قديما كان الحكماء يجعلون شعارهم في نصيحة الإنسان: «اعرف نفسك!» وإنها لنصيحة قد ترادف سؤالهم: من أنت؟ أو سؤالهم: ما اسمك؟ غير أن الإنسان إذا أجابه فإنما يجيبه باسم «باطني» يعرفه بملامح وجدانه، وقسمات ضميره، ولا يقف عند تعريفه بالاسم الذي يختار اعتسافا من بضعة حروف.
وهو على أية حال سؤال إلى «شخص» بعد شخص، قد يسمعه عشرون في الحجرة الواحدة ويجيبون عليه عشرين جوابا متفرقات.
وقديما كانوا يزعمون أن أبا الهول كان يلقي سؤاله، فيهلك من لم يعرف جوابه. وكان سؤالا عن الحيوان الذي يمشي على أربع في الصباح، وعلى اثنتين عند الظهيرة، وعلى ثلاث عند المساء، فكان سؤالهم لغزا من ألغاز الأقدمين عن الإنسان في أطوار عمره، بين الطفل الذي يحبو على أربع، والفتى الذي يعتدل على قدمين، والشيخ الذي يتحامل على عصاه. وهو لغز شبيه بطفولة الإنسان كله؛ لا تبتعد المسافة بين جهله وعلمه، ولا بين الهلاك فيه والنجاة.
إلا أن القرن العشرين جمع الأسئلة، فلم يدع سؤالا عن نسبة من نسب الإنسان لم يطلب جوابه، على نذير بالهلاك لمن جهل الجواب، وقد يكون هلاكا للجسد والروح.
ما مكان الإنسان من الكون كله؟
ما مكانه من هذه السيارة الأرضية بين خلائقها الأحياء؟
ما مكانه بين أبناء نوعه البشري؟ وما مكانه بين كل جماعة من هذا النوع الواحد، أو هذا النوع الذي يتألف من جملة أنواع يضمها عنوان «الإنسان»؟
وهي أسئلة لا جواب لها في غير «عقيدة دينية» تجمع للإنسان صفوة عرفانه بدنياه، وصفوة إيمانه بغيبها المجهول، تجمع له زبدة الثقة بعقله، وزبدة الثقة بالحياة؛ حياته وحياة سائر الأحياء والأكوان.
إن القرن العشرين كان حقيقا أن يسمى بعصر «الأيديولوجية»، أو عصر الحياة «على مبدأ وعقيدة»؛ لأنه كلما ألقى على الإنسان سؤالا من أسئلته تلك لم يعفه من جوابه، ولم يسلمه إلى جزاء أهون من جزاء الحيرة عند السكوت عليه؛ فإن يكن سكوتا عن الأجوبة جميعا؛ فهو الهلاك المحدق بالأبدان والعقول.
وليس أكثر من «المبادئ والعقائد» التي نسمع عنها في هذا القرن ويسمونها بالمذاهب و«الأيديولوجيات».
Unknown page