165

Iḥyāʾ ʿulūm al-dīn

إحياء علوم الدين

Publisher

دار المعرفة

Publisher Location

بيروت

فباعه عثمان بخمسين ألفًا
فكانوا يفعلون ذلك قطعًا لمادة الفكر وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره
فأما ما ذكرناه من التلطف بالتسكين والرد إلى فهم الذكر فذلك ينفع في الشهوات الضعيفة والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب
فأما الشهوة القوية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك ثم تغلبك وتنقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة
ومثاله رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره وكانت أصوات العصافير تشوش عليه فلم يزل يطيرها بخشبة في يده ويعود إلى فكره فتعود العصافير فيعود إلى التنفير بالخشبة فقيل له إن هذا أسير السواني ولا ينقطع فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة
فكذلك شجرة الشهوات إذا تشعبت وتفرعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار وانجذاب الذباب إلى الأقذار والشغل يطول في دفعها فإن الذباب كلما ذب آب ولأجله سمي ذبابًا
فكذلك الخواطر وهذه الشهوات كثيرة وقلما يخلو العبد عنها ويجمعها أصل واحد وهو حب الدنيا وذلك رأس كل خطيئة وأساس كل نقصان ومنبع كل فساد
ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود منها ولا ليستعين بها على الآخرة فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة
فإن من فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته
وهمة الرجل مع قرة عينه فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ورد القلب إلى الصلاة وتقليل الأسباب الشاغلة فهذا هو الدواء المر ولمرارته استبشعته الطباع وبقيت العلة مزمنة وصار الداء عضالًا حتى إن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثوا أنفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوسواس لنكون ممن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا
وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بخل فبقدر ما ندخل فيه من الماء يخرج منه من الخل لا محالة ولا يجتمعان
بَيَانُ تَفْصِيلِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ رُكْنٍ وَشَرْطٍ مِنْ أَعْمَالِ الصلاة
فنقول حقك إن كنت من المريدين للآخرة أن لا تغفل أولًا عن التنبيهات التي في شروط الصلاة وأركانها
أما الشروط السوابق فهي الأذان والطهارة وستر العورة واستقبال القبلة والانتصاب قائمًا والنية
فإذا سَمِعْتَ نِدَاءَ الْمُؤَذِّنِ فَأَحْضِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَشَمَّرْ بِظَاهِرِكَ وَبَاطِنِكَ لِلْإِجَابَةِ وَالْمُسَارَعَةِ فَإِنَّ الْمُسَارِعِينَ إِلَى هَذَا النِّدَاءِ هُمْ الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر فاعرض قلبك على هذا النداء فإن وجدته مملوءًا بالفرح والاستبشار مشحونًا بالرغبة إلى الابتدار فاعلم أنه يأتيك النداء بالبشرى والفوز يوم القضاء
ولذلك قال ﷺ أرحنا يا بلال (١) أي أرحنا بها وبالنداء إليها إذ كان قرة عينه فيها ﷺ
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَإِذَا أَتَيْتَ بِهَا فِي مَكَانِكَ وهو ظرفك الأبعد ثم في ثيابك وهي غلافك الأقرب ثم في بشرتك وهي قِشْرُكَ الْأَدْنَى فَلَا تَغْفُلْ عَنْ لُبِّكَ الَّذِي هو ذاتك وهو قلبك فاجتهد له تطهيرًا بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطْتَ وَتَصْمِيمِ الْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَطَهِّرْ بِهَا بَاطِنَكَ فإنه موضع نَظَرِ مَعْبُودِكَ
وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَاهُ تَغْطِيَةُ مَقَابِحِ بَدَنِكَ عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ فإن ظاهر بدنك مرتع لِنَظَرِ الْخَلْقِ فَمَا بَالُكَ فِي عَوْرَاتِ بَاطِنِكَ وَفَضَائِحِ سَرَائِرِكَ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا رَبُّكَ ﷿ فَأَحْضِرْ تِلْكَ الْفَضَائِحَ بِبَالِكَ وَطَالِبْ نَفْسَكَ بِسَتْرِهَا وَتَحَقَّقْ أَنَّهُ لَا يَسْتُرُ عن عين الله سبحانه

(١) حديث بها أرحنا يا بلال أخرجه الدارقطني في العلل من حديث بلال ولأبي داود نحوه من حديث رجل من الصحابة لم يسم بإسناد صحيح

1 / 165