل ما قال أسبابا تبيح له هذا الانفلات العصابي في التندر والتنقص؛ لذلك ليسمح لي زملائي هنا أن أشرح أسباب نشر رقم التليفون، فقد أصاب جهازي فيروس اضطرني مع براعة الهاكر القاصد إعاقتي إلى استبدال الشركة كلها برقم جديد وشركة أخرى؛ وهو ما يعني انقطاع اتصالي بالمؤسسات والهيئات الإعلامية والصحف وزملاء القلم بعد أن فقدت أرقامهم بدوري، لهذا قمت بنشره على النت. أما يوما الخميس والجمعة فليس فيهما سيدات عرمرمات ولا مسلوعات، ولا زغاريد، المسألة أنى ظللت منقطعا عن النشر بعد التهديد أكثر من سنتين حتى تمكنت من جمع ما يكفي لشراء مسكن لعيالي بعيدا عني بعدا كبيرا، حتى أستطيع أن أعود إلى النشر دون خوف على عيالي من تصرف إرهابي يطال مسكني، وتوافقنا على الخميس والجمعة. نلتقي فيهما لذلك أردت الاعتذار سلفا لمن يمكن أن يتصل في هذين اليومين فيجد تليفوني مغلقا، هي مجرد حساسية ريفية مفرطة وخجل صعيدي من العيبة في حق ضيف ولو على التليفون. أما تحديد وقت الاتصال فهو مهم وفيه احترام لوقت العمل وعدم قطعه، وفيه احترام للمتصل كي يجد كاتبه متفرغا كله آذان صاغية مع وقت كاف يعطي المتصل احترامه الواجب.
ولا يخفى عليكم أن نشر رقم التليفون أوصلني أولا بمن يسبونني يوميا خلال هاتين الساعتين، وبمن يتوعدني أنه سيكسب في ثوابا قريبا ليضمن لنفس مكانا في الفراديس ... إلخ، لكنه أوصلني أيضا بمن هم أهل فضل ووفاء في البيت العلماني العربي، وأخص بالذكر اتصال السيدة الدكتورة وفاء سلطان وزوجها المحترم، أضاءت قلبي بشموعها مع دعوة مخلصة لقضاء وقت في ضيافتهم بحاتمية غير متكلفة ولا مصطنعة، وبحب لا يحتاج بحثا كثيرا للتأكد منه، هذا رغم علمها وعلمي أن طرائقنا مختلفة حتى في أعمق التفاصيل أحيانا، لكني لا أنكر عليها دورها ولا تنكر هي علي دوري، ما دمنا نسير نحو الهدف ذاته. وأعترف أن هذه السيدة ترهبني شجاعتها ويبهرني منطقها، وتلسعني لسعا سرعة بديهتها وحضورها، وهي اختلفنا معها في الوسائل أم اتفقنا: السيدة الأولى لبني ليبرال (على نمط تعبيرات أخي قريط الرشيقة). هذا رغم علمي اليقيني أنه في البيت العلماني سيدات يبززنها علما ومعرفة بالتراث الإسلامي وتمكنا منه، لكن لهذه السيدة طريقتها وهي التي تضيف إلى رصيدها نقاطا تعلو بها الدرجات؛ فهي تؤدي دورا نعجز عنه جميعا، ربما خوفا من المجتمع (مثلي)، أو ترفعا وتكبرا على تلك السجالات (مثل آخر قريط)، وفي رأيي أنها كلها طرق محترمة ما دامت تقوم على عمد من معرفة سليمة ومنطق محجوج، وتهدف إلى مبادئ وقيم المجتمع المدني الحر في النهاية. ولا يشغلني مدى لطف الدكتورة سلطان من عدمه، ولا يشغلني وصفها بتضخم الذات والطاوسية من عدمه؛ لأن الأمر ببساطة: هي حرة في نفسها، المهم ما يصلني منها من نتائج، ولا يشغلني أن يكون الليبرالي مؤمنا بأي دين أم ملحدا، المهم أن يكون كذلك حقا، أما أن يكون علمانيا كاملا فهي خطوة غير مطلوبة من الجميع وتخضع لاختياراتهم وثقافاتهم وقدرتهم على احتمال الوقوف وحيدين في وجه الكون والقدر عرايا من الأيديولوجيا والملائكة والأرباب والشياطين، وحيث لا يوجد عزاء ولا أمل وهمي مريح باستمرار الوجود بحياة أخرى حتى لو كانت في جهنم.
أما حديث أخي قريط عن صورتي، فقد دفعني إلى دخول الموقع للبحث عن صورته، ولم أتمالك نفسي من الضحك من سلوكي ومما أفعل، لأني قرأت له عدة موضوعات ولا أذكر له صورة، فلم تشغلني يوما صورة الأديب أو العالم أو المفكر أو الكاتب أو المخرج ولا شخصيته الذاتية، فلا أنا أعرف شكل إديسون ولا شكل ابن الهيثم ، وما شغلت نفسي بالبحث عن صورة لكاتب غير اعتيادي مثل إبراهيم البليهي المفكر السعودي، الذي يمثل نموذج الكاتب المتفلسف من الوزن الثقيل، تحتاج متابعته إلى احتشاد كامل للحواس والعقل ومجموع معارف هذا العقل، يحتاج عناء بسبب كتابته الصلدة غير الملونة ولا المزخرفة، صلبة لا ترتخي ولا تبتسم ولا تهدأ قليلا لتناول الأنفاس، ولا يكون أمامك سوى خيار من اثنين، أن تتركه مللا وكسلا، أو تستمر مركزا لينكشف لك عالم من الجلال الفكري الراقي. والبليهي بظروفه اختار هذا اللون الجاف غير الرطب من فنون الكتابة، وله ما يريد فواقعه قد لا يسمح بلون آخر، رغم أنه لو كان أكثر وضوحا وأقل نخبوية، لكان فعله في واقعنا عظيما، لكنه اختار وله حقه فيما اختار وعلينا احترام اختياره، ولا نحاسبه عما عنده من كنوز وثراء يمكن بفض مغاليقها أن ترصف لنا فلسفة الزمن المنتظر، أزعم هذا، وإنه لخليق به.
المهم عثرت على صورة أخي نادر قريط فلم أجد شيئا غير عادي، وليس فيه ما يبخسه أو يطهره أو ينجسه، مجرد إنسان كأي إنسان آخر، نعم أراد أن يجعلها موحية وحاملة لمعنى، فوضع ذقنه على كفه المنقبض وسبابته على خده الأيمن، مع صرامة وجدة ولا أقول جهامة، توحي بإجراء عملية تفكير عميقة. إلا أن ذلك لم يجعلني أتخذ منه موقفا نفسيا تأثرا بتفسيري للصورة التي تشي بأنه يتعالى علينا ويعلن لنا أنه مفكر، والدليل هذه الصرامة وتلك اليد تحت الخد، الدليل صورته. لا لم أر ذلك مطلقا، رأيت فقط إنسانا كأي إنسان، كل ما يميزه بالنسبة إلي هو منتجه الذي يكتبه، وكنت أحترم هذه الكتابة قبل أن أرى الصورة وبعدها. فكتابتك وليس صورتك هي من يقول للناس من أنت؟ ولكن في بعض الأحيان تلتبس الذات بالكاتب بالكتابة فتتدخل المشاعر وتظهر الجروح وتطفو النوازع وتغلب الأحكام الشخصية الوجدانية، فتقع الفلتات اللسانية، وهو ما أظنه قد وقع فيه الزميل العزيز، وقال عنه العرب: لكل جواد كبوة. ثم شرحوا سر الكبوة بمثل آخر يقول: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر. (وتكلم هنا بمعنى إذا فلت لسانه بالمخبوء في اللاوعي).
وبأسلوب اللمحة السريعة، يشرح كيف كانت كتاباتي بالنسبة إليه وكيف كان شغفه بها وكيف تعلم منها زمنا طويلا، لكنه اكتشف فجأة أن انتشار كتابات القمني في الساحة العربية هو لأن الساحة خالية، انتشارها لخلو الساحة في صدفة تاريخية بحتة، يصوغها في قالب روائي شعري بقوله: «لهذا صدقت كل شيء، تيمنا بما قاله مجنون بني عامر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
في ذلك الوقت بدا لي القمني يتصدى بمفرده لشخصيات كارزمية أزهرية مدججة باللغة والموروث، بدا لي إنسانا كبيرا بدفاعه عن حق الأقباط بالمواطنة والمساواة.»
إن القول بخلو الساحة فيه ظلم عظيم لآخرين مثلي كثر، لعل أخصهم عاطفة وذكرا بالنسبة إلي المرحوم الدكتور فرج فودة، فإن قصد زميلي بكلامه أن يطربني وأن يداعب هواي تخفيفا مما سيقول بعده؛ فإنه يظلم به زملاء وأساتذة كبارا. هذا مع ما يلحق قوله من استفسار عما حدث لمجنون بني عامر فلم يعد يرى القمني كبيرا؟ ترى هل خان القمني قضيته وخضع للإرهاب من جانب أو الابتزاز والإغواء المادي من جانب آخر فباع نفسه لمن يدفع أكثر؟ هل تراه كتب أو حتى سلك بما هو ضد ما يكتبه وينادي به في المعتاد؟ ما الذي يجعل المتتلمذ يتطاول على المعلم سوى سبب يتعلق بالقيم خاصة الأخلاقية منها والحقوقية؟ فإذا لم تكن تلك هي الأسباب فلا بد أن لدى الأستاذ قريط مخبوءات أخرى نفسية لا نعلمها، ولا نطالبه بالإفصاح عنها، ولكن أن يشيخ أحدنا ولا يعود يطرب بعضنا فيقوم هذا البعض بصب السخائم عليه لإقصائه عن عالمهم، رغم أن المولد لسه في أوله لم ينفض بعد. فتلك والله لرابعة الأثافي.
المشكلة في صدق مبادئ بعضنا، فبدلا من أن نكرم كبيرنا الذي شاخ ونهمس في أذنه: «لقد كبرت يا أبتاه فاسترح»، لأفهم أنه آن أوان اعتزالي مكرما منكم، ولأنكم خير معتمد في حسن تشييع جنازتي يوم رحيلي لترطبوا قلوب عيالي، لا أن ترموني بأحجار آثامكم، وأنا ما زلت كاتبا قادرا مقاتلا عنيدا في أقصى قمة نضجه وتمكنه.
أما كيف شفي قلب أخي قريط الخالي ممن تمكنا ليعود بلقعا هانئ البال بدون مؤرقات القمني ومزعجاته، وما يكشفه من عار وعوار يطل من نافذة تاريخنا علينا وعلى العالم طوال الوقت، كيف جاز للقمني أن يحدثنا عن مجازر سفاح تاريخي خالد الذكر مثل خالد بن الوليد في موقعة أليس، أو مجزرة يحيى العباسي في مدينة طميسة، إنه التاريخ الجارح والعار، الأستاذ قريط يطلب مني أن أنافح عن هذا التراث أكثر من منافحة أهله عنه، إن أهله هم من قالوا وهم من دونوا وهم من اتفقوا على هذه الوقائع على اختلاف فرقهم ومذاهبهم وكتاباتهم المرجعية، ويريد مني الأستاذ قريط أن يكون رأيي في خالد أو عمرو أو أي من الفاتحين أو أي من الصحابة أفضل وأحسن من رأي بعضهم في بعض، ومن رأي أنفسهم في أنفسهم بأقلام أهلهم وأتباع ملتهم.
لا يشغلني يا أستاذ قريط كم ذبح خالد أسبعين ألفا أم سبعة أنفار، المهم أني لم أتدخل في التاريخ الإسلامي وهو يروي مفاخره، وليس عندي وسيلة تدقيق لتحديد رقمي سليم لمن ذبحهم خالد، المهم أنه ذبح واحتل وأزال حضارات وقضى على لغات وسبى واستعبد وسلب ونهب وأخذ خراجا وجزية هو وصحبه جمعيا بطول زمن الخلافة المقبورة، وأنا لا آتي بما أكتب من تاريخ أمريكا اللاتينية ولا بما هو مخفي وراء بحر الظلمات؛ فالمكتبة الإسلامية في متناول الجميع وأحداث تاريخها مع البلاد المفتوحة هو تاريخ أسود قاتم حالك الظلمة لا يمكن تجميله مهما حاولنا الترفيع فهو أقبح من أي محاولة ترميم، إن موقفنا مع تاريخنا كي يكون موقفا محترما وكريما وإنسانيا رفيعا، أن نعترف بما حدث، وأن يعتذر أولو أمر المسلمين في بلاد الحجاز وكبار رجال الدين والمنظمات الإسلامية العالمية اعتذارا لائقا نقدمه لأنفسنا وللعالم ولأبناء الملل والنحل والأعراق الباقين في بلادنا، حتى نتصالح مع أنفسنا وأن نشف صدقا فنشف مواطنة وحبا لوطننا ولبعضنا بعضا، وأن نرفع المواد الدينية بالدستور، ونعقد عقدنا الاجتماعي أكان مصريا أم عربيا (يا ليت) على الوضوح والمكاشفة والتصالح ونسيان الماضي البغيض والبدء من جديد ليأخذ المواطن الفرد في بلادنا حقه من الكرامة الإنسانية كبقية بني آدم في البلاد المحترمة.
نعم يا أخي العزيز نادر أعراقيا كنت أم سوريا، لا أعرف، إن أول ما يجب أن يشغلني هو مصر وطني بعد أن غاب مفهوم المواطنة ولم يبق سوى الطائفة والمذهب والدين، وعليك أيضا أن تبدأ بوطنك الذي مهما عرفته أنا فلن أعرفه مثلك، فإن لم ينشغل كل منا بالشأن العام بوطنه أولا في ظرفنا الحالي لأنه لأدرى بشعابه، فإن البديل سيكون تبديدا للطاقات ولن نصل إلى أبعد مما تصل إليه القمم العربية؛ لأن الثقافة في كلا الحالتين هي هي، فيكون الحاصل هو مجموعة أصفار نتيجتها صفر عظيم كبير. ولا يعنى هذا ألا ينشغل سيد القمني المصري بما يحدث في الساحة العراقية وأن يقدم ما يمكنه، والعبد الفقير إلى الله سيد القمني قد شارك في كل هذا، ولسوء حظ زميلي وهو يفتري علي الباطل بظلم شديد. إن معظم أعمالي وبالصدفة البحتة هي أنشودة وسيمفونية عشق في دول شرقي المتوسط وبالذات العراق؛ فهي ترنيمة هوى وعشق وحب في العراق الآن والماضي، عراق المعنى والإنسان. وهو ما سيجده زميلي في كتابي الإسرائيليات وفي كتابي الأسطورة والتراث وفي كتابي قصة الخلق وفي كتابي النبي إبراهيم وغيره. تعالوا أهلي العلمانيين نقرأ معا الإهداء الذي صدرت به كتابي الأبرز «الأسطورة والتراث»، في الطبعتين الأولى والثانية الصادرتين عن دار سينا، وصودف صدوره بعد ضرب الطيران الأمريكي لملجأ العامرية في العراق إبان حكم الطاغية.
يقول الإهداء: «إلى كل امرأة كانت ترضع ابن العهد الآتي، وتقدمت بجسدها قربانا في أقبية ملجأ العامرية، لتمد شمسنا الغاربة الباردة ببعض الدفء. وإلى كل رضيع تناثرت أشلاؤه على وجه الزمان، فذهب يفصد دمه فوق مغربنا القاتم المقبض كي يمنحه غسقا، وإلى التاريخ يلملم هيبته هلعا مما خضب لحيته، ليدون ملحمة الملاحم وأسطورة الأساطير، عن الشعب الذي عاش في بغداد، وناس بابل الذين لم يخلق مثلهم في البلاد.»
إن محاولة أخي نادر الوقيعة بيني وبين أهلي في العراق، الذي عشت في شرايينه أبحث في تاريخه القديم، وزرته وهو تحت الحصار لأشاركه في الحصار وأتمم بحثي التاريخي الميداني لكتابي النبي موسى، هي محاولة لا أجد لها وصفا مخففا ولا أستطيع أن أرى فيها شيئا حميدا، هي محاولة رديئة لا تليق بالمفكر كبير الخصال، وهي مقارنة ظالمة يظهرني فيها مصريا غليظ الشوفينية مقابل العراق بالذات وبالخصوص ويعيرني باستيعاب العراق للعمالة المصرية الفقيرة لمجرد قولي إن أهلي في العراق كي يمزقوا نياط قلبي أخذوه إلى نفق الطائفية المظلم نحو الصوملة.
نعم يا أخي قلت هذا أو شبيها به فأنا لا أذكر كل لفظ بكل دقة، وأنت لم تذكر النصوص التي وشيت بها، لكني أيضا قد قلت منذ خمس سنوات إن مصر قد أصبحت في القرية هي صومال وفي المدينة هي طالبان وعظم الله أجركم في مصر (تقال عندنا في العزاء) بعدما أصبحت مصر مجرد مستشفى مجانين كبير مفتوح ويخلو من الأطباء، فهل تراني عندما كتبت هذا كنت أكره مصر وأحط من شأنها وقدرها لمصلحة العراق أو سوريا مثلا؟ هذا كلام تلامذة ثانوي وسقطة أخي هنا سقطة شديدة يستخدم فيها أي أسلوب لتشويه الخصم، وهو شأن لا يليق برفيق درب لأني لست خصما لك ولن أكون، وأظن أن الدرب المشترك بيننا يفرض علينا نبل الفعال والتعالي على الهينات والتوافه، والترفع عن صغائر النفس التي تسببها غيرة بدائية وحشية غريزية لا معنى لها؛ لأنه ليس لدينا فريسة نتقاتل عليها ولا كرسي حكم ينتظر أحدنا غدا. لقد جعلت موضوعك ثأرا شخصيا لذنب لم أرتكبه سوى خطيئة نشر صورتي ورقم تليفوني، واتباعي منهجا مختلفا لم يعجبك ولا أظنه هو الدافع الحقيقي وراء ما كتبت، وكما أردت أن توحي لنا به.
المهم أن أخي نادر يستطرد ليقول: «وباختصار للشيطان الرابض في التفاصيل، أود التمييز بين النقد والسجال؛ فالنقد يعني ببساطة طرح رؤية أخرى ونسق فكري يطوي ما دونه من رؤى، بما يدخره من محتوى وقيمة مضافة، أما السجال فهو ملاسنة بين ثنائيات، واعتمادا على تلك الثنائيات فإن السجال هو أسهل أنواع الفكر ولا يدمنه إلا الكسالى. الجانب المهم في السجال هو قدرته على الاستفزاز وشحن النفوس، وهذا يعود إلى ولع الناس بالمراهنة والمضاربة تماما كما يحدث في مباريات كرة القدم أو مباريات فيصل القاسم.» وهو يشير هنا من طرف غير خفي إلى مشاركاتي في هذا البرنامج المبارياتي السجالي أكثر من مرة.
مرة أخرى أكرر أنني في موقف لا أحسد عليه؛ لأني لأول مرة أجدني مضطرا للدخول في سجال افتعله زميلي، وهذا هو السجال فعلا وصدقا، وهو حول ذاتي التي نسيتها من زمان بعد أن بلعني البحث والقراءة والدرس والكتابة حتى صارت ذاتي ظلا باهتا أفاجأ بوجوده أحيانا، عندما أفاجأ أن في الدنيا متعا لم أكن أعلم عنها شيئا . ومع الغربة في هذه المنطقة الخالية الموحشة لن تجد ما يؤنسك ولا حتى ذاتك، لهذا كان رفضي المهذب لمشروع الزميلة الدكتورة إيناس حسني لكتابة سيرتي الذاتية، وأكرر لها هنا اعتذاري فقد حاولت وعرضت كل التيسيرات وأنها لن تكلفني أي مشقة سوى الثرثرة التي تمسك هي بمفاتيحها ومقود توجيهها؛ لأن ذاتي من وجهة نظري كأي ذات أخرى فيها الموجب والسالب، ولا قيمة لها في أي موضوع أكتبه، ناهيك عن كونها سيرة لا تسر القلب بقدر ما توجع الكبد، وقليل من أصدقائي المقربين من يعرف عن هذه السيرة يسيرا؛ ومن ثم لن تجد في ما أكتب ما يشي عن هوى بالذات أو (مفكر بأمره). كما قال قريط ولا طاوسيه كما قال آخرون، ما أعتز به فقط وأتيه به فخرا أني أنجزت ما أنجزت بما له وبما عليه في ظروف كان مستحيلا أن تنتج أكثر من كاتب عرضحالجي على باب محكمة ريفية ذاهل ومريض ومتهالك.
أما أن يكون الطريق الذي اخترته مؤخرا في مناقشة ما يطرحه علينا الإسلام السياسي يعجب البعض ولا يعجب آخرين من حيث مذاقه، فإن ذلك لا يكون ضمن حسابات أي كاتب ولا حتى الأستاذ قريط، وإلا ما كان كاتبا حرا. حساباتي يا زميلي هي استكمال الموضوع السلامة العلمية، وصدق المقدمات، وتقديم القرائن والبراهين للوصول إلى نتائج صالحة للعمل بها كبدائل للمطروح، مع ترابط هذه المنظومة وفق منطق واضح دقيق.
وأن يقول لي ناقد؛ لقد تعبت يا رجل في عملك وأخلصت الجهد لكن عيوبه كذا وأخطاءه كذا، لأفضل عندي ألف مرة ممن أسميتهم المهللين المادحين، فكل كلام يؤخذ منه ويرد عليه، فلا أنا ولا أنت نقول كلاما مقدسا، لكن ما يجب أن نعترف به أن دور كل منا الأهم هو جلب الزبائن إلى محل العلمنة أو هو ما أعتقد أنه دوري، فلماذا لا تفترض أني بعد أن تمكنت بطريقتي السابقة من جذب زبائن أصبحوا موجودين في الساحة منهم كتاب قامات، وأني قد قمت بدوري خير قيام حتى بزغ من بينهم بارعون مثلك. وإني اليوم ووفق آليات تفكيري وقراءتي للواقع في بلادي وتقديري قررت اجتذاب نوع آخر الزبائن غير نوعك، فهل بذلك أكون قد مرقت من علمانيتي أو تجاسرت على أصول البحث العلمي فقدمت شهادات مجروحة مثلا، أم يجب علينا جميعا أن نحتسب ذوقك وتقييمك هو الأمثل الواجب الاتباع؟ أم تراني حرا في اختيار خطابي ولمن أتوجه به حسب خططي الخاصة لجذب المزيد من المواطنين إلى ساحة العلمنة والمواطنة، أم تراني لأني لم أعد أطربك يجب أن أنسحب من ساحة الكتابة وألملم أوراقي وأقلامي، وهل ظهورك يا زميل مشروط باختفائي؟
أما تأكيد أخي قريط المستمر أن ما يكتبه القمني هو من سجال العقول الكسالى لهو برهان كاف على أنه لم يقرأ بإمعان، الكسول هنا كان عقل قريط وليس عقلي، قريط يريد كتابة على ذوقه وإن ما عجبتوش يا ليلة دقي! لقد أصدر حكمه الظالم ضدي وهو بقوله هو لم يعد يقرؤني، فيا للإجحاف في إصدار الأحكام المجروحة سلفا! نعم يا عزيزي لجأت مؤخرا إلى أسلوب يشبه السجال وما هو بسجال، بل هو في المقام الأول توثيق للمطروح علينا من كبار كتاب ومفلسفي التيار الإسلامي الحديث، باختيار دقيق متحر للأسماء الكبيرة، عن سبق إصرار وترصد ومتابعة، ثم قمت أناقش ما يطرحونه علينا لتفكيك بنيته مع تقديم البدائل الأكثر عائدية، لأن وضع الموضوع في شكل سجال هو كما قلت أنت كصفة سلبية فيه، إنه قادر على الاستفزاز والشحن لولع الناس بالمراهنة وكرة القدم، بينما لجأت أنا إلى هذا قصدا للأسباب ذاتها التي ذكرتها أنت لتسفيه السجال، للشحن والاستفزاز ولولع الناس بالمباريات، لأني قررت استثمار ذلك إيجابيا بعد طول تأمل وفرز بين الخيارات بعد نجاح الفكرة تلفزيونيا. فلا أنا أريد أن أكون فارس أحلام زميلي، ولا فيلسوفه الرصين مقطب الجبين، ولا منظرا لحل خلاصي وفق نظرية تامة التكامل تبقى خالدة أبد الدهور، ولا أنا الفريد زمانه كي نكلفه ما تريد كما لو كنت جني مصباح علاء الدين السحري، ولست أستاذا لأحد بقدر ما أنا تلميذ لكل من أقرأ لهم، وأتبع في عملي خطة طويلة النفس تتغير طرائقها بتغير المراحل، فبينما كتبت منذ زمان كتابي الملحمي «حروب دولة الرسول»، فإني في جديدي أنكر أن تكون في الإسلام دولة بالمرة، ترى هل هذا هو التناقض الذي يقصده صديقي؟ لا أعتقده أقل ذكاء من إدراك حقيقة ما أفعل وإلا تبقى مصيبة ولا يكون ثمة داع لهذا الحوار كله!
زميلي الكريم، إني أتبع في عملي كل ما أعتقد أنه وسيلة للوصول إلى أصحاب المصلحة فيه، من مناهج علم الاجتماع إلى مناهج فلسفة الأديان إلى ماركسية المادية التاريخية إلى تطورية هربرت سبنسر، ليس مهما هنا مركب الوصول لتحقيق ما أريد لأولادي وبلدي في الأيام المقبلة، بغض النظر عما تفترضه من هيبة المفكر وتقنية عمله ليقنع الأكاديمي الرصين ببحث ونص محكم، وهذا أيضا ما فعلته وأخذ مكانه اللائق بين الأبحاث العلمية المحكمة المحترمة في المكتبة العربية الراقية بالطبع وليس السلفية أو التجارية، كما لا شك تعلم يا أخي أن خطابا يوجه للناس هو غير خطاب يناقش شروط استكمال الأكاديمية. كل الوسائل الممكنة هي متاحات لنا نقتنصها حتى لو كانت حلقة تلفزيونية مع شخص مثل هاني السباعي في مباريات فيصل القاسم.
إنه حقي في الاختيار وحقي في ارتكاب الخطأ، وأنت تصادر عليه دون أي حق واضح تملكه لتفعل ذلك! هذه سبلي اخترتها فلماذا تبخسها مع صاحبها؟! أليست مساهمة واحدة من مساهماتي الموضوعية التي لم تعجبك وتعرضت لها هي أفضل ألف مرة من موضوعك هذا الذي كتبته وأدى إلى هذا الاشتباك السجالي حقا؟ وهل حدث أن طلبت لكلامي العصمة ولنفسي السيادة بين بني لييرال؟
إن طرقي هي اختياراتي ولا أزعم لها إطلاقية الصواب ولا السمو ولا وجوب التمجيد والتهليل بقدر ما هي محاولات للاستمرار على قدر ممكناتي الصحية والظرفية، فلماذا حملة التشويه ما دمنا أنا وأنت نؤمن بتعدد الطرق للوصول إلى الهدف الواحد؛ وإذا هو يرى أني لم أقدم رؤية بما تدخر من قيمة مضافة، فما الذي كنت أفعله إذن في كل هذه الكتابات؟ الحكاية ببساطة أن زميلي لم يقرأ فكيف سيجد ما يدخره الموضوع من محتوى وقيمة مضافة؟
وماذا عن الهمز واللمز من مشاركاتي في مباريات فيصل القاسم؟ ما المانع أن ينزل أحدنا من برجه الليبرالي وصارم وجهه وعمق تفكيره بوضع اليد تحت الذقن ليطارح الناس العاديين مشكلة عميقة المحتوى عبر التلفزيون أو المحاضرة؟ أليست الحجة الموجهة ضد العلمانيين هي فشلهم في الوصول إلى الشارع؟ هل ترى بإمكانك شرح موقف العلمانية من الدين في مناظرة مع قطب إخواني (الدكتور مجدي قرقر) في ندوة عامة في حي شعبي كلاسيكي بالتمام مثل حي باب الشعرية، وإضافة إلى ذلك أن تخرج بالناس يتساءلون عن الطريق إلى العلمانية؟ لقد فعلها أخوك المتواضع بحسبانها فرصة والأجدى أن نقتنص أي فرصة تعرض علينا للوصول إلى هذا الشارع مع الحصار الرسمي لنا؟
أم أن هالة المفكر وكبرياءه المقدسة لا يصح أن تنجرح في مبارزة علنية فيصبح شعبويا مهرجانيا؟ وهل مشروط للمفكر كي يكون مفكرا أن يوغل في الألغاز والغموض والترفع عن تلك الصغائر؟ والله يا أخي حتى الحلقة العبثية مع هاني السباعي حققت مكاسب وعائدية عظيمة بكل المقاييس، فقد أظهرت مدى عيائهم الفكري وإرهابهم العلني وسفههم لدرجة الانحطاط والوطي، رغم أنها كانت كمينا من الجزيرة، بعد أن سبق وخرجت منتصرا من حلقة كمال حبيب وحلقة عبد الوهاب المسيري؛ لأن انتصار العلماني يظل وجعا يؤرق الجزيرة حتى تهزمه علنا أو تنال من مهابته أو لو استطاعت فإنها تعرضه للمهانة.
قالوا لي إن مناظري سيكون الغنوشي، قلت ند كفوء، بعد وصولي إلى الدوحة قالوا الغنوشي اعتذر لأسباب أمنية واللي جاي حسن الترابي، قلت ند كفوء، قبل الحلقة بدقائق قالوا الترابي اعتذر ولم يجدوا سوى هاني السباعي سفيه لندن الأشهر، وفطنت للكمين متأخرا والحلقة على الهواء بعد دقائق، فإما أن أنسحب ويعلن فيصل انسحابي بينما هو مجهز سلفا مناظرا ينتظر، وتكون الهزيمة منكرة للعلمانيين بعد وصولي إلى الدوحة بالفعل، أو أن أقبل، وساعتئذ تذكرت المرحومة أمي الحاجة صفية وهي تحذرني: «خد بالك يا سيد يا ابني، إذا عايز تبهدل راجل محترم سلط مره شرشوحه». وعلمت أني في الموقف الذي حذرتني منه أمي، في انتظاري على الهواء الآن مره شرشوحه. ولكني قررت الاستمرار وكان النصر حظنا المؤزر بالآيات البينات بانكشافهم إرهابا علنيا وسفها مقززا لفريق يزعم التدين المفترض فيه أن يكون عف اللسان قويم الخلق بشوش الوجه حسن اللفظ. ولم أعتقد أن كل ما قاله قد نال من شخصي كمفكر محترم لأن الفارق كان بائنا. وإذا كانت ذاتي قد سبت أو سفهت بسفاهات الإرهابي اللندني السباعي فمالها وما أكتب؟ ذاتي لا اعتبار لها هنا مع نجاح المناظرة كرصيد في الخطوات نحو الهدف.
وهكذا تراني يا أخي أخطو خطواتي وأختار طرقي دون اعتبار بالمرة للذات لأنها عندي خارج الموضوع، وقد أخذت هذه الذات بالقسوة والشدة دون رحمة في أبحاثي وأعمالي، وقررت استمرار العيش في مصر رغم قسوة المجتمع الذي أكتب له ومن أجله، ربما أنت رأيت ذاتي ذات يوم شيئا مهما وانبهرت بها فإذا بك أمام إنسان عادي بكل ما له وما عليه، ستكون بهذا المعنى مشكلتك لا مشكلتي ، أنت تريد أبطالا حتى الموت أو قديسين كاملي الطهارة، أو أربابا أكاديميين، وهي كلها بتعبيرك كائنات افتراضية غير موجودة في الواقع إلا لماما، وكونك اكتشفت خطأك وطلع القمني مش اللي هوه، ولا هو أستاذ ولا هم يحزنون، فلماذا كل هذه الحملة؟ لماذا لم تكتف بإلقاء كتبي من أقرب نافذة في جوارك لتهدأ نفسا وترتاح بالا وينتهي الأمر؟
أما أنا فقد فعلت ذلك مع نفسي وذاتي مبكرا، لهذا أعتبر نفسي دوما مجرد جندي نفر في الجيش العلماني بدون أي رتب، وأفخر بذلك وحده وأكتفي؛ لأن الجيش العلماني يعني الحقوقيين يعني مع الحريات، يعني مع الكرامة، يعني أن أكون فردا منهم فهو الشرف العظيم.
زملاؤك وزملائي راسلوني لأكتب لكتب من تأليفهم تقديمات يريدون بها تشريفا، ولهم الشكر والتقدير كله لأنهم هم أهل الشرف، لكني رأيت أن من يكتبون التقديمات يرتكبون في حق المؤلف لونا من الجرم ، فهم يركبون جهد المؤلف ويضعون أسماءهم على الغلاف دون جهد مواز لجهد المؤلف، لمجرد ركوب الكتاب ووضع الاسم والذات عليه دون مجهود لائق. أرسل لي كمثال الزميلان العزيزان الأستاذ سعيد الكحل وهو صاحب قلم محترم، وأيضا الأستاذ عادل جندي وهو صاحب قلم رفيع، وعندما قرأت العملين وجدتهما ذوي قيمة عالية وصاحبيهما قامتين محترمتين؛ لذلك رفضت أن أكون أيقونة كتاب لتجميله وهو لا يحتاج تجميلا من أحد. لو كانت ذاتي شاغلي لجلست أكتب مقدمات لعشرات الكتاب من باب توسيع الانتشار والرزق أيضا، لكن ذاتي والحمد لله سبق لها أن مرت بطور التضخم زمنا مضى، ثم غادرته إلى غير رجعة، وأحتسبها اليوم من هنات مرحلة الصبا والشعور المبكر بالتميز بالتفكر والتباهي به بين الأقران.
ونظرا لطبيعة كتاباتي وما تعلمونه عنها؛ فهي تخص بلادنا ومشاكلها لذلك لم أسع للترجمة ربما أحصل على جائزة دولية لائقة، رغم استحقاقي؛ لعدم معرفتي بسبل وطرق النشر الأجنبي، وأحمد قدري الذي جعل مطالبي الحياتية شديدة البساطة؛ مما أعطاني قدرا هائلا من الاستغناء، كما أني لن أحصل في بلد مسلم أو عربي على جائزة تقدير ، لأنكم تعلمون ترتيب الولاءات ومقاصات المصالح في جوائز بلادنا، ناهيك عن تكفيري العلني الذي سيعطي كل تلك المؤسسات العذر في عدم منحي جائزتها. وصدقني أخي قريط تمنيت الحصول على واحدة من تلك الجوائز ليس لأنها تحمل تقديرا أدبيا سليما، بل لمردودها المادي الفلوسي البحت الذي أنا بأشد الحاجة إليه. فإن لم أحصل على تقدير منهم فعلى الأقل يكون التقدير من زملائي في العلمانية، التقدير الأدبي وحده لأنهم والحمد لله كلهم عالم فقري مثل حلاتي؛ لذلك لا أخفيك سرا إعجابي الشديد بكون العلمانيين العرب يعتبرونني «أيقونة بني ليبرال» كما ذكرت في مقالك، تكفيني تلك جائزة رفيعة المستوى عالية القيمة نزيهة الحكم والقرار.
ولا يكتفي الأستاذ قريط بذلك، بل يصعد من حدة حملته ويشدد من هجومه بدون سبب واضح لأي سبب، مجرد كلام فلوت، يقول: «القمني كما أراه الآن تحول من مفكر إلى مفكر بأمره، ومن صاحب مشروع إلى سجال بدون موضوع، يبدأ صولاته وجولاته من مقولات: حاكمية الله، والخلافة، وشعار الإسلام هو الحل، وما يتغرغر به الإسلاميون، ذريعة للهجوم على كائن افتراضي؛ لأن تلك المقولات تحمل بذور فنائها بداخلها، ولا تستحق جدلا من حيث المبدأ.»
وصدق زميلي في قوله وأصاب كبد الحقيقة، فنهج التفكير الإسلامي (والديني عموما من وجهة نظري) يحمل بذور فنائه بداخله، لكنه لم يصب بالمرة بقوله إن معركتي مع هذا الفكر هي معركة مع كائن افتراضي، حتى شككت أنه لا يعيش معنا في بلادنا وأنه ممن يكتبون من أوروبا أو أمريكا، وأنه غادر بلادنا من زمان؛ لأنه إذا كان ذلك كذلك فلا شك أن مسلمي الشارع المصري والباكستاني والسعودي والجزائري والصومالي واليمني والعراقي بإعلامهم بتعليمهم بصحوتهم بسلوكهم في الشارع بخياراتهم السياسية كلهم كائن افتراضي لأن كلهم كذلك وكلهم يؤمن بذلك، عدا بعض النخب الليبرالية هنا وهناك ممن لا تأثير لهم في الشارع في أي موطن من تلك المواطن، وأصحاب ملل ونحل أخرى يلوذون بما يؤمنهم على حياتهم فقط وليس حتى كرامتهم في بلادنا المسعورة.
نعم هي تحمل بذور فنائها، وإن التقدم الإنساني لا يتقهقر، لكنه أيضا يسير لولبيا بمعنى أنه يكبو أحيانا، لكنه دوما في ارتقاء، وأن العلم في سبيله يكتسح حارثا الطريق أمام ما يصاحبه من قيم ومبادئ، ستسود في النهاية، كل هذا يا أخي نعلمه من كتب المعلومات الابتدائية والقراءة الرشيدة، وبالإشارة إلى لولبية الصعود والنكوص يأتي دور الشعوب والفرد في التاريخ وشعوب مثلنا بمناهجنا في التفكير بقيمنا بسلوكنا هي حجر عثرة دائم في طريق تقدم الإنسانية، وتقدمها هي نفسها؛ ومن ثم يأتي دور المفكر للتسريع في عملية الفرز والتجنيب والإحلال والتبديل ووضع الخيارات الملائمة لجعل الانتقالات المجتمعية تتم بأقل قدر من الخسائر والمشاكل وبأكثر ما يمكن من السلامية لهدم القديم وإحلال الجديد، وهذا يا أخي ما أقوم به، وأتمنى عليك أن تساهم فيه بشيء كبير مستقبلا فأنت أهل له لو توقفت أنت عن استسهال السجال.
ثم يعمد الأستاذ قريط إلى موضوع قديم من موضوعاتي يرتبط بظرفه الوقتي حينذاك على الأرض في العراق، فيقول: «لكن كلمات القمني بدأت تقتصر على الجدل الصاخب دون رؤية نقدية بديلة، وفي الآونة الأخيرة بدأ يستأنس بظلال القوة والسلطة ويستأسد على الضعفاء، وأصبح لا يرى مشروعا إلا بقمع الإسلاميين، لهذا السبب أصبحت كتاباته تضج بالمتناقضات الفاضحة؛ فهو يشيد بنموذج الولي الفقيه السيستاني ويعتبره غانديا مسالما نابذا للعنف، وهذا يتناغم مع طبيعة الرضا الأمريكي الذي أصبح بوصلته، والسؤال: هل يقبل بولي فقيه أزهري؟ أم أن العراق أصبح حائط نص نصيص واطئ؟»
أي قوة يقصدها وأي سلطة أستأنس بظلالها وأستأسد بها؟ أنا رجل بلا حول ولا قوة، وإذا كان يقصد سلطة الحكومة المصرية! كان الأجدى أعمل ذلك بدري ومن زمان، وأعيش الزفة وآخذ لي وزارة وأفتح لي حساب في سويسرا وتبقى الدنيا بمبي واللقمة طرية والعيشة هنية. ألا ترى ما يرفل فيه مشايخنا من متع؟ وهل ترانا أقصر قامات عن كتابة متأسلمة وأفضل مما يكتبون بفارق عظيم في المستوى؟ عايزني آجي أعملها في أخريات أيامي؟ لقد صدقت هذه الحكومة ذات يوم ليس لأنها تستحق التصديق، ولكن اعتمادا على تصديقي للضغط الأمريكي الذي يمكن أن يسرع بعملية العلمنة، وصدقت حكاية ترشيح الرئيس والمادة مش عارف كام من الدستور، وكتبت لأول مرة ولآخر مرة مديحا للخطوة مصحوبا بشروط وقواعد اللعبة حتى تكون سليمة لأكتشف خلال أسابيع مدى سذاجتي؛ لذلك لم ير أحد هذه المقالة مرة أخرى وأخفيتها لينساها الناس. وعدا هذه الكبوة الناشئة عن سذاجتي الشديدة أحيانا، بحكم ريفيتي وميلي لتصديق المأمول من ورائه خيرا، وغير هذا المقال البائس لا تجد موقفي من الحكومة سوى موقف الليبرالي المحترم الحر من نظام استبداد نخر فساد السوس جنباته بكل شخوصه، لا أستثني أحدا، ولكن أن يكون البديل عن هذا النظام خراب العمار وخوض البلاد في بحر من الدماء، فلا شك أن هذا سيكون مرفوضا بالمرة، وعندما يكون البديل عن سيادة القانون مقاصات مصالح تجرى بين عناصر الحكومة وبعض التيارات الدينية لتقسيم الفريسة؛ مما يهدد بمخاطر تفكك الدولة نحو صوملة كاملة، فهنا علينا أن نختار بين الخراب والدمار الكامل بلا عودة، وبين أن ندعو النظام القائم لالتزام القانون وتفعيله ولو على أصحاب مشروع الخراب البديل، وبهذا لا أستأسد بالحكومة فهي ليست أسدا بقدر ما هي مجموعة من الهايينز الرمامين يأكلوننا ونحن موتى، عصابات فاسدة رخوة هشة تستخدم وسطاء الدين المنتفعين المحترفين وسيلة لشرعيتها وتمرير فسادها، لقد قامت هذه الحكومات اليولياوية منذ 1952م حتى الآن بأكبر عملية إجرام في حق الإنسانية عندما تمكنت من إبادة الوعي التعددي المصري الباقي منذ 1919م حتى أصبح بإمكانها تسيير الشارع بشيخ نصاب بتعريفة (يعني بفلس)، ولا أستبعد على مثل هذه الحكومة أن تضحي بشعبها وأنا أراها تترك الشارع منفلتا سداحا مداحا يعمل وفق آليات أجهزة الإعلام وما تبثه من قيم منحطة، بلا ضابط ولا رابط إلا مشهد النقاب والحجاب واللحى وخراب الضمائر المعمم والعلني السافر في حالة لم تشهدها مصر من دمار للبلاد والاقتصاد والقيم والوعي والتعليم منذ زمن الهكسوس.
أما الإشارة إلى سلامية السيستاني فقد كانت في ظرفها على الأرض وفي وقتها هي نعم الحكمة ونعم المصداقية والرأي السديد، وكان أي قول بخلاف ذلك تأجيجا لمزيد من النيران التي كان يصبها السنة الزرقاوية على شيعة العراق وبقية ملله ونحله. ولكن السيد السيستاني نفسه لم يسلم من نقدي المر والقاسي على المستوى النظري لفتاواه ومواقفه وآرائه الدينية.
ثم من قال إن العلمانية تعنى العداء للدين أو للطائفة أو للعبادات أو حتى لرجال الدين ما داموا لا يفتئتون على المصلحة العامة للمجتمع ويلتزمون دورهم المحدد لهم دون خروج على قواعد وشروط العقد المدني الاجتماعي العام. إني هنا ألم أكن نصيرا لوجود سلطة دينية في العراق ورافضا لها في مصر لأن المقارنة ظالمة والظرفين يختلفان بالكلية، وخير من يعلم ذلك زميلي قريط، وإن لم يعلم ذلك فإن أقل ما يوصف به مع التأدب أنه نوع من الخبث الريفي المضحك بغرض تشويه الخصم بأي طريق ممكن، وهو ما لا يحدث بين أولياء المبادئ المحترمة، خاصة إذا كان هذا المبدأ هو العلمانية التي أراها شرفي وسبب ارتقائي وفيها بيتي وعائلتي وناسي وجذور كرامتي ومحتوى ومستقبل أولادي ووطني.
وضمن هذا الخبث الريفي يظهرني عميلا حكوميا حيث يقول: «بنفس الوقت ينقض على سعد الدين إبراهيم مقرعا إياه بتهمة الأسلمة السياسية.» مرة أخرى الرجل لم يقرأ دفاعاتي التي استغرقت ثلث كتابي شكرا لابن لادن عن حقوق الدكتور سعد الدين إبراهيم وموقفي من حكومتنا المعتوهة غير الرشيدة، وبالطبع هو أيضا لا يعلم أن سعدا صديقي حتى هذه اللحظة.
وإني قبل أن أنشر نقدي له التقيته وسط نخبة من المفكرين في منزل الدكتور حسن الصواف وبحضور الدكتور صلاح الدين حافظ والدكتور أسامة الغزالي حرب والفنان التشكيلي وجيه وهبة وغيرهم من أعلامنا، وقلت له هذا النقد بحضورهم، وأخبرته سلفا أني سوف أنشره. ونشرت نقدي لكني لم أفعل فعل قريط فالشخص بمنأى عندي عن النقد، فما يشغلني هو ما يكتب ويؤثر به في الواقع؛ لذلك أدنت سعدا بقلم سعد وما خطت يراعه، وليس بخطاب متعال يتوهم ذاته ذاتا قادرة على الفرز وحدها وقراءة ما تضمر النوايا وإصدار الأحكام على الزملاء كخطاب عمنا قريط ضد شخصي الضعيف المتواضع، وبعد نشري نقدي لسعد تمت دعوتي من قبل مركز سعد (ابن خلدون) للمحاضرة، وحضرت وحاضرت ونشرت مجلة المجتمع المدني المحاضرة والمداخلات، ومؤخرا كتبت مشاركا في المجلة ذاتها وبناء على رسالة منها واثقة بحميد مواقفي، بكلمة محترمة تليق بدور سعد كأستاذ وشيخ ليبرالي كبير، بمناسبة بلوغه سن السبعين، أطال الله في عمره، أدعوه فيها للعودة إلى مصر بعد أن أجدبت مدنيتنا ببعده عنها، وعبر الاتفاق والاختلاف لم يحدث أن بخست سعدا أو اتهمته بما ليس فيه ولا سخرت منه أو من شخصه أو من كتابته ولا قللت من شأنه كأستاذ مؤسس لفكرة المجتمع المدني في بلادنا؛ لأن كل ذلك ليس من شيم ومكارم العلمانية من نبالة وفروسية.
ذكرني أخي قريط بحدثين لا أنساهما، أحدهما مقال كتبه صحفي منكور موتور بالأسلمة، وكيف أن الله من عليه أن يرى داعي الفرعونية الدكتور النصراني لويس عوض طريح فراش المرض الأخير بالمستشفى، يرطن ويخرف ولا يدري ما يقول حتى إنه لم يدر ببوله يتسرب على بنطاله، حتى انتهى بحمد الله والثناء عليه لنقمته السماوية على لويس عوض، ومضت الأيام ولا يذكر أحدنا هذا الصحفي ولا من هو، ومن بقي هو لويس عوض.
والثاني يخص كاتبا علمانيا صادق العلمانية هو حسين أحمد أمين الذي تعلمت من كتاباته كما تعلمت من كتابات سعد الدين، جاء يوم قرر أن يكتب فيه ذكرياته مع أبيه أستاذنا وتاج رأسنا «أحمد أمين»، وهو واحد من أبرز كتاب عصر النهضة في القرن الماضي، ومعارف أبيه هم من الأسماء اللوامع لذلك الزمان، والذين هم أساتذة لنا جميعا نفخر بهم ونعتز ونتيه فخرا، فإذ به يذكر أسرارا. تسيء إليهم ومواقف تشينهم، فكان قراري الشخصي هجر قراءة حسين، ولاحظت أن ذلك كان موقف بقية القراء دون اتفاق مسبق، حتى خفت نجمه أو تلاشى من الساحة، لكن ذلك لا يسلبه حق سبقه أستاذا علمانيا؛ لأن لدى القارئ حسه الذي يدفعه لاتخاذ المواقف مما نكتب ويحاكم الكاتب بالمقاطعة أو بالمتابعة وفق منظومته القيمية التي لا يأكل فيها الصغار لحم إخوانهم الكبار أو آبائهم وأساتذتهم أكانوا أحياء أم أمواتا، فكرهوه وكرهتموه.
أختم هنا بفقرة أخي نادر التي ختم بها موضوعه، إذ يقول وكله ثقة: «لا أنكر أني تمتعت يوما بلمحات تنويرية سطرها القمني في متون كتبه، فجمال الكتاب يفتح الشهية للمزيد، رغم الملل والشعور بالتخمة، لكن لغة سجال القمني ليست أكاديمية كثيفة دالة، ترضي المثقف اللماح، ولا ميسرة أنيقة تبهر الذواق، إنها للآسف لغة عربية متثائبة تتحرك ببطء، على إيقاع سيارات وسط البلد في القاهرة، وتنفث عوادمها في وجوه الناس، ولا تصل إلى مبتغاها إلا بشق الأنفس.»
إذن لماذا لا تكتب أنت يا أخي ما ليس كذلك، ولماذا لا تقدم لنا مشروعا كمشروعي الذي أشرت إليه في البداية ثم انتهيت به إلى لمحات تنويرية سطرها القمني، أم أن ظهور مشروعك مشروط بانسحابي بعدما شخت ولم أعد أطربك.
أخي نادر قريط، لن أنسحب من الساحة بعد أن انسحبت منها من قبل مكرها تحت وطأة الخوف على أولادي؛ فالتجربة كانت شديدة المرارة، وسأظل أكتب حتى يصيبني الخرف، وساعتئذ سأجد من ينبهني إلى التوقف حرصا على تاريخي العلمي من أمثالك، أو حتى تفاجئني موتة ربي أو موتة اغتيالية، وساعتئذ أتمنى عليك ألا تعود لأكل لحمي ميتا كما نهشته حيا، وأكرر الطلب من أشقائي العلمانيين أن يؤبنوني ويودعوني بعزاء يليق بي حين أغادركم، لتتمموا وتستكملوا ما بدأناه، تأبينا يداوي فقد عيالي لأبيهم حيا وميتا بعد أن خطفته منهم حالة قدرية وظروف وطن ليكون عبد مكتبه، لا يرونه إلا يومين أسبوعيا لمدة ساعات قصيرة في هذين اليومين، وأحيانا يلغى اللقاء بسبب العمل، وترطيبا لقلوبهم بعد معاناة طويلة ليس لهم يد فيها سوى كوني أباهم، وأخيرا وليس آخرا يبدو لي أني بحاجة إلى بعض الراحة الجسدية والذهنية؛ لذلك أستسمحكم عذرا في إجازة أرجو ألا تطول. أتمنى خلالها أن يسعد قلبي بالمزيد من كتاباتكم ونضالكم من أجل مواطن كريم يعيش في وطن عزيز يا أهلي وناسي في كل بلد عربي من بني ليبرال.
الفصل الثالث
درس في البحث العلمي وأخلاقياته
وأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي
ولا أنثر الدر الثمين على الغنم
فمن منح الجهال علما أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
الإمام الشافعي
وصلتني رسالة من الأستاذ رزكار عقراوي المنسق العام لمؤسسة الحوار المتمدن، يطلب مشاركتي في موضوع تقييمي حول «الحوار المتمدن إلى أين؟» بمناسبة الذكرى الثامنة لتأسيسه. وللصدفة البحتة فإن الرسالة وصلتني وأنا عازم على الامتناع عن النشر في هذا الموقع. حيث أنشر حاليا بصحيفة وزارة الثقافة المصرية (القاهرة) وصحيفة الأهالي المصرية، وموقع شفاف الشرق الأوسط، وموقع دروب، إضافة إلى الحوار المتمدن، وعنهم يتم النقل إلى مواقع أخرى عديدة.
لعل أهم ما يأخذه البعض على موقع الحوار المتمدن أنه ينشر لمبتدئين إلى جوار كتاب ناضجين إلى جانب قامات كبار، خالطا حابلها بنابلها، لكن هذا عندي شأن لا أعترض عليه، لأنه يمنح المبتدئ الثقة ليسعى للاستفادة من زملائه الكبار فيكبر، ويضيف لنا مزيدا من الثراء، إضافة لكونه يطلع جيل الشيوخ على جديد الشباب، فأنا ضد تصنيف الكتاب، لكني أيضا ضد التطاول على القامات الكبيرة؛ لأن ذلك ليس من أدب الكتابة ولا من شيم الأسرة العلمانية. وهذا أيضا لا يعني النقد الموضوعي الذي يتناول الموضوع وليس ضمير الكاتب وشخصه وسريرته؛ فالأول مطلوب بالضرورة العلمية، والثاني مرفوض بالضرورة القيمية. فقد ساءني بشدة ما تعرضت له سيدتي أنا شخصيا الدكتورة وفاء سلطان من تجريح وتهجم تجاوز حدود الموضوعية. والغريب أن من هاجموها استثمروا وقفتي المرحلية لظروف المعركة الدقيقة وحساباتها داخل مصر، وأقول للسيدة وفاء جائزتك يا سيدتي تشرفني وتسعدني وعلى رأسي من فوق، ورؤيتك تتحدثين تبهرني بشجاعتها ومنطقها، لا أعرف ما هي الجائزة، لكني بانتظارها لأعرضها بمكتبي حبا وكرامة، إن شرط العلمانية هو السماح بالنقد الموضوعي دون حدود ولا سقوف حمراء؛ لذلك أفهم أن تكون مسلما أو مسيحيا وأن تكون أيضا علمانيا؛ أي أنك لا تفرض دينك على غيرك، وتقبل نقد دينك لأنه لا دليل على صدقه؛ لذلك لا نصدقه إنما نؤمن به والفارق عظيم في آليات الموقفين، فكل دين يزعم المؤمنون به أنه الصدق المطلق، وهو ما يعني عدم «الصدق بالمرة»، لتناقض الأديان تناقضا تاما والمصدر واحد إذا سلمنا بالإيمان. نعم أفهم أن يكون العلماني يؤمن بدين لحاجته النفسية إليه لسد فجوات مقلقة لديه، فلكل ظروفه القاهرة أحيانا، لكني لا أفهم أن يطرب مسيحي علماني لنقد الإسلام وينزعج بشدة من نقد الدين المسيحي، أو أن يطرب مسلم علماني لنقد اليهودية والمسيحية، ويشن الحملات على من ينتقد الإسلام، أو أن ينتقد أحدهم الإسلام لما فيه من خرافات كالجن والعفاريت، وهو نفسه من يحكي لنا أن القس فلان يخرج الجن والعفاريت من الملبوسين، ويشرح ذلك ويستفيض في التدليل عليه، أو من يبين نقائص الإسلام في قنواته الفضائية، ليدعونا إلى دينه هو بحسبانه الدين السليم والكامل؟!
إن من يزعم العلمانية وينزعج من نقد دينه هو منافق يرتد عند أول ناصية ويبيعنا جميعا عند أول موقف، مقابل اكتمال راحته النفسية وهدوء باله، وحل مشاكله النفسية في عالمه الوهمي.
ساءني أيضا أن يتم نشر ردود إسلامية تهاجمني في شخصي كما في كتابات منشورة بالحوار المتمدن، بينما كل المواقع الإسلامية ترفض نشر أي مقال أو أي تعليق ولو موضوعي ومحترم لأي علماني. كما ساءنى أيضا استثمار ما أتعرض له من محن لإصراري على البقاء في مصر ولأني اخترت دور التغيير من الداخل؛ ومن ثم تتغير مواقفي أحيانا بدرجة أو بأخرى حسب طبيعة الضغوط ونوع المعركة، فأمارس أحيانا التقية المشهورة لديهم لأتقي شرهم، وأحيانا آخذ خطوة إلى الخلف لآخذ بعدها خطوتين إلى الأمام، لكن كلها خارج موضوعات بحثي التي أوجهها لقارئ، هي معارك قانونية أحيانا ودبلوماسية أحيانا وبدون قوانين حاكمة أحيانا، فلكل خصم استخدام ما بين يديه من أدوات ووسائل للانتصار على خصمه، وتحتاج أحيانا لأوراق غير أوراق البحث العلمي، لكني لم أتنازل يوما عن خياراتي المعلنة والواضحة للبصير والأعمى، وهو ما أدى ببعض كتاب الحوار المتمدن للدعوة لوقف حملة الموقع لتأييدي ، بعد أن اعترفت للنبي بأنه سيد الخلق وقلت الشهادتين في التلفزيون المصري، كما لو أن حملة التأييد كانت قد أضافت إلي شيئا يرفع من معاناتي، وكما لو كان أحدهم ساهم في شراء مراجعي وأوراقي، أو دفع الأجور للمحامين ورسوم القضايا، ولا يكفوننا شرهم بسكوتهم عنا، وهم في نعيم بلاد الأجانب حيث الرفاه والأمان بعيدا عن مشاكل الوطن وكوارثه المتتالية، بل ويقرعونني ويطلبون رفع الدعم عني (أي دعم بالضبط؟!) لتصريحاتي الإيمانية الإسلامية، أو كما لو كنت ضد الأديان لكونها أديانا فقط، وليس لكونها معطلا ومعوقا للتقدم والحداثة، وكما لو كان الناقدون لديهم ترف خسارة شخص مثلي لا يستطيعون استطاعته ولا يقدمون ولو يسيرا مما يقدمه، هم أنفسهم المداحون حين تسمح الظروف لي بالصول والجول وتحقيق الانتصارات للطرف العلماني، فهم مشجعو مباريات، إن انتصر فريقه رفعه على الأعناق وكتب «مدد يا سيد يا قمني »، وإن تراجع فريقه (ولو لأسباب تكنيكية ومرحلية من أجل الهدف الاستراتيجي) انهالوا عليه تقريعا ولوما وتأنيبا وتأثيما، المسألة عندهم تسجيل أهداف، وهؤلاء لا يصح أن يكونوا كتابا بل هم من غوغاء العوام.
مرة أخرى لا بد من السماح بالنقد الموضوعي الهادئ والرصين، وأن يتناسب حجم الناقد مع حجم المنقود من حيث درجة إحاطته بالموضوع وبالمنهج؛ فالنقد هو نافذة النور وبوابة المستقبل وضمانة للسلامة المنهجية؛ لأنه يساعدنا على تصويب أخطائنا، ومثلي مثل زملائي أتعرض للنقد أحيانا وأتركه دون تعليق، وأحيانا يستدعي النقد الرد والجدل، وهناك نقد آخذ بما جاء فيه وأشير إليه في كتاباتي التالية بعد التصويب مستفيدا من هذا النقد، أما البذاءات والنقد المؤدلج فهو مما لا يلتفت إليه الكاتب الحقيقي.
تعالوا أحيطكم علما بمثلبة حقيقية للحوار المتمدن، بحادثة كارثية ومقرفة معا، هي السبب في قراري الانقطاع عنه، خاصة أني لا أتقاضى منه ولا من غيره من مواقع أجرا، رغم أن كتاباتي هي مصدر عيشي المتواضع أقدمه عن حب ورغبة مصروفا عليه من وقتي وقوت عيالي، لشراء دفاتري وأقلامي ومصادري ومراجعي، وهي شأن هائل يثقل الكواهل، أقدمه كله قربانا على مائدة العلمانية من أجل وطن عزيز يعيش فيه مواطن كريم.
لاحظت أن أحد كتاب الحوار المتمدن من المثابرين على الكتابة قد تخصص في كتاباتي، وقد سبقه إلى هذا التخصص كثيرون، أتذكر منهم الشيخ الدكتور عبد الله كامل (شقيق الشيخ صالح كامل) الذي كرس لأعمالي كتابا من ستمائة صفحة لإثبات كفري ومروقي، نشرته دار التراث الإسلامي بالقاهرة منذ سنوات، ومنهم الأستاذ منصور أبو شافعي وهو بدوره ذو مرجعية إسلامية سلفية، لكنه أقل تشددا من زميله الدكتور كامل وأفضل منه أدبا، وأكثر اهتماما بالمنهج وتكنيك العمل، وفي كلا الحالتين لم أنشغل بالرد لأنه سيعني التفرغ للرد على كتب بكتب، فلماذا كل هذا الهم؟ كتبي في السوق، وكتبهم في الأسواق، وللقارئ الاختيار والحكم. هناك بعد اثنان آخران لكن من لون آخر، أولهما هو صاحب كتاب «الحياة السرية لمحمد»، الذي ترجمه عن كتابي «الإسلاميات » كله تقريبا ووضع اسمه عليه (البروفيسور: أ. أحمد) وهو أستاذ أنثروبولوجيا يعمل بأمريكا، أما الثاني فهو المثابر المتخصص في كتاباتي بنافذة الحوار المتمدن، فقد تخصص في سرقة كتاباتي بمصادرها ومراجعها، وما يقف وراءها من سنين عمر طويل، عشتها بحثا وتنقيبا وراء النصوص في أمهاتها، وابتداع الفكرة الجديدة، بعد رصد الذين تناولوا الموضوع قبلي، وإلى أين انتهوا، ومن أين سأبدأ أنا، ثم وضع الخطة لكل موضوع بما يناسب المنهج المختار للبحث أكان اجتماعيا أم رياضيا أم تاريخيا، وبما يؤدي إلى أفضل النتائج المطلوبة، بعد حشد المؤيدات العقلية والبرهانية والنصية المصدرية، ناهيك عن تصنيف المادة العلمية بعد جمعها حسب ترتيب الموضوع ليصل إلى هدفه، وتوزيعها على محاوره حسب الخطة الموضوعة، ومعها الأفكار الأساسية وراء كل سطر وصفحة، الرجل سرق عمري كله بشديد البساطة.
الغريب أنه شديد البجاحة فقد بدأ بسرقة ما سبق لي نشره بالحوار المتمدن ذاته، أحيانا ينقل بالنص، وأحيانا ببعض التصرف الساذج، ثم انتقل لكتابي «حروب دولة الرسول»، وهو كتاب ضخم تم نشره عدة مرات، وآخر مرة نشر ضمن مجلد وفيه أربعة أقسام هي «الإسلاميات»، وهو موجود على مواقع كثيرة بالمجان لشديد الأسف. والكتاب من القطع الكبير ويقع في 610 صفحات. وأخذ صاحبنا بنشر سلسلة بعنوان «المعارك المحمدية الكبرى» حتى أنجز الجزء الأول من كتابي حروب دولة الرسول على حلقات طوال بالحوار المتمدن.
قمت بإبلاغ إدارة الحوار المتمدن برسالة شخصية، فطلبوا منى كتابة ذلك في مقال بالأدلة، وكان ردي أني أفضل عدم فضح زميل علماني، فذلك يعطي الفرصة للطرف المعادي لنا جميعا، متصورا أنه زميل حقا! ولأن الرجل نقل كل شيء، الفكرة والمنهج المختار، بل أخذ الخطة ذاتها، والمراجع المختارة لهذه الخطة، وهي الموجودة في الحاشية بكتابي، ونسب كل شيء لنفسه بجسارة نادرة المثال، فكأنى سأكتب كتابا جديدا، الرجل أنجز نصف كتابي على حلقات طوال، وللرد أحتاج إلى كتاب هائل يحوي مساحة كتابي الأصلي مقارنا مع كتابي الثاني الذي نشره صاحبنا على الحوار المتمدن ومساحة أخرى ناقدة بكتاب ثالث، وهو شأن سيكون السخف بعينه.
المهم أحلت إدارة الحوار المتمدن على كتابي «الإسلاميات» وضمنه «حروب دولة الرسول» للمقارنة، وأحطتهم علما أنه أنجز الجزء الأول من الكتاب بانتهاء عرضه لغزوة بدر، التي لم يعرضها هذا العرض وفق هذه الخطة بهذه المراجع ذاتها دون غيرها من مراجع أحد من العالمين بهذا المنهج وتلك الاستنتاجات سوى سيد القمني وحده، وأن عليهم أن يترقبوا بدء نشره للجزء الثاني من كتابي الذى يبدأ بغزوة أحد قريبا. كل ما طلبته من الإدارة هو التدقيق بين كتابي وبين ما نشره وإعلامه بذلك ليتوقف، وربما ليعتذر عن إساءته إلى كل العلمانيين بما فعل، وكان توقفه فقط يكفيني وينتهي الأمر، فكتابي في الأسواق، وكان أول نشر له في نهاية الثمانينيات في القرن الماضي، وللقارئ عين فاحصة وسيكتشف السارق والمسروق.
وإن لم يكتشف لا يستحق أن يكون قارئا أهتم به.
هذه ليست أول مرة يتم فيها سرقة كتاباتي من العلمانيين، فلدي أسماء كبيرة أحتفظ بها دون إفصاح إلا حين يكون مطلوبا الإعلان والكلام المباح، قامت بالفعل المخزي ذاته، لكني كنت لا أنزعج لأن السارق استطاع أن يوصل الكلام إلى مساحة أوسع تلفزيونيا أو صحفيا؛ لأنه يملك مساحة نشر أوسع وأفضل لموقعه في صحيفة كبيرة أو صاحب برنامج ناجح، وله أيضا قراءة الذين سيصل إليهم كلامي، المهم أن تصل الفكرة إلى الناس، كنت أنزعج فقط إذا أساء السارق للمادة المسروقة بتدخل أخرق أو غبي أو أحمق، يحرفها عن أهدافها ويؤدي ذلك لعكس المراد، وعادة ما كان يفعل ذلك من هم أقل علما ومعرفة، فتشعر أنهم كائنات طفيلية تصيب الموضوع ذاته بفيروس العطب والسخافة. ومن لون هذه السرقات المزعجة تأتي سرقات صاحبنا المتتالية، التي كان يتدخل فيها بغباء في بطن غباء غارق في يم غباء، أي في ظلمات ثلاث، فيدمر بجهالته وحمقه جهدا بذل فيه صاحبه عمره كله.
أمسى واضحا لدي أن بلاغي للحوار المتمدن قد وصله، بما أشار إليه بداية موضوعه الجديد «المعارك المحمدية الكبرى، الجزء الثاني: غزوة أحد»، لكن الغريب أنه تابع المثابرة ليجعل موضوعه هذا بداية لنشر الجزء الثاني من كتابي «حروب دولة الرسول».
يقول «شاكر الشيخ سلامة» في بداية موضوعه هذا والمنشور في الحوار المتمدن بتاريخ 5/ 12/ 2009م: «وكما أشرنا في بداية الجزء الأول - بدر الكبرى - اعتمدنا في البعض من هذه الدراسة على البعض مما اعتمده القمني في بحثه في معارك محمد وجيشه، ولكن بنظرة مادية لها تختلف عما ذهب إليه القمني في بحثه، وبخلاف التردد والتخوف الذي عرف عن القمني.» صدقت المرحومة والدتي عندما كانت تقول: «تكلم العاهرة تلهيك، واللي فيها تجيبه فيك.»
إذن شاكر سلامة يقول إن التشابه ناتج عن اعتماده مصادر ومراجع اعتمدها القمني؛ لأنه سيعمل بنظرة مادية (لا تفهم ماذا يعني هنا بالضبط بنظرة مادية؟! ربما يعني بها الشجاعة لأنه يقارنها بخوفي وترددي؟ على كل حال الله أعلم!)
إن العودة إلى كل ما كتب الأستاذ سلامة مسروقا من كتبي سيكون ضياعا لوقت وهدرا لساعات ثمينة لمثلي، يكفي القارئ أن يقرأ كتابي ويقرأ ما نشره الحرامي تحت عنوان «المعارك المحمدية الكبرى». وسأكتفي منعا لهدر الوقت بأصغر موضوعاته، هذا الذي بين يدينا، والذي يبدأ به نشر الجزء الثاني من كتابي مع معركة أحد، وبموضوع آخر بعنوان «الأسلمة والإرهاب 2» المنشور في الحوار المتمدن بتاريخ 7 / 6 / 2009م، كعينات عشوائية للمناقشة، وللتيقن من صدق اتهامنا له بالسرقة الفاجرة بجريمة متكاملة الأركان. وقبل المناقشة نحدد بعض المعاني والأساليب المنهجية في البحث العلمي، لنفهم كيف سرق، وكيف دمر بغبائه المقزز ولزاجته المنفرة عملي كله. (1) بالنسبة إلى المصادر والمراجع
للمصادر الإسلامية خاصة ما تعلق بالسير والأخبار والتآريخ سمات تميزها، فقد صنفت من الأصل زمنيا، بحيث تغطي الفصول الأحداث سنة بسنة، ارتجاعا إلى ما قبل الهجرة أو تقدما في أحداث ما بعد الهجرة، كما نفعل في تاريخ الحضارات قبل الميلاد وبعد الميلاد فيكون السرد: أحداث سنة كذا هجرية تليها أحداث سنة كذا هجرية ... إلخ. وهي في الجملة كتب موسوعية تقع في مجلدات وتحوي المجلدات أجزاء، ورغم الكثرة الهائلة لهذه المدونات الإسلامية؛ فإنها تكرر الأحداث نفسها للمواضيع نفسها بلا كلال ولا ملل، لكن الباحث المدقق سيجد اختلافات في كلمة أو عبارة أو إضافة كامنة في التفاصيل يمكن بجمعها إلى جوار بعضها أن تضيء الحادثة المشهورة عند الجميع، وغير المعلوم عنها هذه التفاصيل، التي تفاجئ القارئ العادي والمتخصص معا، وتشهد للباحث بجودة السعي والتنقيب وحسن فطنته.
ونظرا لتكرار طباعة هذه المصادر في دول إسلامية مختلفة، فإن ما يترتب على ذلك دوما هو اختلاف أرقام الأجزاء والصفحات في الكتاب الواحد بين بلد إسلامي وآخر، بل داخل البلد الواحد كمصر، ستجد طبعة دار المعارف لتاريخ الطبري يختلف ورود الموضوع في صفحاتها عن ورود الموضوع ذاته في صفحات الطبعة الأقدم من نشر دار البابي الحلبي بما يصل أحيانا إلى عشرات الصفحات، وتختلف عن طبعة «المكتبة العلمية» ببيروت، فتجد موضوعا بطبعة دار المعارف المصرية ص20 من الجزء الأول مثلا من ابن كثير «البداية والنهاية»، موجودة في طبعة بيروت ص11 من الجزء الأول، ناهيك عن الطبعات الشعبية التي بدأتها مصر بدار الشعب في الستينيات من القرن الماضي، على هيئة تشبه المجلات الكبيرة تيسيرا لسعر الكتاب مقسطا على حلقات، تختلف فيها أرقام الصفحات بالكلية عن مثيلها الذي أصدرته دور إسلامية حديثة في البلد نفسه؛ لذلك يكون مستحيلا أن تجتمع مراجع ومصادر تم جمعها منذ حوالي ثلاثين عاما وما توافر حينذاك من طبعات، وهو مختلف عما أضيف منذئذ إلى اليوم من كم هائل إلى المكتبة العربية من المصادر الإسلامية ذاتها بطبعات متتالية، وإن هذا الجمع قد تم وفق الخطة الموضوعة الخاصة بالباحث وحده لتحقيق أهداف ترصدها الخطة وتسعى إليها، هذا مصدر قديم وهذا مصدر حديث وهو الكتاب نفسه باختلاف زمني وباختلاف الناشرين، وهذا مصدر لبناني وذاك مصدر سعودي الطباعة، لذلك يصبح مستحيلا على أي باحث أن يزعم أنه رجع إلى المراجع ذاتها في الطبعات ذاتها التي جمعها باحث آخر والتي لا تجتمع إلا لواحد، هو من جمعها في الأجزاء نفسها وفق أرقام الصفحات نفسها والطبعات نفسها. لا شك أن المراجع والمصادر متاحة للجميع، لكن من يعتمد طبعة سورية ستختلف بين يديه الصفحات والأجزاء عما في الطبعة الأردنية للمصدر ذاته، ولأن جمع الباحث لهذه الكتب أثناء البحث يعتمد الصدفة البحتة، حسب الموجود أمامه في المكتبة من كتب لها دور نشر مختلفة، فقد يأخذ الباحث طبقات ابن سعد طبعة مصرية، ويأخذ الطبري طبعة لبنانية، ويأخذ النسفي طبعة من دار الشعب المصرية، ويأخذ سيرة ابن هشام بطبعة سعودية حسبما توافر أمامه، فإن لم يرد عند صاحبنا السارق سوى هذه المصادر في الترتيب ذاته والصفحات ذاتها والطبعات ذاتها التي كانت تتوافر منذ ثلاثين عاما؛ فإنه يكون سارقا فاجرا لا محالة. (2) أسلوب جمع المادة العلمية
يعتمد جمع المادة العلمية على خطة البحث وخطواتها وأهدافها، إضافة إلى المنهج المستخدم فيها، فمنهج الاستدلال الرياضي يبدأ بفرض الفروض لحل المشكلة الماثلة أمام الباحث، ومن ثم يأخذ بجمع المادة العلمية المتعلقة بهذه المشكلة بالذات من مصادرها ومراجعها لتشكل له مادة خاما يدعم بها فروضه، ويستخدمها أيضا كقرائن وبراهين على وجهة نظره التي يريد أن يصل إليها في البرهان، وهو عادة المنهج الذي أستخدمه كأسلوب عرض للمادة المجموعة وإعادة ترتيب عناصرها حسب الأهداف المرصودة، ثم أعمد إلى المنهج المادي التاريخي (المشهور بالماركسي) الذي أستخدمه كأسلوب عمل وفحص لمكونات النص وعلاقته بزمنه وبيئته واقتصاده وشكله المجتمعي ونطاقه السياسي ... إلخ، ثم أعمد إلى تفسير النصوص لتنطق بالمخفي وراءها من أحداث حدثت في واقع الأرض، وبعد حشد المادة يتم تصنيفها وترتيبها ليلحق كل منها بالأبواب المرصودة في خطة البحث. ومثل هذه الطريقة اختيار خاص تماما، فلم يحدث أن جمع باحث في الإسلاميات بين المنهج المادي التاريخي (الذي يتضمن بالضرورة التطورية الدارونية) وبين المنهج الرياضي في آن واحد، مع حشد المادة التي تتناسب والمنهجين معا ناهيك عن تصنيفها وتبويبها لتتلاءم مع الخطة والمنهجين، لتصبح إبداعا متفردا بذاته لا يستطيع زاعم أن يزعمه. فلا يوجد في المكتبة الإسلامية بطولها وعرضها كتابات توافرت فيها هذه الشروط والخصائص سوى كتابات سيد القمني وحده، باختياراته التي تختلف عما هو معتاد من اعتماد منهج واحد في البحث العلمي، والانتماء إلى مدرسة بعينها. هو خلق جديد لم يكن له وجود سابق، ولا تعرفه المكتبة العربية، فإن كرره أحد؛ فإنه سيكون باليقين القاطع مرتكبا لجريمة السرقة في فعل فاضح علني، وبهذا تكون جريمته لونا من ألوان الاغتصاب الفكري وهو من الجرائم الكبرى المنكرات، فأن تسرق دولارات أو دنانير أمر، أما أن تسرق فكر وروح إنسان فهو الجريمة في أبشع معانيها. (3) أسلوب استخدام المادة العلمية
عند الاستعانة بالمادة الموجودة في المكتبة التراثية الإسلامية، يمكن للباحث البارع أن يستكمل الرواية نفسها من أكثر من مصدر، فيأخذ الرواية نفسها من ابن هشام وابن حبيب والحلبي مثلا، ليثبت أولا لقارئه المتخصص أنه لم تفته المصادر الأخرى للرواية، أما الباحث الأذكى فهو الذي يقع على تفاصيل متناثرة غير مكررة بين الروايات مما يجعلها غير معلومة لعامة الباحثين، فتشكل كشفا برهانيا يدعم به رؤيته، ولكن لهذه العلمية شروط وضعها لنا علماء منهج البحث العلمي، يجب الالتزام بها بصرامة لا تقبل احتمالا.
فعند إيراد نص يستشهد به الباحث يجب أن يضعه كما هو في المصدر دون أي تدخل من جانبه حتى لو كان به أخطاء طباعية ، وأن يضعه داخل علامات تنصيص، ليفرق القارئ بين كلام الباحث وكلام النص المدمج في متن عمل الباحث.
ولكن للباحث هنا حقوقه إزاء تعامله مع النص، فلو كان النص مطولا، وهو المعهود في المكتبة الإسلامية، وفيه إضافات عن شئون أخرى تخرج عن مراد الباحث، فله أن يقفز على هذه الإضافات، شرط أن يضع مكانها نقاطا أفقية هكذا «...» ليفهم القارئ أن الباحث قد أسقط هنا عمدا جزءا من النص ليرجع إليه إن شاء، لكن بشرط ألا يكون منتقيا لما يوافق هواه مهملا ما يخالف هذا الهوى، بمعنى ألا يقتطع من السياق ما قد يناقض هدف النص الأصلي، كما في القول
لا تقربوا الصلاة
وإهمال
وأنتم سكارى .
وعلى الباحث أن يرصد في حاشية بحثه المعلومات الكاملة للمصدر الذي استقى منه النص، وهي على الترتيب الصارم كالآتي: اسم المؤلف، اسم المحقق إذا كان للكتاب محقق، اسم دار النشر التي نشرت الكتاب، تاريخ نشر الكتاب ويسمى تاريخ الطبعة لاحتمال طباعته عدة مرات في دار النشر نفسها فتختلف الصفحات بين طبعات الكتاب، اسم البلد الناشر: بيروت، القاهرة، لاهور ... إلخ، رقم المجلد إذا كان هناك أكثر من مجلد، رقم الجزء إذا كان ثمة أكثر من جزء، رقم الصفحة، وفي حال تكرر المرجع ذاته بالبحث تتم الإشارة إليه موجزه كالآتي: «سبق ذكره، صفحات كذا.» وغير هذا الترتيب خطأ منهجي يؤاخذ عليه الباحث المحترم. (4) حقوق الباحث إزاء المصادر
للباحث الحق في اختصار سرد مطول لو زاد النص المراد اقتباسه على واحدة، وأن يكتبه بأسلوبه ملخصا، شرط ألا يهمل أسسه وأعمدته وأهدافه أو أي عنصر هام أصيل بالنص، وفي هذه الحال لا يضع علامات تنصيص، وعندما يشير في الحاشية إلى المصدر يبدأ بقوله: انظر كتاب كذا لفلان؛ أي سيتغير ترتيب الحاشية ونبدأ بعنوان الكتاب لا باسم المؤلف، ليفهم القارئ من عدم التنصيص ومن عبارة «انظر» أن الكلام ليس نصيا إنما أورده الباحث بتصرف.
وأحيانا يحتاج النص إلى شرح وتوضيح داخل متنه؛ لذلك يجب أن يكون التوضيح سريعا في كلمة أو كلمتين أو جملة قصيرة، وفي هذه الحال يضع كلامه بين أقواس هكذا: () أو بعلامات الجملة الاعتراضية هكذا - - وأن يضيف كلمة: الباحث، أو: المؤلف، لنهاية جملته بعد القاطع؛ ليميز كلامه المدمج بمتن النص، عن بقية النص.
ولأن الشيخ سلامة طفيلي حشري وعيهور في الوقت نفسه؛ فإنه لا يعلم بكل هذا؛ لأنه لا هو باحث ولا هو كاتب ولا هم يحزنون، هو واحد عابر سبيل ممن استهوتهم العلمانية وقيمها في الحقوق والحريات، كاستهواء الخمر ونشوتها أو استهواء الرقص والانفلات الخلقي الجرمي، متصورا أن العلمانية هي إباحة تامة لكل القيم، رغم تكراره عبارات الفخامة والإحاطة، كقوله المتكرر: سبق وأن تمكنا، وكما قلنا في بحثنا السابق، مستندين إلى أهم المصادر والمراجع المعروفة لنا، سنقدم هنا الأدلة والبراهين من أمهات الكتب الإسلامية ... إلخ ... إلخ! صاحبنا لا يعرف معنى النقاط الأفقية، ولا وظيفتها، ولا إلى ماذا تشير، ولا يعرف سبب علامات التنصيص ولا وظيفتها، فيخلط كلامي الشخصي بكلام النص المصدري ويسوقه إلينا راجعا إلى المصادر في حاشيتي بكتابي صفحات وأجزاء، وما كنت أسقطه من نصوص هو لعدم حاجتي إليه في بحثي، وأضع بدلا منه نقاطا أفقية تأتي عنده كذلك في المواضع ذاتها، إنه يهمل ما أهمله سيد القمني بالكلمة والحرف وعدد الأسطر، ولم يخطئ الرجل ولو مرة واحدة في النقل الأمين والسرقة بفعل علني فاضح، ويصادف أن تجتمع عنده مصادري التي جمعتها عشوائيا حسبما توافر أمامي منذ ثلاثين عاما من طبعات مختلفة البلدان، فهذه لبنانية وأخرى تونسية وثالثة مصرية ورابعة سعودية وخامسة باكستانية وسادسة عتيقة (مصرية فقط) كطبقات ابن سعد الصادرة عن دار الشعب في مصر، ودار الريان، ولا تتوافر لغيرنا لكون الأولى مدعومة من الحكومة المصرية، والثانية مدعومة من بيوت الأموال الإسلامية، ومع ذلك تجد عنده المصادر نفسها والأجزاء نفسها والصفحات نفسها.
القبض على اللص متلبسا
في الموضوع الأخير الذي ينعى فيه اللص الخائب والرقيع على سيد القمني خوفه وتردده بدلا من شكره على موقفه النبيل وعدم رغبته في فضحه، وليستمر في فجره بسرد وقائع غزوة أحد، ويستشهد بالنص بأقواس لا بعلامات تنصيص فهو لا يعلم وظيفة أي منهما، يقول: «لما أصيبت (صوابها أصيب) يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة ... مشى ... رجال من قريش ممن أصيب آبائهم وأبناؤهم. (لاحظ الأخطاء القاعدية النحوية التي لا يرتكبها تلميذ مرحلة أولى، إنه ينقل نقلا ومع ذلك يخطئ) وإخوانهم من قريش، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا، ففعلوها فاجتمعت قريش لحرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا بالظعن - أي النساء - التماس الحفيظة، وألا يفروا» (ابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص11 و12). وحتى يدقق القارئ أضيف له ما ورد عندي في الحاشية من معلومات النشر كي لا يذهب لطبعة أخرى مختلفة. الناشر دار الكتب العلمية، وبلد النشر بيروت، الطبعة الرابعة الصادرة سنة 1988م، ص11و 12.
الفواصل بالنقاط في كلام السيد الحرامي عددها ثلاثة فواصل، الفاصل الأول أهملت فيه «ورجع أبو سفيان بعيره» ووضعت بدلا منها هذه النقاط لأني سبق وحكيت عن موضوع أبي سفيان، فقمت بإسقاطها ووضعت النقاط محلها، والفاصل الثاني أهملت فيه ما ورد عند ابن كثير: «عبد الله ابن أبي ربيعة وعكرمة ابن أبي جهل وصفوان بن أمية»، وهو ما فعله الحرامي بدوره، والفاصل الثالث، أهمل سطورا طويلة عددها ستة عشر سطرا حتى «وخرجوا معهم بالظعن - النساء - التماس الحفيظة وألا يفروا»، وهي السطور ذاتها التي أهملها الشيخ سلامة حرفا حرفا وكلمة كلمة، وكلمة النساء هنا ليست في نص ابن كثير إنما تعبير شارح من عندي؛ لذلك وضعتها بين شرطتين داخل نص ابن كثير ككلمة اعتراضية من الباحث شارحة لمعنى الظعن، وهو ما أخذه صاحبنا محتسبا إياه من كلام ابن كثير.
تعالوا ننتقل نقلة أخرى داخل الموضوع ذاته وما كتبه حول اغتيال المسلمين لسيد النضير «كعب بن الأشرف» ويروي الرواية التي أخذتها عن ابن كثير، ويهمل ما أهملته نفسه بالتدقيق المبين ، لنقرأ معا النص الذي يزعم أنه أخذه عن ابن كثير بينما هو لا يعلم شكل كتاب ابن كثير يقينا. يقول الشيخ سلامة نصا: «حين قال كعب: أترون أن محمدا قتل هؤلاء؟ ... فهؤلاء أشراف العرب وملوك الأرض! والله لئن كان محمد قد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظاهرها» (ابن كثير، ج4، ص8). ولو رجعنا إلى النص الأصلي بكتاب ابن كثير ص8 لن نجد هذا الكلام بالمرة، فهناك حكاية أخرى، إنما سنجده ص7 نهاية الفقرة الأولى وسنجده غير ذلك بالمرة؛ فالنص هو: «وقال محمد بن إسحاق كان من حديث كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيء أحد بني نبهان، وأمه من بني نضير، إنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر حين قدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.»
فمن أين أتى الحرامي بهذا الكلام؟ أتى به من كتابي حروب دولة الرسول الجزء الثاني ص240، وقد أخذته عن السهيلي في شرح وتفسير السيرة النبوية لابن هشام في كتابه «الروض الأنف»، طبعة دار المعرفة، بيروت، عام 1978م، المجلد الثالث، ص139 و140، فكيف نسبها الشيخ سلامة لابن كثير؟ لأنه أخطأ النظر في حاشية كتابي فسجل الهامش الثاني بدلا من الأول كمصدر وقال إنه: «ابن كثير البداية والنهاية، ج4، ص8»، بينما هو في الروض الأنف للسهيلي. حتى علامات التعجب والاستفهام التي وضعتها في سياق هذا النص أو غيره، وضعها في المكان ذاته، ولم تكن في أصل النص لا عند السهيلي ولا ابن كثير ولا ابن أي أحد! هي عند ابن القمني فقط.
ويستكمل نقلا عن السهيلي، وهو لا يعرف قطعا من هو السهيلي، ليقول: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: اللهم اكفني ابن الأشرف، فقال له محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله أقتله، فقام محمد بن مسلمة منقلبا إلى أهله، فلقي سلكان بن سلامة ... فقال له محمد بن مسلمة إن رسول الله قد أمرني بقتل ابن الأشرف، وأنت نديمه في الجاهلية ولن يأمن غيرك فأخرجه إلي لأقتله .. فخرج سلكان .. إلخ».
وبالرجوع إلى السهيلي (سبقت الإشارة لمعلومات النشر) مج3 ص200 في الجزء الثالث ستجدها كلها قصيدة شعرية لا علاقة لها بالموضوع من قريب أو بعيد، ويضيف مصدرا إضافيا موجودا في حواشي كتابي ص241 هو «البيهقي ج3، ص191، 192» وهو المصدر السليم، أما المصدر الذي أشار إليه عند السهيلي فخطأ مطبعي ورد عندي على السطر ذاته الوارد عند البيهقي، فنقله عني كما هو، أما المسافات المنقوطة فمكانها في النص خمسة أسطر أهملتها فأهملها بدوره في الصفحات 189 و190 بالتحديد من كتاب البيهقي: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، توثيق د. عبد المعطي قلعجي، نشر دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1988م.
وروى أربعة أبيات من الشعر للصحابي كعب بن مالك شماتة بمقتل كعب بن الأشرف، كنت قد انتقيتها من السهيلي من بين الأبيات التي قيلت في هذه المناسبة، ومن قصيدة من بين 7 قصائد من المطولات، واخترت القصيدة المذكورة ص244 من الجزء الثالث وعدد أبياتها عشرون بيتا، واخترت من العشرين بيتا ما يناسب خطتي وأهدافي وحسي الفني الشعري وما يناسب ذوقي. أبيات أربعة ترتيبها في القصيدة من البيت الحادي عشر إلى الرابع عشر، وهي الأبيات ذاتها التي استشهد بها صاحبنا دون بقية القصيدة وكل القصائد الأخرى، الرجل يعرف حتى مزاجي الشعري وما يرضي ذائقتي منه.
يتابع الأستاذ المقدام المادي وينقل عني قول البيهقي: «وكان كعب يكنى أبو نائلة، فقالت امرأته: لا تنزل يا أبا نائلة إنه قاتلك، فقال ما كان أخي يأتيني إلا بخير، ولو يدعى الفتى لطعنه لأجاب ... وأدخل سلطان يده في رأس كعب ... إلخ.» محل النقاط الأفقية كنت أهملت خمسة أسطر لألتزم خطتي، ففعل الشيخ سلامة الفعل ذاته.
يتابع: «فلم يزالوا يتخللونه بأسيافهم حتى طعنه أحدهم في بطنه بالسيف خرج منها مصرانه، وخلصوا إليه فضربوه بأسيافهم ... فقتل الله عز وجل ابن الأشرف.» ومكان هذه النقاط كنت قد أهملت ستة أسطر لا تشغل خطتي، واستبعدها بدوره كاملة من أول كلمة لآخر كلمة، وبدأ كلامه من حيث بدأت وانتهى إلى حيث انتهيت.
لنذهب إلى موضوع آخر من مطولات الشيخ سلامة هو «الأسلمة والإرهاب 2»، بنظرة سريعة فقد طال الموضوع على القارئ، يحكي لنا - من كتابي طبعا - حكاية غزوة قينقاع وأسرهم وعزم النبي على قتلهم، ولكن ليتدخل حليفهم في زمن الجاهلية عبد الله بن أبي ابن سلول الأنصاري، ليمنع عنهم القتل، يقول: «فقام مخاطبا محمد: يا محمد أحسن في مواليي، فلم يرد عليه النبي، فقام يكرر، ومرة أخرى يعرض عنه النبي، فيأخذ الغضب بعبد الله حتى يدخل يده في جيب درع الرسول يمسكه من لحمه الشريف وهو يقول: يا محمد أحسن في مواليي - كتبها كل مرة موالي خطأ وربما هو لا يعلم معناها - حتى غضب النبي غضبا شديدا، ورؤي لوجهه ظلل وهو يقول لعبد الله : ويحك، أرسلني، أرسلني، بينما ابن سلول لا زال ممسكا به ويقول: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود من الناس، وتحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر! وهنا قال له النبي: هم لك» (الطبري، ج2، ص480).
ولأن الرجل لا يعرف معنى علامات التنصيص، لم يلحظ أني لم أضع على هذا الكلام هذه العلامات؛ وهو ما يعني أني سأرويها على طريقتي، فظنها نص كلام الطبري وأوردها منسوبة إليه نصا، بينما هي نص كلام القمني في كتابه «حروب دولة الرسول»، وليست نص كلام الطبري في كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، طبعة دار الكتب العلمية بيروت، المجلد الثاني، ص49، حيث يقول: «رجع الحديث إلى ابن إسحاق عن عاصم بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين مكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في مواليي - وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال: فأدخل يده في جيب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أرسلني، وغضب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى رأوا في وجهه ظلالا - يعني تلونا - ثم قال: ويحك أرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأسود والأحمر تحصدهم في غداة واحدة، وإني والله لا آمن وأخشى الدوائر، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : هم لك.»
وسيلحظ القارئ هنا أن مرجعي بكتابي كان نعم الطبري، لكنه كان طبعة قديمة تركتها بقريتي بعد نزوحي للقاهرة وهي المعتمدة بكتابي «حروب دولة الرسول»؛ لذلك اشتريت طبعة جديدة، لكن صاحبنا وللغرابة الشديدة علم بالطبعة القديمة مثلي تماما، والتي جاء فيها الموضوع بالجزء الثاني، ولكن ليس كما ذكر ص480 لأن هكذا يصل اختلاف الصفحات عن طبعة الطبري اللبنانية التي اشتريتها حديثا بالمجلد الثاني ص49 بحوالي 431 صفحة، وهو فارق هائل لا يمكن حدوثه، والسر فيه خطأ مطبعي ورد عندي في حاشيتي عن طبعة دار المعارف القديمة للطبري، فقد جاء رقم الصفحة في الحاشية بزيادة صفر، فبدلا من ص48 طبعها الطابع 480، ويكون الفارق في الأصل بين الطبعتين المصرية واللبنانية صفحة واحدة. ولأن صاحبنا لا يعرف كوعه من بوعه، نقلها كما هي ص480، بينما العارف بكتب التراث الإسلامي يستطيع بمجرد التخمين أن يقول لك إن هذه الحادثة بأي باب وربما بأي فصل، وبأي جزء، وما أعلمه فقط بالخبرة، أن ص480 بالطبري لا بد أن تكون زمن الفتوحات الكبرى، لكن صاحبنا ينقل أحداثا حدثت زمن النبوة إلى أحداث زمن الفتوحات الكبرى بغلطة مطبعية حدثت في كتابي أنا بالذات، والمصادر بنصوصها بريئة من هذا الخطأ.
يحكي لنا في الموضوع ذاته عن عملية اغتيال أبي رافع سلام بن الحقيق فيقول عن السرية الإسلامية التي خرج أصحابها لتنفيذ المهمة: «فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، مسعود بن سنان، عبد الله بن أنيس، أبو قتادة الحارث بن ربعي وخزاعي بن أسود حليف لهم ... حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا ... ثم يروي راويهم ... فلما دخلنا عليه أغلقنا عليه وعلينا الغرفة، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة ... وتحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه فأدخله في بطنه حتى أنفذه. وهو يقول: قطني قطني ... إلخ (ابن كثير، مج4، ص139-142)»
بالطبع لا يمكن أن يشكل هذا المقطع أربع صفحات كاملة ص139-142 من ابن كثير في طبعته اللبنانية الدبل؛ أي أنها في الحجم ضعف الكتاب الجاير العادي مرتين، أي تساوي ثماني صفحات في طبعة مصر. المهم أن نقف مع النقاط الأفقية، والتي أهملت أنا فيها قول ابن كثير طبعة دار الكتب العلمية بيروت ص140: «ونهاهم (أي النبي) أن يقتلوا وليدا أو امرأة»؛ وذلك لأني كتبت في كتابي نقلا عن المصادر الإسلامية ذاتها أن جيش المسلمين قتل الأولاد في قريظة والنساء في أكثر من موقعة كوقعة زيد بفراره، واعتبرت العبارة تزيدا من ابن كثير؛ لذلك أهملته وهو ما جاء عنده مهملا بدوره. أما محل النقاط الثاني فقد أهملت تفاصيل لا تشغل القارئ، ونصها: «فلم يدعوا بيتا فى الدار حتى أغلقوه على أهله، قال: وكان في علية له إليها عجلة، قال فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة، قالت ذا صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليه وعلينا الحجرة.» هذا نص الكلام الذي أهملته، وهو بالتمام والكمال بالحرف ما أهمله الشيخ سلامة رجل العلمانية المقدام.
وقوله: «كأنه قطنة ملقاة» علامة على البياض نقلها عني خطأ؛ لأنها بكتابي: «كأنه قبطية ملقاة»، والقبطية هي صناعة مصرية منسوبة لأقباطها ويسميها العامة قفطانا، وكانت نسيجا فاخرا من الكتان تمكن المصريون القدماء من تحويله إلى حرير أبيض لامع كالنسيج المعروف اليوم بالساتان.
الطريف أني عندما انتقلت من راو إلى آخر داخل النص ذاته قلت هكذا: «... ثم يروي راويهم»، لكن صاحبنا يأخذها كما لو كانت ضمن نص ابن كثير! وينص على أن ابن كثير قد قال: «... ثم يروي راويهم ...» وهو ما لم يقله لا ابن كثير ولا ابن قليل، قائله هو سيد القمني.
ومحل النقاط الأخيرة بعد قوله: «كأنه قطنة ملقاة» أهملت نص ابن كثير: «فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيكف يده ولولا ذلك لفرغنا منها بليل» (ص140، ج4)، وهو النص ذاته الذي أهمله صاحبنا بدوره.
يحكي الشيخ سلامة قصة اغتيال أبي عفك عمرو بن عوف، ذلك الشيخ الذي تخطى بعمره القرن من الزمن، فقد خانته قواه ولم يعد قادرا على مسك دمعة نزلت من عينه، وهو يرى رجلا مسلما آخر يذبح أمام مسجد محمد النبي، وهو الحارث بن سويد بن الصامت، الذي أمر محمد النبي عويمر بن ساعدة بذبحه أمام المسجد بسبب قتله المسلم المجذر بن زياد في فوضى هزيمة أحد انتقاما لقتله لأبيه في الجاهلية، والحارث هو ابن سويد بن الصامت الذي عرف بين القبائل العربية بالرشد والحكمة والعقل السديد، وأنه ابن صاحب صحيفة لقمان التي وافق عليها الوحي، فلم يستطع أبو عفك أن يمسك دمعه، فانهمرت الدمعات من عينيه وأرسل نواحه بشعر حزين ينحب ويبكي الحارث ابن صحيفة لقمان، وشيخ بمواصفات ابن عفك (صحها: أبي عفك) حين يرسل نواحه وبكاءه يكون له صدى وأثر نفسي مؤلم في نفوس القبائل العربانية، الذين يقدسون المسنين ويكنون لهم عظيم الاحترام وأقدسه؛ مما أوجع قلوب الناس، وكان شعره باكيا حزينا، أورد البعض منه السهيلي نقلا عن ابن هشام المعتمد على سيرة ابن إسحاق ... يذكر خمسة أبيات من الشعر ومرة أخرى نغض عن الأخطاء النحوية الكارثية لنعود إلى السهيلي ص244 مج4 كما قال: فلا نجد من كل هذا سوى الآتي: «سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك: قال ابن إسحاق: وغزوة سالم بن عمير لقتل أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف ثم من بني عبيدة، وكان قد نجم نفاقه، حين قتل الله الحارث بن سويد بن صامت، فقال: ويذكر الأبيات.»
فمن أين لصاحبنا برواية طويلة عريضة يحتسبها نصا وينسبها إلى السهيلي؟ الحق أقول لكم إن الرجل لأول مرة يبذل جهدا؛ لأن الكلام كلام سيد القمني ويرتبط بسياق سابق بكتابي يتحدث عن صحيفة لقمان وصاحبها، ولكنه اجتهد في محاولة استبدال عدة ألفاظ بألفاظ أخرى مرادفة للمعنى، فشوه جماليات نص كلامي الذي ورد بكتابي حروب دولة الرسول ج2 ص296 حيث يقول سيد القمني: ثم انطلق سيف الإسلام داخل يثرب، يعمل لإسكات أي لون من ألوان الاستهانة بالدولة، وهي الاستهانة والمعارضة التي يمكن أن تشكل كارثة لدولة عسكرية في زمن حرب. وهو ما نقرؤه في قصة اغتيال أبي عفك عمرو بن عوف، ذلك الشيخ الذي تخطى بعمره من الزمان قرنا، فلم تبق لديه قوى تمكنه من إمساك دمعه، واستمرار تجلده، وهو يرى مسلما آخر هو الحارث بن سويد بن الصامت وهو يذبح بباب المسجد النبوي، وهو ابن سويد بن الصامت الذي عرف بين العرب بالحكمة، وبأنه صاحب صحيفة لقمان التي وافق عليها الوحي القرآني، فانهمر دمع أبي عفك مرسلا شعره نحيبا باكيا الحارث بن صاحب صحيفة لقمان، ورجل في عمر أبي عفك إن أرسل نواحه في الفيافي بين العربان، الذين يقدسون المسنين ويعبدون الأسلاف ويحنون الهامة للمعمرين، لا يتركها إلا بقلوب كليمة موجوعة جزعة، وهو الشعر الباكي الذي جاءنا خبر منه في رواية ابن إسحاق «هنا فتحت علامات التنصيص لأذكر النص». «وعن غزوة سالم بن عمير لقتل أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف ثم بني بن عبيدة، وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الحارث بن سويد بن الصامت». «هنا أغلقت علامات التنصيص لأستطرد في كلامي». وإشارة ابن إسحاق إلى نفاق الرجل تشير إلى أنه كان حتى قوله ذلك الشعر مسلما، وما نافق إلا بتلك البكائية التي يقول في طرف منها «الأبيات الأربعة»، (ص291، 292، كتاب الإسلاميات حروب دولة الرسول).
خلط الرجل حديثي خارج علامات التنصيص بحديث السهيلي عن ابن إسحاق داخل علامات التنصيص لأنه لا يعرف وظيفتها وتصورها جميعا نصا واحدا ورد عند السهيلي بشكله هذا.
لو أخذت أعدد لما فرغت؛ فالرجل نقل كل كلامي ونسبه لنفسه بشديد البساطة والغباء معا، أختم هنا بفقرة أخيرة يحكيها من كتابي المذكور عن أحداث غزوة قريظة، فيقول: «وكاد ينجو من المقتلة رجل من أشراف قريظة، لولا رغبته هو في الموت ذبحا، هو أبو عبد الرحمن بن الزبير بن باطا القرظي، وكان يوم وقعة بعاث قد من على ثابت بن قيس وخلى سبيله، فلما أصبح ثابت مسلما رأى أن يرد الدين إلى أبي عبد الرحمن، فذهب بحكايته القديمة ودينه بالحياة يرويها للنبي ويطلب حياة أبي عبد الرحمن، فمنحه إياها، وذهب ثابت يبشر أبا عبد الرحمن بالحياة، ليدور بينهما الحوار التالي:
أبو عبد الرحمن :
أي ثابت، ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية تتراءي فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟
ثابت :
قتل.
أبو عبد الرحمن :
فما فعل سيد الحاضر والبادي حي بن أخطب؟
ثابت :
قتل.
أبو عبد الرحمن :
فماذا فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن السمول؟
ثابت :
قتل.
أبو عبد الرحمن :
فما فعل المجلسان (يعني كعب بن قريظة وابن عمرو بن قريظة)؟
ثابت :
ذهبا، قتلا.
أبو عبد الرحمن :
فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت، ألا ألحقني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله قبله ولو نضح، حتى ألقى الأحبة. وهنا أخذه ثابت من يده وأوقفه في طابور المذبحة ليأخذ دوره، فضربت عنقه.» (الطبري، ج2، ص589 و590).
وإليكم الصفحة 102 من الجزء الثالث طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، ستجدون رواية فيها العناصر نفسها، لكني بكتابي صنعتها على طريقتي وصنعت الحوار والديالوغ المسرحي ووضعت الشخوص المتحاورة بين ثابت وصديقه اليهودي القرظي أبي عبد الرحمن، فلا يوجد حوار كهذا في كتبنا التراثية السردية ولا غير التراثية.
أما المدخل التقديمي لهذا النص فكله صنعتي وحدي وختامه صنعتي وحدي، ولن تجدها لا عند الطبري ولا غير الطبري، ستجدها عند سيد القمني فقط، ثم من بعده عند الشيخ سلامة.
إن كل ما شغل الشيخ سلامة هو أن يجمع أكبر حشد ممكن من الأدلة الوثائقية لتأكيد أن النبي محمد كان مجرد أفاق، وأنه شيخ منسر وقتال قتلا، وزير نساء، فقط! لذلك لم ينشغل - وربما لم يفهم - القراءة التاريخية المجتمعية السياسية الاقتصادية التي هي الموضوع والأساس في العمل كله، وبدلا من أن يذهب إلى المكتبات يجهد نفسه ليجمع ما يريد من مادة، فتح كتابي وجلس أمامه ينقل وينسخ وينشر، وينعى على سيد القمني تردده وخوفه، فإذا كانت تلك أغراض صاحبنا فما أغباه هدفا وما أتعسه مسعى وما أسخفه موقفا، انشغل فقط بحشد أخطاء محمد، بينما أي إنسان سواء أكان نبيا أم ملكا إنسانا عاديا، له من الأخطاء ما لو جلسنا نرصدها لناءت بها الكتب، أو كما لو كانت مهمة العلماني هي سب الأنبياء والتنقص منهم دون مؤهلات أخرى. إن هذا الاختيار كمن يختار أن يسرق أو يسير في الشارع عاريا متصورا أنه هكذا قد أصبح علمانيا! لذلك فإن البحث عن المفروض والتدليل على المعلوم هو عمل عبثي، مكان صاحبه الطبيعي بين فاقدي العقل والفهم والتمييز، بين الغنم. (4-1) سادتي إدارة الحوار المتمدن
بغض النظر عن القيمة الفكرية لكاتب من الكتاب حتى نحترمه أو نقدره أو نتطاول عليه، فإني قد أعلمتكم بالخلل، وتسترت على الرجل وطلبت منكم التستر معي عليه ليتوقف عن عبثه، ورغم ذلك سمحتم له أن يستمر، بل وأن يسبق موضوعه الجديد بالتطاول على شخصي المتواضع، وهو آخر موضوع نقله حديثا بعد الشكوى التي وافيتكم بها (لاحظت خلال الأيام الماضية أن الرجل وصل في غزوة أحد إلى الحلقة الثامنة أو التاسعة نقلا عن كتابي)؛ أي نشرتم له رغم شديد وضاعته وإساءته إلى كل الفريق العلماني بعبثه الصبياني، رغم شرحي لكم ذلك، بدلا من الحمد والثناء على رجل مسروق علنا وفضل الستر على السارق.
لهذا لا أرى أن الحوار المتمدن بموقفه هذا وسماحه بذلك أهلا لكتاباتي، التي تتساوى عنده مع كائن من هذا النوع الحشري الطفيلي والإجرامي الذي يتغذى بفكر الآخرين ويغتصب بنات أفكارهم علنا، ويتم السماح له بذلك. (4-2) سادتي قراء الحوار المتمدن
لكم عظيم احترامي وإجلالي وإصراري على أني مجرد نفر متواضع بدون رتب بينكم، وأنتم أهلي وناسي وتعرفون أين تجدون كتاباتي.
شكرا سيدي الحرامي، شكرا سادتي (إدارة الحوار المتمدن) المشاركين للحرامي الوضيع في جريمته، وشكرا قرائي لصبركم على هذا الموضوع المثير للأسف والحزن والقرف معا.
تم فصل شاكر الشيخ سلامة من الحوار المتمدن واستمر القمني يكتب لهم.
الفصل الرابع
ها هم يقفون عرايا!
لم يحدث من قبل في بر مصر المحروسة أن تم شن مثل تلك الهجمة الشرسة والعنيفة ضد مواطن واحد لا ذنب جناه سوى أنه قد حصل على تكريم من وطنه عرفانا بجهده في شكل جائزة تقدير من الدولة، وهي نيشان شرف ووسام رفيع بغض النظر عن قيمتها المادية المتواضعة.
شن الهجمة حلف كان كل طرف فيه يزعم استقلاليته وتمايزه بالتمام عن غيره، بينما كنت أزعم أنا طوال الوقت أنهم كلهم داخل الجبة نفسها، وهو ما أثبته حلفهم ضدي في حملة تشويه واغتيال معنوي ومجتمعي، اجتمعوا حول الأهداف، واجتمعوا حول المنطلقات، واجتمعوا حتى حول الاتهامات ذاتها، واجتمعوا حول النصوص ذاتها التي كفروني بموجبها، في تواطؤ يشي أنهم إنما فرق ودكاكين متعددة الأقنعة لوجه واحد، وأنهم أذرع متعددة لأخطبوط واحد.
أعضاء هذا الحلف أولهم «جبهة علماء الأزهر» وهي جمعية أهلية خدمية تم حلها عام 2001م بقرار إداري من محافظ القاهرة لتجاوزها الصلاحيات القانونية الممنوحة للجماعات الأهلية. وهي الجبهة التي أفتت بكفران فرج فودة وأباحت دمه، وقتلوا فرج ولم يقدم أحد منهم للمحاكمة بتهمة التحريض على القتل إلى اليوم.
وبعد إغلاقها تحولت الجبهة إلى جماعة سرية ذات صندوق بريدي فقط وبدون مقر، حتى فتح لها إخوان الكويت مقرا هناك حيث يقيم زعيمها الشيخ يحيى إسماعيل حبلوش، ويقيم في مصر وكيلها الدكتور محمد عبد المنعم عيسى البري لتنفيذ أجندات قادمة من خارج الحدود.
وكيل الجبهة الدكتور البري حضر برنامج 48 ساعة بقناة المحور بحضور الأستاذ صلاح عيسى وأعلن كفري وأني أسب الله ورسوله، وعندما طالبته تليفونيا بأن يقرأ هذا السب من كتبي قال: «اهو أنتوا عايزني أقرا الزبالة دي؟» وإذا كان أعضاء الجبهة لا يقرءون زبالتنا فلا شك أنهم كذلك لم يقرءوا ما كتب فرج فودة، ولا تعلم كيف ينام أحدهم بعد مقتله قرير العين أو هانئ البال؟
ولم تتأخر جماعة الإخوان، فقد قدم الدكتور حمدي حسن الناطق بلسان كتلتهم النيابية استجوابا للحكومة، وحضر على التليفون في برنامج مصر اليوم بقناة الفراعين وصب سخائمه على شخصي المتواضع وكرر اتهامات الجبهة ذاتها، وعندما طالبته أن يقرأ نص الكلام الكفري من كتبي رد بقوله: «إنتوا عايزيني أقرا الكلام الفارغ ده، هو أنا فاضي؟» وهي الحلقة التي دعوت فيها أعضاء الجبهة والإخوان لمواجهتي وحددنا السبت التالي للمواجهة، فكانت النتيجة أنه لم يحضر أحد غيري.
ولم يكن غريبا أن تنزل «الجماعة الإسلامية» للميدان ببيان ناري يكرر ما جاء في بيان «الجبهة» ذاته ، وهي الجماعة التي نفذت بحق فرج فودة فتوى «الجبهة»، وهي الجماعة التي سبق لها بالرسوخ في العلم أن قتلوا رجال الشرطة والأقباط وضيوف مصر من السائحين، وهي الجماعة التي اكتشفت بالرسوخ ذاته في العلم أن رسوخهم الأول كان خطأ لذلك قاموا يكتبون المراجعات التي تراجعوا فيها برسوخ ثان محل الرسوخ الأول، لكن دون أن يعيد إلينا أي من الرسوخين من تم ذبحهم من أبرياء ولا العافية لاقتصاد الوطن ولا سمعة الإسلام التي تضررت في العالمين، يطمئننا هنا الشيخ قرضاوي فيقول إن من ماتوا من المسلمين في عمليات جهادية شهداء يخلدون في الجنة، وعليه فلا يجب أن نبتئس عليهم أو نحزن بل الأولى أن نتمنى اللحاق بهم فيما انتهى إليه الرسوخ القرضاوي.
هؤلاء هم ثلاثة ورابعهم هو رابع الأثافي، الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق، الذي كانت فترة ولايته لدار الإفتاء المصرية فترة قلقة مضطربة بسبب تدخله دون دعوة في كثير من الشئون السياسية الداخلية والخارجية، حتى تورط في شئون مصيرية لا تحتمل مزاج صاحب الفضيلة الحاد، مما سبب مشاكل للخارجية المصرية انتهت بعزله المفاجئ، وقد كرر الدكتور واصل الوصلة التكفيرية ذاتها معتمدا على النوتة ذاتها «بيان الجبهة».
أما الناشط الرئيسي في هذه الحملة فكان موقع «المصريون» وصاحبيه الأخوين جمال ومحمود سلطان، وهو موقع لا علاقة له بمصر بل هو ضد كل ما هو مصري، وهو الواجهة الإعلامية للجمعية السلفية المعروفة. ومن بين هؤلاء وأولئك أصوات ملتاعة على أموال المسلمين المهدورة في تلك الجائزة وقدرها 200 ألف جنيه، كما عند الشيخ فرحات المنجي صاحب المشروع القومي لحل مشاكلنا الجنسية بإرضاع الكبير وزواج الرضيعة، وزملائه أصحاب المشاريع التنموية بالزواج السياحي والمسيار والفرند ترويجا للدعارة الحلال الزلال، ليتوج الجميع موقف مفتي بول الرسول ونخامته وبصاقه بفتوى تكفيرية اعتبرها تيار الإسلام السياسي فتوى تاريخية.
تواطأت هنا مجموعة صدف يندر أن تحدث معا، وهو شأن معلوم في بلادنا حيث لا تتحرك مياهنا الآسنة إلا بالصدف البحت، في زمن رجراج غير مستقر على المستوى السياسي الخارجي والداخلي، يجري فيه الحديث عن شكل الانتخابات المقبل والمرشحين للكرسي الأعظم في الوطن ومسألة التوريث من عدمه، مع تحولات دولية تسبب فيها مجيء إدارة جديدة للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية لا تشغلها المسألة الحقوقية لشعوب المنطقة بقدر ما يشغلها الخروج من المنطقة والعودة إلى المربع الأول المشغول بالمصالح الأمريكية الآنية وحماية أمنها الداخلي، مع الوضع الداخلي لمصر المنتظر معه أن يخلو كرسي وزارة الثقافة بارتقاء الأستاذ فاروق حسني لرئاسة اليونسكو، وهو ما أدى لترقب جميع التيارات؛ لأن وزارة الثقافة ظلت مع الوزير فاروق حسني هي الحصن الحصين للثقافة المصرية، القائمة على المواطنة. فحافظت على هذه الهوية فلم تتآكل مع ما تآكل في مختلف هيئات ومؤسسات ومفاصل الدولة لمصلحة التيار الوهابي «الإسلام السياسي» القادم على صهوة المليارات البترودولارية عبر حدودنا الشرقية في فتوح جديدة.
مع هذه العوامل يأتي فوزي بجائزة الدولة التقديرية في صدفة لم يسبق ترتيبها، فلا أنا علمت بها إلا في الأيام الأخيرة، ولا قام الأتيليه بالدعاية للمرشحين حفاظا على السرية، حتى فاجأ فوزي الجميع حتى الأعضاء المصوتين أنفسهم، حسبما جاء في شهادة الأستاذ أنيس منصور المنشورة في الأهرام، وكم كان فخري بهذه الشهادة من رجل تعلمت على كتبه منذ نعومة أظفاري إلى كتاباته التي رافقت مراحل الصبا والشباب والشيخوخة دون أن تشيخ كتابته لحظة واحدة، اللهم لا حسد، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينصفني فيها الأستاذ أنيس ويضع نياشينه الفخرية على صدري.
تيار الإسلام السياسي بتكوينه وطبيعته وتاريخ وقائعه كلها تشهد أنه تيار تآمري، ولأنهم يعلمون ذلك يقينا فإنهم يفترضون وجود مؤامرة مستمرة عند الطرف الآخر، ومن ثم كان فوزي بالجائزة علامة على مؤامرة من وزارة الثقافة لدعم التطرف العلماني (لا أعرف ما هو بالضبط، لكن هكذا يقولون). ولدعم الأستاذ فاروق حسني للوصول إلى رئاسة اليونسكو إرضاء لإسرائيل! وهنا الفزورة التي لم أفهمها. ولو تصورنا الأمر كما يوعزون به، أن الفنان فاروق حسني هو من منحني هذه الجائزة ليكسب بها رضا إسرائيل، فإن الضلع الثالث في المؤامرة غير موجود أصلا؛ لأن شخصي المتواضع لا علاقة له بإسرائيل ولم يسبق له أن زارها ولا قبل باستقبال زوار رسميين أو أهليين (حسبما يعلم الأمن المصري بالتفاصيل)، ولا هادن لحظة في الجانب الحقوقي الفلسطيني، بل وقدم في مقابل اليمين الصهيوني المتطرف أعمالا كبرى تتميز بالأصالة العلمية العالية في حرب فكرية طويلة استغرقت ستة كتب كبريات، ولم أجد عند تيار الإسلام كله كتابا واحدا على ذات القدر والاقتدار، بقدر ما وجدت عندهم من أساطير وخرافات لا تنطلي سوى على المسلمين ولا تقدم بقدر ما تؤخر؛ ومن ثم لا أفهم كيف يكون فوزي بالجائزة تقربا من الوزير لإسرائيل، وإذا كان كرسي اليونسكو مرهونا برضا إسرائيل (وهو ما لا يقول به تلميذ مبتدئ في السياسة)، فإني قبل الوزير أقول الله الغني عن كرسي كهذا، لكن الحقيقة بالمرة ليست كما يصورها تيار الإسلام السياسي لبسطاء الشعبوية الإسلامية، وإذا سقطت حجة مجاملة إسرائيل بجائزتي، فإن مبنى المؤامرة يسقط بأسره، ولا يعود هناك مبرر لوجود إسرائيل في الموضوع أصلا، لهذا وبرغم علمهم بهذه الحقائق يصرون على المعاني ذاتها ويقدمون أدلة ارتباط لي بإسرائيل لا أعلمها (اكتشفت خلال هذه المعركة أن هناك مذيعين وصحافيين ورجال دين يعلمون عني أمورا لم أعلمها عن نفسي بعد!) بل الممكن قوله هنا إني لا أجد أي مانع في التعامل مع المثقفين الإسرائيليين أو حتى رسميين إسرائيليين، شريطة أن يكون ذلك بعلم حكومة مصر وأن يكون لهذا التعامل فوائد وطنية أو قومية مرتبة سلفا ومتفق عليها، وسبق وأعلنت هذا أكثر من مرة دون الشعور بأي غضاضة أو شعور بقصور أو معابة من أي لون، لكني لست على استعداد للتبرع بمثل هذه اللقاءات التي تضفي المشروعية والقبول على اليمين الصهيوني، لأني من سيضفي المشروعية لا من سيكتسبها من الرضا الإسرائيلي.
مع هذه العوامل بصدفها المجتمعة ومع قرب خلو كرسي وزارة الثقافة، يستعرض التيار الإسلامي المتطرف قوته الإرهابية بحملته التي تجاوزت كل الحدود، واستخدمت كل ألوان الأسلحة بما فيها الفاسدة والرديئة ومنها المشينة لمن يستخدمها، لتلقي بكل ثقلها ضد شخصي المتواضع فما أنا في النهاية سوى إنسان يمكن أن يجدوا فيه الكثير من الأخطاء، إنسان فرد بما للإنسان من خطأ وصواب وقوة وضعف؛ ومن ثم تم وضعي كفرد غير مرتبط بوزارة الثقافة ولا غيرها، وغير مسنود أو محمي من حزب أو جماعة، كهدف وحيد في مرمى نيران يعج بالصيادين والقناصين والرماة المحترفين. ويمكن من خلاله تحويل فوزي بالجائزة إلى خطأ كارثي ارتكبته وزارة الثقافة، ويمكن بإسقاطي وانحنائي لإرادتهم والتسليم بها إرادة فوق القانون والحقوق الدستورية، ثم العمل على إصلاح الخطأ الكارثي بوضع أقرب العناصر إليهم على رأس تلك الوزارة، كتعويض عن هذا الخطأ الفادح في سياسة الوزارة.
مع تعالي صوت الحملة تحولت إلى السعار واللوثة التي جعلت من قضية جائزة القمني قضية مصيرية بل هي قضية وجود، وجود العلمانيين أو وجود الإسلام السياسي، لكن الراديكالية ليست كالعلمانية فهي لا ترضى بغير وجود تيار واحد هو تيارهم، صراعهم دوما صفري لا يقبل المهادنة، إما أنا وإما الآخر؛ لذلك ألقوا بكل أسلحتهم دفعة واحدة دون عمل أي حسابات للمهم فالأهم، ومتى يخرجون ورقة ومتى يخفون أخرى، قوم لا يعرفون فنون الاستراتيجية وحساب المراحل إليها، لقد ألقوا بكل أوراقهم وكشفوها وجابوا آخرهم، عندما نقبوا بكل الوسائل التقنية عبر أذرعهم في كل مكان زرته أو عملت به أو حاضرت فيه أو لي أصدقاء فيه في الخليج وفي بلاد الشام وأوروبا وأمريكا، وهو عمل جماعي هائل إزاء فرد واحد، وكان يجب أن يعثروا على الكثير مما نخفيه كبشر عن عيون الناس فكل ابن آدم خطاء، لكن فضيلتي التي عملت بها وكانت خير حصن لي (تمثلت في وصية أبويا الحاج محمود عليه رحمة الله. امشي يا بني يا سيد عدل يحتار عدوك فيك)، ولأني اخترت لأبحاثي منطقة وعرة شديدة العسر، يكثر فيها العداء وأعشاش الثعابين وأوكار الثعالب ووديان الشياطين والبوم والزوم وكلاب الروم وكل أفاك لئيم، فكان لا بد أن التزم الجادة كي أوصل خطابي موثقا إلى أصحاب المصلحة من شعبنا المسالم الطيب، وأن آخذ نفسي بالقسوة والشدة في البحث بحيث لا أعطي فرصة لشرير أو كائد، وعزلت نفسي عن الدنيا ومباهجها متفرغا لعملي وتربية عيالي، وسرت عدل فاحتاروا بشأني.
قدموا اتهامات نصية بسبي الله ورسوله ثم هربوا جميعا من المواجهة وتركوا صبيتهم يسبون ويشوهون في الإعلام بصنوفه العديدة، طالبتهم بنشر صور من كتبي تنطق بكفري فلم يفعلوا، قالوا إني تقاضيت الأموال تنهال على خزائني مدرارا ولم يقدموا وثيقة واحدة بعد بحث عصابي محموم، قالوا إن لي علاقات بإسرائيل وفشلوا في تقديم أي دليل، رغم أن الأمر من وجهة نظري وكما أوضحت ليس فيه ما يشين، قالوا إني سكير عربيد زير نساء، وهو كله ما ضحك منه الناس، قاموا يشككون في إجراءات الجائزة فنسبوا للمفوض العام لأتيليه القاهرة أن الأتيليه لم يرشحني، فرد المفوض العام بحفل تكريم لفوزي بالجائزة، ونسبوا إلى الدكتور قدري حنفي ما أسماه هو رذاذا أصابه فكتب: «ليس دفاعا عن سيد القمني ولكن عن هوية مصر»، نسبوا للأستاذ أنيس منصور قولا يشكك في الجائزة فرد بموضوع «أعطيت صوتي لسيد القمني»، وعندما لم يعد بأيديهم أية أوراق لمنافحتهم عن دين الله تركوا الدين والإيمان والكفر إلى الدكتوراه، وقالوا مرة إني زورتها لنفسي ومرة إني اشتريتها بمائتي دولار، وقد أرسلت كل الوثائق بهذا الشأن لمن يهمهم الأمر ومن خاضوا فيه من محترمين فقط، وأتعرض الآن لشكاية بالنيابة بهذا الشأن، ولأني لم أزور ولم أشتر إنما بذلت جهدا وعرقا وعملا ومالا وسنين من العمر، فإني في النهاية واثق بقرار النيابة، وأترك القرار والشأن لما سوف تصدره من قرار بهذا الخصوص.
قاموا يستخدمون أسلحة من لون آخر، فأكدوا أني قد تعمدت وتنصرت أرثوذكسيا وأن لديهم الحكاية بتفاصيلها كلها كما كتب ونشر الأستاذ محمود القاعود، فأعطيتهم الشهادة على شاشة التلفزيون، فأمسكوا السلاح ذاته لكن من الجهة الأخرى، فقاموا يستخدمون كتابتي ضد اليمين الصهيوني وفيها نقد مرير للتوراة، ليحرضوا ضدي المسيحيين المصريين بعد أن ثبت إسلامي، وبعض صبيتهم قام بخلط مشين بين حديثي عن الأساطير والتراث في مهانة للسيدة مريم لا علاقة له باعتقادي كمسلم في أن الله اصطفاها وطهرها من بين العالمين، وهو ما شرحته وأوضحته عبر التلفزيون، للتفرقة بين ما هو موضوع للبحث العلمي وما هو موضوع للإيمان أو الكفر، دون خلط بينهما.
وهكذا أحمد الله أنهم لم يجدوا مطعنا في شرفي أو أمانتي أو إخلاصي لوطني أو ديني أو التزامي جادة المنهج العلمي؛ لأن مبدأ أبي عليه رحمة الله ورضوانه، استتبعه تمتعي بقدر هائل على الاستغناء عن الدنيا ومناصبها ومباهجها، حتى إني أكتشف أحيانا وجود هذه المباهج بالصدفة البحتة، وأشاهدها من خارجها كمن يطالع التلفزيون، بينما لو راجعنا السادة الذين رفعوا سيف الدين فوق رءوسنا من حيث ذمتهم المالية ومن أين يتقاضون وكمية المال الهائلة التي أهدرت في هذه المعركة لرشوة صحفي هنا ومذيع هناك لتجريسي والتشنيع علي، ناهيك عن طبيعتهم الإرهابية وطبقتهم الاجتماعية وغسل الأموال والتحالفات الملوثة، فهو كله ما يسوءنا لأنهم يزعمون أنهم المدافعون عن ديننا المفترض فيهم طيب السجايا والأمانة والنبالة في الصراع بأسلحة شريفة، لكنهم لم يعرفوا قط نبالة ولا شرفا ولا مبادئ ولا قيما، بل كانوا أشرارا وانتهازيين وخصما وحكما كذوبا مفتريا في الوقت ذاته.
وها هم بعد كل هذا الصخب يقفون عراة بعد أن ارتدت أسلحتهم الفاسدة في وجوههم، والآن يبدأ دورنا في النزال، والله المستعان على ما يصفون.
الفصل الخامس
حكاية الخمر في عرس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة رضي الله
عنها
كان بيان جبهة علماء الأزهر المطالب بسحب جائزة الدولة مني يقوم على فكرة كتابتي نصوصا كفرية صريحة في كتبي تسب الله ورسوله، وهو البيان الذي اعتمد عليه كل المكفراتية: من الجماعة السلفية إلى الجماعة الإسلامية إلى يوسف البدري إلى د. نصر فريد واصل إلى الإخوان. ويردد هذا البيان أقوالا منسوبة إلى كتابي «الحزب الهاشمي» وهو الجزء الأول من مجلد «الإسلاميات»، كما هو آت:
لقد خرج سيد القمني على كل معالم الشرف والدين، حين قال في أحد كتبه التي أعطاه الوزير جائزة الدولة التقديرية عليها: «إن محمدا (
صلى الله عليه وسلم
رغم أنفه وأنف من معه) قد وفر لنفسه الأمان المالي بزواجه من الأرملة خديجة (رضي الله عنها رغم أنفه كذلك وأنف من رضي به مثقفا) بعد أن خدع والدها وغيبه عن الوعي بأن أسقاه الخمر.»
وبداية فإن هذا القول المحدد بعلامات التنصيص باعتباره نص كلامي في الكتاب المشار إليه، هو قول لا أعرفه بل هو قول فلوت، وإن الجبهة عندما تنسب لي قولا كهذا في مناخ كمناخنا فإنها تهدر دمي كما سبق وأهدرت دم المرحوم فرج فودة.
وللتوضيح فإن كتابي هذا (وكل كتاباتي) ليس كتابا في الدين الإسلامي ولا في أي من علومه، فكتاب الحزب الهاشمي هو كتاب في التاريخ الاجتماعي لواقع جزيرة العرب عشية الدعوة الإسلامية، بغرض قراءة السيرة النبوية قراءة اجتماعية في الأجزاء التالية «حروب دولة الرسول». وإذا كان المبدأ القانوني الإسلامي يقول: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» فقد أكدت أن كلام الجبهة لا علاقة لي به، وأن عليهم نشر هذه النصوص بالصورة من كتبي فلم يفعلوا، طلبت مواجهتهم علنا بقناة الفراعين فلم يحضر أحد غيري.
ورغم أني غير ملزم بتقديم أكثر من يمين الإنكار فإن الأسلوب المتحضر والعلمي للواثقين بالذات هو أن أقدم أنا نص ما ورد في كتابي بخصوص قصة زواج النبي
صلى الله عليه وسلم
من السيدة خديجة رضي الله عنها. لنطالع معا ما ورد في كتابي «الحزب الهاشمي» طبعة «مدبولي الصغير»، ص131. «ومعلوم أن المصطفى
صلى الله عليه وسلم
بعد أن طوت راحة الزمن جده عبد المطلب، شب في كنف عمه أبي طالب، وببلوغه
صلى الله عليه وسلم
مرحلة الشباب تزوج السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، التي وصفها ابن إسحاق بأنها «كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال» (ابن هشام بشرح السهيلي في الروض الأنف، ج1، ص212)، ووصفها ابن سيد الناس بأنها: «كانت أكثر نساء العرب مالا.» (عيون الأثر، ج1، ص262) وكانت تكبر النبي
صلى الله عليه وسلم
بنحو خمس عشرة سنة؛ مما وفر له
صلى الله عليه وسلم
الوقت الكافي والاطمئنان النفسي للانصراف من السعي وراء الرزق إلى التفكير في شئون قومه السياسية والدينية. وفي ذلك يقول الدكتور أحمد إبراهيم الشريف: «ثم إن النبي وجد بعد زواجه من خديجة بنت خويلد - وهي إحدى النساء الغنيات الشريفات في مكة - نوعا من الراحة النفسية.» وقد كان في هذا الزواج من العوامل التي جعلته يتخفف من بعض أعباء الحياة، ومن بعض عناء السعي، فخديجة الغنية بمالها التي كانت امرأة نصفا، قد فارقت عهد الشباب الأول، وكانت لها تجربة في إدارة أموالها، كانت أقدر على توفير حياة زوجية هادئة رصينة هيأت لمحمد أن يتخفف من أعباء الحياة لأفكاره الذاتية» (كتابه: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، ص250، 251).
وهكذا يكون القائل بتأمين الزواج من خديجة لحياة هادئة للنبي
صلى الله عليه وسلم
هو رجلهم الدكتور الشريف، وهو رجل عشرة على عشرة، لم يشكك أحد في إيمانه يوما، هذا إضافة لقول النبي
صلى الله عليه وسلم
نفسه عندما كان يذكر خديجة: «آمنت بي حين كذبني الناس وواستني بمالها حين حرمني الناس» (صحيح المتن والسند).
ويبقى من اتهامات بيان الجبهة مسألة قولي إن النبي أراد خداع الأب خويلد كي يرضى بتزويجه خديجة فقام بإسكاره وأخذ منه عهد الزواج وهو سكران. وهذا بدوره نص كلام لا أعلمه ولم أقله، ولنعد إلى كتابي نستطلع فيه حكاية الخمر في عرس النبي.
يقول كتابي «الحزب الهاشمي» الطبعة نفسها ص132 ما نصه: «عندما تزوج المصطفى
صلى الله عليه وسلم
من السيدة خديجة رضي الله عنها، أكثر الناس من الكلام في هذه الزيجة، وهنا يروي ابن كثير: «إن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث الناس به عن تزويج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خديجة وما يكثرون فيه، يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له تربا وكنت له إلفا وخدنا، وإني خرجت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذات يوم ، حتى إذا كنا بالحزورة (حي بمكة) أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم (لحم مجفف) تبيعها، فنادتني فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالت: أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: بلى لعمري، فذكرت لها قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالت اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته (صبغت بالحناء)، وكلمت أخاها فكلم أباها وقد سقي خمرا، فذكر له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومكانه، وسأله أن يزوجه، فزوجه خديجة وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه، ونام أبوها ثم استيقظ صاحيا فقال: ما هذه الحلة؟ وما هذه الصفرة؟ وما هذا الطعام؟ فقالت له ابنته - التي كانت قد كلمت عمار بن ياسر - هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه وخرج يصيح حتى جاء الحجر (بالكعبة)، وخرج بنو هاشم برسول الله
صلى الله عليه وسلم
فكلموه، فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة؟ فبرز له رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر إليه قال: إن كنت قد زوجتك فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته»» (البداية والنهاية، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، ص274).
هذا ما ورد بشأن قصة الزواج والخمر بكتابي؛ وهكذا لا أكون قد قلت، ولا ابن كثير قد قال إن النبي خدع الأب وسقاه الخمر، ورواية عمار بن ياسر هنا مبنية للمجهول فلا نعلم من أسكر الأب ولا من صبغه بالحناء ولا من ألبسه الحلة.
بخصوص هذه النقطة أذكر موقف المذيعة (سوزان حرفي) على قناة الفراعين وهي تصر على أني قلت في كتابي ما جاء في بيان الجبهة، المضحك المبكي أن كتابي كان بيدي وأنا موجود وهي مصرة مستميتة تؤكد للناس كلاما لا علم لي به! بل وأضافت أني قلت إن الأب عندما أفاق من سكره رفض هذا الزواج بالمطلق ، بينما النص بكتابي يشير لموافقته على الزواج عندما شاهد النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى قال إنه لو لم يكن زوجه فإنه يزوجه، وهو الأمر الذي يدفع دفعا إلى محاولة تصور حجم وكم المال الذي تم دفقه في هذه القضية الفاسدة.
ورغم علمي أن الخمر لم يكن محرما بعد، وأن الصحابة قد شربوا الخمر حتى نزول آية الاجتناب، فإني حاولت تحري الروايات عساي أجد منها ما لا يصدم ذوق المسلمين اليوم، حتى حشدت جميع الروايات أمامي لأختار من بينها هذه الرواية، بعد فرز وتجنيب طال بحثه شهورا في هذه الجزئية وحدها، وهنا درس لأهل الفتاوى الجاهزة المعممين المقفطنين كم من مشقة وجهد يبذل الباحث بشروط المنهج العلمي وصرامته التي تلزمنا بالتدقيق المبين في الاختيار بين النصوص، وهو ما يبين بوضوح طريقة العلمانيين مقارنة بطريقة المشايخ في البحث والتحري قبل إصدار الأحكام.
إليكم روايات انصرفت عنها ولم آخذ بها، منها: «أخبرنا خالد بن خداش بن عجلان، أخبرنا معتمر بن سليمان، قال سمعت أبي يذكر أن أبا مجلز حدث أن خديجة قالت لأختها: انطلقي إلى محمد فاذكريني له أو كما قالت، وأن أختها جاءت فأجابها بما شاء الله، وأنهم تواطئوا على أن يتزوجها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأن أبا خديجة سقي خمرا حتى أخذت منه، ثم دعا محمدا فزوجه. قال وسنت على الشيخ حلة، فلما صحا قال ما هذه الحلة؟ قالوا كساكها ختنك محمد، فغضب وأخذ السلاح وأخذ بنو هاشم السلاح وقالوا: ما كانت لنا فيكم رغبة، ثم أنهم اصطلحوا بعد ذلك» (ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص132، طبعة دار الشعب، القاهرة).
وهنا منكرات كثيرة تبدأ بإقرار أن الزواج كان مؤامرة انتهت برفع العائلتين السلاح في وجه بعضهما البعض، لهذا لم آخذ بالرواية لنكارتها، وأيضا لأسباب تتعلق بسلامة السند، فخالد بن خداش مرفوض من الرجاليين، وابن مجلز وصفوه بأنه لم تكن له صحبة؛ ومن ثم فهو حديث مجروح السند.
عند ابن سعد نفسه رواية أخرى كررها ابن إسحاق - وعنه نقل ابن هشام - تقول إن من زوجها للنبي هو عمها عمرو بن أسد وليس أباها خويلد؛ لأن الأب كان قد مات في حرب الفجار، وقد استبعدت هذه الرواية بدورها؛ لأنها جاءت عند ابن إسحاق بلا سند منه، وتبعه من نقلوا عنه: الطبري في 2: 272 وابن الأثير في الكامل 2: 39 وابن كثير في تاريخه 2: 272، بدون سند بدورهم، وهو ما جاء عند ابن سعد ملفوفا بالغموض، وسنده لموسى بن شيبة مجروح فقد وصفه عبد الله بن أحمد بأن أحاديثه مناكير، ولو ذهبنا لرواية البيهقي المشابهة سنجدها تستند إلى عمر بن أبي بكر الموصلي وهو عند علماء السند من المتروكين، ومثله هامش ما جاء في دلائل البيهقي وقد ضعفه أبو زرعة وقال أبو حاتم إنه من متروكي الحديث.
وفى كل تلك الروايات (عدا التي اعتمدناها) نقائض صارخة، فمرة تعرض خديجة رضي الله عنها نفسها مباشرة على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وتارة توسط أختها، ومرة عمها الذي أخذ بدوره الاسم عمرو، وفيما يخص مؤامرة الإسكار فقد تكررت مع العم والأب، وهو الاضطراب الذي ألجأ صاحب نور الأبصار إلى القول بأن الثلاثة الأب والعم والأخ قد شاركوا في هذا الزواج، وهو ما ينتفي معه القول بموت الأب في الفجار.
مع كل هذا الخلط والتباين لم يبق أمامي إلا العودة إلى الراوي الأول الصحابي الذي نقل مباشرة من فم الرسول، وكلهم يعودون إلى ثلاثة رواة، أشهرهم عبد الله بن عباس حبر الأمة، لكن النبي توفي وعمر عبد الله عشر سنوات، ثم رواية عبد الله بن الحارث الكندي، وهو فيما نعلم قد ولد بعد بعثة النبي
صلى الله عليه وسلم ، والرواية الثالثة مصدرها هو عمار بن ياسر صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعشيره ولصيقه لمدة ثلاث وعشرين سنة؛ لذلك وقع اختيارنا على روايته بعد مشقة وجهد وعنت ولأي طويل عريض، ولأنها كانت أبعد الروايات عما قد يستنكره ذوق المسلم اليوم أو يألفه.
هؤلاء سادتي هم مشايخكم الذين تعودون إليهم وتسلمون إليهم دينكم وعقولكم، قد ركبوا مركب الكذب الرخيص والتحريض السفيه والقذف بما يتضح منهم والتكفير دون خشية من رب الدين، ودون أن يكلفوا أنفسهم عناء مراجعة ما بذلنا من عناء، ليس لأني ضد دين من الأديان، ولكن لأني أهتك أستارهم وأفضح تجارتهم بنا وبديننا في سبيل أعراض الدنيا وجاهها ووجاهتها، هذه بيناتي فهاتوا بيناتكم وأنتم من ادعى، أو بوءوا بخسران وفضيحة، فصيحة أمام شعبنا المسلم الطيب، لكي يعلم لمن أسلم عقله وضميره ودينه، وأي أخلاق وقيم وعدل يتمتع بها المشتغلون علينا بالدين، وهو منهم ومن أخلاقهم بريء براءة العبد الفقير إلى الله!
الفصل السادس
علي جمعة وفتواه التكفيرية
مع تصعيد الحملة التي شنتها دكاكين الإسلام المتطرف والسياسي ضد حصولي على جائزة الدولة التقديرية، بهدف تركيع وزارة الثقافة لتسحب جائزتها بما هو ضد القانون، أو تركيعي لأتنازل عن الجائزة اعترافا بقدرتهم على الحشد والهجوم وأنهم فوق أي قانون، أرسل موقع الجماعة السلفية (المصريون) برسالة على الإيميل إلى مفتي الجمهورية الدكتور علي جمعة، وكان نص السؤال كما سجلته الفتوى الرسمية من المفتي كالتالي: «اطلعنا على الإيميل الوارد بتاريخ 9 / 7/ 2009م المقيد برقم 1262 لسنة 2009م والمتضمن: ما حكم الشرع في منح جائزة مالية ووسام رفيع لشخص تهجم في كتبه المنشورة والشائعة على نبي الإسلام، ووصفه بالمزور ووصف دين الإسلام بأنه دين مزور، وأن الوحي والنبوة اختراع اخترعه عبد المطلب لكي يتمكن من انتزاع الهيمنة على قريش ومكة من الأمويين، وأن عبد المطلب استعان باليهود لتمرير حكاية النبوة - على حد تعبيره - فهل يجوز أن تقوم لجنة بمنح مثل هذا الشخص وساما تقديريا تكريما له ورفعا من شأنه وترويجا لكلامه وأفكاره بين البشر، وجائزة من أموال المسلمين، رغم علمها بما كتب في كتبه على النحو السابق ذكره، وهي مطبوعة ومنشورة ومتداولة، وإذا كان ذلك غير جائز فمن الذي يضمن قيمة هذه الجائزة المهدرة من المال العام؟»
وجاءت إجابة صاحب الفضيلة كالتالي: «قد أجمع المسلمون أن من سب النبي
صلى الله عليه وسلم
أو طعن في دين الإسلام فهو خارج عن ملة الإسلام والمسلمين ، مستوجب للمؤاخذة في الدنيا (لم يحدد طبيعة المؤاخذة أو أنه يفترضها جريمة ردة منتهية) والعذاب في الآخرة، كما نصت المادة 98 من قانون العقوبات على تجريم كل من حقر أو ازدرى أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو أضر بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، أما بخصوص ما ذكر في واقعة السؤال، فإن هذه النصوص التي نقلها مقدم الفتوى - أيا كان قائلها - هي نصوص كفرية تخرج قائلها من ملة الإسلام إذا كان مسلما، وتعد من الجرائم التي نصت عليها المادة سالفة الذكر من قانون العقوبات. وإذا ثبت صدور مثل هذا الكلام الدنيء والباطل والممجوج من شخص معين؛ فهو جدير بالتجريم لا بالتكريم، ويحب أن تتخذ ضده كل الإجراءات القانونية التي تكف شره عن المجتمع والناس وتجعله عبرة وأمثولة لغيره من السفهاء الذين سول الشيطان أعمالهم وزين لهم باطلهم. قال تعالى:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (الكهف 103-104)، واللجنة التي اختارت له الجائزة إن كانت تعلم بما قاله من المنشور في كتبه الشائعة فهي ضامنة لقيمة الجائزة التي أخذت من أموال المسلمين والله سبحانه وتعالى أعلم.»
وفي يوم الثلاثاء 21 يوليو 2009م نشر موقع (المصريون) السؤال والفتوى بصفحته الرئيسية واضعا صورتي إلى جوار صورة فضيلة المفتي ليحيل الفتوى المجهولة ضد مجهول ويحددها ويشخصنها بجعلها موجهة لشخصي المتواضع بالذات وبالخصوص. إضافة إلى ما تم نشره في الموقع ذاته عني اعتمادا على تلك الفتوى. •••
وقبل أي تعقيب أجد من واجبي كمسلم من خيار المسلمين يعلم من دينه بجهد واجتهاد ما قد يعلم فضيلة المفتي، أن أتساءل عن سر لجوء صاحب الفضيلة إلى وجه واحد من بين مائة وجه تحتمل الإيمان؟ وأي دافع قوي وعظيم دفعه ليصدر مثل هذه الفتوى بشأن شخص مجهول دون أن يتيقن بنفسه ويتحرى ليدقق قبل أن يفتي، أم أن أهل نافذة السلفيين (موقع المصريون) هم عنده من المنزهين عن الكذب والتزوير والخطأ؛ لأن ممولها هو الشيخ قرضاوي العتيد الذي لم يرد مرة على ما طرحته عليه من تساؤلات، ويحمل لشخصي المتواضع مشاعر تتناسب طردا مع نقدي اللاذع والمرير لما يطرحه علينا من كوارث؟ أم أن مولانا المفتي قد سلم بما جاء في السؤال من مطاعن، حتى يتمكن من دخول الحلبة عن قصد ورغبة مسلحا بألفاظ لا مسلحا يصح أن تصدر عن مثله من قبيل: «الكلام الدنيء والباطل الممجوج والتجريم لا التكريم وعبرة وأمثولة لغيره من السفهاء» ... إلخ، ثم قام يحمل الله تعالى وزر كل هذه السخائم بدس كلامه - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - وسط كلامه البشري ليكسب به قدسية القول وضمان طاعة الأمر المتضمن إهدار الدم بالضرورة الشرعية.
فإذا كان كل ما جاء في سؤال المستفتي غير موجود بنصه في أي كتاب من كتبي، فماذا سيكون موقف صاحب الفضيلة من المستفتي؟ إن المستفتي لا تصح عليه هنا البراءة بحسبان ناقل الكفر ليس بكافر؛ لأنه لم ينقل عني شيئا، ولأني لست بكافر، وكل ما قاله المستفتي ومفتيه لا أعرفه ولا أعلمه؛ فهو من بنات أفكار المستفتي وحده، فهل سينطبق هنا قول المفتي عن الأخسرين عملا على المستفتي نفسه ليصفه بما وصفني به، وهل سنسمع منه فتوى بهذا الخصوص بشأن الذي استفتاه كذبا وخداعا، إضافة لسب هذا المستفتي الله ورسوله (منسوبا إلي)؟
من غير المفهوم عندي وعند صاحب أي عقل سليم، كيف استجاب المفتي لاستفتاء لا يخص شخص المستفتي وإنما يخص شخصا آخر؟ فالمعلوم أن الفتوى يطلبها المسلم عندما يستشكل عليه أمر من الأمور التعبدية، عن الحلال والحرام ونسبة الزكاة المفروضة على نوع تجارته، وعن كيفية علاج تقصيره في أداء شعيرة بعينها، وكيف يقضي واجباته تجاه ربه، لكن أبدا لا نستطيع أن نفهم شخصا سمع عن جاره في الطرف الآخر من المدينة ما لا يعجبه، فقام يقدم الحكاية للمفتي يطلب الفتوى بشأن هذا الجار البعيد، خاصة مم عدم وجود الطرف الثالث (الجار) لا في شكل حديث موثق بالصورة لما ارتكبه من آثام ولا في تسجيل صوتي له وهو يجدف مثلا ولا في شيء خطه بيده، فقط مجرد واحد يسأل الفتوى بشأن شخص آخر غير موجود ويحكي عنه حواديت وشائعات. هل يجوز هنا للمفتي إصدار فتوى بشأن هذا الجار معتمدا على المستفتي الذي لا ناقة له ولا جمل في الموضوع؟
وفي حال ارتأى المفتي ضرورة التدخل فكان عليه الاستقصاء والتيقن، وهي مسألة ليست من مهام المفتي وإدارته، وإنما هي من مهام القضاء والمباحث وهيئات التحري، وكان عليه في هذه الحال رد بلاغ المستفتي (لأنه بلاغ في آخر وليس طلب فتوى فقط)، وذلك لعدم التخصص، أو إحالة الأمر كله ببلاغ للقضاء ليستقصي ويفحص ويدقق ويتحرى وجود جريمة وفق التعريفات القانونية للفعل الجرمي من عدمه.
وهكذا أخذ الدكتور جمعة دور المفتي ودور المباحث ودور القاضي دون محاكمة ولا أدلة ولا وجود شخص المبلغ فيه، وأصدر حكما مزاجيا فاسدا لفقده الأصول الحقوقية والشرعية، وهو تدخل سافر في شئون الناس وضمائرهم من المستفتي والمفتي علنيا وتشهيريا وتجريسيا وتحريضيا. قد يكون من حق المسلم أن يستفتي فيما يخصه (رغم اعتراضي شخصيا على مسألة الفتوى برمتها)، لكن ليس من حق أحد ولو كان المفتي نفسه أن يفتش في ضمائر الناس ويصدر عليهم الأحكام، ليس من حق أحد أن يسأل المفتي أن فلانا قد كفر فهل نقتله بالرصاص أم نذبحه ذبحا شرعيا أم نقطع أطرافه من خلاف، فهذا يعني الفوضى الكاملة وانهيار السلم الاجتماعي مع إعطاء كل مواطن الحق في الاستفتاء بشأن أي مواطن يخالفه لاستصدار حكم بشأنه كالذي نحن بصدده هنا.
وإعمالا لهذا أنا لا أسأل صاحب الفضيلة ولا أرجوه فهو بالنسبة لي ليس في موقع سلطة حيث لا توجد بالدستور أي إشارة إلى سلطة كهذه، هو عندي موظف كأي موظف في القطاع الحكومي العام ليس أكثر، لهذا لا أسأله ولا أرجوه، إنما أطالبه بصرامة لا تجامل توضيح موقفه بعبارات محددة كاشفة لا تحتمل تفسيرين، فإذا كان قد أصدر فتواه وهو يعلم إلى من تشير، خاصة مع صمته عن نشر صورتي مع صورته بالفتوى على «موقع المصريون» ورضي لي ولنفسه بهذا ، رضي لي بألفاظه وسخائمه وتكفيري وتجريمي، ورضي لنفسه أن يكون قاذفا شتاما يستخدم نابي الكلام، فعليه أن يعلن عن كفري بشكل واضح مع الأدلة الدوامغ، لا أن يلقي أقوالا فلوتة وغير مهذبة ولا منضبطة لا شرعا ولا قانونا ولا حتى إنسانيا، وليتفضل إن كان عنده أي قول بشأني أن يناظرني فيه علنا وعلى ملأ في أي قناة يختارها، ولا عذر له في عدم القبول بهذه الدعوة لأنه قد سبق وناظرني بمجلة القاهرة مستعينا بصديق من جماعة الإخوان إزائي منفردا، ولعله يذكر أنه وزميله لم يخرجا مظفرين من هذه المساجلة (تم نشره بالمجلة في حينه)، وإما أن يعتذر بداية إذا أراد إظهار الأمر بحسبانه خديعة تعرض لها وأنه في فتواه كان مضحوكا عليه ومستثمرا من قبل الموقع القرضاوي، وسنقبل ذلك منه على مضض وكراهة طلبا للسلام، لنفرغ لباقي أطراف زمرة التكفيريين، ويلزم بعد ذلك أن يسحب فتواه البائسة ضدي، وأن يوجه مثلها بذات اللفظ القارص والكلام المرهب للمستفتي المخادع والكاذب، والذي هو في هذه الحال من يهدد الأمن الاجتماعي بلسانه وبوثيقة لا تقبل تمحلا بالكذب والخداع، مورطا هيئة بكاملها في الخطأ المشين ناهيك عن نيله من وزارة الثقافة، مما يعرض وظيفة المفتي لما ينال من صدقيتها فيما تصدر من فتاوى تمس حياة المسلمين، خاصة بعد كشف فضيلته الشهير والمدوي لمعجزة بول الرسول وبصاقه ونخامته وما تحتويه من فاكسينات شافيات، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا دون تلك المزايدات، وهو ما أدى إلى صدمة للشباب المسلم في دار الإفتاء وفي صاحب الفضيلة (يعني الدار مش ناقصة مغامرات جديدة يا صاحب الفضيلة).
ومنذ متى أصبح دور دار الإفتاء هو تكفير الناس حتى ولو مع بينة وبرهان؟ إن تكفير مسلم يعني إصدار قرار بإدخاله جهنم. (ويجب استتابته ليعلن الشهادة ولو خوفا وهلعا، فيدخلونه الجنة علنا بالزواجير، رغما عنه، لكنهم يضمرون له جهنم سرا! بحسبانه منافقا لإيمانه تحت وطأة التهديد، فلماذا كل هذا العنت وكل تلك المشقة؟ لماذا لا يتركونه وقودا لجهنم وسعادة لهم بالتشفي به لتهدأ أرواحهم وتطمئن بالعذاب الأبدي لمن يخالفهم بنيران حوارق وسلاسل وزقوم، أو ربما كان صواب السؤال هو لماذا كل هذا الشعور بالعار؟)
ومنذ متى يأخذ إنسان أيا كان حجمه ومنصبه دور الله فيطلع على الأفئدة ويشق عن القلوب، ويطلع على ما يريد الرب ليدخل الناس الجنة والنار نيابة عنه وبدون تفويض رسمي واضح من الرب بذلك؟ أم ترانا في أواخر الأيام وأن علامات اليوم الأخير قد اقتربت وظهر المسيخ الدجال بجنته وناره وعاره وعواره؟ وأين كان رأي فضيلة المفتي هذا عندما سأله صحفي أمريكي أثناء زيارته لبلاد الفرنجة وأهل الطاغوت: عن حق المسلم في ترك الإسلام إلى دين آخر، فأكد فضيلته بحزم جازم وجزم حازم ووجه صارم أن حق الإنسان في اختيار دينه أو تركه مضمون في الإسلام، بقرار إلهي جاء بالقرآن الكريم، هو من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر! وهو ما يتناقض بالكلية مع موقفه معي، أم أن مولانا عندما كان في أمريكانيا كان يعمل بمبدأ (دارهم ما دمت في دارهم)! وذلك من باب الكذب الشرعي والتقية الرعديدة! في حين ناقض هنا قوله ذاك بموقفه مني وبفتواه التي تعني أن مصر وكل المصريين عنده هم أقل من أن يستحقوا الحقوق التي حصل عليها بنو آدم في بلاد الإفرنج الطاغوتية.
لا شك سيلحظ أي عقل متواضع أن فتوى مولانا هنا مقارنة بفتواه هناك، تضمر الخوف والهلع من أهل الطاغوت - وهو ما لا يليق برجل ينتصر بالله فيضطر للتصريح بما لا يعتقد وبعكس ما يؤمن، كما تضمر ازدراء خفيا لمصر كلها فشعبها لا يستحق ما حصل عليه البشر في بلاد غير المسلمين - وعافى الله أخاه ابن عاكف وشفاه من ضلاله الوطني، منذ طزز فينا جميعا شعبا ووطنا وتاريخا وأمة، فإن كان رخص الأساليب يليق بالساسة مثل ابن عاكف دون مآخذ لما في السياسة من دنس دنيوي، فإن بعض القليل منة كفيل بسقوط أي رجل دين محترف عن كرسيه، هذا مع التذكير أننا لم نسمع حتى تاريخه أي فتوى تكفير للدمويين القتلة الذين دمروا سمعتنا في العالمين بينما يد العبد الفقير أطهر من كل أياديهم مجتمعة إرهابيين ودعاة فضائيات وإخوانا وجماعات إسلامية ودعاة رسميين وغير رسميين، وهنا شرف الرجل أو عاره مهما ادعى من تقوى. •••
وإعمالا لما سلف: إما أن يتفضل فضيلة المفتي ليشير في كتبي إلى النصوص التي كفرني بموجبها ليصر بما فيها على كفري (وأنا على يقين أن كتائب الإسلام السياسي والأصولي والإرهابي من المذاهب كافة ستمد له يد العون المطلوبة)؛ لذلك لن أقبل منه نصوصا غير الواردة عنده وعند المستفتي بنص الفتوى المذكورة أعلاه، ولأن هذه النصوص كانت هي مناط السؤال والفتوى، ولأن القاعدة القانونية تقول إن الإنسان لا يحاكم على التوصيف الجرمي ذاته مرتين، وإما أن يعتذر لي علنا بذات الزخم والضجيج الإعلامي المسعور ليقر العدل ويدين المجرم ويبرئ البريء، وإما أن ينساق المفتي وراء فهم يعنيه ويشغله سلفا يقف وراء تأويل لكلامي يترصدني به ليدينني، وبهذا المعنى يكون قد سقط عن كرسي الإفتاء لإسقاطه شروط بقائه فيه وهو العدل والنزاهة وعدم تدخل المشاعر عند إصدار الأحكام، وبراءة المواطن التامة حتى تثبت إدانته، مع انصراف المفتي عمدا عن تسعة وتسعين وجها مبرئا ولجوئه إلى وجه التكفير الأوحد، دونما بيان وبرهان يدعم فتوى مرعبة كهذه وبلا شرعية لعدم أخذها بشروط هذه الشرعية، وإن كان لديه شيء يقوله (أكرر) فليتفضل ليناظرني فيه أمام الناس، وأنا له ند كفوء شديد المراس، وأعده بمتعة عقلية مشفوعة بكل الاحترام. ومن ثم فعليه بقول أوضح: إما أن يعتدل كما أمره ربه، وإما بيننا وبينه محاكم الأرضين هنا وفي البلاد الحرة في العالمين، حيث لا تضيع عندهم الحقوق لعدم وجود مفتين وأزاهرة في بلادهم، ويعملون بقانون العدل وحده، الذي يسري على كل الناس بمن فيهم رؤساء جمهوريات وليس مجرد مفت هنا أو أزهري هناك؛ أي أني عند الاضطرار سأقاضيكم أمام الطاغوت الأعظم الذي لا تضيع عنده الحقوق يا عبد الله.
هذا إضافة إلى كوننا لم نسأل يوما فضيلة المفتي عن موقع منصبه من دين المسلمين، وعن ورود شيء، في الكتاب أو السنة بخصوص هذا المنصب، وهل تلك الوظيفة المدفوعة بالأجر السخي والوفير والمكان الاجتماعي الرفيع، جعلته يظن بنفسه الظنون فيرى لذاته سلطان من له علاقة مباشرة بعلام الغيوب وما تخفي السرائر، وهي الأجور والمناصب والبغددة التي ندفعها نحن له ضرائب من جيوبنا وقوت أولادنا، دونما نص قرآني أو حتى نبوي واضح يفرضها علينا لندفعها لمولانا ليعيش البلهنية والرفاه الخمس نجوم ونعيش نحن الفقر العشر نجوم، ثم يأتي ليجأر لوعة وأسى مطالبا وزارة الثقافة باستعادة قيمة الجائزة، مستكثرا قيمتها المالية (200 ألف جنيه مصري) على مثلي ممن هم خارج السلطة وخارج نظام الدولة الوظيفي برمته، وهي ربما لا ترقى لمصروف أسبوع واحد وربما يوم واحد تصرفه عليه الدولة من أموال فقرائها ومعدميها، الذين يبكيهم هو والمستفتي بكاء ثرا ويقيمون مندبة جنائزية على الأموال المسلوبة من عرق فقراء مصر لمصلحة جائزتي، هذا مع غضنا الطرف تماما عن نصيبه من هدايا بشواتي وملوكي، ما كان ليعرف شكلها ولا وظيفتها لولا وظيفته.
يا صاحب الفضيلة، يا كبير، يا مسلم! رغم علمنا أنه لا مشيخة ولا أكليروس ولا أصحاب فضيلة سادة في الإسلام، فقد فرضك نظامنا مرجعية وظيفية؛ لذلك رجعنا عليك بفتواك وفق النظام والأصول كخطوة أولى إجرائية، وليس لأنك صاحب منصب ديني ليس من ديننا، ولا لأنك صاحب سلطان؛ فهو ما لا نعترف به بداية وبداهة، فلست عندي يا دكتور جمعة سوى فرد من آحاد الناس يجوز عليك ما يجوز عليهم. فإن استثمرت ضدي ما تتوهمه سلطانا علينا فلن يكون لسلطتك عندي أي اعتبار عند الاحتياج إلى النزال قولا أو فعلا.
نريد من المفتي علي جمعة قولا واضحا غير ملتبس وإجابات واضحات عما طلبناه هنا، وبعدها، وعلى ما سيقول حضرة المفتي أو ما لا يقول، سيترتب موقفنا، إما أن نصمت عنه في هدوء وسلام، وإما أن نسخط كما نشاء دون أن نلام، وأن ما سيقول وما سيترتب عليه أيا كانت النتائج، وإلى أي مدى يمكن أن تصل محليا أو دوليا، هو حتى اللحظة الراهنة مفتوح وقابل لكل الاحتمالات؛ وإنا لمنتظرون قوله بالسرعة ذاتها التي تطوع بها لموقع «المصريون» القرضاوي، وما أبأس الأسماء الجميلة في المواقع الرخيصة ذات الفتاوى القبيحة. (1) آلية الفتوى وتفكيك الخطاب
مع السؤال المستفتي والإجابة (الفتوى) نطبق جدل التفكيك والتحليل بحثا عن التكنيك المتضمن فيهما والأهداف المطلوبة والتأثير الجانبي في العقول وهو المخفي وراء الكلمات الظاهرة، والملاحظة الأولى أن المستفتي والمفتي لم يأتيا على ذكر اسم الشخص المراد تكفيره، ربما حتى يمكن التنصل مستقبلا من التبعات القانونية؛ فهي لا تتهم شخصا بذاته وبعينه، إنما جاءت في شكل فروض افترضها الطرفان وتصورات تصوراها حسب التوصيف القانوني للواقعة. وأنه لون من الاستفتاءات والفتاوى التي كان يمارسها الفقهاء وقت الفراغ للتسلية كلون من الألغاز والأحاجي اختبارا لإمكانات الفقيه واستعراضا ولعبا معرفيا، وتجد مثل ذلك كثيرا في الفتاوى المشهورة كالفتاوى البجاوية والفتاوى البزازية وغيرها، ستجد حوارا حول كم ملاك يمكنه أن يقف على رأس الدبوس؟ حوارا آخر حول حكم من كان لقضيبه فرعان، فأولج في قبل وفي دبر في آن، هل يغتسل غسلا واحدا أم غسلين؟ لكن إذا كانت لعبة الألغاز والأحاجي تجوز مع عوام المفتين المحليين والقرويين؛ فإنها لا تجوز مع مفتي الديار، فتاوى مفتي الديار لا بد أن تتصدى لمشاكل عامة تتعلق بمصالح المسلمين ودينهم وديارهم، ولا تتعلق بمسألة شخصية أي بشخص بعينه؛ لذلك عمد السؤال والفتوى إلى جعلها تظهر كذلك اللون من التمارين المتخيلة لهوا فقهيا، والتي تتسم بعمومية القضية وعدم تشخيصها، وهو الأمر الذي لم يعد صالحا في زمننا؛ لأن هناك لهوا آخر بأدوات حديثة وأجهزة فائقة التكنيك وخيالا هوليوديا لم يصل إليه بعد مشايخنا بلهوهم المخفي.
إن السائل معلوم لدى الناس كناشط إسلامي سياسي سلفي معروف هو الأستاذ جمال سلطان وموقعه «المصريون»، ومعروف أنه معارض إسلامي شديد التطرف، ويكتب وينشر كصحفي مشتغل بالشأن الإسلامي السياسي، ويسعى لإقامة دولة الخلافة الإسلامية التمامية، فكيف به وهذا شأنه، مع قدرته الاحترافية واطلاعه على تفاصيل دينه؛ يسأل سؤالا كهذا؟ وهل لا يعلم الرجل المحترف حكم الشرع الذي طبه في سؤاله؟ هل كان عاجزا عن إبداء الرأي في مسألة واضحة كشمس ظهيرة صيف؟ أم تراه أراد من سؤاله أن يسلك السلوك النموذجي المطلوب من المسلم الصالح الطيب. وأن يقدم القدوة والمثل للمسلم المسلوب العقل العاجز عن التفكير الذي لا يقدم على شأن مهما صغر شأنه إلا بعد أن يرجع لمشايخه، فهل أراد الأستاذ سلطان أن يقدم صورة النموذج المطلوب للمسلم، فذهب ليسأل مفتي الجمهورية بكل شأنه وشنشانه في شأن بدهي لا يحتاج إعمالا لعقل أو تفكير ولا يجهل به حتى المسلم الأمي؟! إن العقل البسيط يقول إن التهجم على مواطن عادي بالقذف والسب هو أمر يعاقب عليه القانون الوضعي والأخلاقي والعرفي والديني، فكيف بمن سب النبي والله والدين؟! إن من لا يمكنه إدراك الإجابة هو شخص يقدم نفسه كإنسان فاقد للإدراك والأهلية وأبسط مبادئ، التعقل، سؤاله فضيحة لنموذج المسلم المثالي المطلوب، لكن الأستاذ النموذج لا يرى ذلك لأنه مشغول بتكريس قيمة الطاعة العمياء وإسكات العقل. فيقدم نفسه للمسلمين نموذجا ومثلا للمسلم المطلوب، الجاهل الأمي بأبسط المعارف، الذي يطلب من شيخه الكبير أن يتولى تعريفه بحكم الشرع فيمن سب النبي والله والدين، كما لو أن علماء السلف جميعا لم يعرفوا بهذه المسألة، ومكثوا طوال تلك القرون حتى يظهر الشيخ جمال سلطان ليلفت نظر المسلمين إلى هذه المسألة المستعصية ويستفتي أهل العلم عما يجهله! إن السائل يريد من تفاهة سؤاله أن يعلن على المسلمين أنهم ممنوعون من إصدار أحكام من أنفسهم حتى في التوافه، وأنهم ممنوعون من إعمال العقل مهما بلغت مكانتهم، المتخصص في الشأن الإسلامي والمتبحر فيه، يسأل في التوافه الهينات نموذجا للعامة المسلمة لإعدام الشخصية وإيقاف عمل العقل.
لقد أراد السائل أن يجعل نفسه قدوة للمسلمين في جمود العقل وشلل ملكة التفكير، وأن عليهم أن يحذوا حذوه ليستفتوا في البسائط والهيئات التوافه، لتعويد العقل المسلم عدم العمل أو اتخاذ أي قرار دون الرجوع للزعامات الدينية التي ستفكر له لأنها هي التي تعلم وحدها العلم الرباني وما عرفه الأسلاف الصالحون منذ أكثر من ألف عام مضت، ألا ترون المفتي ذاته يضرب نفسه بنفسه مثلا في الاتباع فلا يجيب السائل بجديد إنما بما سبق وأجمع عليه علماء الأمة؟
إن لجوء المستفتي بسؤاله إلى كبير دار الإفتاء في تفاهة كتلك هي مهزلة، والإجابة عنه هي أم المهازل، تفاهة لو سألت فيها طفلا لأجاب بدلا من المفتي، هو كمن يرسل لأحمد زويل يسأله عن حاصل جمع 5 + 5، سيكون سائلا أهطل، ويستهزئ بقيمة زويل ويراه أهلا للصغائر ليجره من يده إلى منحدر التفاهة والسخافة، وكله في سبيل استصدار فرمان بحكم مقرر سلفا، مع إهدار كل قيم العدالة دفعة واحدة؛ مما يساعد على مزيد من سقوط هيبة دار تحكم بالهوى والكيف والمزاج.
يبدو منطلق السائل هو الغيرة على الدين ورغبة في معرفة ما يجهله بشأن معتد على هذا الدين، فذهب لزميل له أكفأ منه يسأله: هذا رغم المفترض في الغيور على الدين أن يتعالى على التوافه والصغار، وأن يكون هذا التعالي صفة دار الإفتاء بالأولى بحسبان هذا الترفع يجعلها تجسد أبسط قيمة في أي دين (الارتفاع فوق الثارات الشخصية والتوافه الهينات).
فإذا كانت المسألة المعقدة التي عرضها السؤال تفترض عدم وجود الإجابة عنها في فقهنا، فهذا اتهام رخيص لفقهنا بتقصيره في تعريف المسلمين بحكم من سب الله والرسول والدين، رغم أن السؤال يبدو للجميع كمن يسأل المفتي عن الجهة التي تشرق منها الشمس.
وفي واقعة السؤال هناك حادثة قد وقعت، وجائزة قد منحت، وشخص قد نالها، وهو ما جاءت الفتوى به كامل العناصر عدا اسم هذا الشخص الذي هو الموضوع الرئيس، شيء أشبه بلعب الأطفال، ويذكرنا بمن سأل فقيها أين تكون قبلتنا عندما نصعد إلى القمر؟ ناسيا أن المتخلفين لا يصعدون إنما يهبطون. إن التسلي بالفروض المستحيلة في ألعاب فقهية جائز لتمضية وقت الفراغ في سمر شرعي فيتخيل أحد المشايخ قضية افتراضية صعبة، ثم يأتي الشيخ الثاني فيتخيل حلا لهذه القضية، لكنها أبدا لا تجوز إذا أصاب هذا اللهو أبرياء من الناس أو أصاب البلاد بالضرر. وهو ما أزعم أنه المقصد الأساسي للسائل والمجيب معا، يقصدان إصابة أبرياء بالضرر ولو مع تهديد السلم الوطني بالفتن، وهو ما سنقدم الأدلة عليه في شكل تساؤلات. •••
هل المسألة موضوع الفتوى هي المسألة الوحيدة في ديننا التي غمض على السائل فهمها حتى يقيم بسببها الدنيا ولا يقعدها على مدى ثلاثة أشهر متتالية، ملزما نفسه ومفتيه بتوضيح هذا الشأن العظيم لأمة المسلمين بزفة غطت الأرضين السبع؟ وهل اطمأن السائل والمسئول إلى أن كل أركان الإسلام معروفة ومستوفاة ومطبقة حتى يذهبا إلى هذه الصغيرة يقيما منها هولا عظيما، بمشاركة غير حميدة من مشايخ الفضائيات وخطباء المساجد بطول مصر وعرضها، ناهيك عن المشاركات الخارجية من الأخوية العربية الداعمة من الخليج للمحيط ومن الأخوة الإسلامية من أمريكا إلى الصين في هذه الزفة الكارثة.
إن من يقيمون كل هذا الصخب بهذا الشأن الهين لا شك أنهم قد استوفوا كل شروط الدين الأهم والأجدى، وأنه قد تم تطبيق كل أركان الإسلام ولم يبق سوى استعادة مال الجائزة لخزانة أموال المسلمين من سيد القمني؟ وقد أكد السائل والمسئول أن المال المأخوذ للجائزة هو مال المسلمين؛ وهو ما يعني أنهم يعتبرون الأموال العامة في مصر هي أموال المسلمين وحدهم؛ وهو ما يعني أن تكون وزارة المالية هي بيت مال المسلمين المنهوب لمصلحة الجائزة، وما دام المفتي وهو رأس كبير في جهاز الحكم، ورأس أكبر في المؤسسة الدينية، ويعتبر أن مال الدولة هو مال بيت المسلمين، فهل تراه قد أدى الزكاة لهذا البيت كركن إسلامي لا يصح إسلام المسلم دونه، ودونه الردة والقتل والقتال وأسر الرجال وسبي الذرية واستنكاح النساء وسمل العيون والذبح صبرا والتنكيس في الآبار؟ فإن كان قد دفع زكاته فعليه أن يبرز لنا إيصال الإيداع الذي يفيد باستلام بيت مال المسلمين لزكاته الشخصية، ليثبت لنا أن غيرته على الإسلام حقيقية وليست غيرة تجارية ونفعية وسلطوية، ولنطمئن إلى صحيح إسلامه وسلامة يقينه، وحتى يكون له المبرر في طلب رد قيمة الجائزة لبيت مال المسلمين، هذا مع التساؤل: كيف يتحدث مولانا عن بيت مال المسلمين ولا يرى فداحة الجرم الشرعي الفظيع ممثلا في ذمي خازنا لبيت مال المسلمين، صاما أذنيه عن الخليفة عمر عندما عين أحد الولاة ذميا ليجري له الحسابات لأنه شخص أمين، صرخ عمر: ثكلتك أمك، والله لا أدنيهم إذ أبعدهم الله ولا أرفعهم إذ أذلهم الله، فكيف بمولانا يسكت عن هذه الفظائع مع تعطيل الركن الركين في أركان الإسلام. ثم يزأر هصورا من أجل جائزة لمفكر؟ هكذا ترون الشأن كله لونا من المسخرة المقرفة والمقززة، فكيف بإمامنا الأعظم الذي يفتي للأمة وقد أسقط أهم وأكبر أركان إيمانه؟ هل يحق له أن يفتش في إيمان الآخرين، بل ويجرؤ على نفيهم من حظيرة الإيمان؟! هل لدى القارئ تعريف آخر غير المسخرة بكل تفاصيل معانيها؟
أما الأخطر فهو أن صاحب الفضيلة قد سكت حتى الآن ولم يطلب يوما منذ تم تنصيبه تقنينا واضحا لأداء الزكاة، هذا الركن الإسلامي العظيم، وذلك بالفرض والإكراه اقتداء بسيدهم أبي بكر (أنا لا سيد لي سوى الله وحده)، فإن كان السائل والمسئول يعلمان أن دولتنا دولة مدنية فلهما إسقاط هذه المطالب ونحن معهما، ويجوز حينئذ أن يتولى أي مواطن أرفع المناصب ما دام أهلا لها، أما عندما يعتبران مال هذه الدولة للمسلمين فقط فلا تصبح الدولة هنا دولة مدنية، وتصبح وزارة المالية هي بيت مال المسلمين، ففي هذه الحال لا بد من تفعيل القواعد البكرية بشن القتال على مانعي الزكاة والذبح والحرق، على الأقل لإعادة الحقوق المسلوبة من المسلمين للمسلمين، بعد أن توقف نكاح السبايا والإماء واستعباد الذرية، واختفى من بلادنا سوق العبيد بقوانين أممية عالمية صادرة عن هيئة كفرية، وهو الحلال الذي حرموا منه بقوانين ليست من ديننا ولا من شرعنا، وبذلك نراهما قد أسقطا ركنا إسلاميا دونه الكفر، وحرموا المسلمين حقوقا أفاءها الله عليهم حلالا أحل من لبن الأم، وتركوا بيت مال المسلمين بيد خازن ذمي، أم أن مال الدولة المدنية يصبح بيت مال المسلمين فقط عندما يأخذ منه سيد القمني جائزة على أبحاث علمية تصيب وتخطئ وليست محل كفر أو إيمان؟ أبحاث معيارها الصح والخطأ وليس الحلال والحرام، ولا دخل لأبحاثه بالدين في حد ذاته.
ما أفهمه كباحث يعيش في دولة حديثة مدنية أن الجائزة هي من مال وطني قومي، يتم الصرف منه لمصالح المواطنين مسلمين أو مسيحيين أو بهائيين من أي لون أو ملة، وأنه ليس مالا خاصا بالمسلمين وحدهم. بينما يصر السائل والمسئول على كونه مال المسلمين، وهما يعلمان ما يرتبط على هذا الفهم من موجبات شرعية وهو ما يشككنا فيهما وفي صدق إيمانهما، حتى نكاد نرى إسلام البعض منهم إسلام جاه ووجاهة اجتماعية ومناصب رفيعة وكراس عالية منفوخة، ألا ترون فضيلة المفتي يفضل كرسيه ووظيفته على إقامة حدود الله كتحصيل الزكاة، مع عدم إعلانه الحرب على الممتنعين عن أداء حقوق الله بحسبانها ردة جماعية وليست فكرة لباحث! وهو الأوضح والعلني والمسكوت عنه، هو الأشنع على المذاهب كلها باتفاق، وعن جواره يجلس الخازن الذمي وزيرا مبجلا موقرا من المسلمين؛ ومن ثم عليهم بعد عزل الذمي عن بيت مالنا، إعادة زماننا الذهبي بجواريه وعبيده، بشن الحرب على مانعي الزكاة حتى يمكن سبيهم واستعبادهم، وتطبيق شرع الله بالعقوبات البدنية كالقطع والسمل والذبح صبرا، إن مفتي الديار يجلس ساكتا في ديار لا تطبق الدين، لكنه ينفر نفرة لله وللأمة ضد شخص واحد لا يعرف اسمه ولا ما كتبه، إذن هو يريد الوظيفة وليس الله ولا الدين، ثم يجرؤ على تكفير رجل من خيار المسلمين؟
يا عينك يا مولانا!
يا جبايرك يا مفتي الديار!
كان جديرا بالسائل والمسئول اللذين يبكيان مال المسلمين، أن يقيما مندبة على الصدقات والتبرعات والزكاة التي يدفعها الصالحون سرا وطوعا وحبا في أداء حقوق الله، فلا نعلم كيف تذهب لتفخيخ السيارات وقتل الأبرياء وتشويه سمعة الإسلام وتجريسنا عالميا بمخاز ضد الإنسانية، لا أن يبكيا جائزة لباحث لتفوقه العلمي الذي يسهم به لنهضة وطنه وأهله في هذا الوطن.
إنهم يشترون للإسلام بمال المسلمين مذمة الإرهاب بمليارات تصرف للتخطيط والتدريب وشراء الأسلحة والخبراء والتخفي والانتقال عبر البلدان وشراء سيارات التفخيخ وإعالة أسر الانتحاريين ... إلخ. إن جائزتي كانت من مال ضرائب مختلف شرائح الشعب المصري مسلمين ومسيحيين وبهائيين وقاديانيين وشيعة وسنة ولا دينيين، من المال الطاهر الذي لا يزكي نفسه بتزيين الطريق إلى الله بدماء الأبرياء، إنما يجمع ضرائب تصرف لمصلحة الوطن والمواطنين.
إن معركتهم من أجل بيت مال المسلمين تذكرنا بأحداث تسوءنا، فبينما سيد القمني لم يسرق من هذا البيت حتى يهبوا له هذه الهبة المضرية، فإن هذا البيت قد تقاتل عليه الصحابة رضي الله عنهم، فلم يكتبوا كلاما لا يرضي ذوق مولانا، إنما قتلوا خليفتهم سيدهم عثمان رضي الله عنه، وكان على رأس المتآمرين والقتلة سيدهم محمد بن أبي بكر رضي الله عنه، لعدم عدله رضي الله عن في توزيع الغنائم والفيوء، ومن أجل هذا البيت والسلطان أمر سيدهم معاوية رضي الله عنه بقتل الحسن الحفيد النبوي عليه السلام بالسم، كما أمر أيضا بقتل سيدهم محمد بن أبي بكر رضي الله عنه ثم حرقوه في جوف حمار ميت، كذلك قام سيدهم يزيد بن معاوية رضي الله عنه بقتل الحفيد النبوي الثاني الحسين عليه السلام والقضاء على البذرة النبوية المطهرة، وقبلهم حاربت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ثم فتنة سيدهم ابن الزبير رضي الله عنه وحرق الكعبة المشرفة، ووقعة الحرة المخزية التي حبلت فيها ألف عذراء من بنات الصحابة رضي الله عنهم بقرار وفعل صحابة آخرين رضي الله عنهم أجمعين، وكل هذه الويلات كما نعرف جميعا في صحاح تواريخنا كانت من أجل السلطة ومال بيت المال المنهوب من السادة الكبار، ولا يصح هنا القول إن أيامهم كان كل منهم يحارب الآخر في سبيل الله؛ لأنه ما يعني أن الطرف الآخر كافر، بينما كلاهما (القاتل والمقتول) صحابة كرام رضي الله عنهم أجمعين.
زمن الخليفة عمر رضي الله عنه تمت سرقة بيت المال من الخزان أنفسهم وكلهم صحابة رضي الله عنهم، ومن ثبت عليه ذلك كان الخليفة عمر رضي الله عنه يعاقبه بمصادرة نصف ما أخذ (يشاطره إياه)، وممن شاطرهم الخليفة: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأبو هريرة رضي الله عنه والحارث بن كعب رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه، متهما إياهم بأنهم «يجمعون العار ويأكلون الحرام ويورثون النار» بسرقتهم مال الله، يقول أبو هريرة: «ولما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله.»
فالمفتي والمستفتي لا يريان هذه العظائم، بل يأمراننا بتقديس كل من رأى الرسول ولو لحظة لأنه صحابي ولذلك هم أسيادنا! ويقفون مع جائزة العبد الفقير إلى الله منادين بالويل والثبور وعظائم الأمور، أم تراهما يخوضان كل هذه المعركة اقتداء بالخليفة عمر رضي الله عنه ليتمكنا من مشاطرتي الجائزة وأخذ نصفها مني؟ سيكون هذا جائزا لو كنت سارقا، لكني للأسف لم أسرق فلا تجوز لهما المشاطرة حسب قوانين شرعنا، فعلى مستوى الشريعة الإسلامية لا يجوز لهما مجرد طلب رد قيمة الجائزة ولو كانت من بيت مال المسلمين.
إن خزان بيت المسلمين الكرام هم من سرقوه، وضبطوا متلبسين وقبلوا غرم المشاطرة والعزل اعترافا عمليا منهم بارتكاب الجرم، وأنا سادتي لم أسرق أحدا، ولو كان زمن الخليفة عمر توجد معرفة بضرورة تشكيل اللجان الفاحصة لأعمال الولاة، مثل اللجنة التي فحصت أعمالي، لما تمكن الخازن من السرقة؛ لذلك فأي سرقة وفساد في أيامنا هو أقل مما كان يحدث في زمننا الذهبي الماضي بما لا يقارن، لوجود آليات المراقبة والمحاسبة، ناهيك عن الفضح الإعلامي بكل صنوفه، وإذا ما أراد السائل والمسئول استرداد جائزتي فلنسمع منهم فتوى أولى تأسيسية بشأن الخزنة التاريخيين لبيت مال المسلمين، وحكمهم بشأن الدم المسفوك طوال تاريخنا الأسود اقتتالا على حيازة بيت مال المسلمين، حتى نصدق تحريهم للعدل أساس الدين والملك. •••
لا شك أن المفتي الدكتور علي جمعة بكل ما لديه من علم بالدين كمرجعية عليا في شئون هذا الدين، يعلم ما نعلمه من بسائط هذا الدين، فنحن نعلم أن نظام القضاء الإسلامي يقوم على ركن أساسي تفسد بدونه أي قضية ويمتنع مع عدم وجوده إصدار أي أحكام، وهذا الركن الركين هو نظام الشهود، حتى أنه وضع لهذا النظام شروطا واضحة لم تترك شاردة ولا واردة سواء في صفات الشهود أو علمهم أو عددهم أو سلامة حواسهم وذلك لضمان تحقيق العدالة. فالشهادة هي الركن الركين في تشريعنا، صيام مليار مسلم مرهون بشهادة اثنين من المسلمين، إن الله بجلال علمه الكلي يعمل في حساب يوم البعث بنظام الشهود لتأكيد هذا الركن العظيم في القضاء الإسلامي، يوم الحساب لو راودتك نفسك الكذب تشهد عليك أعضاء جسدك، الشكوى لو كانت في دوار العمدة في ريفنا الصعيدي وليس في دار الإفتاء بجلال قدرها، لطلب العمدة الشهود والأدلة.
وفي الموضوع الذي نظره المفتي يوجد عدد كبير من الشهود هم أعضاء اللجنة الفاحصة بوزارة الثقافة من خيرة أبناء الأمة المصرية، والتي صوتت لمصلحة منحي الجائزة، وأقرت استحقاق صاحبها للتقدير من جانب الدولة كباحث علمي حر لا منتم، فهل استمع صاحب الفضيلة إلى هؤلاء الشهود وناقشهم احتراما منه لشروط الشريعة الإسلامية؟ كلا، لم يفعل! فهل طلب المفتي الكتب موضوع التكفير ليطلع على ما فيها من وثائق قبل أن يصدر حكمه؟ كلا، لم يفعل! هل سبق أن عرف مجتمع أحكاما تصدر بدون جسم جريمة وبدون أدلة وبدون شهود، كلا لم يحدث! أحكاما تؤدي إلى الفتن المجتمعية وتهدد السلم الوطني، ناهيك عن تدميرها لسمعة مسلم حسن الإسلام ، والتعرض له ولأهله بالأذى والقسوة من المجتمع، في محاكمة تقوم فقط على الثقة المتبادلة بين الشاكي وبين القاضي؟ كلا لم يفعل مجتمع إنساني هذا. كلا لم يعهد تاريخ الإنسانية كله بحث مصائر الناس بالفتاوى، حتى الشعوب البدائية كانت تصدر قراراتها بشكل جماعي بمجلس النخبة أو القبيلة أو الصفوة، بعد بحث الموضوع من جوانبه كافة وسماع جميع وجهات النظر، حتى زمن الجاهلية كان لديهم الملأ ودار الندوة، إن دار الإفتاء بريادة علي جمعة عادت بنا إلى ما قبل الزمن الجاهلي بأزمان. إن الإنسانية لم تعهد الفرمانات الصارمة المدمرة إلا مع شخصيات تأخذ في تاريخ البشرية أسوأ المواقع لما أدت إليه من ويلات وحروب وكوارث من هولاكو إلى هتلر إلى صدام حسين، إلى مولانا!
أم أن صاحب الفضيلة لم يطلب الاستماع إلى الشهود لاحتسابه أن الستين عضوا باللجنة المانحة لا تتوافر فيهم شروط الشهود العدول؟ ولا يفوتنا هنا تشكيكه في معرفة اللجنة بما في كتبي بقوله: «إن كانت تعلم»! وهو ما يعني أنها في ضميره واعتقاده قد لا تعلم ومع ذلك تعطي جوائز، يعني أنها لجنة فاصوليا، يعني اللجنة عند مولانا شيليني وأشيلك (وعدم الرجوع لشهادتهم اتهام ضمني)، وهو منزلق خطر، خاصة إذا ما اطلع فضيلته على أسماء أعضاء تلك اللجنة وقاماتهم قبل أن يتهمهم لربما تريث في فتواه.
إن ما فعله المفتي لم يسبقه إليه آخر في تاريخنا، فقد قدم رأيه دون أي براهين واعتبره محجوجا وأعلى في أداء القدرة والقوة من أي رأي آخر، حتى لو كان رأي ستين عالما متخصصا، أصدر قراره فرمانا لم يحقق ولم يدرس ولم يستمع إلى الشهود ولم يعتمد على نصوص موثقة وبدون أدلة، المفتي سمع، فقال. استمع للادعاء ولم يستمع للمتهم ولا للشهود ولا طلب جسم الجريمة وبدون أي دليل أو قرينة، هادما كل أركان القضية بفرمان عثمانلي.
يقول المفتي في فتواه: «واللجنة التي اختارت له الجائزة إن كانت تعلم بما قاله من المنشور في كتبه الشائعة فهي ضامن لقيمة الجائزة التي أخذت من أموال المسلمين.» المفتي هنا متشكك في علم اللجنة المانحة بالتهمة موضوع الفتوى، ولم يبين المفتي موقفه من هذه النقطة هل هو مماثل لموقف اللجنة؛ أي موقف ظني متشكك في دوره لا عالم ولا عارف إن كانت هناك تهمة من عدمه؟ إن صياغة صاحب الفضيلة للعبارة نعني أنه هو واللجنة التي يتهمها سواء بسواء في اللاعلم واللامعرفة، ورغم عدم العلم الذي يفترضه في اللجنة فقد أصدرت قرارها وهي لا تعرف، إذن هي تجامل، وبناء على عدم معرفة اللجنة وإصدارها القرار مجاملة؛ فإنه يمكن للمفتي أن يقدم على إصدار قرار يجرم دون أن يشغل نفسة بمعرفة المسألة، هي تجامل، وهو يجرم، واحدة بواحدة، المفتي أصدر حكمه وهو غير واثق، بناء على احتسابه أن اللجنة بدورها غير واثقة، وأنها بالكامل مسألة مزاحية؛ وهكذا يصبح الحاج خميس شيخ الحارة في بلدنا الجالس على مصطبة من الطين اللبن أكثر عدلا من الحاج جمعة صاحب الجاه والرفاه والمناصب العليا. هذا بينما واقع ما حدث هو أن اللجنة المانحة تتشكل بنيتها من علماء وأدباء ومفكرين وباحثين قرءوا الأعمال للعديد من المفكرين، وبعد الدرس والفحص اتخذت قرارها لتختار من بين مرشحين كثر، الأفضل بين الفضلاء، ولو لم أكن جديرا بها لكان أول الشاكين هم من المرشحين الآخرين الذين لم ينالوها وهم كثر، وهم بدورهم من الجديرين بها، وهم المتضررون من فوزي وليس موقع المصريين ولا المفتي ولا الإخوان.
ومقارنة قرار اللجنة بحكم المفتي يطرد فورا حكم مولانا من طاولة البحث، حيث مولانا لا يعرف ولم يقرأ ولم يستمع إلى شهود، هو إذن عملة فاسدة.
غني عن التنبيه هنا أن تدخل رجال الدين في البحث العلمي وتقييمه يعني تفجيرا تحتيا لأسس هذا البحث، وللقيم التي يقوم عليها هذا النوع من التفكير المنهجي، والتي كادت تخلو من بلادنا بسبب سيطرة رجل الدين. فالإفتاء يعيش في وادي الحلال والحرام والطمث والحيض وزواج الإنس من الجن والفيل والصيحة والبراق والنملة وبول الناقة، وهو واد يختلف بالكلية عن وادي التفكير العلمي ومناهجه وطرائقه وشروطه الصارمة بحكم واحد فقط هو الصواب أو الخطأ، وبين الواديين برزخ يفصل بين زمنين مختلفين بالكلية، برزخ فاصل يمتد إلى أكثر من ثلاثة قرون زمنا، فهما زمنان متجاوران زمن ما قبل المنهج العلمي وزمن ما بعد هذا المنهج، كالمتوازيين لكنهما لا يلتقيان أبدا مهما امتدا. •••
ما لا يغيب على المدقق في السؤال والفتوى، الأهداف البعيدة المخفية بين السطور بحيث تفعل فعلها وتقوم بتأثيرها في العقل المسلم عبر التسلل إليه والسكون داخله دون إعلان، وإن وزارة الثقافة كي لا ترتكب مثل هذا الزلل مرة أخرى فعليها الرجوع أولا إلى أهل الدين لأخذ رأي رجاله في البحوث العلمية والأعمال الأدبية والفنية.
يريد السائل أن يجعل رجل الدين هو المرجعية الوحيدة والعليا للأمة المصرية أفرادا وجماعات ووزارات (بالنظر إلى موقفه من وزارة الثقافة)، يريد توحيد السلطات جميعا في يد واحده تلبس مسوح المقدس إذا افتدينا بها اهتدينا، ليقرر رجل الدين ما يجب وما لا يجب، ما نكتب وما لا نكتب، بفرمانات غير قابلة للمناقشة، حتى لو كانت الموضوعات مجال الفرمان هي علمية بامتياز وتخصصا وجدارة، موثقة تعتمد المناهج العلمية الكبرى التي اكتشفتها البشرية في آخر منجزاتها، ورغم ذلك فهذه الموضوعات لا تعطي نفسها عصمة الصواب المطلق، إنما هي بطبيعتها تخلق اختلاف الرأي حولها جدلا ونقاشا قبولا ورفضا، بعكس فرمانات رجل الدين المقدسة التي لا تحتمل رأيين. فرمانات لا تسمح لنا بحق أن نفكر، وحق أن نخطئ لنتعلم من الخطأ؛ لأن الخطأ غير مسموح به فهو خروج على الأمة وخيانة لها لمصلحة المتربصين بالإسلام؛ فالدين لا يعرف إلا الحلال والحرام، الطاهر والنجس، الإيمان والكفر، الهدى والضلال، بعكس العلم الذي لا يعرف غير البراهين والأدلة والصواب والخطأ وحدهما.
ونلحظ بشدة قوله عن مدى جواز أن تقوم (لجنة)، دون تعريف بالألف واللام، قاصدا مفهوم اللجان نفسه وتعميمه على كل اللجان التي تتخذ فيها القرارات بمشاركة ومناقشة ودرس، فليس هؤلاء هم المخولين بمنح الأوسمة التقديرية لأنهم لا يعملون وفق الحلال والحرام؛ لذلك فالفتوى تحتوي ضمنا على تحريم عمل اللجان عامة وإحلال الفتوى محلها.
المخفيات المسكوت عنها تفصح عن نفسها فالسؤال يتحدث عن هجوم على الإسلام في كتب (بدون تعريف) مطبوعة ومنشورة ومتداولة، ليوعز بالخطر الكامن في الكتب عموما، والذي يقتضى مرورها أولا على المشايخ ليتم التصريح بطبعها ونشرها من عدمه.
إن أي تأمل بسيط في كل هذه الهجمة الشرسة سيكتشف أن الأمر لا علاقة له ببحث علمي أصاب أو أخطأ، أو جاءت استنتاجاته وأداؤه وأدواته غير مرضية للبعض ومنهم السائل والمجيب، أو على أسوأ الظروف غير صائبة وهو حال العلم البشري الذي يحتمل الصواب والخطأ دوما، القضية هي انتهاز الفرصة بهذه الجائزة، وتجريمها لإسكات العقول المفكرة والراغبة في تفعيل وعي الأمة المصرية ونحرها إن أمكن، الهدف الأكبر والأبرز هو حظر البحث العلمي بكل أشكاله وألوانه ومناهجه. والسائل من بدء رسالته المستفتية، يرجو المفتي أن يكون رقيبا على أعمال اللجان العلمية، وأن يكون رقيبا على ميزانية الدولة وأوجه صرف الدخل القومي، وهو حشد للسلطات بيد رجل الدين لم يسبق أن في حدث في تاريخنا من قبل ولا حتى زمن الراشدين، حدث مع النبي
صلى الله عليه وسلم
وحده فقط أتراهم يرون أنفسهم أكفاء له وأندادا؟!
تنجلي الأهداف متسلسلة؛ فالواضح أن المستفتي لا يطلب بسؤاله المعرفة، هو يعلم أن هناك من سب النبي والإسلام في حياة النبي، هو لا يطلب علما، فالإجابة واضحة للأعمى، لكنه يطلب هياجا شعبويا بتصوير دين الإسلام ضعيفا مهزولا يتطاول عليه سيد القمني وغيره ليهت له المسلمون غيرة ونصرة.
واتباع السائل والمسئول تكتيك عدم ذكر اسم المتهم، إنما يهدف إلى التعميم على هذه الحالة وعلى كل الحالات المشابهة، من أفكار أو طرائق تفكير جديدة أو مختلفة عما اعتادوه؛ لأنه لو تم التشخيص والتسمية لكان الجرم أهون، أما عدم التعميم المقصود يجعل الفتوى عامة تخويفا وإنذارا له ولغيره ولمن صوت لجائزته ولمن يفكر في ذلك مستقبلا. وكي تتم إحالة أي شأن إلى رجل الدين تتم إدانة نظم التصويت باللجان وورش البحث، من يلجأ يجب أن يلجأ إلى المفتي، إلى رجل الدين؛ أي أن المسألة ليست قاصرة على سيد القمني، إنما انطلاقا منه لقيام سلطة رجال الدين التامة وإسكات أي صوت مخالف؛ ومن ثم إلغاء البحث العلمي تماما، لجعل رجل الدين المرجعية العليا للأمة المصرية. السائل والمجيب يرسمان خطة ما يجب أن يكون. إذا كان حكم من يسب الدين معلوما بدقة فإنه لا يكون للاستفتاء هدف معرفي، إنما أهداف ضمنية في تمثيلية ساذجة هزلية لتعويد العقل المسلم وتدريبه على العودة إلى رجل الدين، وعدم استخدام هذا العقل حتى في البسائط الهيئات المتوافية، وتكريس التبعية واستجلاب التحريض والسب والتكفير من جهة رسمية حكومية، وليس جهة سماوية؛ فالختم ختم النسر وليس ختم السماء، ختم يعبر عن سلطة دنيوية تلبس زيا سماويا، فتكون هي الدكتاتورية المثلى والنموذج التمامي للفاشية، فلا حكومة دولة مدنية تحكم ولا الرب بنفسه هو من سيحكم، إنما شخص من لون السائل والمسئول.
يبقى هدف أخير ضمن الأهداف المتضمنة بين السائل والمسئول، ألا وهو الضغط مقدما وسلفا على قرار القضاء فيما هو مرفوع من قضايا بشأني، إحراجا للقاضي وسد المنافذ أمامه؛ لأنه إذا كان رأي ربنا موجودا في القضية فماذا سيقول القاضي أمام حكم الشرع؟
هنا سأحيل القاضي على كتاب الله تعالى ليرى كيف أن المنصب الفتوى والورع والخشوع ليس علامة الطهارة والصدق المطلق، أحيله على قوله تعالى:
وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية (الغاشية: 2-4)، وأنه قال تعالى:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (المائدة: 2)، وربما إن استزاد أحلته على أحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم : «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام»؛ لذلك كان تساؤل المسلمين حول حديث النبي: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» عن كيفية نصرته ظالما، قال
صلى الله عليه وسلم : «تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره.» وهي كلها نصوص مقدسة يعلمها المفتي والمستفتي، ورغم ذلك لم يحجز المفتي أخاه الظالم عن ظلمه، بل مشى معه ليعينه وهو يعلم! ليتعاونا على الإثم والعدوان!
القانون المدني في هذه الحال يمكن أن يدين ما فعل المستفتي والمفتي معا في خرقهما لكل قوانين العدل في الدنيا كلها؛ لذلك أقترح على السائل والمسئول ألا ينتظرا إدانة المحكمة المدنية لكليهما، خاصة أني لن آلو جهدا في السعي لحبس معظم أطراف الهبة التكفيرية، وقد تطوعت بمال هذه الجائزة جميعه في سبيل هذه المنى ومن أجل تلك البهجة وذلك السرور، ليذوقوا نتائج بعض عبثهم؛ لذلك أقدم لهما النصح مخلصا أن يقدما نفسيهما للمسلمين كمسلمين صادقين قولا وفعلا، ويظهرا أنهما أفضل إيمانا من سيد القمني ومن لجنة وزارة الثقافة وأي لجان أخرى، تعاليا أدلكما على طريق النجاة، فأذكركما أن الغامدية أصرت على الاعتراف بمخالفتها للشرع وطلبت القصاص حتى رجمت، وحتى قال النبي
صلى الله عليه وسلم
عنها: «لقد تابت توبة لو وزعت على الناس لوسعتهم جميعا.» فهل السائل والمسئول من الملائكة؟ ألم يرتكبا أي جرم ناهيك عن جرم هذه الفتوى الكارثية، لماذا لا يتقدم السائل (الذي سخر موقعه لسب سيد القمني وتكفيره وتدعيره لمدة تزيد عن الثلاثة أشهر) إلى الحاكم ليكسب نيشان الغامدية ويقول إنه سب مسلما حسن الإسلام هو القمني ظلما وزورا، وأنه يطلب توقيع العقوبة على نفسه، أو ليستخرج من حياته مأثمة واحدة ليكون كالغامدية، لنروي بعدها رواية جمال سلطان الغامدي إلى جوار رواية الغامدية المؤسسة، وحتى يكون في تاريخنا أكثر من غامدية واحدة مفردة، ليشرف الإسلام بغامدي جديد بعد أن غاب الغامديون من تاريخنا الإسلامي أربعة عشر قرنا، وكذلك أن يذهب فضيلة المفتي إلى رئيس الجمهورية ليعترف ببعض آثامه البشرية ويطلب التشهير به ومعاقبته وتجريسه على ملأ كما فعل ماعز، أم أن كل رجال الدين من الأطهار ليس فيهم غامدي ولا ماعز عبر القرون السوالف؟ هل رأينا غامديا واحدا بين الجماعة الإسلامية التي قتلت الأبرياء بالرسوخ في الدين وعادت للمراجعات بالرسوخ في الدين، معترفين بخطئهم في الفهم الأول الدموي ودون أن يعيدوا للقتلى حياتهم بالفهم الثاني؟ لماذا لم يفعل أحدهم فعل ماعز أو الغامدية؟ أم أن الأحكام عند المشايخ تجب فقط على غيرهم من الرعية ولا تنطبق عليهم لأنهم السادة المسلمون وحدهم؟ إن العدل هو أن يبدأ السائل والمسئول بنفسيهما لنتأكد أن إيمانهما ليس إيمان مستوى معيشي رفيع أو نفع دنيوي أو كرسي منصب، وإنما إيمان يؤمن به القلب ويصدقه العمل والفعل وليس الخطابة الرنانة والكراسي الفخمية ودنانير الفضائيات وبيزنس كل ألوان الإسلام السياسي. فهلا سمعنا قريبا من رجل دين مخلص لإيمانه يطلب من الحاكم أن يقطع يده، أو يجلده أو يرجمه؟! أم أن جميع رجال الدين هم من المعصومين من الخطأ والذنوب وبقية المسلمين هم من الخطائين؛ لذلك يملكون حق الدوس على رقاب الناس يسبون هذا ويلعنون ذاك ويطردون آخر من رحمة الله، وكأن جنات عدن قد أصبحت عزبة خاصة بهم يملكون وحدهم مفاتيحها، أبدا والله لا نصدقكم، ولا تقبل أحكامكم على عباد الله، ولا نصدق غيرتكم على إسلامنا، حتى نرى من بينكم غامديا جديدا، أو لتكتفوا بمغانمكم، وتصمتوا وتخرسوا وتخرجوا من دماغ الأمة، حتى تصح وتتعافى وتلحق بأشقائها في الإنسانية، حيث نور العلم والحقوق وإشعاع الحضارة القاتل لجراثيم التخلف وعفن المقبورين.
الفصل السابع
أوباما
تحليل الخطاب وردود الفعل
آثرت الانتظار حتى تهدأ توابع الهزة التي أحدثها خطاب أوباما وتزول الدهشة وردود الفعل الأولى وازدحام وجهات النظر أخذا وردا، موافقة وتنديدا. وقبل أي تحليل أو تفكيك لعناصر الخطاب الأوبامي، يجب ألا ننسى أن دور الرئيس الأمريكي في المنظومة الإدارية الأمريكية هو أحد الأدوار وليس كلها وربما ليس أهمها، وأنه لا يستطيع أن يخرج على قواعد التكتيك والاستراتيجية التي تساهم فيها مؤسسات وهيئات هذه المنظومة، ولا يكفي تأثيره بمفرده لتغيير قاعدة واحدة من قواعد اللعبة السياسية والإدارية، أو حتى مجرد التفكير في ذلك.
وأيضا لا بد من الاعتراف بأن أوباما خطيب من نوع نادر، لاختياره الدقيق للغة هذا الخطاب التصالحية مع الظهور بتواضع جم، بما يلمس أوتارنا العاطفية ويدغدغ وجداننا، باستخدام آيات قرآنية بما يعني أن الرجل يفهمنا ويعرفنا حق المعرفة ويعرف طريقتنا في التفكير ويعلم سلفا أننا أقوال دون أفعال، وعواطف يختفي معها العقل المنطقي وتضيع المصالح، رجل عرف لغونا وكيف يلغو لنا بكلام يوافق هوانا.
وكثيرا ما تمنى صاحب هذا القلم سد الفجوة في الفهم بين المسلمين والعرب من جانب وبين الغرب من جانب آخر، خاصة بعد لقائي بعد سبتمبر 2001م أكثر من مسئول غربي رفيع المستوى، وهي اللقاءات التي أشعرتني بمدى خطورة هذه الفجوة، فلا هم يفهموننا ولا نحن نفهمهم، كما لو كنا نوعين مختلفين من البشر سلاليا وعرقيا وعقليا. تمنيت أن يستطيع الغرب وخاصة الأمريكي أن يفهم أن لنا لغة خاصة في فهم الدنيا، وردود فعل من نوع خاص، وأن دلالة اللفظ عندنا لا تحتوي على دلالة اللفظ نفسها عندهم، وأن ما يحمله التعبير اللفظي من تاريخ ومحتوى معان تعود بتحميل دلالاتها إلى مدى يزيد عن أربعة عشر قرنا للوراء، وأن ذلك ما يزال حيا في فهمنا ولغتنا ومنطقنا البدوي البدائي العاطفي، ويختلف بالمرة عن تاريخية اللفظ نفسه ودلالته عندهم، وشرحت هذا باستفاضة في محاضرتي عام 2006م بمعهد هدسون بواشنطن دي سي، وهو واجهة لوزارة الخارجية الأمريكية لتقصي آراء المفكرين والعلماء والرؤساء والمتخصصين والخبراء وغيرهم في مختلف القضايا التي تشغل الرأي العام العالمي.
وتمنيت أن يحدث ذلك أيضا من جانبنا؛ لذلك كانت سلسلة كتاباتي المتتالية لمحاولة شرح وتوضيح كيف نفكر وكيف ينبغي أن نفكر إذا أردنا لهذا الغرب أن يفهمنا ويتفاعل مع قضايانا بثقة. لنستطيع أن نخاطبه بلغة متفق على دلالتها سلفا حتى يكون الحوار مفهوما. وتكون لدلالة اللفظ عندي المعاني ذاتها عنده، وأن مبادئ المنطق التي يحتكم إليها هي مبادئ المنطق ذاتها التي أحتكم إليها؛ لأن مسألة الفهم هذه وتلك تعاني خللا حادا بين عالم العرب والمسلمين وبين الحضارة الغربية، وهو خلل تاريخي تحدث به الركبان حتى قيل مع اليأس من التفاهم في المثل السائر «الغرب غرب والشرق شرق كحركة الشمس ليلا ونهارا لا يلتقيان.»
لذلك أقول إن باراك يفهمنا جيدا لذلك لبس لنا ثوب الواعظ الشيخ باراك بن حسين آل أوباما حفظه الله ورعاه هو ومن يلوذ به، ليعلن كيف يعرف لغونا وكيف يلغو لغونا بما حمله لخطابه من دلالات نعرفها ولا نعرف غيرها، وجاءت أمنيتي بفهم الغرب لنا، بعكس الهدف المرتجى منها، فها قد جاء من يعرفنا ويفهمنا وعاش وسطنا وجيناته من جيناتنا، ويعرف كيف نفكر وما هي ردود أفعالنا، ولكن ليس من أجل خلاص شعوبنا مما هي فيه من تخلف وجهل ومرض وفساد اجتماعي معمم وحكومي علني واستبداد وقمع واستعباد، كلا الرجل ليس مشغولا بهذا بالمرة، إنه لم يأت ليخلصنا، لكنه جاء مخلصا لأمريكا من عثرتها في بلادنا ولتحييد شرنا عنها، بتكاليف أقل من تكاليف طريقة الحزب الجمهوري الأمريكي بما لا يقارن، وفي وقت تستفحل فيه الأزمة الاقتصادية العالمية.
لطفاء القوم من مشايخ الفضائيات التي تمطرنا مشايخ، تفاءل بعضهم بأصول أوباما الإسلامية وأنه ربما يقود شعبه الأمريكي إلى الإسلام لنعود هم ونحن بنعمة الله إخوانا، وتحل المشكلة بسيادة الإسلام للعالمين كشيخ القبيلة تتبعه قبيلته، أو بما يشبه عزة الإسلام بأحد العمرين.
هذا بينما كنت في تفاؤلي أرتجي أن يشارك ذلك الغرب المتقدم الحر العلمانيين العرب في البحث ووضع الخطط العلمية المدروسة على المستوى العلمي والثقافي والإعلامي والتعليمي وحده، لإحداث هذا التقارب مع ضغوط تقوم بها مؤسسات الحريات والمجتمع المدني الدولية على الحكومات المحلية كلما وقعت مخالفات في بلادنا للحقوق الإنسانية، وللنهوض التنموي بالمنطقة، للانتقال الهادئ والسلمي ببلادنا إلى مجتمع كامل المدنية، فإذا بأوباما يستخدم معرفته بنا لتكريس الأوضاع القائمة، وإعطائها شرعية استمرارها كما هي، بموافقتنا ورضانا بعدد مرات التصفيق في القاعة. هذا إذا تذكرنا أنه لم يخاطب المسلمين من دولة مسلمة خالصة الإسلام كالسعودية، ولا من دولة مسلمة ديمقراطية مثل موطنه الثاني إندونيسيا أو جارتها ماليزيا، لكنة اختار القاهرة التي يحكمها نظام شبه مدني جذوره وتوجهاته دينية دوما وقومية أحيانا.
لوحظ أيضا ولع الشباب العربي والمسلم بأوباما وبخطابه، وقد فطن أوباما لذلك وأعلن الشباب هما أول له، مع زيارته الشبابية المرحة المتواضعة للأهرامات؛ مما أدى للولع بالنموذج الأمريكي، وهذا في حد ذاته أمر محمود أن يكون رجل ناجح مثل أوباما مثلا أعلى لشبابنا. وهو ما سيؤدي لمحاولة التعرف على النموذج الغربي، ومن جانبه تمكن حسين أوباما من تألف قلب الشارع المسلم مع بعض المثقفين دون بعضهم، فقد اختلفوا حول هذا الخطاب وظروفه اختلافا بائنا؛ ومن ثم فإن أهم مكسب حققته هذه الزيارة لنا وللأمريكان هو إعادة النظر في كون أمريكا هي الطاغوت الأعظم الإمبريالي، وإعادة النظر في فرض كاد يكون إسلاميا ووطنيا، وهو كراهية أمريكا كفرض واجب دونه الخيانة والكفران.
ونموذجا لاختلاف المثقفين رأى الدكتور «مصطفى الفقي» أن اختيار أمريكا القاهرة للخطاب هو إقرار بمكانة وحجم مصر في المنطقة للدور الحضاري والتاريخي ومكانة الأزهر بين غالبية المسلمين في العالم، وكذلك السياسة المعتدلة التي تنتهجها القاهرة، وجعلت القاهرة تحظى بشرف هذه الزيارة، وهو الرأي الذي ردده كل من التيار الإسلامي والتيار القومي، «فهمي هويدي» نموذجا للتيار الإسلامي رأى أن خطاب أوباما ما هو إلا محاولة من النظام الأمريكي الجديد لمساندة حلفائه من دول الاعتدال في المنطقة ودعم أنظمتها، وأنه يريد الحصول على ماكياج من القاهرة للسياسة الأمريكية التي لا تتغير ثوابتها، بينما ترغب مصر في الحصول على دعم معنوي من أكبر قوة في العالم لكي تستطيع استعادة دورها وضمن ذلك الوريث القادم. ولك أن تعجب من مدى التوافق عندما نجد التيار القومي الناصري يردد المعاني نفسها، فيقول «عبد الله السناوي» إن رأيا مثل رأى الدكتور الفقي يخلط الأوراق بين مصر التاريخية ومصر الرسمية، وأوباما اختار مصر التاريخية ليتحدث من منصتها، دون أن يخطر بباله أن الثانية سوف تحاول دبلوماسيتها وإعلامها تسويق الزيارة باعتبارها فتحا لا مثيل له في التاريخ المصري، يؤكد شرعية النظام وسلامة اختياراته الداخلية، وأنه ليس هناك دولة تحترم نفسها تعتبر زيارة رئيس دولة أخرى مما يضفي شرعية على نظام الحكم فيها، أو يؤكد أدوارها في محيطها؛ فالشرعية مصدرها القبول العام والأدوار التي تصنعها السياسات وليس الادعاءات.
لاحظت أن المشترك الواضح في كل ردود الفعل قيامها على خلفية من المثل الشعبي المصري «أسمع كلامك أصدقك، أشوف عمايلك أستعجب!» مع حضور هذا المثل وتكراره في معظم ردود الفعل؛ فالمشترك توافق على سؤال لا جواب عنه على الأقل هذه الأيام وربما تجيب عليه الأيام القادمة، السؤال: هل يتحول هذا الكلام إلى فعل على أرض الواقع؟
الرجل يعرفنا جيدا ويعرف كيف نفكر؛ لذلك تابع رحلته من القاهرة إلى القارة الأوروبية ليعلي من رصيد الاهتمام بالدولة الفلسطينية المستقلة ووقف بناء المستوطنات، ليؤكد للمسلمين أنه صحب القول فورا ببدء الحشد من أجل الفعل بضغوط دولية على إسرائيل. •••
رد الفعل العربي كله كان قد ركز على إمكانات أوباما الضغط على إسرائيل، ووسط كل هذه الهموم القومية والدينية لم أصادف من تذكر وجوب الضغط على ماكينات فرز الإرهاب في قنواتنا الفضائية الإسلامية ومعاهدنا الدينية، لم يتكلم أحد عن الضغط لوقف العمل بأحكام إسلامية بحاجة لإعادة اجتهاد ونظر. كما في ميراث المرأة أو ولايتها على نفسها في أضعف الإيمان التي لا تملكها ولا على نفسها حسبما يدرس أزهرنا شبابنا في معاهده، ومن يزوجها هو وليها ولو كانت طفلة رضيعة، فإن زوجت نفسها بعد عقل ورشاد فهي زانية. لم أقرأ لأحد يتكلم عن ضغوط من أجل إيقاف العمل بعقيدة الولاء والبراء التي تترتب عليها أحكام هي الكراهية المطلقة للمختلف عنا وتصل إلى حد التخلص منه بقتله، وهي مشترك أصيل بين كل ما يدرسه أبناؤنا في معاهد الأزهر سواء في مواد الحديث أو الفقه أو التفسير، أو عقيدة الجهاد التي تعتبر غير المسلم مستباح الدم والعرض والمال، ولا ألمح أحدهم استجابة لليد الأمريكية الممدودة وعلى سبيل إثبات الجدية وحسن النيات إلى وجوب رفع المواد الدينية بالدستور، والتي تميز بين رعية هذا الدستور حسب معتقداتهم، ولا وجوب الضغط من أجل حقوق الإنسان التي يهددها أول ما يهددها الدستور نفسه في مادته الثانية مع قانون طوارئ أبدي.
لهذا كله وفي ظل المناخ الذي كان لا يزال ساخنا بعد خطاب أوباما مباشرة لم تفتني تصريحات «عصام دربالة» قيادي مجلس شورى الجماعة الإسلامية، ومطالبته حركة طالبان والقاعدة بالتعامل مع هذا الخطاب بشكل عملي حتى تغادر أمريكا المنطقة؟ (عايزين يستفردوا بينا). وأن خطوة البداية السليمة حتى يمكن هذا التعامل هي الإعلان الفوري التوقف عن استهداف أمريكا عسكريا، إن دربالة يعرف ما يقول، وهو ما أرى وراءه رؤية ثاقبة تنطوي على قراءة المستقبل المتوقع من هذا الخطاب التاريخي، فأمريكا ستتعامل مع الأنظمة القائمة أو مع أي بدائل حتى لو نقيضة تحل محلها، طالما الصداقة الأمريكية الإسلامية قائمة بما يحمي المصالح الأمريكية؛ وهكذا تكون ريمة - أقصد أمريكة - قد رجعت لعادتها القديمة. أما نحن شعوب هذه المنطقة فلسنا في الموضوع أصلا، نحن الفريسة ليس أكثر. حتى الصوت العلماني ممثلا في صديقي لورد العلمانيين العرب «طارق حجي» جاء يردد طلب الجميع بتفعيل الكلام، «وأن سمة خطاب أوباما كان التوازن في تناول كل موضوع: الإسلام، الصراع العربي الإسرائيلي، علاقة الولايات المتحدة بالعرب المسلمين، التعليم، المرأة، حقوق الإنسان، التنمية، إيران، القدس ...» نعم وصدقا كانت سمة الخطاب هي التوازن، لكنه توازن الرعب والفزع من الآتي على مستوى الشعوب، وليس على مستوى قضايا الأمة العزيزة قوميا ودينيا، فإني مطمئن أن السعي لتهدئة المشاعر وتصفية الخواطر على قضايانا العاطفية سيكون حثيثا فعلا، وهو ما سيرضي الشعوب الإسلامية والحكومات الإسلامية ويبقي الجميع في سمن على عسل. بدا لي صديقي طارق متفائلا بهذا الخطاب وتمنيت أن يكون تفاؤله محل نظر من القدر، وألا يكون المخبوء في رحم الأيام موجبا للتشاؤم، لأني شخصيا مصاب بالأسف على حلمنا بدولة مدنية حديثة، وأتوجس خيفة وأظن أن التوجه الأمريكي الجديد جاء قبل مجيء أوباما إلى الرئاسة بعد تجارب الصومال والأفغان والعراق بالذات، وهو الانعتاق من منطقتنا بأقل قدر من الخسائر مع ضمان المصالح الأمريكية، وجاء أوباما ليكرس الموقف الجديد وينفذه؛ وهو ما يعني أننا سنعاني أكثر من أجل الوصول إلى الحلم الليبرالي الذي يتسرب من بين أيدينا برئاسة أوباما واحتمال استمرار الخط ذاته من بعده، بعد رد فعلنا واستقبالنا لإسقاط طاغية العراق وإحقاق الحريات والحقوق في العراق وفي أفغانستان، بمذابح يذبح فيها بعضنا بعضا، وهو ما تكرر في الديمقراطية الفلسطينية والديمقراطية السودانية، والديمقراطية الأفغانية ... إلخ.
المصيبة ليس في الانسحاب العسكري فهو مطلوب لتهدئة التوتر، المصيبة في الانسحاب الكامل ونفض العالم الحر يديه منا يأسا من إمكانية قدرة شرقنا على قبول الحداثة، وهو ما يبدو لي أنه يحدث الآن، لتركنا في فوضانا الخلاقة حتى تصفي النار بعضها بعضا دون تدخل، فتكون بلادنا حلقة مصارعة حرة كبيرة يقتل فيها السني الشيعي، ويقتل الشيعي المسيحي، ويقتل المسيحي الأرثوذكسي المسيحي الإنجيلي، وتقتل الحكومات الجميع وقتما تشاء، حتى تصفو النار عن رماد خامد غير ضار، أو أن يخرج البعض من هذه المحرقة إنقاذا للبقية الباقية بعقد اجتماعي مدني جديد يسمح لنا باللحاق بركب الحداثة الإنسانية الذي غادرنا فعلا منذ عقود. •••
ووسط هذه التحولات المتسارعة لا ننسى أن الإرهاب وإن كان إسلاميا، وإن كان فرزا لموادنا الدينية ومشايخ الفضائيات؛ فإنه في بدئه القريب كان هندسة أمريكية وتمويلا وتنفيذا عربيا وإسلاميا بتعاون معلوم ومنشور الوثائق، تصديا للشيوعية والمد السوفييتي. وهو ما أكده بريجنسكي بقوله لصحيفة لونوفيل أوبزرفاتور 1998م: إن الأمريكان خططوا لاستدراج السوفييت للخيار العسكري في أفغانستان، وأنهم من أسس للصحوة الإسلامية، وأنهم هم من صنع القاعدة، وأنه ليس نادما على دعمه للتطرف الإسلامي الذي استقل عن سادته وأربابه وبدأ يعتدي على مصالح أمريكية هنا وهناك؛ لأن الأكثر أهمية وقتئذ كان هو إسقاط الإمبراطورية السوفييتية وإنهاء الحرب الباردة وتحرير أوروبا الشرقية، وليست طالبان والهائجون الإسلاميون إلا مجرد أعراف جانبية يمكن التخلص منها. إلى أن ضربت الأعراض الجانبية وهؤلاء الهمج الهائجون مانهاتن والبنتاغون في مشهد جعل كل ما شاهدناه من خيال هوليود لونا من الصناعة الخفيفة المتواضعة بل جعلها سقيمة الخيال، إزاء خيال بن لادن الإبداعي ومهندس القاعدة الرهيب.
هذا ناهيك عن فشل مشاريع السلام في الشرق الأوسط وهو القضية الأعز على المسلمين، إضافة إلى دعم أمريكا العلني الدائم لإسرائيل؛ مما أعطى المتطرفين المسلمين أسباب تطرفهم وشرعيتهم في الوجود في نظر الشارع المسلم، كرد بديل عن الحكومات الإسلامية مكسورة الجناح، المسكينة بنت السبيل، وأنهم يؤدون بذلك فرضا إسلاميا معلوما من فروض الكفاية هو الجهاد.
ومن ثم بدت تلك الحركات المسلحة أنها الأمل الوحيد الباقي للدفاع عن الحقوق العربية والانتقام للمسلمين واستعادة الأرض المحتلة وإقامة دولة إسلامية منيعة، ولا سبيل لهذا الحلم سوى الإسلام كحل خلاصي وحيد بإقامة الدولة الإسلامية في أي مكان على الأرض ومنها تبدأ الفتوح، ومن يقوم بذلك إنما يجاهد في سبيل الله وكرامة المسلمين ودينهم. هذا مع تغافل رؤية المسلمين لدولة الفتوح الإسلامية الطالبانية وما جلبته من كوارث محلية وعالمية.
إن الاستخدام الانتهازي للإسلام لتحقيق مصالح ومنافع مادية دنيوية بحتة شأن عرفناه في مشايخ الصحوة الذين أساءوا إلى المشيخة الرصينة الراسخة وإلى الإسلام نفسه، قياسا على احترام هذه المشيخة وتبجيلها قبل ظهور مشايخ الصحوة في نظر كل الناس. ويبدو أن الرئيس الأمريكي بعد أن ولد في ثقافتنا وعاش بيننا وعرف طرائقنا وفهم أقصى أمانينا ومنطقنا فهو ابن منطقتنا التي هي جذوره ونسبه، من هنا لبس مولانا باراك بن حسين آل أوباما ثياب الواعظين رعاه الله وحفظه، آمين، ولجأ إلى طرائقنا ومناهجنا في التفكير للمصالحة وتجميل الوجه الأمريكي للمسلمين؛ ومن ثم بدأ بالسحر الإسلامي الذي ينتشي له المسلمون ليشعرهم أن إسلامهم قد غزا البيت الأبيض في فتح ميمون، وعليه فلا داعي لإعادة الفتوح والغزوات المباركة على أمريكا مرة أخرى. لقد طمأن المسلمين رغم إعلانه مسيحيته في بداية الخطاب أنه يفهمهم بل إنه منهم. الرجل يعلم جيدا مفاهيم شعبنا مسلوب الوعي الذي يتصور أن المسيحيين يعلمون جيدا أن الدين هو الإسلام كأصح الأديان لكنهم لا يعلنون ذلك كيدا وغيظا ويعضون علينا الأنامل حسدا وكمدا، مع الهمس اليقيني بين المسلمين أن (معظمهم مسلم بس في السر)! فلماذا لا يكون أوباما هكذا وأنه إنما يمارس قاعدة إسلامية وعقيدة راسخة هي التقية؟ وهي المبدأ الذي لخصه وشرحه المثل الشعبي المصري: «إن نزلت بلد بتعبد العجل حش برسيم وإرميله.» (يعني ضعه أمامه)، وهو ما يعني أنه ربما يمارس التقية معنا وليس معهم ، بيحش البرسيم لنا وليس لأمريكا.
ولأن الرئيس الأمريكي قد اختار لخطابه هذا المستوى، فقد فتح بذلك القول لأهل الدين فيه، وفيه أكثر من طرفة وفيه أيضا أكثر من كارثة. على سبيل المثال: لم ير الإيراني الدكتور محمد علي مهتدي (قناة الجزيرة) في أوباما أكثر من مسلم مرتد؛ وهو ما يعني أنه لو كان إسلامنا كمصريين صحيحا لانتهزنا الفرصة للقبض على أوباما في القاهرة مع استتابته ثلاثة أيام في سجن الواحات أو القناطر مثلا أو ربما في لاظوغلي ليتعرف على سلومة الأقرع، أو يفيء إلى الله ويعود عن غيه المفتون إلى رشده ويتوب، أو نطيح برأسه على ملأ من عامة المسلمين وخيار علماء الأزهر ودار الإفتاء، وليكن في ميدان التحرير مثلا؛ لأن ذلك حق الله والأمة الشرعي، وكونه على أرضنا فهو ما يعني خضوعه لقوانيننا وهي قاعدة دولية متعارف عليها، إضافة إلى مكسب تفعيل المادة الثانية بالدستور مما يؤكد تمسكنا بالقيم الدستورية وبالإسلام في آن واحد، أم نحن قادرون وفاجرون وأسود ضوار فقط مع بني مصر وأهلها من أقباط وشيعة وبهائيين وقاديانين وحقوقيين وليبراليين ولا دينيين، إلى آخر الأقليات المصرية المتناثرة.
إيراني آخر يعيش في المهجر هو أمير طاهري عرف لغز أوباما بعد بحث دقيق في التراث الشيعي، فعثر في كتاب بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي الصفوي على حديث للإمام علي عن علامات ظهور المهدي المنتظر، ومن تلك العلامات أن رجلا أسود سيملك في جهة الغرب، وسيقود أقوى جيش في الأرض قبل ظهور المهدي مباشرة، والاسم باراك هو بارك؛ فهو بارك حسين أوباما، وتعني في العربية والفارسية والعبرية (مبارك الحسين)، أما (أوباما) بالفارسية فتعني (إنه معنا)، وإعمالا لذلك فلا شك أن الرئيس أوباما هو أحد الأوتاد التي تظهر قبل المهدي نبوءة بقرب ظهوره، وأنه قريبا سيكون معنا، فرج الله كربه وعجل ظهوره!
لأهل السنة رأي آخر، فقد روي عن الصحابي تميم الداري وهو من بيت لحم بالخليل، أنه طلب من النبي إن فتح الله فلسطين للمسلمين أن يعطيه مسقط رأسه بيت لحم ومقام إبراهيم، وفي خلافة عمر نفذ له عمر وعد النبي، وعاش آل تميم في الخليل حتى اليوم (التمايمة). وقد حدث هذا الصحابي أن جفاف بحيرة طبرية وجفاف نخل بيسان يؤذنان بقرب ظهور المسيخ الدجال، ومن صفاته في الحديث النبوي أنه أجعد الشعر ويقيم في جزيرة بعرض البحر، وباراك أوباما مولود في جزيرة وهو أجعد الشعر ويستطيع الزعم أنه مسلم ومسيحي ويهودي، فأبوه مسلم ، وباراك تنصر، ثم لبس القبعة اليهودية في زيارته للقدس. كذلك جاء في قدرات المسيخ الدجال أن بإمكانه أن يطأ الأرض جميعا، وهي قدرة أي رئيس أمريكي بجيوشه، وعليه فإن باراك حسين أوباما هو المسيخ الدجال عدو المهدي المنتظر الذي سيخرج من بلاد المسلمين ليقتل المسيخ الدجال ويكسر الصليب ويذبح الخنزير، وكسر الصليب يحدث الآن كل يوم في العراق ومصر وباكستان وغيرها بحمد من الله ونعمه، وإن ذبح خنازير مصر قبل وصول أوباما مباشرة يشير إلى قرب تحقق هذا كله، وبعدها تقوم القيامة.
ولو بحثنا عن رد مشيخي بعيد عن فانتازيا الخيال الديني يقرأ الموقف برصانة، فلدينا من وقف مع الآية التي دلل بها أوباما على سماحة الإسلام
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، وقال هؤلاء إن أعمدة كتب التفسير تتفق على أن أول الفساد هو الكفر بدين الإسلام؛ ومن ثم فإن الآية التي استشهد بها أوباما ليدلك غرائز المسلمين، توجب أول ما توجب قتل أوباما وكل من لم يدخل الإسلام، خاصة بعد أن أعلن الإسلام عن نفسه وبلغ الناس كافة بحجة بليغة عليهم بأحداث 11 سبتمبر 2001م، ولا حجة لأحد بعد أن وصله البلاغ مصحوبا بالدمار والخراب والدم والبينات الحارقات، فهذه رسلنا قد أبلغتهم بدينا الحنيف، وبعدها لا حجة ولا عذر لكافر بالإسلام على كفره، وهو ما أكد عليه علم مشايخ الخليج الشيخ المنيع الذي رأى في سبتمبر 2001م بلاغا مبينا وواضحا للعالم كله بوجوب الخضوع للإسلام، ولفتة إلهية من علاماته البواهر.
هذا مع ملاحظة ظللت أؤكد عليها سواء في كتاباتي أم محاضراتي وهي أنه رغم كل ما فعلت القاعدة وابن لادن؛ فإنه لا يوجد مجمع أو هيئة أو مؤسسة أو رابطة أو فرد من المؤسسة الدينية أعلن تكفير ابن لادن أو الزرقاوي وخروجه على الإسلام مهدور الدم كما يفعلون مع غلابة الوطن أمثالنا؛ لأنهم جميعا في طواياهم لا يرون فيه سوى نموذج البطل الملحمي الإسلامي القديم ابن الوليد وابن العاص وابن القاسم والقعقاع وغيرهم، وأنه يجاهد في سبيل الله وقام بتفعيل فرض الكفاية الجهادي نيابة عن الأمة كلها وله بذلك السابقة والفضل المبين. ومع عقيدة التقية فإنهم يستهجنون مع كل مجزرة بن لادنية أو زرقاوية أو قاعدية يمنية أو صومالية أو جهادية، قتل الأبرياء والمدنيين، ويستتبعونها دوما بأن أمريكا وإسرائيل والحكومات الإسلامية كلها تفعل الشيء نفسه، كمبرر لما تفعل القاعدة والجهاد وحماس، يستهجنون من طرف اللسان لكنهم لا يكفرون الذين يقتلون الأبرياء المدنيين بيد القاعدة سواء أكان الضحايا مسلمين في بلاد مسلمين أم غير مسلمين، لسبب بسيط هو أنهم هم الأساتذة الذين علموهم ذلك في معاهدنا الدينية في مواد تدرس وما زالت بعد التجديد والتحديث تحدثنا عن عقيدة الولاء والبراء وفريضة الجهاد وملك اليمين، وأصول التعامل النبيل مع الفرس والعبد والبغل والمرأة والحمار بحنان ورفق إسلامي لا شبيه له ولا نظير.
صحيفة المصري اليوم حضرت مؤتمرا صحفيا مع أوباما إثر خطابه مباشرة، وعقبت بتعبير شديد الأهمية وشديد الدلالة: «فالرجل لو صدق، فسوف يتغير العالم من جامعة القاهرة!»
أما العبد الفقير إلى الله فيرى أن هناك أشياء ستتغير بالطبع، وسيتم حل المشكلة العزيزة على نفوس المسلمين فلسطين الغالية مسرى الرسول وأولى القبلتين بالسرعة الممكنة، بالتزامن مع الخروج العسكري من العراق، وهو المتوقع خلال عامين، فهذه هي هموم المواطن حتى الجائع الحافي العاري المريض لا يجد قوت يومه ويخرج في المظاهرات من أجل فلسطين والبوسنة والشيشان وبلاد تركب الأفيال، ولا يخرج ليطالب بحقه في الكرامة الإنسانية من حقوق وحريات؛ لذلك فإن من سيعاني هو تيار الحريات الحقوقي مع مزيد من العسر والتأخر في قدوم التغيير المرتقب إصلاحا وتهذيبا وتحديثا، في ظل التحالف الذي يبدو أنه قد قام علنا وجهارا نهارا بين أمريكا والمسلمين؛ فالخطاب كان للمسلمين بالتحديد، وأن النتيجة هي شرعية وبقاء الأنظمة والشعوب والأوضاع على ما هي عليه؛ فهي حليفة، وإن جاء نظام مختلف عن الحالي فهي حليفة، ولو جاء جمال مبارك أو علي مبارك أو حتى زكي جمعة فهي حليفة، ولو جاء الإخوان المسلمون فهي حليفة، وتبقى الشعوب خارج الموضوع لأنها الفريسة لأي مفترس حليف، ويبقى الباب بذلك مفتوحا لمختلف الاحتمالات. وستقوم الحكومات في بلادنا: إسلامية صريحة، أو إسلامية بزي مدني كالحادث عندنا، بدور الحارس الأمين للمصالح الأمريكية، مقابل الصمت الأمريكي عن حقوق الشعوب في هذه البلاد، وتقوم أمريكا بدعم النظم الحاكمة القائمة بمنحها الشرعية والاعتراف، وعلى هذه النظم أن تساعد أوباما على إنهاء ملفات أمريكا العالقة في المنطقة وخروج عسكرها بكرامة وبخسائر بأقل قدر ممكن، مع الحفاظ على مصالحها أينما كانت.
بالأمس القريب (وما أسرع متغيرات خطى التاريخ في زماننا) كان إعلان أمريكا بغزوها للعراق، أنها خطوة البداية لإصلاح المنطقة وجرها جرا إلى الحداثة للقضاء على الثقافة المفرزة للإرهاب بالديمقراطية وإسقاط النظم الاستبدادية التي أفرزت الإرهاب الديني. بلسان بوش الابن ورايس وباول ورامسفيلد وكل الفرقة الراحلة، وحينذاك التقيت بعض الدبلوماسيين الغربيين بناء على طلبهم وبمعرفة الأمن المصري، ضمن لقاءاتهم الأخرى لاستيضاح وجهات النظر، وقد حذرت حينها من أخذ خطوة عسكرية تجاه العراق؛ لأن الحرب على الإرهاب يجب أن تبدأ على المستوى الثقافي وليس العسكري.
لا أنسى وزيرا مفوضا لدولة كبرى راهنني - أدبيا ومعنويا فقط - على أن مجرد إسقاط طاغية بغداد وإطلاق الحريات في العراق؛ فإنه كفيل بتحويله إلى واحة للديمقراطية وقاطرة ستقطر وراءها المنطقة كلها، بالضبط كالمسيحي المؤمن الذي يتصور أنه بمجرد أن يعرض آيات الإنجيل على إنسان، فإن ذلك كفيل وحده بإقناعه بالمسيحية ليعتنقها، بالضبط كالمسلم الذي يتصور أنه لو قرأ القرآن على إنسان لرأيته خاشعا كالجبل الذي يتصدع من خشية الله، يومئذ وخلال الشهور الأول لغزو العراق بدت رؤية السيد الوزير هي الواقعة وكسب الرهان الأدبي بصدق توقعاته وسافر إلى بلاده، وبعدها بشهور حدثت تحولات كان يجب معها أن يكون كاسب الرهان هو أنا وليس هو؛ لأن الحريات إن لم تتأسس أولا على ثقافة حريات وعقد اجتماعي ينافح عنه أهله، فإن الحرية تتحول إلى فوضى طائفية وعنصرية، وهو ما حدث في العراق الجميل، وهو الدرس الذي خرجت به أمريكا من المنطقة، فتراها كيف استفادت منه؟
هنا علينا أن نرهف السمع جيدا إلى أوباما وهو يقول بقولين لا يلتقيان، القول الأول هو: «ينبغي ألا تستخدم الدول العربية الصراع بين العرب وإسرائيل لإلهاء الشعوب عن مشاكلها الأولى.» يعنى خدوا بالكم يا حكام العرب أننا فاهمين لعبتكم من زمان بإلهاء الشعوب عن حقوقها بالقضايا القومية والدينية، هو قول موجه للحكومات يفصح عن كون العملاق الأمريكي ليس أهطل، بل إنه يعرف أساليب حكوماتنا كذلك يعرف شعوبنا معرفة دقيقة وكيف يمكن صرفها عن مصالحها وحقها في حياة كريمة، بسلبها عقلها ووعيها اعتمادا على غرائز دينية وقومية يتم شحنها طوال الوقت، لصرف النظر عن قضايا الداخل إلى الإسلام الذي يهان في الدانمارك أو في البوسنة أو الشيشان أو غزة أو أي بلادستان، المهم صرف النظر إلى منور أي جيران قريبين أو بعيدين، لبحث عيوبهم والمآخذ عليهم والهتاف والتظاهر ضدهم والانشغال بهم عما يحدث في الداخل.
وقول كقول أوباما هنا يفترض أن يؤدي إلى اطمئنان التيار العلماني؛ لأنه لو تم حل المشاكل الأساسية العاطفية الدينية القومية مثل فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، سيعطي ذلك الشعوب الفرصة للانتباه للداخل لبحث عن حلول لمشاكلها مع حكوماتها. •••
هنا يأتي القول الثاني الذي لا يلتقي مع قوله الأول، وقد جاء إجابة عن سؤال أوباما في المؤتمر الصحفي «س: إذن كيف ترون مسألة نشر وترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة والشرق الأوسط؟ ج: أنا أؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان والخطاب الاجتماعي العالمي، لكن يجب أن نعلم أن هناك شعوبا مختلفة، وأشخاصها مختلفون، وأفكارا مختلفة، وعادات مختلفة، وتقاليد مختلفة بشأن هذه المسألة. وبالتالي علي أن أؤكد من أعماق قلبي وروحي ضرورة احترام الآخر والتعايش معا، وأنني لا يمكنني فرض معتقداتي على الآخر، ولا يمكنني أن أستغل أغلبيتي للعمل ضدك، ولا أستطيع أن أفرض معتقداتي الدينية وأقول لأحد عليك أن تتبع معتقداتي نفسها. وقضية حقوق الإنسان والديمقراطية مهمة جدا للإسلام؛ لأنه يمكنه أن يعالجها، فأنا أعلم أنه ليس كل المجتمعات الدينية متشابهة في تنفيذها السياسي، فالشريعة مثلا يمكنها أن تحمل تفسيرا متشددا أو حديثا تجاه قانون وضعي. أنا لا أتخذ ولا أفرض قرارا يتعلق بهذا الأمر على أي دولة أو مجموعة من الناس، ولكنني لا أوافق على أن مبدأ يلزم الآخرين باعتقاد ما، فنحن في الولايات المتحدة نرى أن في ذلك مناهضة للحقوق، ويتنافر مع روح الديمقراطية ويجلب الصراع في النهاية؛ مما يجعل خلق هذا الحوار مهما داخل الإسلام.»
في ظني أن هذه الفقرة بالمؤتمر الصحفي هي الأهم في كل ما قال أوباما في القاهرة؛ فهي تلقي بالكرة في ملعبنا تنتظر ردنا، فيها لغز علاقة المسلمين بالغرب وحداثته، وفيها حل اللغز. فقد ننساق وراء تدليه غرائزنا ونحتسب خطابه في القاهرة تشجيعا لحكوماتنا ولشعوبنا معها على الاستمرار كما هي دون بحث أي أخطاء من جانبنا لنصلحها، مع عدم الاعتراف بأي خطأ حاضرا أو ماضيا، بل ربما تقديس الخطأ والاستمرار فيه على عادتنا التاريخية المتواترة وتظل الأوضاع على ما هي عليه، لكن الفقرة ذاتها على استعداد للتعامل مع نظام ديمقراطي حقوقي أيضا لكن دون أي تدخل أمريكي لفرض هذا النظام بعكس ما قال بوش الابن من قبل، وهنا المعادلة الصعبة التي تترك الليبراليين العرب عراة أمام ترسانة مدججة بشارع مسلوب الوعي وبماض تليد وحكومات قامعة ومأثور عنيد هو الأعز على قلوب الشعوب، التي تدعو من مساجدها أهم دعاء لها: «اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا»، وما عدا ذلك من مصائب فليس من المشاكل الملحة، وتصبح المشاكل التي تشغل العلمانيين ليست من نوع المشاكل التي تشغل بال رجل الشارع المسلم.
قال أوباما إن الإسلام دين تسامج ومساواة ، وإنه يدافع عن حقوق الإسلام الحقيقية وليس الصورة النمطية المسيئة للإسلام، وركز على مشتركات بين الأديان هي مبادئ العدل والتقدم والتسامح وكرامة كل بني البشر، وإنه في كل دين مبدأ: عامل الآخرين كما تحب أن يعاملك الآخرون، وأن الإيمان بالآخرين هو ما دفعه للمجيء إلى القاهرة لمخاطبة المسلمين.
الفقرة السالفة لها أهميتها لتجميل خطابه هو أمام أهل الغرب بدورهم، الذين قرعوه على هذه الزيارة وذلك الخطاب في وسط استبدادي، أما بقية الخطاب فهو تجميل لأمريكا في نظر المسلمين بالتسلل عبر ما هو عزيز علينا ومخاطبتنا على قدر عقولنا، بدأ بالسلام عليكم (تصفيق حاد في القاعة) وشرح أنه رغم مسيحيته فهو من أب مسلم، وأنه تعرف على الإسلام في المواطن الثلاثة التي عاش فيها، وقال إنه سيتبع في كلامه نصح القرآن الكريم: اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (تصفيق حاد في القاعة)، وإنه أمر بإغلاق سجن غوانتنامو (تصفيق حاد. عقبال عندنا قادر يا كريم)، وأكد أن حربه موجهة ضد القاعدة فقط، وهي عنده كما هي بالضبط في خطابنا الديني والرسمي المخاتل، هي مجموعة من شواذ المسلمين من قلة منحرفة فهم حسب قوله: «مجرد حفنة شاذة من المسلمين وتصرفاتهم لا تتماشى مع حقوق البشر وتعاليم الإسلام بدليل آية من قتل نفسا بغير نفس.» (تصفيق حاد)، وأن أمريكا لن تكون في حرب مع الإسلام (تصفيق حاد)، وأن المحاكم الأمريكية أعطت المرأة المسلمة حق الحجاب وعاقبت من ينكره عليها (تصفيق حاد)، وحتى يبدو مثلنا يردد ببغائياتنا التاريخية التي هي محفوظاتنا الأثيرة، وشعاراتنا الغالية، قام يردد مقولاتنا الخوالد مثل أن الأزهر قد حمل مشعل التنوير والحضارة للعالم (؟!) وأن المسلمين هم من اخترع البوصلة وعلم الجبر والملاحة (؟!) والطباعة (لا أدري من أعطاه هذه المعلومة الخاطئة لأن الطباعة جاءتنا مع نابليون وكفرها مشايخ من الأزهر كبدعة شيطانية)، إضافة إلى شعرنا في الفخر والهجاء والشحاتة والتسول بألاطة (وما زلنا)، وخطنا العربي اللهلوبة بين كل كتابات وخطوط الدنيا.
لا شك أن رد الفعل بالتصفيق الحاد مع بعض أقواله، أو بالوجوم التام مع أقوال أخرى، هو معيار لقياس رد الفعل، فحديثه عن الهولوكوست والعنف الفلسطيني الذي سيؤدي إلى طريق مسدود، ووجوب اعتراف حماس بحق إسرائيل في الوجود، كلها مما قوبل بالصمت والوجوم التام، وهو ردنا الأول على بعض خطابه فيما لا نحب ولا نشتهي.
أما قوله إن الوضع الفلسطيني لا يحتمل، وإن أمريكا لن تدير ظهرها للفلسطينيين، فقد قوبل بالتصفيق الحاد بالشدة الاستحسانية ذاتها لتصفيقهم للآيات القرآنية العشر التي تلاها. •••
إذن ردنا الأول في القاعة هو أننا نحن كما نحن على قواعدنا ثابتون دون تغيير، وأننا لن نناقش ولن نحاول حتى مجرد إعادة النظر في قضايا مهمة ومحسومة لدينا لأننا الحق التام وغيرنا الباطل التام.
أما الرد العملي فقد جاء سريعا من الأزهر رائد الحضارة وحامل مشعل للخطاب الأوبامي الموقف من المصريين البهائيين، وبالتالي هو موقف من الخطاب الأوبامي، بالعودة إلى بيان الحريات والتنوير (؟!) بإعلانه ثاني يوم للخطاب الأوبامي الموقف من المصريين البهائيين، وبالتالي هو موقف من الخطاب الأوبامي، بالعودة إلى بيان شيخ الأزهر الأسبق جاد الحق وإعادة توزيعه للإعلان عن موقف الأزهر اليوم من البهائيين، ومضمونه نصا: «إن البهائية ليس لها صلة بالأديان السماوية، بل هي دين مخترع جديد ظهر أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وحظي برعاية ومباركة الاحتلال الإنجليزي، ويهدف إلى تفتيت وحدة المسلمين، وإنكار فرائض الإسلام.» وقبله بأيام جاءت مطالبة أعضاء مجلس الشعب (حزب الحكومة الوطني والإسلاميين) بإصدار قانون يجرم الفكر البهائي ويحاكم المروجين له، مع وصف البهائيين بالخطر الداهم على الأمن القومي المصري، لافتين إلى ميل البهائيين إلى الصهيونية لاعتقادهم بضرورة إلغاء فريضة الجهاد في الإسلام، ومن جهته حذر الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس اللجنة الدينية في مجلس الشعب من شيوع الرذيلة في ضوء انتشار الفكر البهائي بين الشباب المصري! (صحيفة اليوم السابع).
وهو كله ما جاء بعد مطالبة البهائيين بحقهم كمواطنين بتسجيل ديانتهم بالبطاقة الشخصية وانتهى الموضوع إلى شرطة بدلة الديانة، ثم هياج قرية الشارونية وحرقها منازل البهائيين وطردهم منها، مع ظهور صحفي مثقف (أو يفترض أنه هكذا) في التلفاز يطالب بقتلهم علنا، ولا تفهم كيف استمر صحفيا بعدها، لماذا لم يثن على قوله بالفعل، ويروح يقتله كام بهائي فيضمن الجنة والنكاح الأبدي، أم أنه غير واثق بالنتائج؟ أم أن دوره يقتصر على إصدار الأحكام لطلب من ينفذ؟ وكله تحريض على ارتكاب أشنع الجرائم، ولا يجد من يعاقبه.
إذن هذا هو ردنا في مجلس الشعب في الحزب الوطني في الإخوان في الصحافة في التلفزيون (دون تعميم)، والأزهر (مع التعميم) بعد ذلك ظهير، ردنا هو استمرار الجهاد وقتل الذين يدعون إلى إيقافه وحرقهم إن أمكن كما حدث مع البهائيين، والجهاد يعني استمرار المسلمين في حالة حرب مع العالم كله حتى يسلم أو يدفع الجزية عن يد وهو صاغر! فالدعوة للسلام كفر حتى لو كانت للسلام الوطني داخل الوطن بين مواطنيه عناصر وأديانا، وأننا لن نتعامل مع الآخرين كما نحب أن يعاملونا كما قال أوباما، فهذا هو الكفر عينه لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأن أوباما يهرف بما لا يعرف، فلا عندنا تسامح ولا كرامة لكل بني البشر، إذا كانت كرامة مواطنين مصريين مهدورة بلا كرامة وبلا تسامح لأنهم يخالفون المسلمين العقيدة. فلدينا تصنيف في توزيع الكرامة حسب الدين والمذهب والطبقة القبلية والجنس، لذلك فقول أوباما إنه يفهم صورة الإسلام الحقيقية هو افتئات على الإسلام الحقيقي، فكيف يكون ما قاله هو الإسلام الحقيقي مقابل ما قال مجلس شعبنا الموقر وأزهرنا وتلفازنا الملتحي وشارعنا الإسلامي الذي يحرق ويسلخ وهو مطمئن لسلامة دينه وصدق إيمانه؟
بهذا الشكل سيقف دعاة العلمنة والمدنية الدستورية والحقوق الليبرالية عراة من أي غطاء، أمريكا ستتعامل مع أوضاعنا كما هي، أو إن تغيرت للأسوأ أو للأفضل أوباما يعرفنا لذلك أعلن ترك الحبل لنا على الغارب دون تدخل لترك الفوضى الخلاقة تحرق بذريعة عدم فرض الديمقراطية الحقوقية لأن هذا الفرض ضد قيمها ومبادئها؛ وهو ما يعني أيضا أننا سنستغيث بلا مغيث، في ظرف حرج ومنعطف تاريخي سنخرج معه خارج دائرة البشرية كلها، والغوث المعني هنا هو الغوث المعنوي وضغوط المجتمع المدني الدولي وكل قوى الضغط الداعم والمؤرق الذي لا يهدأ ولا يتواطأ، وهو ما يبدو أنه ابتعد بعد أن بدا لنا قريبا مع ضرب منهاتن، ابتعد مرة أخرى بحسابات المصالح الأمريكية الجديدة بغض النظر عن مصير شعوبنا، وأنه على العلمانيين العرب أن يعيدوا تقييم المواقف، من أجل توحد وتضافر بعضهم على خريطة المنطقة بحيث لا يتم تجاهلهم بحسبانهم نخبا تمثل جزرا منعزلة عن بعضها، وكلهم والحمد لله أو معظمهم أسماء كبيرة تتسم بالطهارة ونظافة الذمة فيمن أعرفهم على الأقل، ويمكنهم أن يكونوا ذوي أثر فاعل في الساحة بحيث لا تبقى فارغة إلا من خيارين أحلاهما مر: الاستبداد السياسي المستمر أو الاستبداد الديني المرتقب، بخيار ثالث هو المواطنة أولا، والإصرار على رفع المواد الدينية من الدستور، وخانة الديانة من البطاقة الشخصية، والتعايش السلمي بين المواطنين وفق عقد اجتماعي تحدوه المصلحة العامة وليس مصلحة أتباع دين من الأديان أو مذهب من المذاهب، وألا يخرج الدين من الكنيسة أو المسجد إلى المجال العام صونا له من العبث البشري، ولتفعيل دوره في تربية ضمير المواطن وتعليمه كيف يدخل الجنة، وليس أبعد من هذا ولا مليمتر واحد، من أجل وطن أفضل للأجيال المقبلة، مع الوجود الليبرالي الواضح دون أي تراجعات، الوجود المستمر والفاعل على الساحة عبر كل السبل السلمية الممكنة، لإثبات هذا الحضور.
وبعد، أتمنى أن يخيب هذا التحليل برمته، وأن يكون إحدى هناتي وسقطاتي التشاؤمية، وأن تكون القوادم خيرا من السوالف، على ألا نكتفي بالقعود حتى يأتينا الفرج مع مخلص منتظر أو ديكتاتور مستنير، وسواء أكان، هذا المنتظر هو أوباما أم المهدي أم المسيخ أم المسيح أم غودو؛ لأن «غودو» هو مسرح العبث، هو مجرد وهم وأمان غير متحققة؛ لذلك لن يأتي مهما طال الانتظار.
الفصل الثامن
أبعاد ظاهرة الحجاب والنقاب
(1) البعد التاريخي
سبق لي معالجة موضوع الحجاب من على أرض المقدس والمأثور الإسلامي، من وثائقه المعتمدة وتاريخه العقدي في صحيفة القاهرة تحت عنوان: «مكانة الحجاب بين فضائل العرب»، وأعدت نشره في كتابي «الحجاب وقمة ال 17». ولأن الفارق بين الحجاب والنقاب هو فارق في الدرجة وليس فارقا في الكيف والنوع، فسأتناول الظاهرة هذه المرة من منظور العقل وحده وفق شروط القراءة السوسيوبوليتكية التاريخية، لتوصيف الظاهرة وتحديدها مفهوميا ورصد أهدافها ومنطقها، إذ لا شك أن ظاهرة تفرض هذا الحضور ولها هذا التأثير في المجتمع المسلم، لا بد لها من أغراض وأهداف تريد تحقيقها على الأرض.
لكن الأوضاع في بلادنا كثيرا ما تربك المراقب والراصد، فلا تعرف هل الحجاب والنقاب فرض ديني وتكليف شرعي كالصلاة والصوم والشهادتين يكفر تاركه ومنكره أم هو ظاهرة اجتماعية تظهر لتختفي ثم تعود ثم تذهب؟
فإن كان النقاب فرضا دينيا فلماذا يتركه المسلمون زمنا ليعودوا إليه في زمن آخر؟ وهو الأمر الذي لا يحدث مع فروض وأركان الإسلام الأخرى الثابتة ثبات الدين! وهل لو كان من دين المسلمين حقا وفعلا وعن قناعة فلماذا لا يثبت ثبات الفروض الإسلامية الضرورية المعروفة؟ أم هو ليس من أصول الإسلام وأنه ظاهرة اجتماعية نسبية ذات علاقة بظروف المجتمع واقتصاده وسياسته، وأن هذه الظروف هي التي تؤثر في ظهوره واختفائه بقصد ورغبة من المجتمع مثله مثل سائر موديلات الملابس باختلاف الثقافات والأزمنة؟
مصر قبل الفتح الإسلامي لها كانت المرأة المصرية سافرة متزينة وأيضا عاملة منتجة، فكان عمل الحقل لا يستقيم للرجل بدون معاونة زوجته، ولأن العمل يكون في عجين الطين وسحب للمياه وسد القنوات وفتح أخرى بمراكمة الطمي هنا أو إزالته هناك مع بقية ضروب وسائل الفلاحة، فقد فرض العمل ظروفه على المرأة المصرية حيث لا يصلح حجاب ولا نقاب ولا إدناء للجلابيب؛ لأنه سيكون معوقا ومعطلا عن الإنجاز والإنتاج الحقلي.
لهذا لم يكن عيبا ولا عارا ولا لافتا حتى النظر إلى ثدي المرأة وهي ترضع طفلها في السوق، ولا إلى فخذيها العاريتين وهي تعجن الطين في الحقل أو تغسل الملابس والأواني على شط النيل. وظلت المرأة المصرية على حالها بعد الفتح الإسلامي بفرض من البيئة وشروطها وبقرار من الظرف الإنتاجي. وحدها الطبقات المصرية المالكة والأكثر ثراء والتي لا تعمل بيدها لتنتج، هي التي أرادت تثبيت سيادتها بتقليد السادة العرب الغزاة، فلبست ملبس نساء الفاتحين، أما الفلاحة والعاملة المصرية فقد ظلت امرأة منتجة لا يلزمها سوى ما يناسب إنتاجها من ملبس، وهبطت على البلاد غزوات جراد فاتح أكثر تعصبا وتشددا سواء زمن الفاطميين الشيعة أو الأيوبيين السنة أو المماليك أو العثمانلية، وظلت الفلاحة المصرية في غنى عن أزياء السادة، بينما أخذت الطبقة الوسطى تسعى إلى اللحاق بالأرستقراطية، فلبست نساء التجار وكبار المالكين على الوجه نسيجا شفافا رقيقا كنا نسميه «البيشة»، وهو ما تم تخفيفه زمن الاستعمار العثماني إلى «اليشمك»، وهو مجموعة خيوط متشابكة في جدائل هندسية لا تحجب شيئا، إضافة إلى علامته الطبقية بقدر الذهب الذي يزينه.
ومع ثورة 1919م التي قادتها الطبقة الوسطى المصرية، قرر المجتمع المصري أن يعلن المساواة بين مواطنيه، فخلعت المرأة المصرية الحجاب الطبقي وتبعتها في ذلك معظم الدول العربية والإسلامية، عن إرادة ومجاهرة بتأسيس مفكري عصر النهضة، ورجل الحقوق النسائية الأبرز قاسم أمين، وبالطبع سيدة العفاف والطهر هدى شعراوي التي خلعت الحجاب ومعها كل المصريات في ليلة وضحاها، بقرار اجتماعي إرادي واع نزلت بموجبه ربات الخدور الناعمات من أسر جناح الحريم، إلى العمل السياسي والعمل الإنتاجي وتحصيل العلم لتنافس الرجال في بناء الوطن مع الفلاحة المصرية التاريخية. وهو ما ظل حتى عهد قريب إحدى أهم مفاخر ثورة 1919م، حتى وصف التاريخ زمنها بأنه «عصر النهضة والتنوير»، الذي بلغ تأثيره جزيرة العرب فخلعت المرأة النقاب والحجاب، خاصة الطالبات منهن في المدارس والجامعة (انظر الصور المرفقة)، وهو كله ما يعني أنه لو كان الحجاب والنقاب جوهريين في دين الإسلام، إذن لهلك الإسلام يوم خلعت المرأة المسلمة المصرية الحجاب والنقاب ومعها نساء العرب، وهو ما لم يحدث، ولا تفوتك هنا الملحوظة الأهم وهي أن خلع الحجاب والنقاب قد ترافق مع عصر النهضة والتنوير، بينما ترافقت العودة إليه مع انحطاط الأمة التمامي في زمن الهزائم والخيبات، بعد استيلاء العسكر على الأوطان، وما انتهى إليه الاستبداد باسم الأمة وقضاياها الأيديولوجية إلى توالي الهزائم التاريخية الهائلة، وما صاحبها بالضرورة من رد عنيف على هزائم عنيفة بظهور جماعات الإسلام السياسي الإرهابي، الذي كان لا بد أن يفرض سلطانه عبر رموز وشعارات تشير إليه وتميزه. فكانت العودة إلى الحجاب والنقاب شرط إثبات إسلام الأسرة المسلمة مع ما يسمى بالصحوة الإسلامية وطفرتها البترولية، التي كان ثمنها الفادح ألوف الشهداء المصريين على ثرى سينائنا الغالية، عبر سنوات قتال استمرت من 1967م حتى 1973م.
مع ما أسموه الصحوة، عاد الحجاب والنقاب عابقا برائحة النفط الصحراوي الجافة القاسية، وخلال السنوات الأخيرة بدأت النقلة المرحلية التالية من الحجاب بموديلاته المتعددة إلى النقاب، لكنه ليس كنقاب البيشة واليشمك، إنما نقاب وهابي، هو وما يوضع على عيني الدابة الدوارة موديل واحد لا غير.
الملحوظة الأهم في تلك الظاهرة هي مدى السهولة التي ينتقل بها شعب بأسره كالشعب المصري (ومعه كل العرب المسلمين تقريبا) من حال إلى حال، ومن زي متعارف عليه اجتماعيا إلى زي سبق له استخدامه وسبق له أن تركه ونفاه من حياته بإرادته، وحسبناه تاريخا مضى وانقبر، فإذ به يعود بكل يسر وسهولة!
إن شعوبا يسهل عليها في سنوات قليلة أن تغير زيها من النقيض إلى النقيضة التام، مع ما يترتب على هذا التغير من انقلاب في كل المفاهيم والقيم الأخلاقية والسلوك الاجتماعي التي ترتبط بهذا الزي أو ذاك، إن شعبا يخلع زيه ومعه ثقافة برقها ومنهج حياة بكليته، ويعود ليلبس ما كان سبق وخلعه، ويعود مرتكسا إلى ثقافات أقدم في التطور، هو شعب مضطرب متردد يخسر أي إنجاز ممكن أو محتمل؛ لأنه لا يقطع الشوط إلى نهايته، إنما يعود من منتصف الطريق متجها إلى الخلف، إلى نقطة البداية ليسير عكس سير كل الأمم عبر التاريخ، على الطريق النقيض معنى ومبنى ومكانا وزمانا.
وهذا التردد والتقدم والتراجع يشير بوضوح إلى أن الشعب المسلم ما عاد متأكدا من شيء، ولا مقتنعا بما يفعل، فلو كان يفعل عن إيمان بما يفعل ما غير ولا بدل دون براهين واضحات على سلامة اختياراته أو عدم سلامتها، ودون أن يجيب نفسه بوضوح عن دور هذه القطعة من القماش في تقدمه وإنجازه وتميزه بين الأمم أم هي عكس ذلك.
إن شعبا يقولون له اخلع، فيخلع، ويقولون له البس، فيلبس، هو شعب قد تم محو شخصيته، شعب آخر غير شعبنا التاريخي العظيم، فشعب الصحوة الإسلامية المصري شعب مسلوب الإرادة وخاضع للأوامر التي لا تحمل إقناعا ولا دليلا على جدواها لأمنه وسلامته وتقدمه، وهو الشأن المخيف الذي استجد على هذا الشعب العظيم، هنا الرعب العظيم! فماذا حدث يا شعب؟!
المعلوم أن ظاهرة كالحجاب والنقاب لا تظهر فجأة كالبركان أو الزلزال، ولا هي حادثة بيجو غير متوقعة؛ لأنه شأن يعني مجتمعا بأسره؛ لذلك هو لا يظهر ويختفي عشوائيا، ولا بد له من برنامج عمل مدروس لممارسة آلية الظهور والاختفاء، لا بد له من عمل وتخطيط مرحلي وإعداد انتقالي إلى الهدف الاستراتيجي النهائي؛ وهو ما يعني أن هناك إرادة مقتدرة تقف وراء هذا البرنامج ولها أهدافها وأدوات تثقيفها أو بالأحرى تدجينها للأرواح والعقول؛ ومن ثم سيكون السؤال: من هو صاحب هذه الإرادة المقتدرة؟ وما هي أهدافه مما يعمل؟
فنحن نعلم بوضوح الأسباب والأهداف والنتائج التي كانت وراء دهس النقاب بأحذية جداتنا وأمهاتنا في شوارع مصر وميادينها زمن النهضة، وكان برنامجنا علمانيا علنيا في دولة مدنية ذات مؤسسات حديثة وأحزاب قوية في نظام برلماني يتم فيه تبادل السلطة بإرادة شعبية، أهدافه وطن يجمع أفراده وطوائفه وملله ونحله وأجناسه وعناصره، بعقد اجتماعي يقفون فيه جميعا على التساوي حقوقا وواجبات، ويربطهم برابط المصلحة المشتركة بينهم. وأساسه المتين هو قدسية الوطن وعلم الوطن (ملحوظة: اتركوا العلم مرفوعا ولا تجعلوه مناسبة كروية)، حيث يعيش الجميع على اختلافهم تحدوهم مصالحهم المشتركة. كان الهدف اقتباس النظام الغربي المتفوق رغم وجود المستعمر المكروه على تراب الوطن. لكن شعبنا أمكنه أن يفرق بين المشاعر كالحب والكراهية، وبين المصالح التي دعته لاستخدام مناهج المتفوقين ليتفوق مثلهم. باختصار كان زمن 1919م قرارا مصريا مجتمعيا للحاق بقافلة الحداثة والأمم المتقدمة في دولة مدنية دستورية برلمانية مؤسساتية.
السيدة فاطمة الزامل السبهان القويعي، تولت الحكم بتفويض من كبار الجماعة في حائل عام 1911م حتى 1914م. وكانت حينها وصية على حفيدها الأمير سعود العبد العزيز الرشيد.
العجيب أن يعود النقاب والحجاب إلى الأمة وهي مهزومة وفي حضيض الأمم وبحاجة إلى تنفس هواء الحرية للخروج من مستنقع المتخلفين ، ومن هزيمتها الحضارية المنكرة؟!
لن تكون عودة هذه الظاهرة مفهومة مع حالنا الذي يزري بنا وبتاريخنا، إلا إذا كان صاحب البرنامج يقدمها للناس كآلية تفوق، بحسبانها وسيلة ارتقاء بحالنا المخزي إلى حال أرقى، والمطالع لشعارات الشوارع في بلادنا سيعلم فورا أن العودة إلى النقاب هي عودة إلى صحيح الدين، لنرضي ربنا فيرضى عنا وينصرنا على القوم الكافرين! هو الإفلاس الكامل من أي حلول يملكها أصحاب الصحوة، وشعور الناس بعدم القدرة على التغيير، وخسارة المصري لروحه التواقة ونكتته الناقدة اللاذعة التي اختفت مع الصحوة بدورها، أوصلوا المصريين إلى القناعة بأن الأعداء لا يقدر عليهم إلا الله بنفسه.
وأصابت الصحوة ذاكرة شعبنا بالتلف، فما عاد يذكر أننا جربنا الحجاب والنقاب زمن السلاجقة والعثمانلية والمماليك ولم يصنع تقدما ولا أدى إلى حضارة ولا صنع رقيا قيميا، بل أدى إلى انهيار كارثي بما صاحبه من سلوكيات من لزوم ما يلزم، وانتهى بضعف الوطن كله مما سمح باستعمار البلاد من الصليبيين مرة ومن الاستعمار الحديث مرة.
الواضح لأي عقل صاح أو حتى غافل، حجم المليارات التي تم ضخها من الخزائن النفطية لتضخيم ونشر الصحوة، وكم البيزنس التجاري الهائل من بنوك وبيوت أزياء وتجارة سلاح، التي استثمرت، عبر المساجد والمدارس والجامعات والصحف والإذاعة والتلفاز، هو مشروع هائل التكلفة إذا قارناه بما صرفه الاتحاد السوفييتي بجلال قدره خلال القرن الماضي بطوله لنشر أيديولوجيته، فكان ما صرفه من دعم لحلفائه في العالم ونشر مبادئ ثورته وتسليح أنصاره بالطائرات والصواريخ سبعة مليارات دولار، بينما بلغ ما صرفته السعودية لتصدير وهابيتها وصحوتها منذ هزيمتنا في 1967م حتى عام 2000م أي خلال ثلاثين عاما فقط زهاء سبعين مليار دولار، ومثل هذا الصرف الهائل في هذه الفترة الوجيزة يفترض بالضرورة أن وراءه عقلا يخطط، وأن هذا التخطيط له أهداف وعائدات تفي وتزيد بربحيتها عما تم صرفه، فلا بد من عائد ومكاسب وربح وفير، فمثل هذه الأموال بأرقامها الهائلة المهولة لا تهدر في مغامرة ومقامرة، خاصة عندما تجده لا يترك فرصة لشراء أي موقف وسد أي ثغرة واستثمار أي فراغ لملئه بالأموال للسيطرة الوهابية الكاملة.
أسوأ ما في الأمر كله هو استجابة شعب بحجم الشعب المصري ليخضع لأوامر ونواه، ويقبل الخضوع والخنوع والانزلاق إلى حفرة العصور الوسطى المظلمة، دون أن تحميه مناعته التاريخية التي كانت درعا واقية له عبر تاريخه الطويل، عن هذا السقوط المدوي، ليخلع ويلبس ويأكل وينام ويتكلم ويسكت وينكح ويتبول ويتغوط ويحب ويكره بأوامر ونواه وأدعية وفتاو دون أي براهين واضحة لعائدية هذه الطاعة على الوطن والمجتمع. (2) البعد السياسي
إن تتبع الخيط لفض آليات ظاهرة الحجاب والنقاب يوصلك إلى ما يستتبعها ويترتب عليها؛ فالآليات هنا لا تقوم كغيرها من الأفكار والمفاهيم على لغة الحوار والإقناع، الآلية دينية تأمر لتطاع لا لتناقش وتحاور؛ فالنقاش والمحاورة عدم طاعة لمن هو أعلم منا بشئون ديننا ودنيانا.
هو المروق والفوق؛ لذلك لا يحتمل الأمر الديني نقاشا وإلا كان هو العصيان المرادف للخروج على الجماعة والمروق على الملة.
نصل الآن إلى المفصل الأهم في الظاهرة، في ظرف انكسار تاريخي وهزيمة نفسية لتراجع مصر عن دورها القوي محليا ودوليا، تم استثمار تدين الشعب المصري الفطري لترويج الوهابية السعودية وإسلامها النصي الظاهري بحسبانه الإسلام الوحيد الحقيقي، وأن إسلامنا السابق كان انحرافا عن جادة هذا الصحيح، مضافا إليه التقريع المشيخي الذي لا يهدأ للناس لانكسارهم الحضاري، لتأثيمهم وتحميلهم أوزار الاستبداد ونكباته، والشعب المصري شعب حساس أيضا بطبعه فيشعر بالذنب في حق أمته الإسلامية التي هو المسئول عنها (لا تعرف لماذا؟) وفي حق ربه ودينه، فحقت عليه الهزائم؛ ومن ثم فلا حل إلا بالعودة إلى طاعة الرب التمامية التي تمر عبر السراط الوهابي وحده فقط.
إن الظاهرة تعبر بشديد البيان والسفور عن مدى النجاح السعودي في إخضاع الشعب المصري لسلطة تيار ديني وافد على البلاد مع سبعينيات القرن الماضي، بغض النظر عما بدأ يستشري في المجتمع مع هذا الوافد من سلوكيات منحرفة وفساد من كل الأصناف بإحصاءات علنية لا تشير إلى تدين حقيقي. والأمر على حاله هذا هو غاية المراد السعودي الوهابي وهو المطلوب بالضبط وبالتدقيق، وهو الهدف من هدر سبعين مليار دولار. الهدف نشر الفوضى والدمار الأخلاقي والقيمي تحت ستار زائف من مظهر ديني قشري لا يخفي ما تحته من قبح، حول الشارع المصري إلى فوضى عشوائية ووحشية لم يسبق أن عرفها في أسوأ أزمانه، ولا عرفها حتى في زمن الهكسوس. ولبس الفساد الزي الباكستاني ولا تعلم ما علاقة هذا الزي بالقرآن أو بالسنة أو حتى بعرب الجزيرة، ومعه اللحية المروحية غير المشذبة، والحجاب والنقاب، ودمتم!
هي حالة إثبات للدنيا عن مدى طاعة الشعب المصري للسيد السعودي الذي تمثله أيديولوجيته المبثوثة في تلفازنا وإذاعتنا ومناهج تعليمنا وفي لافتات تملأ الشارع المصري أينما وليت وجهك، لقد تم اختراق مفاصل الدولة المصرية العريقة ومؤسساتها ونخرها بالسوس الوهابي منذ قرر الرئيس السادات أن يكون الرئيس المؤمن، فأطلقهم علينا فكافئوه بنحره يوم عيد نصره تقربا لرب الوهابية بكبش عظيم كما جاء في أدبياتهم.
وبعدها تحولوا إلى سادة حقيقيين عبر مشايخ بلادنا الذين حولوا ولاءهم لأرباب النعمة لنشر الوهابية في مصر، وأصبح الشيخ صاحب قوة وسلطان وهيبة تفوق هيبة القانون والدستور والدولة مجتمعين.
فالمواطن يعمل بفتوى الشيخ حتى لو كانت ضد وطنه ودولته ومواطنيه، إذ توصف الحكومة في هذا السياق بالحكومة الكافرة؛ لذلك يخلع المواطن طاعة قانون الدولة لأنه وضعي كافر، وهو ما يقال له في إعلام الدولة المصابة بالحول المنغولي والكساح العقلي والموت السريري للضمير. أما المواطن فقد اطمأن أنه من أصحاب الجنة ما دام مطيعا للطقوس، وما عدا ذلك فكله من اللمم البسيط، فغيره من أهل الجحيم وهو وحده حبيب الله فهو من أهل الجنة؛ ومن ثم يذهب إلى أبعد مدى في كسر كل القيم الأخلاقية ما دام مؤديا لواجبه الديني «وإن زنى وإن سرق»؛ لأن المبدأ الوهابي يقوم على حديث منسوب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل ابن آدم الجنة بعمله إنما بأداء العبادات ورحمة الله.»
في انتهازية رخيصة لا تليق لا بعروبة ولا بإسلام انتهزت الصحوة الوهابية جرح الشقيقة الكبرى وضعفها وهزيمتها في 1967م لتحول المجتمع المصري من مجتمع مؤسسات قانونية تراتبية بيروقراطية وظيفية، إلى مجتمع منفلت فوضوي غير منتج ولا منجز، يثبت طاعته لربه بقطعة قماش ثم ينصرف إلى كل ألوان الرذائل التي سيغسلها في الحج المقبل ويعود كما ولدته أمه ملط من أي ذنب. ومع تكاثر الخطايا يكثر الراغبون في الغسل، ويذهب المستحمون بالطهارة الشكلية لينالوا الغفران بملايين مصر الكادحة ليضيفوها إلى رصيد البنوك السعودية، وهذا وجه واحد فقط، ضمن وجوه عدة، منظور مكشوف يشكل عائدات هائلة سنويا تبرر ما تم صرفه من مليارات على الصحوة. ويتلو الحج عمرة ويلي العمرة حج جديد، وهو ما يبدو تعبيرا عن صحوة المسلمين لدينهم ورغبتهم في رؤية قبر حبيبهم وأداء الفريضة لربهم، بينما هو تعبير عن حجم المآثم والكارثة الأخلاقية التي أوصلنا إليها أصحاب الصحوة؛ فالناس يشعرون بالحاجة الدائمة للغسل عندما يشعرون بالوسخ والقذارة الواضحة؛ لذلك تحتاج إلى التنظيف الموسمي الدوري.
مرة أخرى نؤكد أن أي زي هو في الأصل ظاهرة اجتماعية تفرضها البيئة؛ لذلك تختلف باختلاف البيئات والمجتمعات، وأن الحجاب أو النقاب لو كان دينا ما فرط فيه المصريون وبقية العرب والمسلمين معهم مع ثورة 1919م، ولو كان دينا وفرطنا فيه فهو معنى يهين الدين ويصوره ضعيفا مهزولا لا يستطيع فرض فروضه على أتباعه دون مساعدة خارجية، وكأنه يحتاج للمساندة والدعم وهو دين القادر العزيز الجبار! ومن هنا لا يمكن لأحد أن يقول إن النقاب هو من الفروض أو من شئون العبادة، ولا هو حتى قاعدة في المعاملات، ولا يترتب على ارتدائه أو خلعه أية حدود شرعية في ديننا، هو فقط وسيلة يثبت بها الوهابيون أنهم قد تمكنوا بعد هزيمة 1967م من السيادة على الشارع المصري، بحكومة أخرى موازية خفية متكاملة النظم والأوامر والقوانين والاقتصاد، أعضاؤها مصريون بالجنسية فقط، وولاؤهم للسيد الذي لا تنفد خزائنه، وتفرض هذه الحكومة الخفية ذاتها علنا جهارا نهارا لا تستحي ولا تكن، وتحارب حربا ضروسا في شأن تافه كالنقاب، وهو عندها كبير لأن أي تراجع له يعني تراجعا في سيادتهم وفي خططهم نحو الإعماء الشامل للعقل المصري؛ لأن أي تراجع يعني انحسارا لهذه السيادة، ألا ترون حجم ما ضخ من أموال في الحملة الفضائحية ضد سيد القمني، والتي لا تليق بتدين حقيقي بقدر ما تليق بالنساء العواهر الدواعر المحترفات؛ لأن جائزة القمني تقتطع من مساحة وجودهم وإثبات سيطرتهم التي ستكون منقوصة بمثل هذه الجائزة.
تعالوا أدلكم كيف تمت الخطة وكيف تم تنفيذها للوصول بالمجتمع المصري إلى وضعه الحالي المؤسف، وهنا سنعود إلى التاريخ بلمحة سريعة كاشفة مضيئة للموقف كله بالأدلة القواطع على ما قلنا هنا.
نتذكر سريعا أن بدو الجزيرة كانوا ضمن عناصر الغزو البدوي الهكسوسي الأول لمصر زمن الفراعنة، وهو عصر تسميه الوثائق المصرية وغير المصرية في الحضارات القديمة «العصر المظلم»، لانقطاع مصر فيها عن إبداعها المعروف أدبا وفنا وعلما ومعرفة، حتى يقول إدوارد ماير إن احتلال الهكسوس يبدو في تاريخ مصر كستارة سوداء نزلت فجأة على هذا التاريخ، ومع ارتفاع الستارة بطرد الهكسوس تجد مصر المتحركة المنتجة الفعالة في أقصى نشاطها وإبداعها العلمي والفني والعسكري حتى أقامت أول إمبراطورية لها تمتد حتى الحدود التركية. نتذكر أيضا أن عرب الجزيرة قد عادوا لغزو مصر منذ أربعة عشر قرنا تحت شعار: الإسلام أو الجزية أو القتال وما يترتب عليه من سبي وأسر وهتك أعراض ونهب واستعباد. وبمرور الوقت تحولت الأغلبية المصرية إلى الدين الوافد من الجزيرة وأصبحوا مسلمين. وظلت مصر ولاية تابعة لعاصمة الخلافة الإمبراطورية، يأتيها الحكام من خارجها مندوبين عن الخليفة عربيا أم كرديا أم تركيا، خصيا أم رجلا، حتى انتهى بها الأمر صريعة الزمن المملوكي العثماني في غياهب الجهل والظلام والمرض والتخلف، حتى أيقظتها الآلة العسكرية المتقدمة للحملة الفرنسية ونظامها الإداري والحضاري المتفوق، لتكتشف مصر ما فاتها فتطرد المستعمر الفرنسي وتقيم دولة حديثة قام بتأسيسها شعب مصر بريادة رشيدة من محمد علي (الذي اختاره المصريون) وأخلافه من بعده.
بينما كانت مصر تكتشف نفسها وما حولها زمن محمد علي باللحاق بالحداثة الأوروبية، كانت الجزيرة تكتشف نفسها بالمذهب الوهابي المتحالف مع آل سعود يعطي كل منهما مشروعية الوجود للآخر.
ومن جانبه أراد السلطان العثماني أن يشغل كلا الحركتين في مصر والحجاز، فطلب من محمد علي القضاء على الحركة الوهابية ضد الخلافة، بعد أن وصلت شرورها خارج حدودها لتدمر أينما وجدت أضرحة الأئمة والأولياء خاصة بالعراق وذبحت المسلمين من غير السنة أينما صادفتهم.
أرسلت مصر حملتين بقيادة أولاد محمد علي، الأولى قادها الأمير طوسون وحققت نصرا جزئيا، تبعتها حملة أخرى بقيادة الأمير إبراهيم باشا، لتحقق نصرها باحتلال الدرعية واستباحتها على الطريقة الإسلامية، ولأن العرب يفرقون في تطبيق القانون؛ فإنهم طبقوا الاستباحة على غيرهم في فتوحاتهم وغزواتهم، لكنهم لا يقبلونها لأنفسهم. وبعدها ظل ثأر الدرعية نارا لا تهدأ في القلب الوهابي، وبؤرة وجع مزمن في الدماغ ولوعة في الكبد السعودي، لنصل إلى الزمن الناصري والحرب المصرية السعودية في اليمن، ونقرأ الآن معا نص رسالة الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية إلى الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، والتي حملت تاريخ 27 ديسمبر 1966م، الموافق 15 رمضان 1386ه، وترد بوثائق مجلس الوزراء السعودي تحت رقم 342، (نقلا عن د. وليد البياتي، ومصدره: حمدان حمدان: عقود من الخيبات، دار بيسان، ص489-491) وهي رسالة ووثيقة أدت إلى تغيير مجرى تاريخ المنطقة والعالم كله بعدها.
يقول جلالته لأخيه الرئيس الأمريكي جونسون: «... مما تقدم يا صاحب الفخامة، ومما عرضناه، تبين لكم أن مصر هي العدو الأكبر لنا جميعا، وأن هذا العدو إن ترك يحرض ويدعم الأعداء عسكريا وإعلاميا، فلن يأتي عام 1970م - كما قال الخبير في إدارتكم السيد كيرميت روزفلت - وعرشنا ومصالحنا في الوجود؛ لذلك فإني أبارك ما سبق للخبراء الأمريكان في مملكتنا أن اقترحوه، وأتقدم بالاقتراحات التالية: أن تقوم أمريكا بدعم إسرائيل بهجوم خاطف على مصر تستولي به على أهم الأماكن حيوية في مصر، لتضطرها بذلك لا إلى سحب جيشها صاغرة من اليمن فقط، بل لإشغال مصر بإسرائيل عنا مدة طويلة، لن يرفع بعدها مصري رأسه خلف القناة، ليحاول إعادة مطامع محمد علي وعبد الناصر، وبذلك نعطي لأنفسنا مهلة لتصفية أجسام المبادئ الهدامة، لا في مملكتنا فحسب بل وفي البلاد العربية؛ ومن ثم بعدها لا مانع لدينا من إعطاء المعونات لمصر وشبيهاتها من الدول العربية، اقتداء بالقول: ارحموا شرير قوم ذل.»
إن هذه الرسالة التاريخية تفسر ما حدث بعدها بشهور معدودة خطوة بخطوة وبوضوح مبين، وتوضح مدى وجع الدرعية القديم وأنه ما زال ماثلا أمام جلالته يئن بسببه من مصر محمد علي ومن مصر عبد الناصر، وقد تمت خطوات الرسالة بنجاح نموذجي، فنهر المال قادر على فعل الأعاجيب، فأمكن حينذاك أن تؤكد سوريا لمصر حليفتها في اتفاقية دفاع مشترك، أنها تحت احتمال أكيد باجتياح إسرائيلي لاحتلال سوريا، وهو ما دفع مصر إلى تنفيذ التزامات الاتفاقية فقامت بسحب جيوشها من اليمن لتدخل الحرب إلى جوار سوريا المعرضة للغزو، وقد ثبت بعد ذلك أن دمشق لم تكن الهدف الأكبر إنما كانت مصر، وأنه لم يكن في نية إسرائيل احتلال سوريا إنما احتلال كل ما يمكن احتلاله من المنطقة المحيطة بحدودها؛ وهكذا تحقق هدف جلالته الأول بانسحاب الجيوش المصرية من تحت أنثييه في اليمن، ليتلوه مباشرة الهدف الثاني والأعظم بالهزيمة الساحقة للجيوش العربية في 5 يونيو 1967م بعد أربعة شهور من فقط رسالة جلالته إلى أخيه جونسون، واحتلال إسرائيل كامل سيناء والضفة والجولان.
وتستمر الحرب الضروس حتى أكتوبر 1973م يوم حرب التحرير لتشمر السعودية فجأة - وعلى غير عادتها - عن الإباء العربي وتعلن عن صفاء عروبتها الأصيلة بإيقاف ضخ النفط، في خطوة بدت حينذاك الشهامة والأصالة العربية في أتم معانيها، لكن ليرتفع سعر النفط بحسابات سابقة ومبرمجة إلى مستويات ما حلم بها أحد، وكان الثمن المدفوع هو دماء أبناء مصر.
وهكذا تحققت الخطة السعودية الإسرائيلية الأمريكية وربما السورية، وأخذ جلالته المهلة الطويلة لتصفية المبادئ الهدامة من وطنية وقومية ويسارية واشتراكية وشيوعية، ليس في مملكته فحسب ولكن في مختلف ديار يسكنها المسلمون.
وتحولت مصر بعدها من بلد يفيض بخيره على جيرانه وبالأخص أهل الجزيرة لاستحقاقهم الصدقات عن جدارة شرعية بلا منازع ينازعهم هذا الاستحقاق، إلى استجداء المعونات، وساعتئذ لم يرحموا شرير القوم الذي ذل بتعبير جلالته، إنما قرروا هزيمته الداخلية لسحقه سحقا فلم يعد المصري يذكر نصره الأكتوبري إلا موسميا، وعدا ذلك يعيش حالة الهزيمة التي يعيشها العرب جميعا أمام إسرائيل، وذلك لأن الحرب عند العربي هي دوما صفرية، أي حرب إبادة شاملة لأحد الطرفين، النصر أن ينتهي طرف من الوجود ويبقى المنتصر، حروبه لا تعرف مفاوضات، وبدون إبادة الطرف الآخر لا يكون هناك انتصار.
ومع تفوق إسرائيل المتصاعد ويدها التي تذهب أينما طالت، جعلت المصري الذي كان يحمل على كتفيه كل القضية العربية ويشعر أنه المسئول عنها، يستشعر الهزيمة الداخلية، وأن إسرائيل لا يقدر عليها إلا القادر الجبار، ولا حل إلا استدعاؤه للتدخل إلى جانبنا لو التزمنا أوامر وشروط ديننا الجديد «الوهابي». وهكذا وصل ثأر الدرعية إلى عملية نقمة شاملة في إبادة جماعية مليونية للوعي المصري، وخاصة وعيه بوطنه، واحتلال عقله بقضايا العروبة والإسلام، مع احتلال إحلالي يحل فيه الوهابيون محل الإسلام البكر، كما سبق واحتلوا وطنه زمن الفتح احتلالا استيطانيا، مع قهر المصري ليعلن التبعية لإثبات السيطرة على شرير القوم الذي ذل، ليمتلئ الشارع المصري لحى وحجابا ونقابا وخرابا كاملا في الذمم والضمائر. إنه مشروع انتقام شيطاني وحشي بدوي كاسر بدون شبيه ولا نظير.
وضاعت قيم المصري المصرية ومعها ولى حرصه على الملك العام والمشترك العام لتحل الأنانية المفرطة محل الضمير المصري الرفيع، ذلك الضمير الذي جعل أمهاتنا وجداتنا السافرات العاملات والفلاحات تربي جيلنا التربية الفضلى لأنهن كن عفيفات دون إجبار أو قهر.
هؤلاء الأمهات المنتجات العفيفات السافرات هن من أنجبن لنا اليوم أبناء آخرين، وجدوا في نهر المال ما يمنحهم السلطان والدرجة الاجتماعية الرفيعة وهم من ينادون نساءنا بأن الحجاب عفة؟ فهل يطعن رافع الشعار في عفة السيدة والدته بهذا الشعار؟ فإذا كان واثقا بعفتها فإنه لا بد أن يعترف أنه يرفع شعارا كاذبا، وأن النقاب واللحية لا يصنعان عفة، إنما ما يصنعها هو الضمير الأخلاقي المجتمعي الذي كان عفيفا منتجا مثقفا زارعا صانعا مبهجا عالما منجزا بهيجا ضحوكا، كرنفالاته الاحتفالية عديدة بعدد موالد أوليائه الصالحين، صاحب أجمل وأبدع نكتة الدنيا بما وراءها من خيال وحبكة وإبداع وتراث طويل وفن رفيع ونقد لاذع، ومع ذلك كانوا، وكن، مسلمات ومسلمين محافظين وأتقياء خلصاء، كانت أمهاتنا عفيفات طاهرات لم يشنهن عدم ارتداء قماش العفة كالبهائم الدوارة.
لقد عاد بدو الحجاز إلى غزو مصر مرة أخرى، وانتقم الوهابي السعودي للدرعية شر نقمة، وأصبح الشارع المصري عبدا للقول الوهابي، مجرد القول هو أمر، بعد أن خسر المصريون بكارة إسلامهم الحنفي والصوفي والشعبي السمح العاشق للوطن وللدين، باختصار عدنا موالي لسادة بدو الجزيرة مرة أخرى. (3) البعد الاجتماعي
عبر تاريخ البشرية الطويل، وفي كل مكان على الأرض، بحث الإنسان عن العفة وطلبها وقنن لها الشرائع لحمايتها قبل ظهور الديانات الإبراهيمية الثلاث، كما هو ثابت في شرائع مصر والرافدين القديم. ولو حاولنا تعريف العفة سنقول إنها ذلك الدافع الداخلي للإنسان، الذي يمنعه عن طاعة غريزته الجنسية، إلا بما يقره المجتمع ويرضى عنه، بمعنى أنها ما يمنع إقامة هذه العلاقة خارج إطار الزواج الذي وضعه المجتمع وتعارف عليه وقننه دينيا ومدنيا. وقد قننت الحضارات القديمة هذه العلاقة الزوجية للحافظ على العفة، وذلك وفق ثقافة كل منها التي تصنعها علاقة الإنسان ببيئته الخاصة ومجتمعه. وركزت على تفعيل معنى العفة تربويا في الأسرة والمدرسة ودار العبادة لزرع وازع داخلي في الصغر ليكون كالنقش في الحجر، كنوع من الفاكسين والتطعيم المسبق الواقي الداخلي من الإصابة، لتصبح العفة أحد مكونات الضمير صدا لأي إغواء شهوي بمناعة هذا الضمير.
وباختلاف الثقافات يختلف معنى العفة، ومعنى الزنا؛ فالمجتمع الذي كان منذ فجر التاريخ - وبعضه النادر لا يزال - يأخذ بنظام تعدد الأزواج للزوجة الواحدة، يعتبر غير ذلك هو الزنا؛ لذلك يختلف معنى العفة والزنا إلى درجة التناقض، فلو قارنا ذلك الزواج التعددي للأزواج بمجتمعات أخرى تقر عكسه وهو تعدد الزوجات كلون وحيد مباح للزواج وعكسه زنا، نكتشف فارقا هائلا في دلالة معنى العفة. وهناك المجتمعات التي تقصر العفة على طبقة من طبقات المجتمع دون أخرى، وهي مجتمعات تنتمي إلى حقب موغلة في القدم والبدائية في تاريخ البشرية، هي حقبة الزمن العبودي، حيث يقتصر طلب العفة فيه على الزوجات الحرائر فقط، ولا ينسحب على الجواري والإماء والعبيد، وذلك بغرض التمييز بين الطبقات لعدم الاختلاط مما يضيع نقاء الطبقة ونسبها، وتأتي العفة هنا كصفة ارتقاء أخلاقي تضاف إلى الرقي الطبقي لتناسبه وتليق به وتسم أصحابه بها، وقد حرص الخليفة عمر بن الخطاب على هذا النقاء الطبقي بشدة، فكان يضرب الإماء والجواري إن رآهن مخمرات كالحرائر؛ لأن الشباب المسلم زمن النبوة والخلافة من الفقراء الذين لا يستطيعون طولا للزواج أو ملك اليمين، كانوا يتربصون بالنسوة عند خروجهن إلى الغائط، فإن وجدوا المرأة سافرة عرفوا أنها جارية فيتناولونها؛ لذلك أمرت الآيات نساء المسلمات بتغطية جيب الثديين بالخمار، وبإدناء الجلاليب، حتى يعرفن أنهن حرائر وتمييزا لهن عن الإماء حتى لا يؤذين. وزنا الرجل في مثل هذا النظام يكون بلقائه جنسيا امرأة من خارج نسوته وإمائه ولو كن ألوفا، بينما تأخذ مجتمعات الغرب الحر اليوم بثقافة الحريات الحقوقية الفردانية، وترى أن جسم الإنسان هو أخص خصائصه وممتلكاته التي لا يصح التدخل فيها أو الاعتداء عليها؛ لذلك تقوم العلاقة الجنسية على لقاء ذكر بأنثى بمنتهى التراضي والاتفاق دون استغلال ظروف طرف لطرف ودون إكراه، وقد تتم بعقد زواج ديني أو بدون عقد زواج، فكلاهما زواج سليم من وجهة نظر المجتمع وهو نموذج العلاقة الجنسية العفيف والمثالي، وغير ذلك يعتبر اغتصابا يتشدد معه القانون بعقوبات مغلظة، حتى لو كان إكراها من الزوج لزوجته على الممارسة الجنسية، لأنه سيعد اغتصابا، حيث لا يقف الاغتصاب عند المعنى الجنسي؛ لأن الاغتصاب هو اغتصاب للإرادة وسحق للشخصية وازدراء بالشريكة وإذلال لها رغم إرادتها، وهذه هي الجريمة الكاملة عندهم.
وقد لوحظ في مسيرة البشرية أن الشعوب عندما تمر بفترات انكسار وطوارئ وضعف في الأمان، تلجأ إلى إجراءات احترازية لصون عفة نسائها؛ لأن النساء عبر التاريخ كن الطرف الأضعف؛ لذلك مع الطوارئ في الحروب أو الغزوات أو الانفلات الأمني نتيجة للكوارث الطبيعية فإن النساء يتعرضن للهتك والاغتصاب، وفي المجتمعات التي تضعف فيها تربية الضمير والوازع الداخلي، يستشعر الذكر فقد الثقة بنفسه مثله مثل كل المجتمع المهزوم المأزوم؛ لذلك يفترض أن نساءه قابلات للسعي الشهوي الفاسد لاستكمال نقص لا يسده ذكر غير واثق بنفسه، وذلك بالتدخل الخارجي الميكانيكي القسري، وهو تدخل لا علاقة له بالعفة كمعنى وضمير، هو تدخل يحل الأداة الخارجية محل العفة الداخلية الحقيقة، فلا يصبح لها لزوم فتذبل وتموت، التدخل الخارجي استباق للحدث المرفوض اجتماعيا بصنع إجراء ميكانيكي مانع كي لا تقع جريمة الزنا التي تهتك العفة. فتجد في بعض البلاد التي ما زالت تعيش حالة الصيد والارتحال بين المدارين، يخيطون فرج الزوجة بما لا يسمح بالإيلاج لغياب الأزواج الطويل رعيا وصيدا، كإجراء مانع لوقوع جريمة هتك العفة بالزنا. ويماثله في مصر (وما زلنا بين المدارين) الختان الجائر للفتيات وهن صغيرات بنزع البظر مع الشفرين الأصغرين لكبح الشهوة للحفاظ على العفة.
الكارثة في الختان الجائر هي أنه لا يمنع الاشتهاء والرغبة الجنسية، كل ما يمنعه هو وصول الأنثى إلى درجة الشبع (الأورجازم). وتكون النتيجة أن المختونة لن تصل إلى الشبع مهما حاول الزوج من فنون، ومعلوم أن سبب انتشار المخدرات في هذه البلاد هو محاولة الرجال إطالة زمن المعاشرة لإرضاء الزوجة المتهيجة دون شبع. وعليه فبدلا من أن يصون الختان العفة؛ فإنه يترك المرأة كاملة الشهوة، وفي حالة تهيج جنسي مستمر بسبب العلاقة الزوجية التي لا تنتهي بالأورجازم، فتظل حالة الشهوة مستعرة تطلب الإشباع دون أن تخمد، يوقظها الزوج ولا يتممها. فلا هي قضت وطرها ولا هي ظلت هادئة النفس والجسد.
ومثل هذه الألوان من التدخل الخارجي للحفاظ على العفة هو ما لجأت إليه أوروبا في عصورها الوسطى بأداة ميكانيكية مبتكرة اسمها «حزام العفة» لمنع وصول القضيب إلى الثقب في حال غياب الزوج، ومثله ما يلجأ إليه المجتمع الإسلامي في هذه الأيام بالحجاب والنقاب للحفاظ على عفة حريمه. وعليه فإن آليات العفة بتدخل خارجي هي: الحجاب، والنقاب، والختان الجائر، وخياطة الفرج، وحزام العفة، أما آلياتها الداخلية فشيء واحد فقط هو وازع الضمير الأخلاقي بالتربية الأولى للطفل في سنواته المبكرة.
وعندما تكون العفة معنى وقيمة ذاتية داخلية تربى عليها الفرد في طفولته؛ فإنها ستصبح إلزاما لصاحبها أكان ذكرا أم أنثى؛ فهي تقف حائلا داخليا دون مجرد التفكير في هتك العفة، لانتقاص ذلك من قدره الإنساني، ولكن الواضح أن المجتمع المسلم قد اختار الحجاب والنقاب كوسيلة خارجية لصون عفة نسائه، ليمنع به إثارة الذكر المسلم التقي بشكل قد يدفعه للاعتداء على المرأة أو مطاردتها لتزيين جريمة الزنا لها. وهو ما يعني اشتداد وطأة الأزمة في المجتمع، وهي الأزمة التي دفعته لاختيار وسيلة الحجب بأدوات مخترعة، بحسبانها أكثر طمأنينة له من الأسلوب التربوي الذي يلزم الطرفين من الداخل.
الرجل المسلم معذور وهو يرى الشعب المصري ومثله معظم شعوب الدول الإسلامية يتوكل على الله تحت وطأة مشايخه ليعمل بنصيحة تكاثروا تناسلوا، فتكاثروا وتناسلوا حتى لم تعد البيوت تسعهم فتربوا في الشوارع، ولم يعد لدى الأم ولا الأب الذي يسعى لإشباع هذه الأفواه الجائعة وقت يكرسه لتربية وازع الضمير والقيم الأخلاقية في عياله. كيف لا يقلق المسلم وهو يرى هذا التكاثر الأرنبي (لأن الله هو الرزاق) دون أسرة حقيقية تربي ودون مدرسة تهذب وتعلم؟ ويرى هؤلاء يكبرون أمامه خلوا من أي قيم تربوية سليمة، وينضمون إلى مدرسة الفساد المعمم سياسيا كان أم دينيا، فلا يبقى أمامه للحفاظ على العفة سوى التدخل الميكانيكي الخارجي. رغم ما يلحق هذه الوسيلة من مثالب ونقائص كثيرة.
فالنقاب الذي يرفعون له شعار «النقاب عفة» لا يصنع للمرأة أي عفة، هو يعف الرجل وحده لكنه لا يعف المرأة المنتقبة، يجعل الرجل عفيفا لأنه لا يرى منها شيئا يثير شهواته، لكنه لا يصنع للمرأة عفة أبدا، وإن كانت داعرة وانتقبت فلن يحولها النقاب إلى عفيفة، ستكون كاللص المحبوس يظل لصا سيسرق أيا ما تطاله يده لو كان نفايات، وكذلك حبس المرأة خلف النقاب لن يمنعها من كسر العفة، ولن يخلق لديها العفة إن لم تكن ضمن مكوناتها التربوية من الطفولة المبكرة، وستطلب الجنس ولو مع نفايات البشر.
والشعار بهذا الشكل القطعي لا يقول: إن النقاب قد يخلق عفة للمرأة بصيغة الاحتمال، بل هو صارم واضح «النقاب عفة»؛ أي أن من طلبت العفة فعليها بالنقاب، ومن لم ترد العفة فعليها عدم ارتدائه. وهكذا يعود بنا الشعار إلى التقسيم الطبقي العتيق البدوي، فتصبح المنتقبة محمية من التحرش بها فهكذا يعرفن فلا يؤذين، بينما تكون السافرة مستباحة، ولأن معظم السافرات في بلادنا من غير المسلمات فهن من الأصل محل استباحة لأنهن من الطبقة الأشد دناءة ووطاءة في ترتيب المجتمع المسلم الطبقي، طبقة الذميين، (فشعار كهذا يلزمه فهم كذلك)، لهذا هن غير عفيفات بالضرورة الحتمية كإماء الجاهلية يجوز امتطاؤهن، فلا تأمن السافرات في بلادنا أي انتهاك مفاجئ في مجتمعنا العليل بانعدام القيم، ويخرج الشباب المتأسلم والمشايخ في التلفاز لتفسير ظاهرة التحرش والاغتصاب المنتشرة في بلاد الصحوة الإسلامية، بأن لبس البنات السافر والخليع هو ما يدفع الشباب إلى هذا الهوس الجنسي، بحسبان العفة تكون من المرأة وحدها، أما الرجل فله حق الفجر العلني دون أي قلق يصيب هذا المجتمع المتدين.
هذا رغم أن العفة هي الوجه النقيض للعملة ذاتها التي يشكل طرفاها ذكرا وأنثى، فالشهوة تتم من الذكر والأنثى، والفعل الجنسي يتم بذكر وأنثى، والعفة تتم بابتعاد أحدهما عن الفعل الشهوي بوازع من القيم الأخلاقية التي تربى عليها؛ فالعفة تحتاج أيضا إلى ذكر وأنثى حتى يتم ابتعاد أحدهما عن إغواء الآخر تأكيدا لعفته.
في بلادنا تصبح الكارثة مضاعفة عن كل عصور وسطى كانت أو مظلمة أو قاتمة، فنحن أولا نلجأ إلى ختان الذكر (سنة إبراهيم)، وهو ما يجعله عمليا سهل الاستثارة، ويجعل عضوه أكثر حساسية من الأغلف، وهو ما يؤدي إلى سرعة القذف وبلوغ الأورجازم بسرعة قياسية، بالنسبة للأغلف الذي تطول ممارسته مما يشبع أنثاه بدورها ببلوغ الدرجة ذاتها من الإشباع لأنها غير مختونة وهو ما يساعد على سرعة بلوغها الأورجازم. وفي الوقت ذاته نلجأ إلى ختان الإناث فلا نمنع الشهوة بقدر ما نعطل الوقت اللازم للوصول إلى الإشباع، وهو ما يستدعي من الذكر بذل جهد مضاعف، فتستفحل الأزمة، ولا تمنع المخدرات النهاية المحتومة التي تشهد بأن عدد حالات الطلاق قد أصبح في بلادنا أكثر من حالات الزواج.
وبدلا من المراجعة واللجوء إلى الحلول العلمية وقفا لمزيد من التمزق الأسري الحادث، والانهيار القيمي الحاد، يلجأ الرجل المهزوم سياسيا وإنسانيا وجنسيا إلى الحلول القديمة التي لم تحل شيئا بقدر ما زادت من المشاكل، فيحجب المرأة أو ينقبها أو يحبسها في البيت. (4) البعد الاخلاقي
يضرب لنا القرآن مثلا بقصة النبي يوسف وامرأة العزيز التي أثارت شهواتها مفاتن النبي المليح، فظلت تطارده وتنصب له الكمائن وتتحايل عليه ليطفئ ثورة شهوتها المتقدة لهفا عليه؛ وهو ما يعني أن امرأة العزيز رأت في يوسف ما شغفها به حبا وكاد أن يهم بها لولا حرصه على عفته، فحادثة الزنا لها طرفان إن امتنع أحدهما فلا تقع، كما حدث في القصة القرآنية بمحافظة يوسف على عفته. فما حرك شهوات امرأة العزيز وكسر عفتها هو رؤيتها لشاب مليح؛ وهكذا لا تفهم كيف يكون الحجاب صانعا لعفة المرأة؛ لأن امرأة العزيز منتقبة كانت أم سافرة؛ فإنها كانت ستشتهي الشاب المليح، ولو لم يكن يوسف معصوما بعفته لتمت الجريمة بفعل وتحرك واشتهاء امرأة العزيز.
وهنا أزعم أن النتائج المترتبة على تنقيب المرأة هي على عكس المراد منه بالمرة، لأنه أوسع الأبواب للمرأة لكسر قيمة العفة وكل ما يرتبط بها من قيم، النقاب هو الباب السحري إلى الرذيلة العلنية.
تعالوا نتفهم الموقف: هل سيقوم النقاب بإلغاء شهوات المرأة ويمنع رغبتها في الاتصال الجنسي بغريب عنها؟ لقد أحاطنا القرآن علما أن الشهوة - كما حدث مع امرأة العزيز - تأتي من العين ومن المشاهدة والمعاينة والرؤية، والنقاب لن يمنع كل هذا، فالعين ترى وتزني كما في صحاح الأحاديث. والمرأة المختفية وراء نقابها سيتاح لها إطالة النظر والتمعن والتأمل في تقاطيع الشاب المليح فتتصاعد شهوتها وتتزايد مع استمرار التأمل الشهوي، وهي مخفية بنقابها، مطمئنة لعدم معرفة الناس لشخصيتها، وهو ما يعطيها فرصة للتملي والتشهي مع مقبلات تخيلية للحالة الشهوية مما يرفع درجة الاشتهاء، ليدفعها للاحترار النزوي لمحاولة الإغواء دون خشية من فضيحة، وإن صادفها صد من الشاب المليح لعفته مثل يوسف؛ فهي آمنة ولن يذهب ليحكي عن التي غازلته وهو لا يعرف من هي، بينما لو كانت سافرة ونظرت إلى مليح باشتهاء سيلاحظها الناس؛ مما يؤدي إلى حيائها وخجلها والحرص على سمعتها؛ مما يردعها عن الاستمرار في النظر الشهوي. فالعيون حولها تحسب عليها الشاردة والواردة لذلك تحرص على أن تبرز كصورة كاملة للعفاف. ألا ترون معي أن النقاب هو تمكين للمرأة من هتك ستار العفة وليس العكس، بل هو أيسر السبل إلى الرذيلة.
وإذا كان الحجاب والنقاب من شئون الدين، فإن الدين أكمل من أن يضع مثل هذه الشروط المعكوسة التي تؤدي إلى نتائج عكسية. كذلك لا يليق بأي دين أن يكيل بمكيالين ليحمي طرفا دون طرف، فيحجب المرأة وينقبها ولا يحجب الرجل وينقبه، والله ليس بغافل عن شهوات خليقته، وأوضح لنا ذلك في قصة يوسف وامرأة العزيز، إن الدين لا يحمي فريقا من أتباعه دون فريق، ولا يميز بين أتباعه ولا يستقوي على الأضعف ظانا أنه يردعه بينما هو يدفعه دفعا إلى الرذيلة.
وإذا كان الدين يضع قيودا على النساء طلبا للعفة فيلزم أن يضع مقابل ذلك على الرجل تحقيقا للعدالة؛ لأن الشهوة عند كليهما، ولأن العفة يجب أن تكون لكليهما، ولأن كسر العفة بالزنا يلزمه كليهما، وأن الحدود تقع على كليهما، ولن يحمل طرف مسئولية جريمة مشتركة بين اثنين دون الطرف الآخر.
يضاف إلى هذا خاصية خلقية تجعل النقاب طريقا مفروشا باليسر والسرية إلى الرذيلة، هو أن المرأة لا تفشل في إتمام الفعل الجنسي فهي قابلة له طول الوقت، لعدم حاجتها حاجة الذكر للاتعاظ، هي تعطي فقط الإشارة التي تعرب للرجل عن رغبتها، وتترك له باقي المهمة التي قد ينجح فيها أو يفشل حسب ظروفه الصحية والنفسية ومدى هدوئه أو توتره؛ فالرجل قد يفشل، أما هي فلا تفشل، قد تقع الجريمة من الرجل أو قد لا تقع حسب حالته، لكنها واقعة حتما متى أرادت المرأة إلا مع من رأى برهان ربه وحرص على عفته كما حدث مع يوسف الصديق.
إن إكراه المرأة بحبسها في البيت، أو دخولها الدير رهبنة يحافظ على العفة لعدم وجود ذكر والرؤية والاشتهاء؛ لذلك يجب أن تكون العفة قناعة داخلية بقيمتها بوازع من ضمير يتم تربيته في الطفولة المبكرة، فيصنع العفة الحقيقية، لأني عندما أمنع نفسي عن لذة متاحة غير علنية فإني أكون مقتديا بالصديق يوسف، لدي عفة داخلية تمنعني عن امتهان نفسي بفعل شهوي غير قيمي أخلاقيا. يهين الرقي الأخلاقي لإنسانيتي، وعندما يقول أحدهم اليوم إن الحجاب عفة فإنه يكون أول طاعن في الدين؛ لأنه يصور ديننا غير قادر بذاته وممكناته البرهانية على خلق عفة داخلية لدى المؤمنين، هو كمن يقول إن قرآنه وحديثه وكل إيمانه غير قادر على خلق عفة للمؤمنات. وهو ما يعني أن رجال الصحوة قد أمسوا غير واثقين بأنفسهم بالمرة، وأيضا غير واثقين بنسائهم، وغير واثقين بقدرة الدين على ردعهن، فذهبن إلى الأداة الإكراهية الخارجية.
رغم أن الفلاحة المصرية كانت تتعرى وهي تعمل في طين الأرض الطاهرة، وأن المعلمة المصرية كانت تقف في الأسواق سافرة متبرجة تدير أعمالا وتشغل أموالا ورجالا عتاة جبابرة، وعفتها محمية بذاتها لا يجرؤ رجل على خدشها، بينما المنتقبة في قصور الحريم ظلت في الحكي الشعبي الدرامي لعازف الربابة، رمزا لانعدام العفة في سعيها لإشباع شهواتها مع أي إنسان حتى لو كان من عبيدها، بل يصل المدى إلى معاشرة الحيوان طلبا للإشباع كما في الملاحم الشعبية وألف ليلة وليلة.
ملحوظة أخرى لا تفوت فاحصا، هي ما صاحب الصحوة وحجابها ونقابها من ألوان زواج غريبة، والأغرب أنها مشروعة بفتاوى مشايخنا، رغم أنها لا تنشئ أسرة وهي الهدف من الزواج، وذلك مثل الزواج العرفي والهبة والمؤقت والسياحي والمصياف والمسيار والفريند، وهي ألوان لم تعهدها مصر قبل الصحوة، وما كانت الواحدة من أمهاتنا أو جداتنا السافرات تقبل عرضا زواجا كهذا؛ لأنه كان يعني الإهانة الكاملة للعرض والشرف والعفة والكرامة الإنسانية، ولو قال أحدهم بمثل هذا الزواج حينها لرموه بألف نعل ونعل.
إن العفة الحقيقية تكون عندما تكون السبل ميسرة إلى كسرها، لكننا لا نكسرها احتراما لذواتنا الآدمية الراقية، العفة الحقيقية تحدث عندما توجد المثيرات ونعف عنها كما عف يوسف، وإن انهيار العفة في بلادنا جاءنا ضمن منظومة كاملة، تبدأ بأن الرزق لا حيلة فيه لأنه بيد الله مهما تكاثرنا وتناسلنا، فضاعت الأسرة وتربى الأبناء في الشوارع، ولم يتلقوا الجرعة التربوية اللازمة لنقش القيم في أرواحهم وهي بعد غضة تتشكل.
لذلك جاء بالحجاب والنقاب ومعهما ألوان فضائحية لأنواع زواج هي إهانة بكل المعاني لأي امرأة محترمة مسلمة كانت أم غير مسلمة ولمعنى الزواج نفسه. إن قيمة امتناعي عن الخمر لا تكون قيمة إلا عندما يتوافر الماء والخمر في السوق فأختار الماء صونا لآدميتي من ارتكاب زلل قد يهينه السكر، أما عندما لا تتوافر الخمر بجوار الماء فلا مجال للحديث عن قيمة إنما عن قمع فقط.
ولأن الثقافة الجنسية في بلادنا لا تعدو متعة الفعل الشهوي للذكر وحده، دون لوازم أخرى ضرورية لصنع الحب السليم بين الطرفين، فإن الزواج يقوم أساسا على المذاهب السنية الأربعة مع الجعفري على مبدأ المتعة والاستمتاع بالأنثى؛ لذلك يقال عنها متاع، ويقال أيضا للأريكة والحمار والفرس متاع، ويقال عنها هي الفراش؛ فهي ليست طرفا له أي دور في الموضوع، هي محل متعة الرجل أما إنسانيتها وكرامتها وحالتها النفسية وصحتها الجنسية كل هذا غير موجود في موضوع الزواج بالذات، لكنه موجود في حالة الزنا حيث بإمكانها أن تقبل أو ترفض، أما في الزواج فالجنس جبري على المرأة حتى لو كانت على التنور أو فوق ظهر قتب؛ لذلك يكون الزنا هو الألذ لأنه قام على اختيار ورغبة؛ لذلك يجوز لنا الاعتداء على طفولتها البريئة بالختان الجائر أو غير الجائر كعقوبة مقدمة ثم نعزلها بالحجاب والنقاب لحفظ عفتها، بينما هي طوال الوقت في حالة تهيج دائم بزوجها الذي يمارس دون إشباع لغريزتها المختونة لبلوغ الأورجازم، ولا تصله إلا بشق أنفاس الزوج حتى الموت.
والمرأة منتقبة أو غير منتقبة عندما تبحث عن إشباع الغريزة لا تخضع في بحثها لما يخضع له الزواج من شروط التكافؤ والمستوى الاقتصادي والتوافق العائلي والعلنية والمهر والحسب والنسب والدين؛ لذلك سترتمي في أحضان القادر على الإشباع لأن الزواج لم يشبع بضعها المختون، والمنتقبة أولى بالقدرة على ذلك لاستتارها، حتى إن يهود زمن البطاركة الأوائل كان لديهم عرف مسنون بعدم كشف وجه الداعرة المنتقبة حتى لا يعرفها أحد سترا لها، وهو ما تجده في قصة بوعز وتامارا عندما كان النقاب زيا خاصا بالعاهرات يعرفن به فكانت المنتقبة تعلن بنقابها عن الرغبة في لقاء جنسي سريع ومؤقت وينتهي دون أن يعرف الذكر من كانت شريكته في الفعل، أما العفيفات فكن هن السافرات. لذلك إن وجدت الشهوة المقموعة بأداة خارجية الفرصة، فستنطلق دون أي شروط بلا رابط ولا ضابط لأن المنتقبة مستورة مطمئنة البال هادئة الجأش؛ لأنها غير محمية وغير مصونة بتربية الضمير الأخلاقي في الطفولة ناهيك عن قمعها بالنقاب.
تعالوا معي ننظر إلى نسائنا المسلمات المهاجرات إلى بلاد الغرب العاري، ستجد أن ما يصون عفة نسائنا هناك ليس الحجاب ولا النقاب، إنما يصونها الوازع الأخلاقي الذي تربى عليه الشارع الأوروبي، هذا الشارع يغص بالفاتنات الرشيقات الحمراوات البضات مليحات القد الرقيقات، قل ما شئت أو تغن، ومع ذلك لا يتعرضن مع ملبسهن الكاشف للاعتداء، فماذا عن الرجل المسلم في شارع الفاتنات الغربي؟ ما باله لا يفعل معهن ما كان يفعله مع بنات وطنه ولا يعتدي عليهن ولا يتجرأ على التحرش بهن ولو لفظا، لأن المجتمع حوله سيتدخل فورا ناهيك عن الردع القانوني المغلظ؛ لذلك هو بدوره يعف عن الفاتنات ولو مكرها، لديهم أمن وسلام اجتماعي رغم أنهم لا يملكون هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! ومن لديهن مثل تلك الهيئة يختطفن الرجال الملاح.
ولأننا أصحاب الأعاجيب، فجأة تصيب العدوى مسلمي المهجر ليرفعوا في أوروبا ذات الشعارات بالحجاب والنقاب «الحجاب والنقاب عفة وطهارة». فإذا كان النقاب يخلق لدى المرأة العفة، وأي امرأة في الدنيا لو سألتها ستقول لك إنها تطلب العفة، فلا يبقى سوى أن يقنع المسلمون مجتمعات مهجرهم بقيمة النقاب وفوائده، كما أقنعونا بسياراتهم وطائراتهم وأزيائهم كالبدلة والكرافتة، لماذا لا يقدم المسلمون لبلاد مهجرهم الأدلة والبراهين المقنعة على عائد هذا الزي الإسلامي وما سيحققه من فوائد منتظرة، وربما تمكنوا من إقناع أهل الغرب كما أقنعونا، أم أنهم شطار ولهاليب معنا وحدنا؟ وربما اقتبس الغربيون النقاب كظاهرة صحية تدل على سلامة المجتمع وأنه مستقر عقليا وأخلاقيا، حتى نصحو يوما على نصر إسلامي وفتح قريب، فنجد نساء اليابان وأمريكا والصين وقد تنقبن، ونكون قد فتحناهم دون غزو وقتال ودمار، وهي كما نعلم شعوب تتميز بالقابلية للتعلم والأخذ بالجديد لكن بشرط الإقناع والبرهان والدليل.
مسلمو المهجر لا هم اندمجوا في ثقافته ولا هم علموهم ثقافتنا، ومع ذلك يصرون هناك على إثبات الزي الإسلامي الموحد، تمييزا طائفيا للإشارة إلى التميز بالإسلام، لأنه ليس لديهم ما يفخرون به من إنجاز أيديهم، فيفخرون بدينهم الذي لم يختاروه وربما لا يعرفونه. ولا يبقى سوى أن ارتداء هذه الأزياء في الغرب هو تحد للأمم المضيفة ولقواعدها، لإثبات تميز ديني إضافة للتميز الطبقي؛ لأنه إذا كان القصد من النقاب والحجاب هو العفة، فمعناه اتهام لكل المجتمع الغربي بالعهر والدعارة، وأن العفة والطهارة ميزة طائفية تخص نساء المسلمات وحدهن. هذا رغم أن المجتمع الأوروبي يعمل بوازعه الداخلي الذي يحترم الآخر وحرياته وعقيدته ولا يقبل أي تمييز بين أعضائه؛ لذلك لا يعتدي الرجل الغربي على المسلمة ليجرح عفتها وطهارتها حتى لو سارت في الطريق العام ملط زلط. حضارة الغرب آمنة بالوازع الأحلاقي الضميري، والأوروبي لن يترك فاتنات قومه ليغازل نساءنا (عافاك الله!) والمعنى أن الزوج المسلم لن يخشى على زوجته أن يلتهمها الرجال الأوروبيون، بل العكس هو الممكن حدوثه، أن تلتهم المسلمة الأوروبي المليح كما حاولت امرأة العزيز؛ لذلك فإن الحجاب والنقاب في أوروبا هو شعار سياسي تمييزي طائفي طبقي بدائي، لا يحقق عفة ولا يصنع طهارة كما يقول الإعلان الترويجي الكاذب والشرير.
هو في أوروبا شعار تمييزي يتعالى على أهل البلاد بفضيلة وهمية، وهو هارب إلى جنة بلادهم من جحيم بلاده. وإذا كنا، بالإحصاءات المعلنة في بلادنا حجم حوادث الشرف، سنجد أن الحجاب أو النقاب لم يخلق عفة في بلادنا، فهل بإمكانه أن يخلقها للأوروبيات؟
وإذا كانت العفة في الغرب لا تقوم على استخدام أدوات خارجية حاجبة أو مانعة، وإنما تقوم على الضمير الأخلاقي، فلماذا تلبس المسلمة الحجاب هناك أو النقاب وتستشهد في سبيله، ما دام الغربي لن يشتهيها ولن يغازلها وستظل محتفظة بعفتها؟ حجابنا في أوروبا عودة إلى العصور الوسطى، إلى زمن التمييز بين الناس على أساس ديني، عندما كان اليهودي يلزم بالزي الأصفر، والقبطي بالصليب الخشبي الثقيل وحلق مقدمة رأسه ولبس خفي نعل بلونين مختلفين، والمسلم يلبس الأبيض ويعاقب الذمي الذي يلبس العمامة البيضاء بالجلد لأنه أراد الارتقاء إلى طبقة العربي المسلم تزييفا، كمن زور بطاقته الشخصية، والحجاب والنقاب من زمن كانت فيه الولاءات دينية والحروب دينية والهويات دينية والحكومات دينية، فكان الدين هو سيد الموقف في العصور المظلمة من تاريخ الإنسانية.
وهذا كله ما تعلمته مصر من الدرس الأوروبي منذ 1919م حتى نهاية الستينيات في القرن الماضي؛ لذلك نعم الشارع المصري بالأمان الأخلاقي دون شعارات بترودولارية، احترم طرفا المجتمع نفسيهما واعترف كل منهما بحقوق الآخر، واحترما المشترك الاجتماعي بينهما كالحريات الشخصية؛ لذلك كانت المصرية المسلمة والمسيحية واليهودية وبنات الخواجات يسرن في مصر بلا حجاب ولا نقاب، آمنات على عفتهن، ولم نر من السافرات فجرا إلا بالنسب الضئيلة المسموح بها في أي مجتمع سليم. ولو قلنا إنهن كن فاجرات لسفورهن فكأننا نطعن في شرف المجتمع كله، لقد أدرك المجتمع حينذاك أن الحجاب والنقاب أو البيشة واليشمك قد أديا دورهما بتعريف المجتمع معنى العفة، وتم المراد من رب العباد، وعاد الرجال واثقين بنسائهم والنساء واثقات برجالهن، وأن كليهما فاضل كريم ليس بحاجة إلى الأداة القامعة التي أدت وظيفتها وانتهى أمرها، فليس من المقبول أن يظل مكسور اليد ملفوفا بالجبيرة بعد شفائه. عرف المجتمع المصري الواثق بنفسه أن نساءه مكتفيات ولسن بحاجة لعفة خارجية، فخلعت أمهاتنا وجداتنا الأداة القامعة تعبيرا عن رأي الرجال فيهن، وكانوا نعم الرجال أفعالا وأقوالا، كانوا رجال النهضة والتنوير، وكن نعم الأمهات والجدات. لقد كانت العفة في بلادنا قبل الصحوة السبعينية مصونة وبألف خير، وعندما بدأ الفرض والتدخل الخارجي تراجع الضمير وأخلى نفسه من المسئولية الأخلاقية برضا وموافقة المجتمع ليسلمها لمشايخ الوهابية.
ثم إنه إذا كان لا بد من استخدام أداة خارجية لصون العفة، فستكون خياطة الفرج هي الأنجح وربما كان حزام العفة هو الأكثر نجاعة؛ لأن النقاب يسمح للمرأة بالرؤية والاشتهاء، ورجال اليوم ليسوا كيوسف الصديق ولن يروا برهان ربهم؛ لذلك يصبح الحل الأمثل هو خزق عيون النساء وإصابتهن بالعمى، وربما يستحسن البدء بإجراء تلك الجراحة الهامة مبكرا في سن الطفولة مع عملية الختان في يوم واحد، أو أن يحتجب الرجال بدورهم تحقيقا للعفة في الطرفين. أو أن نطلب من صديقتنا الصين التي تتفهم مواقفنا وتصنع لنا كل متعلقات وأدوات التعبد من دلع أطفال المسلمين بفوانيس رمضان إلى بوصلة الكعبة والسجادة المئذنة، أن تصنع لنا قفلا إسلاميا بأرقام سرية، وليكن الشعار الجديد هو «قفل العفة ضمان وأمان».
سادتي الفضلاء من تجار الدين السياسي في مصر المحروسة وأي مصر، لو كان النقاب صانعا للعفة ما أنجبت لنا نساء الجاهلية أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وحمزة وعلي وغيرهم من خيرة رجال الدنيا والدين؛ لأن نساء الجاهلية كن سافرات، ولما أنجبت لنا آمنة السافرة محمدا الصادق الأمين بتربيتها الجاهلية، مثل كل هذه الأسماء العظيمة في تاريخنا، وإن نساء ينجبن رجالا كهؤلاء لا شك كن عفيفات رغم الجاهلية، فإذا كان المجتمع الجاهلي قد أنجز عفة ضميرية بدون نقاب، بل كن حاسرات متبرجات، ومع ذلك حفظت عفتهن النطف الأصيلة، وربينهم على القيم الأصيلة، أفلا يكفل لنا الإيمان بالإسلام ذلك؟
سادتنا المشايخ المسيسين، نحن نرى أن تقاليد مجتمعنا المصري وحدها كافية (كما كانت وكما ستظل) لضمان الأمان الاجتماعي والعفة والخلق الرفيع، شرط أن تعود مصر مصرا.
Unknown page