Iman Wa Macrifa Wa Falsafa
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
اعتقد الفلاح الساذج أول ما رأى قطار السكة الحديد أو الترام أو «الأوتوموبيل»، يسير من تلقاء نفسه من غير أن يجره ثور أو حصان أن قوة غريبة تسيره، أو أن شيطانا يسكن في داخله، فلما أفهم على التوالي السنين وبمشاهدته وابورات المياه التي تجاور مزرعته أن النار والماء هما المصدر لكل تلك الحركة بدأ يتصور أن هناك قوى معروفة لدى بني الإنسان ممن (شافوا الدنيا)، ولا علاقة لها بالشياطين ولا بالملائكة، وأن هذه القوى هي التي تسير تلك الأحجام الهائلة التي يراها. وعلى ذلك فلما سمع بالطيارات لم يحتج أن يلتجئ إلى قوى خارجة عن العالم؛ لأنه رد حركة الطيارة إلى مشابهاتها التي معه على الأرض.
فالحركة التي تصدر عن الإنسان، وتظهر لنا هي أثر الموجودات الخارجية منعكسة على الأجهزة المختلفة المعدة لتلقيها. واتصال هذا الأثر بطريق أجهزة، وتيارات مادية متصلة بمركز الحركة الإنساني، إما مباشرة وإما بطرق وتيارات أخرى تجعل هذا المركز يحدث هذه الحركة على نحو ما أحدث ضغطك الخشبة في اللعبة من تحرك يديها، وعلى نحو ما حصل حين ضغطت زر الكهرباء فدق الجرس، وعلى نحو الآثار المختلفة التي تقدم ذكرها وآلاف آلاف غيرها مما يرى الإنسان في المحيط الخارجي. ولما كانت أجهزة الإنسان وتياراته أول نشأته متشابهة كل التشابه، كانت الحركات التي تصدر عن الأطفال متشابهة أتم الشبه؛ فالطفل أول ما يولد يبكي أو بالأحرى يحدث صوتا يشبه البكاء. وهذا الصوت ناشئ من تأثر رئتيه بالهواء الخارجي . كذلك هو يدافع عن نفسه في أول أيامه بالطريقة الآلية الصرفة التي حبته إياها الطبيعة، فهو يستنجد عن طريق البكاء أو هو يدفع بيديه. وتبقى هذه الحالات العكسية الصرفة
étâts reflexes
عنده زمنا غير قليل، بل منها ما يبقى يصاحبه طول حياته.
ولكن انقضاء زمن الطفولية الأولى يقضي معه على هذا الشبه، وينتقل الأولاد حينذاك من الحالة الانعكاسية التي يكونون فيها مثل مرآة تعكس ما يقابلها من الصور والموجودات والحوادث إلى ما يسمونه بحالة الرغبة
étât de desir ، وهي الحال التي يكون الطفل فيها أسير شهواته ورغباته، بمعنى أنه إذا رأى شيئا استهواه ورغب في الحصول عليه تحكمت فيه فكرته هذه حتى يهون معها كل شيء، وحتى يهون معها تلف نفسه.
وهذه الحال لا تختلف عن الحال العكسية الصرفة، إلا من حيث الكم والاتجاه. أما من حيث الكيف فهي وتلك الحال الأولى سواء، وسبب هذا الاختلاف في الكم والاتجاه لا يرجع إلى إرادة خاصة، ولكنه محكوم بقوانين قاسية تتمشى على الإنسان وعلى الجماد، وعلى سائر ما في هذا الكون مما يقع تحت عيوننا، وأظهر هذه القوانين بقاء الأصلح وتلاشي ما لا فائدة منه، وقانون آخر متفرع عن القانون الأول، وهو أن استعمال الشيء يزيده قوة وصلاحية، وإهماله يضعفه ويفنيه. فإذا كانت بعض الأجهزة والتيارات في طفل أضعف منها في طفل آخر بطريق الوراثة أو لسبب من الأسباب، أو كانت هذه الأجهزة على تساويها قوة فيهما مرنت في أحدهما، وأهملت في الآخر، نتج عن ذلك على مرور الأيام اختلاف أجهزتها في التلقي والإصدار، وكان لما يتلقاه الجهاز القوي من شدة الأثر في نفس الطفل ما يحرك في نفسه أشد الرغبة في حين يمر ما يتلقاه الجهاز الضعيف غير محس به فكأنه لم يكن.
ولنضرب لذلك مثلا واضحا: طفل عمي بعد ثلاث سنوات من ولادته. هذا الطفل لا يمكن أن تنتج عنده الرغبة لهفة على منظور من المنظورات؛ ذلك لأن الحاسة التي تتلقى هذه المنظورات وتبعث بها عن طريق التيارات الأخرى إلى المصادر التي تحرك النفس، وتستدعي الرغبة تلاشت. وما يقال هنا يقال عن تلاشي أي جهاز معد لتلقي وإصدار أي حركة أو أي محسوس. هذا طبعا إلا إذا أمكن الاستعاضة عن الجهاز المفقود بجهاز آخر لو إلى حد محدود. وفي هذه الحالة يكون التأثير الذي تحدثه الأشياء الخارجية في الأجهزة - أو على نحو ما يقال عادة: في النفس - متناسبا مع قوة هذه الأجهزة وضعفها. وهذا يدل أتم الدلالة على أن حالة تحكم الرغبة لا تفترق عن الحالة العكسية الصرفة إلا في الكم وفي الاتجاه، مع اتفاقها معها في الكيف، وسيرى القارئ أن حالة الإرادة
L’étât volontaire
هي أيضا طور خاص من أطوار الحالة العكسية يظن أنه أرقى من تلك الأطوار، ولكنه لا يغير شيئا من نوع تلك الحالة.
Unknown page