فقال سعيد: «لا حاجة بك إلى السفر، امكثي هنا حتى يأتي رامز لتخبريه عن شيرين، وأنا أذهب إلى سلانيك بدلا عنك.»
فرضيت لعلمها أن سعيدا واسع الحيلة، فقد يقوى على زوجها فيغير عزمه ويفض ذلك المشكل. فأخذ سعيد يتأهب للسفر، وفي صباح الغد أتاه رسول من كاتب الجمعية يدعوه إلى جلسة ستعقد في مساء ذلك اليوم لأمر مهم، فلم يسعه إلا الانتظار. ثم عقدت الجلسة وحضرها رجل يعرفه من خير الأحرار هو جمال أفندي رئيس بلدية رسنة مقر طابور نيازي بك، ويعرف ما بينه وبين نيازي من الصداقة والألفة. فلما تم عقد الجلسة قال الرئيس: «يا إخواني، دعوناكم لنطلعكم على أمر عظيم الأهمية، هو خطوة جديدة في أعمال جمعيتنا المقدسة، وسيؤدي بلا شك إلى نيل الدستور، وإن تكن أختنا أو أمنا جمعية سلانيك قد تقدمتنا بإعلان الفتك بالظالمين - وهي خطوة مهمة في أعمالنا - فإن شعبة مناستير هذه سيكون لها الحظ بأنها ستخطو خطوة أصعب مراسا، نعني قيام الأمة معا للمطالبة بحقوقها بإعلان الثورة. والفضل في ذلك راجع إلى شعبة رسنة، بهمة الأخ الغيور البطل نيازي بك، فإنه بعث إلينا صديقه أخانا جمال أفندي ليقص علينا ما هو عازم عليه، فأعيروه سمعكم.»
فأصغى الجميع لما سيتلوه جمال أفندي فقال: «يا إخوتي، نحن إذا فعلنا شيئا أو استطعنا عمل شيء، فإنما نفعله بروح هذه الجمعية المقدسة التي ترشدنا وتهدينا وتأخذ بناصرنا. أما ما جئت من أجله فهو أن أخانا نيازي بك قائد طابور رسنة الذي تعرفون شجاعته في حروبه ببلاد اليونان، كانت الحكومة قد كلفته مطاردة العصابات البلغارية والألبانية، وقد طاردها بهمة وبسالة قد عرفتموها، فعلم بالاختبار أن الحكومة عاجزة عن مطاردة تلك العصابات، وأن قيام الأمة في وجه الظالمين على هذه الصورة باسم الحق والحرية أفضل وسيلة لنيل حقوقها، فكاشفني بهذا الأمر في 28 يونيو سنة 1908، ومعنا طاهر أفندي مفتش البوليس، وكلنا من أعضاء هذه الجمعية المقدسة. وقال لنا نيازي: عندي 500 ليرة اقتصدتها من تعبي، ويمكننا أن نجمع حوالي مائتي رجل من أعضاء الجمعية والعساكر والقرويين ونهيئ لهم السلاح، وستشاركنا أوخري ورسنة أيضا، فنشغل الحكومة في هذه الآجام أشهرا. وفاتني أن أقول لكم إن المحرك الأصلي الذي حملنا على هذا القيام إنما هو أمر مضبطة روال التي تقضي بتقسيم مقدونيا وإعطائها إلى الأجانب كما تعلمون. ولا يمكنني كتمان ما رأيته من تحمس الأخ نيازي بك ونشاطه، فقد ذكر لنا أن رسنة ينبغي أن تبدأ بهذه الثورة، لأن البلغاريين بدءوا منها وجلبوا لنا هذا البلاء، وأنه ينبغي لنا أن نحب المسيحيين كإخواننا ونساوي بيننا وبينهم، ونعتبر أعراضهم أعراضنا وأرواحهم أرواحنا وأموالهم أموالنا، لأن نهضتنا إنما هي ضد الإدارة الفاسدة ولإعلان الحرية والمساواة والإخاء. كما ذكر أنه مرسل أخواته وأبناءه وامرأته بلا معين إلى مناستير ومودعهم وداعا أبديا. فوافقناه على العمل، وأنفذوني إليكم لنستشيركم في ذلك.»
فلما فرغ جمال أفندي من كلامه عرضت المسألة على الأعضاء، فقال سعيد: «إنه نعم الرأي، وأنا أعلم منكم بصوابه لأني عانيت عذابا شديدا في البحث عن العصابات، ورأيت المشقة في مناوأتها، فعلمت أن الحكومة تعجز عن مطاردتها وهي شرذمة بلا نظام ولا تدريب، فكيف إذا كان يديرها جند منظم؟ اسمحوا لي أن أهنئ نيازي بك على هذا الفكر الجميل، وأن أشكره لقيامه به وتعريض حياته للخطر ولا سيما أنه لم يتم العام على زواجه.»
فاستأذن جمال أفندي في الكلام وقال: «ذكرتموني أمرا جميلا بهذا المعنى، وذلك أن نيازي لما عزم على تشكيل العصابة علم أن ذلك يقتضي ذهابه في الأرض والاعتصام بالجبال وتحمل مشاق الأسفار والأخطار، فذهب إلى عروسه وخاطبها بذلك فشجعته وقالت له: اذهب يا نيازي، لا وظيفة لك سوى الموت في مصلحة الوطن. فأرسلها مع عديله إلى أهلها.»
فوقف صادق بك وقال: «إن امرأة أخينا نيازي تذكرنا بخطيبة أخينا رامز، وإن أمة فيها مثل هؤلاء النساء لا يجوز حرمانها من الدستور. والآن لا أظنكم ترون مانعا من الموافقة على مشروع الأخ نيازي بك، ولنرسل إليه التعليمات اللازمة. وعسى أن يكون عمله قدوة لسواه، إذ يشعر أهل القصر بأن الأمة برمتها غاضبة عليهم. وعلينا الآن أن نبلغ هذا الخبر إلى الجمعية المركزية في سلانيك.»
فوقف سعيد وقال: «أنا أقوم بهذه المهمة.» قال ذلك ليغتنم الفرصة للبحث عن شيرين هناك.
فقال الرئيس: «جزاك الله خيرا. أظن رامزا لم يعد من مهمته في مخابرة قناصل الدول؟ أين هو الآن يا ترى؟»
قال: «لم يرجع بعد، ولا نعلم أين هو، ولكنه لا يلبث أن يعود وقد أفلح بإذن الله.»
ثم ارفضت الجلسة وتوجه جمال أفندي ومعه التعليمات لنيازي بك، وشخص سعيد بك إلى سلانيك وهو على أحر من الجمر، فبلغ الجمعية الخبر وسمع منها خبرا لا يقل أهمية، وهو أن أنور بك قام لمثل هذا الغرض بمن معه من الجند، وكلفته الجمعية تبليغ ذلك إلى شعبة مناستير. ثم قصد منزل طهماز فوجد المكان قفرا، فسأل الجيران فأخبروه أن ابنته شيرين جاءته ومعها خادمها، وبعد أن مكثوا أياما سافروا للبحث عن توحيدة، فسأل: «هل تعرفون البلد الذي قصدوه؟» فأجابوا: «كلا».
Unknown page