فلم تصبر شيرين على سماع ذلك الطعن في رامز، فخرجت عن تعقلها وصاحت فيه: «اخسأ يا نذل! أبمثل هذا الكلام تذكر رامزا؟! عار عليك، ولكنك لا تعرف العار لأنك لا تشعر ولا ضمير لك.»
وكان صائب يعلم أن ما في الورقة صحيح، وأن رامزا لا بد أن يأتي إذا عرف بوجودها، وأن الأحرار فائزون. وتحقق أنها لم تعد تقبل الزفاف إليه، فعزم على الانتقام منها بالقتل قبل أن يأتي أحد لنجدتها فأخرج مسدسه وشهره عليها، وقال: «ألا ترجعين عن غيك؟» ولما رآه طهماز يشهر المسدس حسبه يهددها فأمسك بيد ابنته ليوبخها، فانتثرت منه وقد أصبحت كاللبؤة الهائجة، وهمت أن تستل خنجرها وتطعن صائبا، فرأت باب الغرفة قد فتح بقوة وسمعت طلقا ناريا وقائلا يقول: «هذا عن جمعية الاتحاد والترقي»، ثم سمعت طلقا آخر وقائلا يقول: «وهذا عن رامز.» وصاح صائب صيحة الألم وسقط على الأرض يتخبط بدمه وسقط مسدسه من يده.
فوقع الرعب في قلب طهماز، ونظر نحو الباب فلم يجد أحدا لأن الضارب أطلق مسدسه ونجا، فتناول الورقة التي كانت في يد صائب وقرأها، فلما علم فحواها خاف لكنه أخذ يصيح: «ويلاه! من ارتكب هذه الجريمة في بيتي؟!» وهرع إلى الدار فوجد القاضي ومعه شاهد واحد وهما في خوف، فقال له طهماز: «ما هذا؟! من فعل ذلك؟!»
فقال القاضي: «لا أدرى يا سيدي، ولعل الشاهد الآخر فعله. والظاهر أنه من أعضاء تلك الجمعية السرية وقد تنكر بثياب شاهد ووقف بباب المحكمة الشرعية، فلما طلبت شاهدين أتوني بهذين، وهو واحد منهما.»
وتقاطر الجيران على صوت الرصاص حتى امتلأ البيت بالناس.
أما شيرين فلما رأت صائبا مجندلا سرها أنه لم يقتل بيدها، لأنها تنزه نفسها أن تكون قاتلة.
فغطت وجهها بكفيها وخرجت إلى غرفة أخرى وأقفلت الباب عليها، وتركت أهل الدار يهتمون بتلك الحادثة. وبعث طهماز رسولا من قبله إلى مدير البوليس ليبعث أحدا لضبط الواقعة، وأوصى الرسول أن ينبه المدير إلى أن المقتول صائب باشا، ظنا منه أنهم يهتمون ويسرعون للبحث عن الجاني من أجله. وصائب إلى تلك الساعة ذو مقام رفيع لدى الحكومة، طوعا للأوامر الواردة بشأنه من القصر. ومكث الناس في بيت طهماز ينتظرون مجيء البوليس والجثة مطروحة في الغرفة وقد أغلقوا عليها الباب، فطال انتظارهم.
فلما استبطئوا الرسول أرسلوا سواه وسواه ولم يعد أحد، وفيما هم في ذلك سمعوا ضوضاء في الشارع والناس يصيحون: «الحرية والمساواة والإخاء. الدستور، الدستور. ليحي الجيش! لتحي الأمة!» فأطلوا فرأوا جماعات الناس يحملون الأعلام ويطوفون الأسواق، يهنئ بعضهم بعضا ويتعانقون ويتصافحون على اختلاف مذاهبهم وعناصرهم وهم ضاحكون فرحون، وقد قام الخطباء والشعراء يخطبون وينشدون فرحا بالدستور.
ولم يكن طهماز ولا جيرانه أو غيرهم ممن في تلك الدار يعلمون شيئا من ذلك، ثم علموا أن السلطان أجاب طلب الأحرار بإعلان الدستور في ذلك اليوم، وأن الجند ورجال الحكومة مشغولون بالاحتفال والفرح، وأن مدير البوليس وغيره من صنائع القصر هربوا واختبئوا، وصارت السيادة إلى أعضاء جمعية الاتحاد والترقي. فرأى طهماز أن التستر أولى به، وأصبح خائفا على نفسه، فأشار إلى القاضي أن يدبر غسل صائب ودفنه بعد أن يخرجه من منزله، ودفع إليه المال اللازم. وأصبح همه مرضاة ابنته لعلمه أنها من الأحرار، وأن رامزا لا يزال حيا وهو آت، فعزم على استرضائها.
وكانت شيرين قد أغلقت الغرفة عليها لتنسى منظر صائب الأخير، وأخذت تفكر فيما قرأته عن رامز وقرب مجيئه، ثم سمعت الضوضاء في الدار فلم تعبأ بها لأنها كانت تتوقع شيئا من ذلك ريثما تضبط الواقعة، فتحولت نحو نافذة تطل على بستان فرأت خادمها خريستو يتشوف إليها، فأشارت إليه أن يأتي فهرول نحوها وهو يرقص من الفرح، فقالت: «أين رامز؟»
Unknown page