فعلم أن ذلك الجواب من دروس تلك القادين أيضا فلم يعبأ به، ولكنه أشار إلى بستاني أن يأتي بقفص الببغاء بين يديه، فجاء به ووضعه على مقعد خارج الكشك، فخرج الغلام وطفق يكلم الببغاء وهذا يقلد كلامه. وشغل عبد الحميد باختلاس النظر إلى ما يحيط به، فرأى نادر أغا - رئيس الخصيان وصاحب النفوذ الأكبر في تلك القصور - خارجا من مكان لم يكن يتوقع أن يراه فيه، فلما وقع نظره عليه صاح به بنغمة الآمر المستبد: «نادر أغا! نادر أغا!» فأسرع نادر حتى وقف بين يديه وسلم بالاحترام اللازم والدعاء، فقال له: «من أين أتيت الآن؟»
قال: «من حوالي قصر مولاي.»
قال: «وما الذي كنت تفعله؟»
قال: «كنت ساهرا على راحة مولاي لأني شعرت بما أصابه من الأرق، وليتني أستطيع نفعه بشيء!»
فتحقق عبد الحميد صدق قوله، وكان حسن الظن به ويرى سواد جلده بياضا، وكثيرا ما جعله عينا على حرسه الخاص الموكل بحراسته لأنه كان سيئ الظن بهم. فانبسطت نفس عبد الحميد وأثنى عليه ثم قال: «ادع سر خفية (رئيس الجواسيس ) ليقابلني في القصر ويتناول الفطور معي.» فألقى تحية الاحترام وانصرف.
وهم عبد الحميد بالنهوض وإذا به يسمع صوتا مثل صوته تماما ينادي: «نادر أغا، نادر أغا»، وفيه نغمة الاستبداد مثله، فأجفل وما لبث أن رأى نادر أغا عائدا يكاد يتعثر بساقيه لطولهما، فقال عبد الحميد: «من دعاك؟!»
قال: «ألم يدعني مولاي؟ إني سمعت أمره بأذني.»
وكان نور الدين أفندي واقفا بإزاء قفص الببغاء وقد أغرب في الضحك، فقال له أبوه: «ما يضحكك؟ من دعا نادر أغا؟»
فأشار الغلام إلى الببغاء متوقعا أن يبدو سرور الإعجاب في سحنة أبيه لإتقان الببغاء التقليد، ولكنه رأى عكس ذلك، فبان الغضب في عيني عبد الحميد وصاح: «أخرجوا هذا الطير من قصري أو اقتلوه، فإني لا أطيق أن أسمع صوتا يأمر وينهى غير صوتي.» قال ذلك بلحن الحنق والاستبداد حتى سمعه كل من في الحديقة من الحاشية والنساء والسياس، وتولاهم الرعب من شؤم ذلك النهار الذي ظهر غضب السلطان في أوله، وبادر البستاني فأخذ القفص ومضى به، وتبعه الأمير أحمد نور الدين يتوسل إليه أن يستبقي ذلك الطير، ولم يعد يجرؤ أن يخاطب أباه في شأنه.
ومشى عبد الحميد إلى قصره، ونظر إلى القهوجي نظرة فهم منها أنه يريد التدخين فقدم له سيكارا وبادر إلى إشعاله، فسار وهو يدخن في دهليز يستطرق إلى باب القصر الرئيسي حيث يقف الحرس الألباني بالأسلحة، فمر بين صفوفهم وهم يحيونه التحية العسكرية، وهو يرمقهم خلسة ويلاحظ حركاتهم ويده في جيبه تحت العباءة على المسدس لئلا يكون هناك من يتربص له لقتله فيسبقه هو إلى قتله، وكان من أمهر الناس في الصيد بالمسدس. حتى وصل إلى الباب، وكان نادر أغا واقفا في انتظاره هناك، ففتح له الباب فدخل يطلب غرفة اللبس، ومر بطريقه إليها في ممر قد كسيت جدرانه بالخزائن المملوءة بالتقارير السرية، وفيها ألوف منها جمعت بتوالي السنين. فلما وصل إلى غرفة اللبس ساعده نادر أغا في تبديل ثيابه فلبس «الاستمبولينا» السوداء كالعادة، وسأل نادر أغا: «هل دعوت السر خفية؟»
Unknown page