ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم نبذوا آراءهم، وأخذوا طريقا جديدة، فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية عن الشعور مصدرا لهذا النظام المتقن، والهيئة البديعة، والأشكال العجيبة، والصور الأنيقة، وغير ذلك مما خفي سره وظهر أثره، ولكن العلة في نظام الكون علويه وسفليه، والموجب لاختلاف الصور، والمقدر لأشكالها وأطوارها وما يلزم لبقائها، تتركب من ثلاثة أشياء: متيير، وفورس، وانتليجانس؛ أي مادة وقوة وإدراك.
وظنوا أن المادة بما لها من القوة، وما يلامسها من الإدراك تجلت وتنجلي بهذه الأشكال والهيئات، وعندما تظهر بصورة الأجساد الحية، نباتية كانت أو حيوانية، تراعي بما يلابسها من الشعور، وما يلزم لبقاء الشخص وحفظ النوع، فتنشئ لها من الأعضاء والآلات ما يفي بأداء الوظائف الشخصية والنوعية، مع الالتفات إلى الأزمنة والأمكنة والفصول السنوية.
هذا أنفس ما وجدوا من حلية لمذهبهم العاطل، بعدما دخلوا ألف جحر وخرجوا من ألف نفق، وما هو أقرب إلى العقل من سائر أوهامهم، ولا هو بالمنطبق على سائر أصولهم؛ فإنهم يرون كسائر المتأخرين أن الأجسام مركبة من الأجزاء الديمقراطيسية - نسبة إلى ديمقراطيس - ولا ينطبق رأيهم الجديد في هذا النظام الكوني على رأيهم في تركيب الأجسام، وذلك لأنه يلزم عن القول بشعور المادة أن يكون لكل جزء ديمقراطيسي شعور خاص، كما يلزم أن تكون له قوة خاصة ينفصل بها عن سائر الأجزاء؛ إذ لا يمكن قيام العرض الواحد وحدة شخصية بمحلين، فلا يقوم علم واحد بجزأين ولا بأجزاء.
وبعد ذلك، فإني سائلهم: كيف اطلع كل جزء من أجزاء المادة مع انفصالها على مقاصد سائر الأجزاء، وبأية آلة أفهم كل منها باقيها بما ينويه من مطلبه؟ وأي برلمان أو أي سنات - مجلس شيوخ - عقدت للتشاور في إبداع هذه المكونات العالية التركيب، البديعة التأليف؟ وأنى لهذه الأجزاء أن تعلم وهي في بيضة العصفور ضرورة ظهورها في هيئة طير يأكل الحبوب، فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته إليهما؟
وبعد كتابة «الرد على الدهريين» بنحو ثلاثين سنة، ظهر كتاب نقد «فلسفة دارون» لمؤلفه الشيخ «محمد رضا آل العلامة التقي الأصفهاني»، وهو باحث فاضل من علماء الشيعة بكربلاء المعلى، تحرى النظر في مجموعة وافية من مراجع مذهب النشوء العربية والإفرنجية التي وصلت إلى الشرق الإسلامي بعد كتابة «الرد على الدهريين»، ولم يقنع بما اطلع عليه من هذه المراجع، بل أرسل في طلب غيرها من المراجع المستحدثة، ولكنه ألف كتابه ولم ينتظر وصولها إليه لولا «الباعث الديني»، كما جاء في مقدمة الكتاب.
حيث يقول: إن دارون وسائر رؤساء هذه الفلسفة ألفوا كتبا غير موجودة عندنا، «وكان الحزم تأخير تصنيف هذا الكتاب إلى زمن وصولها لولا الباعث الديني، وظننا أنه يوجب علينا المسارعة، ولا يبعد أن يكون قد منعنا صغرى دليل قد فزع هؤلاء من إثباته، أو كبرى حجة مذكور في كتبهم برهانا، وأنا أقترح عليهم أن يخابرونا بما يجدونه منه ومن أمثاله لننظر فيه، ولهم علينا أن نستعمل الإنصاف لا المكابرة.»
ولم يقصد المؤلف بالباعث الديني أن يقصر ردوده على مناقشة الآراء التي تخالف الديانة الإسلامية دون سائر الديانات، ولكنه أراد أن ينقض أدلة الإلحاد التي تعارض الإيمان بالله وبالعقائد الإلهية على إجمالها، وقد قال في كلمته الخاصة بالمؤمنين: «ليعلم أن كتابي هذا موضوع للدفاع عن الدين المطلق في قبال اللادين المحض، لا للانتصار لدين على دين؛ ولهذا تراني أدفع ما استطعت عن أديان لا أنتحلها، ومذاهب لا أقول بها؛ لأن أحد هؤلاء لا يثلب دينا إلا وقصده ثلب الأديان عامة، ولا يزري على شريعة إلا ليسري إزراؤه إلى الشرائع قاطبة.»
وأنصف المؤلف مذهب النشوء فلم يحسبه من مذاهب الإلحاد والتعطيل؛ لأن القول بالنشوء لا يقتضي إنكار الخالق، وإنما يتسرب إليه الإلحاد من تفسيرات الماديين لمقدماته على الوجه الذي يوافق نتائجهم المقررة عندهم قبل ظهوره، فيقول المؤلف عن فلسفة النشوء والارتقاء: إنها «ليست مما ينافي الدين؛ إذ الذي يجب علينا اعتقاده هو أن جميع الموجودات بأراضيها وسماواتها، وما فيها من صنوف المخلوقات من نباتاتها وحيواناتها، والبشر على صنوفها واختلاف لغاتها، صنع إله واحد قادر حكيم قد وسع كل شيء علما، وأتقنه صنعا، خلق جميع الأصناف من جميع الأنواع عن قصد واختيار.
وهذا أمر متفق عليه في جميع الأديان، وأما كيفية الخلق، وأن هذه الأنواع كلها خلقت خلقا مستقلا، ووجدت من كتم العدم ابتداء، وأنها لم تتغير عما وجدت عليه في أوائل الخلق؛ فهذا أمر لم يرد فيه نص صريح من الكتاب، ولا متواتر من السنة، وسواء كانت آباء الجمل جمالا أو كانت ضفادع تنق في الماء، والجد الأعلى للفيل فيلا أو «سنونوا» يطير في الهواء؛ فإن أدلة الصنع عليهما في الحالين ظاهرة، وفيها على وجود الصانع الحكيم آيات باهرة؛ ففرصة الملاحدة بهذه الآراء وجعلها أساسا للإلحاد من أغرب الأشياء.»
ثم يقول المؤلف: إن هذه الآراء «ليس فيها إلا بيان ترتيب المخلوقات وكيفية الصنع فيها، ومتى كان أهل الدين ينكرون ذلك، ويدعون أن الله تعالى خلق جميع الأشياء في وقت واحد خلقا مستقلا عن الآخر؟ وهم يرون الله تعالى بلطيف حكمته، وبديع صنعته يخلق الثمر من الشجر، والشجر من النواة، ولا يجعل العنب حلوا إلا بعدما يجعله حامضا، ولا يجعله حامضا إلا بعدما يجعله مرا.»
Unknown page