وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
ووافق القول بنجاة الإنسان بعقله ما ورد في آيات القرآن الكريم من الأمر بالتفكير والتدبر، فقال به كثيرون من حكماء الإسلام، ثم فرق المتصوفة والمتنسكون بين ضربين من المعرفة؛ أحدهما يستقيم بصاحبه على سنن الهداية، والآخر يلتوي به دون قصد السبيل، وكذلك قال ابن مسكويه بعد كلامه المتقدم في فصل آخر:
إن هذا الشوق ربما ساق الإنسان على منهج قويم وقصد صحيح، حتى ينتهي إلى غاية كماله، وهي سعادته التامة، وقلما يتفق ذلك. وربما اعوج به عن السمت والسنن، وذلك لأسباب كثيرة يطول ذكرها، ولا حاجة بك إلى علمها الآن وأنت في تهذيب خلقك. فكما أن الطبيعة المدبرة للأجسام ربما شوقت إلى ما ليس بتمام للجسم الطبيعي؛ لعلل تحدث به، وآفات تطرأ عليه، بمنزلة من يشتاق إلى أكل الطين وما جرى مجراه، مما لا يكمل طبيعة الجسد، بل يهدمه ويفسده.
كذلك أيضا النفس الناطقة ربما اشتاقت إلى النظر والتمييز الذي لا يكملها ولا يشوقها نحو سعادتها، بل يحركها إلى الأشياء التي تعوقها وتقصر بها عن كمالها، فحينئذ يحتاج إلى علاج نفساني روحاني كما احتاج في الحالة الأولى إلى طب طبيعي جسماني، ولذلك تكثر حاجات الناس إلى المقومين والمنفعين، وإلى المؤدبين والمسددين؛ فإن وجود تلك الطباع الفائقة التي تنساق بذاتها من غير توقف إلى السعادة عسرة الوجود، لا توجد إلا في الأزمنة الطوال والمدد البعيدة.
وهذا الأدب الحق الذي يؤدينا إلى غايتنا يجب أن نلحظ فيه المبدأ الذي يجري مجرى الغاية، حتى إذا لحظت الغاية تدرج منها إلى الأمور الطبيعية على طريق التحليل، ثم يبتدئ من أسفل على طريق التركيب. وينبغي أن يعلم أن كل إنسان معد نحو فضيلة ما، فهو إليها أقرب، وبالوصول إليها أحرى، ولذلك تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر، إلا من اتفق له نفس صافية وطبيعة فائقة، فينتمي إلى غايات الأمور ، وإلى غاية غاياتها، وأعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها.
ويرى المتصوفة أن المعرفة معرفتان كما يرى الحكماء من أمثال ابن مسكويه، ولكنهم يقسمونها إلى معرفة لدنية ومعرفة كسبية، ويقصدون بالمعرفة اللدنية ما يدركه الإنسان بالإلهام والاستشراق، ويهتدي إليه برياضة النفس وقمع الجسد، وهي معرفة غير معرفة التعليم والدراسة، على حد قول سعيد بن أبي الخير فيما روى من كلامه عن ابن سينا: «إن ما يرى على ضوء المصباح وصل إليه هذا الأعمى بعكازه.»
ويتممه قول ابن سينا عن الحدس الصادق أنه حالة يقابل بها عقل الإنسان مصدر العقول جميعا، فيدرك بالإلهام والتوفيق ما ليس يدرك ابتداء بالدرس والبرهان. •••
وفي غير هذا الفصل بيان لمذهب حجة الإسلام الإمام الغزالي في حكمة الموجودات، وحكمة خلق الإنسان بين خلائق السماوات والأرضين، وهو أمثل ما يقال عن سلسلة الخلق العظمى بتفسير أهل السنة، على هدى القرآن الكريم.
الإنسان في علم الحيوان وفي علوم الأجناس البشرية
Unknown page