Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
وهؤلاء الأفراد هم الذين أوتوا أجهزة وتيارات غير عادية، وسمحت لهم ظروف خاصة كالمصادفة والوراثة أن يوجهوها لخير الإنسانية، فوفقت أحسن التوفيق وكانت نزعاتهم الفردية حجر الأساس الذي شيدت فوقه المدنيات المتعاقبة.
ولكنا إذا حولنا النظر إلى الجهة المقابلة، حيث ترفع النزعات الفردية أعلام الموت، وترسل نذر الخراب، وأخذنا نيرون الظالم مثلا رأينا الفرد المجرد من معنى الاجتماع والعائش بنفسه لنفسه، ورأينا المخرب الذي يندفع ليدك قواعد الوجود إرضاء لشهوته، رأينا هذا المستبد الأحمق محرقا رومية ممسكا بيديه قيثارته يوقع عليها قصيدة خرقاء، جادت بها قريحته المجرمة، ولكن رومية عادت إلى الحياة ومات هو وطمس على قصيدته في حفرته.
ولذلك يعلو الاجتماع، ويبقى ويموت الفرد الخارج عن قوانينه تحت أقدامه.
نيرون هو المثل المجرم في الإنسانية، والمجرم شخص مجرد من العواطف والإحساسات البشرية لا يحس بالألم ولا بالسعادة، ويرى الوجود الذي أمامه عدوا له لدودا. هو حيوان من غير النوع الإنساني؛ لأنه غير مدني ولكنه ألبس صورة الناس ظاهرا؛ لهذا لم يكن لقواعد الحياة ووحدات إيمان الوجود أن تنطبع في نفسه الصلدة بل يبقى فؤاده جامدا ونفسه حيوانية لا تعرف من معنى الاجتماع شيئا، ولا تفهم من قوانين الطبيعة إلا القانون العام الذي يحكم الموجودات الحية إلى أدنأ أنواعها: قانون استبقاء الحياة. ولما كان الكد والكدح أثرين من آثار التنافس الذي لا يكون إلا بالاجتماع، وكان المجرم غير مدني رأيته يميل للكسل، ويفضل الإغارة على أمثاله من بني آدم يختطف أموالهم من يدهم كما يغير الأسد أو النمر على ما يجاوره، ويأخذ الفريسة التي تلوح له.
وجمود نفس المجرم عن تلقي آي الاجتماع ينتج عنده حتما جمود أمام الجزاء المقابل الذي تفترضه هاته الآي عقوبة لمن خرج عليها؛ لهذا لوحظ أن المجرمين المتأصلة جرثومة الإجرام في نفوسهم لا يعرفون معنى للتوبة، ولا يفقهون معنى التكفير عن الخطيئة. كما أنهم لا يشعرون في العقوبة بألم يردعهم عن العودة لما يستوجبها، بل هم يرتكبون الجريمة بالهوادة والطمأنينة التي يجدها غيرهم في أي عمل عادي مشروع؛ لأن الجريمة عمل عادي مشروع عندهم.
لكن هذا النوع من المجرمين قليل وغير منتشر. والغالبية العظمى ممن يخرجون على النظام أشخاص، تدفعهم ظروف خاصة توجه نزعاتهم الفردية وجهات غير موفقة، فيرتكبون ما يخالف التعاليم التي انطبعت في نفوسهم والتي هي وحدات الوجود الإيمانية. ومن هؤلاء تتركب طائفة المسئولين الكبرى. فمنهم المجرمون بالمصادفة، والمجرمون بالعادة، والمجرمون بدافع الشهوة، والمجرمون المتهوسون والمجرمون السياسيون وغير هؤلاء وأولئك ممن سيرجع بنا الكلام إليهم عند بحث المسئولية القانونية.
ووجود هذا النوع من المسئولين في الجمعية هو المقابل الطبيعي لوجود العظماء والمفكرين والمصلحين. فما دام الاجتماع الإنساني في تطوره نحو الكمال يستخدم النزعات الفردية لإتمام ذلك التطور، فستوفق بعض هذه النزعات للسير في الطريق السوي، وستضل أخرى وتنحدر في مهاوي الجريمة. ولكن أصحاب النزعات الضالة يلقون دائما جزاء ضلالهم، فتدوسهم الجمعية بأقدامها وتمر من فوقهم غير مهتمة بهم، ولا مكترثة لهم بل مستخدمة إياهم في أحايين لمساعداتهم في التقدم إلى الغرض الذي تسير إليه. ولم يستطع هؤلاء الضالون في عصر من العصور الماضية كلا، ولن يستطيعوا في المستقبل أن يقفوا في وجه الجمعية؛ لأن الجمعية وجود طبيعي أزلي خالد. والأفراد ذرات سريعة التحول والانقلاب. والجمعية كل والفرد ذرة متناهية في الصغر إلى جانب ذلك الكل ومسخرة لخدمته.
إذن فشأن الفرد في الجمعية شأن مسمار في ماكينة عظيمة. فذلك المسمار يبقى سالما ما دام قائما بأداء الوظيفة، التي وضع لها غير خارج على المجاورات التي حوله. لكنه يلقى جزاء محتوما إن هو وقف عن أداء وظيفته أو خرج عن المكان المعد له. فإنه يلقى قسما آخر من الماكينة أمتن منه، وأقوى يصادفه في سيره فيكسر رأسه أو يرده بالرغم عنه إلى مكانه. بل إن شأن الفرد لأضعف من ذلك وأحقر؛ لأنا مهما تصورنا من عظمة هاته الماكينة، ومن ضآلة المسمار إلى جانبها، فلن نبلغ في ذلك ما يقابل الجمعية والفرد.
وقد أحس الناس من أبعد الأزمان بهذا الإحساس، وفهموا تمام الفهم معنى الجزاء الذي تنزله بهم الجمعية حين خروجهم عليها. وبلغ من قوة إحساسهم به أن خلطوا بين فكرة الجزاء وفكرة المسئولية، وأحلوا الأولى محل الثانية، وترتب على هذا الخلط الفكري خلط آخر جر إليه التشابه اللغوي. فلما كانوا يرون الجزاء، وهو المقابل الطبيعي لعمل من الأعمال، يعرض صاحبه لسخط الجمعية، وكان الجزاء لغة هو المقابل للعمل بالأوامر، سواء أكان هذا اجتماعيا أم غير اجتماعي، وسواء أكان مضرا بالجمعية ويستدعي مسئولية فاعلة أم هو لا علاقة له بالجمعية مطلقا، وإنما هو عمل يستحق المدح من فرد معين من الناس على خدمة، وصلته من آخر - جعلوا هذه الأعمال غير الاجتماعية لما يقابلها في نظرهم من الجزاء داعية مسئولية، ولو في جانب ما يسمونه الخير. مع أن المسئولية إنما تتكون عند الفرد على أثر انطباع وحدات الإيمان المتعلقة بحياة الاجتماع في نفسه، ومخالفة هذه الوحدات من بعض الأشخاص.
ولكن إذا كان الخلط قد جر إليه الشبه اللغوي في استعمال كلمة الجزاء، فإن الذي مكن له في عالم الفكر، ومد في حياته حتى نراه باقيا إلى اليوم هو الإبهام الذي كان حاصلا في فهم الوحدات والقوانين اللازمة لحياة الاجتماع، حتى رتبت بعض العصور أضعف أعمال الفرد في جهتى النافع والضار والخير والشر ترتيبا لا يسمح لنزعة فردية من النزعات التي هي أساس التطور الاجتماعي أن تقوى، وتعمل عملها في الوجود. رتبتها وحكمتها فكان الميدان المسموح للفرد أن يتنفس فيه ضيقا إلى حد كاد يخنقه. فكان طعامه وشرابه وحركاته ونوع كلامه، بل اتجاه فكره كلها معتبرة من الوحدات الإيمانية اللازمة لحياة الجمعية. ولكن التطور الذي حصل على متعاقب العصور حلل بعض الشيء من هذه الدائرة، وسمح للأفراد بدائرة أوسع يتحركون فيها حسب ما توحي إليهم به نزعاتهم وظروفهم الخاصة، وإن حكمتهم دائما ظروف الوسط والزمان.
Unknown page