الليل في المدرسة كان طويلا، والنهار كان أطول، أذاكر كل دروسي، وتبقى أمامي الساعات الطويلة قبل أن يدق جرس النوم، واكتشفت مكتبة المدرسة: حجرة مهملة في الفناء الخلفي، مقاعدها مكسورة، ورفوفها مخلوعة، فوقتها تراب كثيف يغطي الكتب، أمسح الكتاب بفوطة صفراء، وأجلس على مقعد مكسور تحت لمبة ضعيفة أقرأ.
أحببت القراءة، وفي كل كتاب كنت أعرف أشياء جديدة: عرفت الفراعنة، وعرفت الفرس والأتراك والعرب، قرأت عن جرائم الملوك والحكام، وعن الحروب وثورات الشعوب وحياة الثوار، وقرأت روايات الحب وقصائد الغزل، لكني كنت أفضل أن أقرأ عن الحكام أكثر مما أقرأ عن الحب، قرأت عن الحب، قرأت عن حاكم كان عدد جواريه من النساء والمومسات كعدد جنود جيشه، وحاكم آخر لا يشغله في حياته إلا الخمر والنساء وجلد العبيد بالسياط، وحاكم آخر لا يحب النساء، وإنما يستعذب الحرب والقتل وتعذيب الرجال، وحاكم مجنون بنفسه وعظمته، لا يعترف في البلد برجل آخر غيره، وحاكم يهوى المؤامرات والمناورات، ويكذب على الناس والتاريخ.
وأدركت أنهم كلهم رجال، ونفوسهم شرهة مشوهة، وشهواتهم للمال والجنس والسلطة لا حدود لها ولا رقابة عليها، وأنهم يفسدون وينهبون الناس، ولهم حناجر قوية، صوتهم مقنع، وكلامهم معسول، وسهامهم مسمومة، ولا يكتشف التاريخ حقيقتهم إلا بعد أن يموتوا، ويكرر التاريخ نفسه بغباء وإصرار شديد.
وكانت الصحف والمجلات تأتي إلى المكتبة فأقرؤها وأرى صورها، وأشهد الحاكم منهم وهو جالس في صلاة الجمعة يبربش بعينيه في نظرة منكسرة ذليلة، هل يخدع الله كما يخدع الناس! ومن حوله رجال حاشيته يهزون رءوسهم على كل ما يقال بالإعجاب والإيجاب، يبسملون ويحوقلون ويفركون أيديهم، وينظرون فيما حولهم بعيون حذرة متلصصة متشككة متربصة عدوانية في شبه ذلة.
وأراهم يصلون على أرواح شهداء الوطن، الذين ماتوا في حرب أو مجاعة أو وباء، وأرى رءوسهم تهبط إلى الأرض ومؤخراتهم ترتفع في الهواء، مؤخرات سمينة مكتنزة باللحم والخوف معا، وحين تخرج كلمة «الوطنية» من بين شفاهم المكتنزة أدرك على الفور أنهم لا يخافون الله، أما الوطنية فهي أن يموت أبناء الفقراء من أجل أرضهم.
وحينما أمل القراءة وأمل التاريخ المعاد والصور والقصص المتكررة، أجلس في فناء المدرسة وحدي، قد يكون الليل مظلما بغير قمر، وجرس النوم دق، وكل النوافذ قد أغلقت وأظلمت، لكني أجلس في الظلمة وحدي أفكر، ترى ماذا أكون في المستقبل؟ وهل سأدخل الجامعة؟ هل سيدخلني عمي الجامعة؟
رأتني مرة إحدى المدرسات وأنا جالسة، فزعت أول الأمر حين رأت في الظلمة كتلة بحجم الجسم ثابتة. قالت من بعيد وقبل أن تقترب مني: من الذي جالس هناك؟ وقلت بصوت ضعيف خائف: أنا، أنا فردوس، واقتربت مني وعرفتني ودهشت؛ فأنا من أحسن بنات فصلها، وأحسن بنات فصلها ينمن بمجرد أن يدق جرس النوم.
قلت لها: إنني مؤرقة ومتعبة. فجلست معي، كان اسمها «إقبال»، ممتلئة الجسم وقصيرة، شعرها أسود طويل، وعيناها سوداوان، رأيتهما أمامي في الظلمة، تنظران إلي، ترياني رغم الظلمة، وكلما أبعدت رأسي تتبعاني، تمسكان بي ولا تتركاني، ومهما أخفيت عيني بيدي ترياني، وأجهشت بالبكاء ويداي فوق عيني، فأمسكت يدي ورفعتهما عن وجهي، وقالت: فردوس، فردوس، أرجوك لا تبكي. قلت لها: دعيني أبكي. وقالت: لم أرك أبدا تبكين، فما الذي حدث؟ قلت: لا شيء، لا شيء. قالت: لا يمكن، لا بد أن شيئا حدث! قلت لها: لم يحدث أي شيء يا أبلة إقبال. قالت بدهشة: أتبكين بغير سبب؟! قلت لها: لا أعرف السبب، ولم يحدث في حياتي شيء جديد.
ظلت جالسة إلى جواري صامتة، عيناها السوداوان شاردتان في الظلمة، تغرورقان بالدموع فتلمعان لحظة، وتزم شفتيها وتبتلع الدموع، فتجف عيناها وتضيع اللمعة، ثم لا تلبث عيناها أن تغرورقا بالدموع وتلمعا، وتزم شفتيها فتختفي الدموع، لكن دمعة ظلت باقية في عينيها، ثم سقطت على أنفها، فأخفت وجهها بيد وأخرجت منديلها باليد الأخرى ومسحت أنفها. قلت لها: أتبكين يا أبلة إقبال. قالت: لا يا فردوس. وأخفت منديلها، وابتلعت ريقها، وابتسمت.
كان الليل صامتا ساكنا، لا صوت ولا حركة، والدنيا ظلاما، لا شمس ولا قمر، ووجهي ناحية وجهها، وعيناي في عينيها، ورأيت أمامي دائرتين من البياض الشديد، داخلهما دائرتان من السواد الشديد تنظران إلي، وكلما كنت أنظر فيهما يشتد بياضهما ويشتد سوادهما، فكأنما ضوء ينفذ إليهما من مكان مجهول سحري، ليس فوق الأرض وليس في السماء؛ لأن الأرض مظلمة بالليل والسماء سوداء بغير شمس ولا قمر.
Unknown page