فقال: «نعم أفندم، هو آت حسب الأمر ومعه بريد الصباح.»
فلما سمع لفظ البريد تذكر التقرير الذي كان معه فتفقده فإذا هو على مائدة هناك. وبعد أن فرغ من اللبس توجه إلى غرفة المائدة، وهي قاعة واسعة في أرضها بساط واحد فيه رسوم جميلة تشبه رسوما مثلها في السقف بألوانها وأشكالها، وفوق البساط مائدة كبيرة تسع حولها عشرين رجلا ونيفا، وفي صدر الغرفة موقد التدفئة من «البورسلين» الأبيض المذهب، عليه حرف
H
مرسوما بالذهب، وتجاه الموقد ساعة كبيرة على نضد متقن الصنعة. ولا تخلو غرفة من غرف ذلك القصر من ساعة وترمومتر وبارومتر، لأن عبد الحميد كان شديد الولع بهذه المقاييس.
وإلى كل من الجانبين خزانة من الخشب الثمين إذا فتحت ظهر أنها بيانو من أعلى طراز، وهي هدية من إمبراطور الألمان.
دخل عبد الحميد غرفة المائدة والتقرير في يده فوضعه على طرف المائدة، وكان الطعام قد أعد على الطرف الآخر منها، وهو بسيط مؤلف من اللبن والبيض وبعض المربات والفاكهة. ونظر إلى الساعة فرأى وقت مجيء رئيس الجواسيس لم يحن بعد، فقام إلى غرفة البيانو حيث بادر نادر أغا إلى فتحها، لعلمه أن سيده يحب العزف على تلك الآلة أحيانا ولا سيما إذا كان قلقا.
فجلس عبد الحميد إلى البيانو والسيكار في يده فوضعه على منفضة بجانبه، وأخذ يوقع لحنا تعود الارتياح إليه، ونادر أغا واقف ينتظر أمره. ثم شعر عبد الحميد بخطوات في الردهة الفاصلة بين تلك الغرفة وباب القصر فأمسك عن العزف والتفت، فأسرع نادر أغا إلى الباب ثم عاد وقال: «إن السر خفية جاء ومعه حقيبة البريد وضعها على النضد في الردهة.»
ثم دخل السر خفية، وهو كهل قصر القامة، فألقى التحية وانحنى إلى الأرض ووقف بالباب، فتبسم عبد الحميد وأشار إليه أن يدخل، فدخل باحترام وهو يتلملم ويتأدب كالعادة المتبعة.
فجلس عبد الحميد إلى المائدة وأشار إليه أن يجلس تجاهه، وأمر نادر أغا بالانصراف وأن يقف في مكانه خادم للمائدة أصم أبكم معين للخدمة في الجلسات السرية التي لا يريد السلطان أن يسمع الخدم شيئا مما يدور فيها، فأتى ذلك الخادم لتقديم ما يلزم للمائدة، والسلطان يخاطبه بما يحتاج إليه بالإشارة.
أما السر خفية فقعد وهو يعلم أن دعوته إلى المائدة شرف عظيم قل من يناله من الأخصاء، وشعر بأن عبد الحميد لم يكرمه إلى هذا الحد إلا لأمر مهم، فلم يتناول من الطعام إلا قليلا وذلك من قبيل التأدب في مثل تلك الحال، وبالغ السلطان في إكرامه فقدم له سيكارا فتناوله ولم يدخنه.
Unknown page