فكانت قصيدة طويلة توثقت بها من اتساع اللغة للمعاني والقوافي، ونهجت فيها نهجا جديدا مما كنت أعددته في ذهني وستراه مفصلا في باب «النظم في التعريب».
ثم فتحت الكتاب من ثلثه الأخير، فإذا بي في الصفحة الثالثة من النشيد الثالث والعشرين، فرجعت إلى أوله، ونظمت منه نحو مئة بيت رجزا مصرعا ومقفى على أسلوب استحسنته وحسبته وافيا بمرامي لتعريب كل النشيد على سياقه.
فحملت جميع ما تجمع لدي من القصائد الثلاث بمسوداتها، وجعلت أعرضها على من زارني وزرته من الأدباء والشعراء ممن ألف الشعر العصري، ومن نشأ على انتهاج الشعر القديم، فاستحسنوا وجاملوا، فزدت بمجاملتهم نشاطا، وأنست من بعضهم ريبة وخشية علي من الملل والقنوط؛ لوفرة ما يتبع هذا العمل الشاق من العناء الفادح، وكثرة ما يستلزم من النفقات لو مثل بالطبع، وليس قراء العربية وطلاب أمثال هذا الكتاب ممن ينشط على المجازفة بمثل تلك النفقات، وشق النفس، وضياع الأوقات: على أن ذلك كان أقل ما تجزع له نفسي إذ أقدمت وليس بي جشع للربح من وراء هذا العمل بل أنا راض بالخسارة لو حصلت ليس ذلك ترفعا عن الكسب، ولكن لغرام في النفس تستسهل الصعب في سبيله.
فقلت : لقد حان إذن أوان الشروع، فرجعت إلى أول نشيد وأخذت في النقل تباعا حتى أكملته، ونظمت نصف النشيد الثاني، وكنت أثناء النظم أقابل الترجمات بعضا ببعض، فأرى فرقا يصعب علي معه تبين الرجحان لنسخة دون أخرى، فأوقفت النظم، وقلت: لا بد إذن من الرجوع إلى الأصل اليوناني إذ لا يصلح النقل من غير أصله.
وكانت معرفتي باليونانية قاصرة إذ ذاك لا تكاد تتجاوز القراءة البسيطة، وبعض أصول ومفردات لا تشفي غليلا، فأخذت أبحث عن أستاذ يروي غلتي، فأرشدت إلى عالم من الآباء اليسوعيين، وأبلغت أنه متضلع باليونانية تضلعه بالفرنسية، وكنت أعلم أن الآباء اليسوعيين لا يسعهم التفرغ لإلقاء دروس خاصة خارج مدارسهم، فكان لا بد إذن من رضاء الأستاذ وأذن الرئيس، فوفقني الله إلى الحصول على الأمرين، فشكرت لهما هذه المنة، وجعل أستاذي يلقنني أصول اللغة، ويفسر لي فصولا من الإلياذة، وأنا مكب على الدرس متفرغ للاستفادة، وبعد أن قضيت معه أشهرا، وعلمت منه أنه يسعني أن أستتم الدرس وحدي، وأن أتناول تعريب الإلياذة من أصلها مع الاستعانة بكتب اللغة وتفاسيرها، فارقته شاكرا ولبثت مدة أجهد النفس بالمطالعة ثم استأنفت التعريب.
وكان بنفسي شيء مما عربته من النشيد الأول والثاني، فرجعت إلى إمعان النظر فيه ومقابلته على أصله، فرأيت خللا ألجأني إلى التنقيح والتصحيح، فكنت لا أحجم عن تغيير البيت والبيتين، وربما أعدت نظم مقاطيع برمتها، ولم يقع لي شيء من هذه الإعادة في سائر الأناشيد إلا أن يكون في استبدال فقرة أو شطر بغيرهما أو تغيير قافية بأخرى مما يقع لكل ناظم، وفي ما سوى ذلك كنت أجهد النفس بإحكام البيت على قدر الاستطاعة قبل كتابته.
ولم أكد أستقر في مصر حتى حدا بي حادي الأسفار التي ألفتها منذ الصبا فبرحت القاهرة سنة 1888 وفي النفس شغف بها وحنين إليها، فانتهى بي التطواف إلى العراق بعد أن طرقت الهند، وأطراف العجم، فأقمت فيها زهاء سنتين اضطررت إلى طي الإلياذة في معظمهما، ولم يتسن لي العود إليها إلا بضعة أسابيع، على أنني لم أجتمع بأديب منها إلا عرضت عليه شيئا من منظومها وأدباء العراق مولعون بسماع الشعر.
ثم شخصت إلى الآستانة، واتخذتها مقاما طيبا لبثت فيه سبع سنوات كنت كثير التنقل في أثنائها بين الشرق والغرب، فيوم بسوريا، وسنة بأوروبا وأمريكا، والمرجع إلى الآستانة. وكانت الإلياذة رفيقي حيثما توجهت أختلس الأوقات خلسة فلا تفرغ اليد من عمل إلا عدت إليها، ولطالما مرت الأسابيع والأشهر، وهي طي الحجاب ثم هببت بها من رقدتها وعاودت العمل، وكثيرا ما حصل ذلك في رؤوس الجبال، وعلى متون البواخر وقطارات سكك الحديد، فهي بهذا المعنى وليدة أربع أقطار العالم.
وكنت حيث حللت أتوخى الاستفادة من أهل ذلك المحل، ولا سيما في الآستانة حيث هيأ لي حسن التوفيق أن اتصلت ببعض أدباء اليونان عشاق هوميروس وإلياذته كاستافريذس ترجمان السفارة الإنجليزية، وكاروليذس أحد أساتذة كلية خلكي اليونانية بالآستانة، وبعضهم من قراء العربية، فكنت أشاورهم في بعض ما التبس وأغلق، وهم لا يضنون وأقرأ لهم أجزاء من المنظوم العربي فتعروهم هزة الطرب مستبشرين بتعريب أعظم منظومة لأعظم شعرائهم.
وهكذا ظللت بين وقوف ومسير إلى أول صيف سنة 1895 فخرجت بعائلتي إلى مصيف فنار باغجه في ضواحي الآستانة، وظللت فيها أربعة أشهر فرغت في نهايتها من عناء التعريب.
Unknown page