الإكليل في المتشابه والتأويل
شيخ الإسلام ابن تيمية
Unknown page
وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم فصل قوله تعالى ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته﴾ إلى قوله: ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد﴾ ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم﴾ .
جعل الله القلوب ثلاثة أقسام: قاسية وذات مرض ومؤمنة مخبتة؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون يابسة جامدة.
ف " الأول " هو القاسي وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع ولا يكتب فيه الإيمان ولا يرتسم فيه العلم؛ لأن ذلك يستدعي محلا لينا قابلا.
1 / 6
و" الثاني " لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون لينه مع ضعف وانحلال. فالثاني هو الذي فيه مرض والأول هو القوي اللين. وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد كاليد مثلا فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش أو تبطش بعنف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم فبالرحمة خرج عن القسوة وبالعلم خرج عن المرض؛ فإن المرض من الشكوك والشبهات. ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات. وفي قوله: ﴿وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم﴾ دليل على أن العلم يدل على الإيمان ليس أن أهل العلم ارتفعوا عن درجة الإيمان - كما يتوهمه طائفة من المتكلمة - بل معهم العلم والإيمان كما قال تعالى: ﴿لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ وقال تعالى: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله﴾ الآية. وعلى هذا فقوله: ﴿والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا﴾ نظير هذه الآية فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه: ﴿آمنا به كل من عند ربنا﴾
1 / 7
وكلا الموضعين موضع ريب وشبهة لغيرهم؛ فإن الكلام هناك في المتشابه وهنا فيما يلقي الشيطان مما ينسخه الله ثم يحكم الله آياته وجعل المحكم هنا ضد الذي نسخه الله مما ألقاه الشيطان؛
1 / 8
ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين: إن " المحكم " هو الناسخ و" المتشابه " المنسوخ. أرادوا والله أعلم قوله: ﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته﴾ . والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الله.
وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو: أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة ومقابل المنسوخ أخرى. والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف - العام - كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق
1 / 9