أتذكر يوم كنت تشكو لي من شدة غضبك وهياج أعصابك، وكثرة احتكاكك ومصادماتك، إذا ركبت السيارة العامة أو الترام، أو ذهبت إلى السينما، أو أردت قضاء مصلحة في ديوان من دواوين الحكومة يوم - كنت في مصر - ثم كتبت إلي من سويسرة تذكر أن قد هدأت أعصابك، وزال غضبك، ولم تجد ما يسبب الاحتكاك والاصطدام؟ إن كنت تذكر ذلك فالآن أذكر لك أن مرده كله للذوق، فإن الذوق إذا شاع في مكان، شاعت فيه السكينة والطمأنينة، ونعومة المعاملة، وجمال السلوك، وإن انعدم أو قل في مكان خشنت المعاملة، وساء السلوك، وكثر هياج الأعصاب واضطرابها وارتباكها.
أي بني!
لقد جربت الناس فوجدتهم يخضعون للذوق أكثر مما يخضعون للمنطق، فبالذوق لا بالعقل تستطيع أن تستميلهم، وأن تأسرهم، وأن توجههم، وأن تصلحهم إن شئت، أما العقل وحده فلا يستطيع أن يأسر إلا الفلاسفة وقليل ما هم.
أي بني!
ليس عندي نصيحة لك أغلى من أن تكون ذوقك ثم تنميه وترقيه. فإن فعلت ذلك ضمنت لك سعادة الحياة والاستمتاع بها، وضمنت لك سمو أخلاقك ونبل عواطفك، وضمنت لك نجاحك على قدر كفايتك، والله يوفقك.
4
أي بني!
أشد ما يقلقني عليك في هذه الأيام وجودك وسط تيارات تتنازعك، وأمواج تتقاذفك، أخشى أن تتغلب عليك فتغرقك، وأن تنال منك فتميتك، فكم رأيت لها من ضحايا أزعجتني، ومن مشاهد غرقى أفزعتني، وإني أرجو لك من صميم قلبي السلامة من هذه التيارات، والنجاة من هذه الأمواج.
فأول هذه التيارات، التيارات السياسية ... وهي في نظري نوعان: سياسة قومية، وسياسة حزبية. فالسياسة القومية كالتي يكون الجهاد فيها ضد المستعمر والمحتل والغاصب. وقد قام الطلبة فيها بأدوار رائعة أفادت البلاد وقربتها من الاستقلال، كإضرابهم يوم اعتقل سعد باشا، ونفي إلى سيشل، ونحو ذلك. والسياسة الحزبية كأن يعمل بعض الطلبة لنصرة حزب على حزب، وإثارة الشغب لعرقلة سير الحكم. فإذا جاء الحزب السعدي في الحكم مثلا، انتهز الطلبة الوفديون أية فرصة للشغب عليه، وإذا جاء الوفديون في الحكم شغب عليهم الطلبة السعديون، وهكذا، من غير منفعة قومية واضحة، ولا نتيجة مفيدة بينة، إلا الرغبة في تولية حزب وتنحية حزب، والطلبة في مثل هذه الحال، إنما يهدم بعضهم بعضا من غير كسب واضح للأمة ولا تحقيق مصلحة عامة، وقد كثر - مع الأسف - هذا النوع من الإضراب حتى شل حركة التعليم بأجمعها، وأفسد الحياة العلمية من أساسها. فلو حسبنا أوقات انتظام الدراسة في الجامعات والمعاهد العالية لما حصلنا على دراسة منتظمة تستغرق ثلاثة أشهر كاملة، وحسبك هذا نتيجة مرعبة. فما معنى هذا؟ أليس معناه أن الطلبة إما أن يرسبوا في الامتحان، فنكون قد أضعنا على كل طالب رسب، سنة من حياته، وأضعنا على الأمة عددا كبيرا من السنين يساوي عدد الراسبين ... وإما أن ينجحوا بسبب التساهل في الامتحان، فنكون قد منحنا الشهادات للعاجزين وأخرجنا للأمة طبيبا عاجزا ومهندسا غير ناضج وزراعيا غير مستأهل، وفي هذا أكبر الضرر على الأمة. ولو نحن تحملنا هذه التضحية لتحقيق فائدة للأمة أكبر منها لهان الأمر، ولكنا نبذلها لقيام حزب في الحكم مكان حزب، وما أقل ذلك مكسبا!
أي بني!
Unknown page