Inqilab Cuthmani

Jurji Zaydan d. 1331 AH
71

Inqilab Cuthmani

الانقلاب العثماني

Genres

فنهض السلطان غاضبا وقال: «الجنود؟! لقد أنفقت مالي وراحتي في سبيل إرضائهم وهم يتذمرون! أعطوهم رواتبهم. من أين آتي بالمال؟ إن إيرادات الحكومة في أيديكم، وأنا لم أستول على راتبي منذ أشهر، وإذا احتجت إلى المال فذلك لأنفقه في سبيل مصلحة الدولة، وكثيرا ما أطلبه فلا أجد منه شيئا! لا، لا، هذا شيء لا يحسن السكوت عليه بعد الآن. وقد طلبت الآن صرف مبلغ زهيد لمصلحة الدولة، فادفعوه لحامل أمري حالا!»

ورأى السلطان أنه بالغ في التعنيف بغير حق، فخفض صوته وأظهر التلطف وقال: «ومع ذلك لا بد من اتخاذ التدابير لزيادة الإيراد، وأنا أكلفك أن تضع لائحة في هذا الشأن. لا ينبغي لنا أن نجعل للأجانب سبيلا إلى انتقاد أعمالنا.»

وكان الصدر مخلصا في خدمة الدولة، لكنه لم يؤت من الجرأة ما يكفي للتصريح بفكره، ولو أوتيها ما عادت بفائدة! فلما رأى غضب السلطان نهض ووقف مصغيا لكلام السلطان، حتى إذا فرغ منه أشار مطيعا وانصرف وهو يقول في سره: «لا يرجى إصلاح هذه الدولة وهذا الرجل سلطانها!»

وما خلا عبد الحميد إلى نفسه بعد انصراف الصدر حتى نهض وأخذ يتمشى في الحجرة ويتمتم قائلا: «تطلبون المال مني؟ لكن إذا أعطيتكم ما عندي فكيف أدافع عن حياتي؟ كلكم تحتفظون بالمال لأنفسكم، ألا يحق لي أن أفعل مثلكم؟»

ثم مشى مستطرقا من غرفة إلى أخرى وهو يتلفت كأنه يحاذر أن يتبعه أحد، حتى أتى غرفة صغيرة مهملة لا يدخلها أحد وضغط على زر وراء بابها، فانفتح في الحائط المقابل باب دخل منه في دهليز إلى حجرة فيها خزانة من الحديد، فأخرج من جيبه مفتاحا فتحها به، وإذا هناك أكداس من المال والذهب والجواهر، فلما وقع بصره عليها أشرق وجهه وانبسطت أسرته، وجعل يقلب ما هنالك من الأوراق المالية الكثيرة ويقول: «أتريدون أن أعطيكم هذه الأموال التي هي عدتي في محاربتكم ولولاها لم تأتوا إلي صاغرين؟ كيف أعطيكم إياها؟! وبماذا أغري بعضكم ببعض حتى لا تجتمعوا علي؟ لولا هذا المال لكنتم أنتم أصحاب السلطة، فأنتم تخادعونني طمعا في المال، وأنا أخادعكم ولا أعطيكم إياه، إنه سلاحي وبه حياتي!»

قال ذلك وعاد فأغلق الخزانة وباب الحجرة وهو يقول: «ليس هذا كل مالي، وهل جننت لأضع كل ثروتي في مكان واحد وأنا محاط باللصوص والجواسيس؟»

ومشى حتى أتى غرفة النجارة ففتح درجا في مكان لا يخطر لأحد وجود المال فيه، وأخرج منه ظرفا فيه مئات من الأوراق المالية ربما زادت قيمتها على نصف مليون جنيه، وجعل يقلبها ويقول: «هذا من مالي، ومثله كثير في هذه الخبايا.» •••

عاد السلطان عبد الحميد إلى قاعة الاستقبال ورجع إلى مطالعة أوراق رامز، فرأى بينها كتبا من شيرين فيها مداعبة ومشاكاة. وبينما هو يقرؤها سبح فكره فجأة ولاحت أمامه صورة القادين ج فأجفل وتحولت هواجسه إلى دار الحريم، فأراد أن يشغل نفسه بقراءة جريدة فرنسية فيها مقالة لرامز، وأخذ يحاول أن يتفهم فحواها لكن صورة القادين لم تبرح ذهنه، فرمى الجريدة على المنضدة واسترخى في مجلسه على المقعد وتنهد تنهدا طويلا ثم قال لنفسه: «ماذا جرى لتلك المرأة؟ هل تحقق حملها؟ ويلاه! بماذا ينبغي أن أشتغل، أبالخوارق المارقين أم بالنساء في دار الحريم، أم بمطالعة التقارير من الجواسيس وعلى الجواسيس؟!»

ثم مد يده إلى صندوق السيكار وتناول سيكارا وأشعله وهو ينظر من خلال الدخان إلى الساعة التي أمامه، ثم نهض متجلدا وقال: «ولكن هذا العمل لا يصعب على همة السلطان عبد الحميد! لم ير عرش آل عثمان سلطانا عاملا مثلي، إني قابض على مملكتي ودولتي وقصري بيد من حديد!» وصفق فجاء الحاجب فصاح به: «ادع نادر أغا!» ثم مشى في الدهليز بين خزائن التقارير السرية نحو دار الحريم وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة. وإذا بنادر أغا قادم عليه من الباب السري المؤدي من دار الحريم إلى القصر فحيا ووقف، ولو كان أبيض اللون لظهرت دلائل البغتة في امتقاع لونه، ولكنها ظهرت في عينيه رغم ما كان يحاوله من التستر. وأدرك عبد الحميد ذلك فقال وهو يتحول إلى حجرة النجارة ليلهو بالحفر: «ماذا جرى؟ هل أرسلتموها؟» يريد هل قتلوا القادين ج طبقا لمشورته، فقال نادر أغا: «خيرا أفندم»، فحملق السلطان فيه وقال: «ماذا؟ ألم ترسلوها؟!» فقال: «لم نتحقق بعد أنها حامل ...»

فقطع عبد الحميد كلامه وقال: «إن الشك وحده كاف لتنفيذ أوامري، ولولا ما تعلم من منزلتك عندي لكنت ...» وسكت والتهديد ظاهر في نظراته وحركاته.

Unknown page