وتوفي فيميوس ولا وارث له إلا هوميروس ثم ما لبث أن توفيت كريثيس، فخلت المدرسة لهوميروس فأقام مقام أستاذه فأعجب به بنو أزمير، وطارت شهرته فقصده الداني والقاصي، وأصبح مجلسه ديوان الأدب وكعبة الحكمة، وكانت أزمير لذلك العهد محطا لرحال التجار تستورد إليها الحبوب من تلك البقاع الخصبة فتمتار منها المدن المجاورة، فأصبح الغريب القادم إليها إذا فرغ من عمله أو سنحت له فرصة يهرع إلى مجلس الأستاذ الفتى؛ ليلتقط درر حكمته، وممن كان يختلف إليه ربان سفينة من ذوي العلم والدهاء اسمه منتس يحمل الحبوب إلى أزمير من لوقاديا، فشغف بحديث ميليسا جينيس وجعل يحسن له الأسفار ويزين له مشاهدة الأمصار وهو في عنفوان الصبا قبل أن يدركه العجز؛ ليزداد حكمة واطلاعا ووعده أن يحمله على سفينته فيتخذه خدنا عزيزا وإلفا كريما، وما زال به حتى حمله على مغادرة المدرسة والتدريس واللحاق به رحالة على متن البحار.
أسفاره
وكان ميليسا جينيس شديد المراقبة كثير البحث لا يقع بصره على شيء إلا تحراه ولا طرق مسمعه خبر إلا استجلاه، فطالت الرحلة وهو في أثنائها يختزن الفوائد ويجمع الأخبار حتى انتهى به التطواف إلى إيبيريا (إسبانيا) وأقلعت منها السفينة إلى أزمير، فعرجت على إيثاكة (ثياكي) في الأرخبيل اليوناني، وهناك رمدت عينا ميليسا جينيس، فاضطر منتس على كره منه أن يستبقيه فيها لدى صديق له حميم من أهل تلك الجزيرة يدعى منطور، فأنزله منطور في داره وكان مضيافا طيب العنصر، رحب الصدر، كريم الخلق ليس في بلاده من يضاهيه شهرة بتلك الخلال، ولم تكن العلة لتمنع الفتى من البحث والتحري فظل وهو على فراش المرض يلتقط شوارد الفوائد، ومن جملتها أخبار أوذيس (أوذيسس) وأسفاره (فكانت له أساسا بنى عليه منظومته الأوذيسية، وجعل فيها اسم منطور مرادفا للحكمة والبر فخلد بها ذكره أبد الدهر).
وبقي ميليسا جينيس نزيل منطور إلى أن عاد الربان منتس إلى إيثاكة فأنزله إلى سفينته واستأنفا الأسفار إلى أن بلغا كولوفون، فاشتد عليه الرمد حتى فقد بصره جملة وظل كفيفا إلى أن مات.
شروعه في قرض الشعر
ولما كف بصره قصد أزمير وأقام فيها زمنا ينظم الشعر، فضاقت ذات يده وبرحت به الحاجة، فعول على الشخوص إلى كومة، وسار يقطع هرمس (وهو نهر كديز أو سرابات) إلى أن بلغ به السير إلى (نيونتيخوس) وهي بلدة من مستعمرات الكوميين. قيل: إنه وقف فيها إلى حانوت تاجر جلد، فأنشد أبياتا شكا فيها بؤس الغريب الشريد المتضور فاقة وجوعا، وكان ذلك أول عهده بالإنشاد على مسمع الناس، فأصابت تلك الأبيات موضع رفق وعطف من فؤاد ذلك التاجر؛ فرحب به وآواه إليه، فجلس في الحانوت وأنشد على مسمع جماعة ممن حضر مقاطيع من شعره في وصف حملة أمفياراوس على ثيبة وبضع ترانيم دينية، فأجله القوم وأكرموا مثواه، فأقام بينهم وصناعته الإنشاد.
قال هيرودوتس: «ولا يزال أهل تلك البلدة حتى يومنا يفتخرون بالإشارة إلى المجلس الذي كان ينتابه فينشد فيه، ولذلك الموضع عندهم حرمة ومنزلة سامية وفيه شجرة صفصاف يزعمون أنها زرعت يوم قدم ميليسا جينيس فأقام بين ظهرانيهم».
تتمة أسفاره
أقام الشاعر بضعة أعوام في نيونتيخوس ثم قل رزقه فيها فبرحها إلى كومة، وقصد الموضع الذي كان يجتمع فيه مجلس الشيوخ، وأنشد ما تيسر فارقص الحضور طربا فطابت نفسه وعظمت أمانيه فسألهم أن يقوموا بنفقته على أن يقول فيهم من الشعر ما يطير شهرة مدينتهم في الآفاق ويخلد لها جميل الذكر. فلم يكن في من حضر إلا من استصوب السؤال وأوعزوا إليه أن يقول قوله هذا في المجلس وهو ملتثم وهم من ورائه يعضدون. فعمل بإشارتهم، ولما اجتمع الشيوخ أدخل إلى قاعة الاجتماع، فانتصب خطيبا وأعاد الكلام الذي ألقاه على عامة الناس وخرج ينتظر الجواب. فخلوا إلى شوراهم وكان معظمهم ممن يرغب في موافقته، فإذا بواحد منهم قد قام فاعترض وقال: «لئن جنحنا إلى القيام بنفقات عميان الشعراء لنلقين على عواتقنا زمرا منهم لا قبل لنا بهم». فأدى بهم ذلك إلى الانقلاب عن عزمهم.
ومن ثم لقب ميليسا جينيس بهوميروس، ومعناها أعمى بلغة الكوميين وتنوسي اسمه، فنقم هوميروس على كومة وأهلها، ونظم قصيدة رثى بها حاله، واستنزل اللعنة على من يتغنى بمدحها ومدحهم من الشعراء، وغادرها إلى فوقيا على مقربة من أزمير وجعل يطرق منتدياتها فينشد فيها الأشعار.
Unknown page