وإذ ذاك فلا يكون أثر للشر. (12) لأن لك الملك والقوة والمجد.
بل يكون سلطانك وقوتك وكلمتك.
ثم إني أزيد القارئ إيضاحا، وهو أني وضعت كتابا طويلا في عدة مجلدات، بحثت فيه عن تعليم الإنجيل بحثا مفصلا، وهو لم يزل بين يدي لعدم إمكان طبعه في روسيا، وأما في هذا الكتاب المختصر فلم أستطع التفصيل الوافي لضيق المقام؛ ولذلك لم أبحث كثيرا في المواضيع الآتية: الحبل بيوحنا المعمدان وولادته وسجنه وموته، وولادة المسيح ونسبه وهربه مع والدته إلى مصر، وعجائبه في مدينة قانا الجليل التي حول فيها الماء إلى خمر، ثم عجائبه في كفر ناحوم وطرد الشياطين، ومسيره على الماء، وتيبيس التينة، وشفائه المرضى، وإقامته الأموات، ثم قيامة المسيح. كما أني ضربت صفحا عن نبوات الأنبياء التي طبقتها الكنيسة على حياة المسيح وأعماله، وقد أضربت عن ذكرها؛ لأنها لا تحتوي على شيء من التعليم ولا فائدة من ذكرها لعدم أهميتها؛ لأنه بقطع النظر عن صدقها أو كذبها، فإنها لا تخالف التعليم ولا تؤيده، وإنما الكنيسة توردها كبراهين ساطعة للدلالة على ألوهية المسيح مع أنها ليست في شيء من ذلك، وأن أعظم برهان يدل على حقيقة التعليم هو توحيد التعليم ووضوحه وبساطته وكماله وموافقته لحواس الإنسان الذي يطلب الحقيقة، ثم أوجه التفات القارئ بأن لا يأخذ علي من تكراري ذكر تعليم المسيح أني أعتبر الأناجيل الأربعة كتبا مقدسة؛ فإن ذلك وهم وضلال مبين، وليعلم القارئ أيضا: أن يسوع المسيح لم يكتب مدة حياته كتابا كبلاتون وفيلون أو مارك إفريلي حتى، ولا كان كسقراط الذي كان يلقي تعاليمه على تلاميذه المتنورين ذوي المدارك السامية، كلا كلا، فإن المسيح كان يعلم البسطاء الجهلاء الذين كان يصادفهم في حياته وأهل الوسط الذي كان عائشا فيه، وإنما بعد وفاته بزمن طويل أخذ بعض الناس يذكرون أقواله ووجهوا إليها التفاتهم، وجعلوا يتناقلونها، وبعد مائة عام كتبوا ما سمعوه عنه، وليعلم القارئ أيضا أن ما كتب بهذا الصدد كان لا يحصى له عدد، فقد منها جزء كبير، وما بقي عنها كان في غاية الركاكة، ومما لا يصح الركون إليه والوثوق بصحته، ثم إن المسيحيين جمعوا تلك الكتابات واختاروا منها الأنسب لأذواقهم ومآربهم.
ثم فليعلم القارئ أيضا: أن تعليم المسيح الحقيقي هو مقدس فقط، وأما كثرة الآيات والأسطر والحروف فليست مقدسة، ولا ينبغي أن نعتقد بها لمجرد قول الناس بقداستها.
وليعلم القارئ أيضا: أن الأناجيل التي بين أيدينا الآن ما هي إلا ثمرة أنضجها الزمان بواسطة النقل والإملاء، واشتغال عقول ألوف من البشر بها، وتلاعب أيدي الكثيرين، وليست هي وحي من الروح القدس أوحاه للإنجيليين كما تعتقد الكنيسة.
ثم فليعلم القارئ أيضا: أن الأناجيل لعبت بها أيدي التحريف والنقل والزيادة والنقصان، والأناجيل التي وصلت إلينا في الجيل الرابع كانت مكتوبة بخط سقيم لا ضابط لها يضبط صحتها، وكانت تقرأ في الجيل الخامس على طرق مختلفة، كل طريقة منها تخالف الأخرى، حتى أحصى بعضهم أن عدد الأناجيل المختلفة في طرق القراءة بلغ الخمسين ألفا.
ثم إني أرجو مطالع كتابي هذا أن يعلم بأني لا أنظر إلى الأناجيل ككتب مقدسة منزلة علينا من السماء بواسطة وحي الروح القدس، كما أني لا أنظر إليها كتاريخ يتضمن آداب الدين، وكذلك أوجه التفات القارئ ألا ينظر إليها كما تنظرها الكنيسة ورجال العصر المتنورون الذين يعتبرونها بمثابة تاريخ ديني ليس إلا، وإني لا أعتقد بالديانة المسيحية أنها وحي إلهي، ولا بأنها تاريخ، كلا كلا، بل أعتقد بأنها تعليم يكشف للبشر عن ماهية الحياة ومعناها، والأمر الذي قادني إلى اتباع تعليم المسيح هو أني لما بلغت الخمسين سنة سألت فلاسفة الوسط المقيم به أن يرشدوني إلى ماهية حياتي، ومن أنا؛ فأجابوني: إنك شخص مركب من أعضاء عديدة ولا يوجد معنى لوجودك وحياتك، وإن الحياة كلها مملوءة شرا، فوقع جوابهم على رأسي كالصاعقة سقطت على أثره في حضيض اليأس وعزمت على الانتحار، ولكني ثبت إلى الرشد عندما تذكرت أني لما كنت غلاما مؤمنا كنت أشعر بمعنى الحياة، ثم تذكرت أن السواد الأعظم من الناس البسطاء الذين لم تفسد أخلاقهم الثروة مؤمنين، وأنهم عائشون عيشة حقيقية؛ فشككت في صحة جواب الفلاسفة، وأخذت أبحث عن الجواب الذي تجيب به الديانة المسيحية المؤمنين العائشين في ظلها، وللوقوف على ذلك شرعت بدرس الديانة المسيحية درسا مدققا، فأخذت أطالع بإمعان وروية الأناجيل الأربعة، وما تضمنته من التعاليم، فوقفت فيها على إيضاح المعنى الذي يرشد المؤمنين إلى الحياة الحقيقية، غير أني في أثناء استقائي من ذلك الينبوع العذب وجدت فيه أقذارا كثيرة عكرت صفاء مائه، ووجدت إلى جانب تلك التعاليم تعاليم أخرى غير مطابقة له، بل هي تخالفه على خط مستقيم، وأريد بها التعاليم الكنائسية والعبرانية، فكنت في بحثي كذلك الرجل الذي وجد كيسا مملوءا بالأقذار المنتنة، ولكنه بعد التعب والمشقة وجد في ذلك الكيس عددا وافرا من الحجارة الكريمة، فبعد أن وجه جميع عبارات السفه لأولئك الذين ملئوا الكيس بالأقذار، عاد يثني عليهم ويشكرهم؛ لأنهم أخفوا تلك الجواهر وسط الأقذار، وكذلك فإني لبثت رازحا تحت عبء الاضطراب والتفكير حتى أدركت أنه في الإمكان تطهير تلك الجواهر من الأقذار التي علقت بها وشوهت محاسنها.
إني لم أكن أعرف النور، وكنت أزعم ألا حقيقة في هذه الحياة، ولكنني تحققت أن الناس عائشون في النور، فطفقت أبحث عن ينبوعه؛ فوجدته في الأناجيل الأربعة بقطع النظر عن تفاسير الكنيسة الكاذبة، ولما بلغت الينبوع غشت بصري ظلمة حالكة، وإنما عثرت على ضالتي المنشودة، فوجدت الجواب الذي كنت أسأله؛ فعرفت معنى حياتي وحياة الناس.
إن أبحاثي كانت مقتصرة على ماهية الحياة، ولم تتعداها إلى المسائل الإلهية والتاريخية؛ ولذلك كان لا فرق عندي؛ سواء كان المسيح إلها أم إنسانا، وكذلك لم أهتم بمسألة انبثاق الروح القدس ولا بمن كتب الأناجيل، وهل الأمثال الواردة فيها منسوبة للمسيح حقيقة أم لا، وإنما كان يهمني ذلك النور الذي أنار البشر مدة 1800 سنة كما ينيرها وينيرني الآن.
ثم أخذت أتفرس في ذلك النور وأقاوم كل شيء يحاول إخفاءه، وكلما توغلت في المسير على ذلك الطريق كانت تزول الريبة من نفسي وتظهر لي الحقيقة بحذافيرها، حتى استطعت أخيرا أن أفرق بين الصحيح والفاسد.
Unknown page