Insan Hayawan Ala
الإنسان والحيوان والآلة: إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية
Genres
هل نتجه نحو عالم من الآلات لا مكان فيه للإنسان؟ لا يعتبر هذا السؤال غريبا عندما نلاحظ السرعة الهائلة التي يتميز بها تعقيد بيئتنا التقنية وتضاعف التفاعلات بين الآلات، وكذا التطورات الأخيرة المتجهة نحو آلات أكثر «استقلالية» (انظر الفصل الأول). وبلا شك يحيط بنا اليوم نظام تقني عالمي يقوم الإنسان بصناعته وصيانته وتعديله، ولكن يعد جزء كبير من عمله اليوم آليا. ولكي نفهم هذه العملية التطورية، فمن المهم أن نذكر أمثلة توضح هذه الاتجاهات التقنية بالرغم من قدمها.
في حوالي عام 1750 ابتكر جاك دي فوكونسن آلة نسج آلية بصورة كاملة. وكانت الآلة تجمع العديد من التقنيات الرئيسة في عصره: مجموعة من الكامات والسقاطة والساعد والمسننات، بالإضافة إلى العديد من الابتكارات الهائلة كالبطاقات المثقوبة التي يمكن نقلها لتحميل «برامج» رسوم. ولكي تعمل هذه الآلة لم تكن تحتاج إلا إلى ذراع تدوير ولا يقوم الناسج إلا بإنتاج الطاقة الميكانيكية. وعلق دي فوكونسن عليها قائلا: «إنها آلة إذا استخدمها حصان أو ثور أو حمار يصنع بها أقمشة أكثر جمالا ودقة من أمهر حرفيي الحرير.»
2
وتعتبر آلة النسج التي صممها دي فوكونسن ابتكارا هائلا في العديد من الأمور إلا أنها لم تلق النجاح الصناعي؛ فلم يتقبل المجتمع استقلاليتها الكبيرة، فاندلعت مظاهرات عديدة ألقى خلالها عمال النسيج الغاضبون الحجارة على دي فوكونسن؛ لأن اختراعه يتسبب في الواقع في تغييرات جمة في تنظيم مهنة النسج، ويحل محل الآلات القائمة بصورة كاملة، ويقلب المهارات اللازمة لأداء العمل رأسا على عقب. فبسبب التعمق في النزعة الآلية، اختزل دي فوكونسن الناسج في مجرد مصدر للطاقة.
وبعد خمسين عاما، لقي جاكار نجاحا تجاريا بسبب آلة أكثر سلاسة في الاستعمال، ويمكن توفيقها بسهولة مع المهن القائمة. وبالمقارنة مع آلة دي فوكونسن، تعد آلة جاكار أكثر تعقيدا وأعلى تكلفة، ولكن تخصص للإنسان مكانا أكبر في إدارة عملية النسج، فيظل هو القائد.
يوضح هذا المثال القوى المختلفة التي تحكم التطور التقني. فثمة اتجاه نحو التكامل الذي يمكننا أن نسميه عملية التحويل الآلي: فكل سلالة تقنية تميل إلى التكامل والاستقلالية، في شكل نظام مغلق لم يعد يحتاج إلى الإنسان في عمله. وفي مثال آلة النسج التي ابتكرها دي فوكونسن، تمت ميكنة عمل الناسج في شكل آلة مستقلة بصورة شبه كاملة إلا فيما يتعلق بالطاقة. ومن الأمثلة الأخيرة التي تبرز هذه الديناميكية نجد التطورات المحرزة التي تتجه نحو آلات قادرة على التعلم (انظر الفصل الثاني) واختيار ما تتعلمه (انظر الفصل الخامس).
وفي حين أن الأنظمة التقنية تميل إلى الاستقلالية والتكامل، يعتمد قبولها الاجتماعي وانتشارها بقوة على نوع واجهة التحكم التي توفرها للإنسان وعلاقات الترابط بينها وبين الأجهزة التقنية القائمة بالفعل، وهو ما يمكننا أن نسميه الاتجاه نحو الاتحاد: فمن أجل أن تنتشر أي سلالة تقنية يتعين عليها أن تضاعف الواجهات مع المحيط التقني والإنساني الذي تنمو بداخله.
وهكذا فإن وجود السلالات التقنية القديمة التي يجب التكيف معها يبطئ من بزوغ سلالات تقنية مبتكرة، وكذلك فإن عوامل القبول الإنسانية المحافظة التي تتسم عامة بالتطور البطيء تخالف الديناميكية التقنية وتعيد توجيهها بصورة مستمرة. وبطريقة ما لا تعتبر عملية الاتحاد إلا عملية تكامل على نطاق أوسع وهو نطاق البيئة التقنية والإنسانية الذي ستظهر فيه السلالة.
وفي حين أن المحيط التقني يتطور باستمرار، لا يتغير الإنسان (إلى حد ما). فيقود إذن الاتجاه نحو الاتحاد إلى ابتكار آلات تقترب أكثر فأكثر من الإنسان وهي عملية تعادل الاتجاه نحو الاستقلالية. ويكشف تطور واجهات الكمبيوتر الشخصي عن هذا الأمر؛ فالكمبيوتر كما ظهر في منتصف القرن العشرين يمكن اعتباره النتيجة النهائية لسلالة تقنية طويلة تضم آلة باسكال الحاسبة وآلات النسج الآلية وآلة باباج؛ فتمثل كل مرحلة خطوة إضافية نحو تصميم آلة أكثر استقلالية. ومع استكمال التطور نحو الاستقلالية في النصف الثاني من القرن ذاته، سيسبب تطور الواجهات تحولا في التحكم في هذه الآلة الجديدة من نوعها مما يجعلها أكثر قربا من الإنسان.
ومن أجل التفاعل مع أجهزة الكمبيوتر الأولى كان يتعين أن يجيد المرء الإلكترونيات، وقد سمح ظهور لغات البرمجة الأولى (لغة الآلة وفورتران والجول وكوبول وسيمولا ... إلخ) منذ الخمسينيات باستخدام المهارة النحوية والرمزية للتفاعل مع الآلة. وفي الثمانينيات سمحت إضافة الواجهة الرسومية وأدوات جديدة للتفاعل مثل الفأرة واستعارات جديدة مثل المكتب، بالتطور نحو تفاعل يتخلى عن المجال الرمزي للاعتماد على مهارة في الاستخدام والذاكرة البصرية والحركة. ومنذ حوالي عشرة أعوام، استكملت واجهات حركية جديدة هذا الاتجاه نحو واجهات أكثر قربا من الإنسان.
Unknown page