جواب آخر: وهو أن هذا الحديث قد روي من طرق عدة، وأضيف إليه الصوت المشبه بجر السلسلة إلى الخلق، لا إلى كلام الحق، فمن ذلك ما روى النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا سجدا، وأول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام؛ فتكلم الله من وحيه بما أراد، فينتهي به جبريل عليه السلام على الملائكة، كلما مر بسماء سأل أهلها ماذا قال ربنا ؟ فيقول جبريل الحق، وهو العلي الكبير فثبت أن الصوت المشبه بالسلسلة صوت رجفة السموات، لأنهم سمعوا صوت رجفة السموات لا كلام الله تعالى، ولهذا سألوا جبريل عليه السلام ماذا قال ربنا، فدل على أنهم لم يسمعوا كلامه، وإنما سمعوا صوت رجفة السموات، التي شبهت بجر السلسلة، لأنهم لو سمعوا كما سمع جبريل لفهموا كما فهم جبريل. وروى أبو هريرة رضي الله عنه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان فأضاف الرسول عليه السلام هذا الصوت المشبه إلى صوت أجنحة الملائكة، لا إلى كلام الله تعالى وحديث أبي هريرة هذا صحيح. أخرجه البخاري، وحديث النواس أخرجه مسلم في كتابه، وروى أبو الضحى مسروق، عن عبد الله أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان وفي رواية: سمع أهل السماء للسماء صلصلة وليس في شيء من هذه الروايات إذا تكلم الله سمعوا من الله صلصلة، وإنما سمعوا من السماء إذا أحدث الله فيها رجفة، وجعل ذلك علامة لأهل السموات. يعلمون بها أن الله تعالى تكلم بالأمر، وأن المخصوص بسماع كلامه جبريل عليه السلام، ولهذا سألوه ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول: قال الحق. فيقولون: قال الحق. فيصفون الله تعالى بقول الحق، لا بالصلصلة والصوت، فصار هذا الحديث حجة عليهم لا لهم.
جواب آخر: وهو أنه قد روي من الأخبار والآثار ما لا يحصى عددا، أن الصوت مخلوق، وأنه صفة القارئ لا صفة الباري، فمن ذلك ما روى ابن جريج عن الزهري أنه قرأ بين يديه " يزيد في الخلق ما يشاء " فقال هو الصوت الحسن. فقال الأوزاعي رحمه الله أنه قال: ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل، قيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات تسبيحهم وصلاتهم.
وقال أبو العالية: قال موسى صلى الله عليه وسلم لقومه: قدسوا بأصوات حسنة، فإنه أسمع له، فأضاف الصوت إلى المقدسين لا إلى المقدس. وقال مالك بن دينار في قوله تعالى: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال: يقيم الله داود عليه السلام عند ساق العرش، فيقول يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم، فيقول كيف أمجدك به وقد سلبتنيه في دار الدنيا ؟ قال: فيقول جل وعز: إني أرده عليك. قال فيرده عليه، فيزداد صوته حسنا، فيأخذ في التمجيد، فيستفرغ داود نعيم الجنان؛ يعني يشتغل أهل الجنة بحسن صوته عن نعيمهم.
فالصوت الحسن المردود المسلوب الرخيم صفة داود عليه السلام التي يمجد بها ويقدس بها، والممجد المقدس هو الله تعالى الخالق لداود ولصوته ولسائر الأصوات.
Page 51