ـ[الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان]ـ
المؤلف: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: ٣٥٤هـ)
ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (المتوفى: ٧٣٩ هـ)
حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت
الطبعة: الأولى، ١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
عدد الأجزاء: ١٨ (١٧ جزء ومجلد فهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي، ويمكن الانتقال للجزء والصفحة ورقم الحديث]
Unknown page
المجلد الأول
مقدمات
مقدمة الأمير علاء الدين الفارسي
مدخل
رب يسر بخير
الحمد لله على ما علم من البيان وألهم من التبيان، وتمم من الجود والفضل والإحسان.
والصلاة والسلام الأتمام الأكملان على١ سيد ولد عدنان المبعوث بأكمل الأديان، المنعوت في التوراة والإنجيل والفرقان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، صلاة دامة ما كر الجديدان وعبد الرحمن.
وبعد، فإن من أجمع المصنفات في الأخبار النبوية، وأنفع المءلفات في الآثار المحمدية، وأشضرف الوضاع، وأطرف الإبداع: كتاب "التقاسيم والأنواع" للشيخ الإمام، حسنةالأيام حافظ زمانه، وضابط أوانه معدن الإتقان أبي حاتم محمد بن حبان، التميمي البستي شكر الله مسعاه، وجعل الجنة مثواه، فإنه لم ينسج له على منوال، في جمع سنن الحرام والحلال لكنه لبديع صنعه، ومنيع وضعه قد عز جانبه، فكثر مجانبه، تعسر اقتناص شوارده، فتعذر الإقتباس من فوائده وموارده، فرأيت أن أتسبب لتقريبه، وأتقرب إلى الله بتهذيبه وترتيبه، وأسهله على طلابه، بوضع كل حديث في بابه، الذي هو أولى به، ليؤمه من الهجره، ويقدمه من أهمله وأخره، وشرعت
_________
١ بياض في الأصل في المواطن الثلاثة، وما أثبت هو الذي استظهره العلامة شاكر ﵀ وتابعناه على ذلك.
1 / 95
فيه معترفا بأن البضاعة مزجاة، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله، فحصلته في أيسر مدة، وجعلته للطلبة وعدة، فأصبح بحمد الله موجودا يعد أن كان كالعدم، مقصودا كنار على أرفع علم، معدودا بفضل الل من أكمل النعم قد فتحت سماء يسرهو فصارت أبوابا وزخزحت جبال عسره فككانت سرابا وقرن كل صنر بصنفه، فآضت أزواجا، وكل تلو بإلفه، فضاءت سراجا وهاجا، وسميته: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان
والله أسأل أن يجعله زادا لحسن المصير إليه، وعتادا ليمن القدوم عليه، أنه لكل جميل كفيل، وهوحسبي ونعم الوكيل، وها أنا أذكر مقدمة تشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في ذكر ترجمته ليعرف قدر جلالته.
زالفصل الثاني: في نص خطبته، وما نص عليه في غرة ديباجته وخاتمته، ليعلم مضمون قراره، ومكنون مصونه وأسراره.
والفصل الثلث: في ذكر ما رتب عليه هذا الكتاب من المتب والفصول والأبواب قصدا لتكميل التهذيب وتسهيل التقريب.
1 / 96
الفصل الأول: ترجمة ابن حبان ﵀
...
الفصل الأول
أقول وبالله التوفيق هو الإمام العالم الفاضل المتقن المحقق الحافظ العلامة محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بكسر الحاء المهملة وبالباء الموحدة فيهما ١ ابن معاذ بن معبد بالباء الموحدة بن سعيد بن سهيد بفتح السين المهملة وكسر الهاء ٢ويقال بن معبد بن هدية بفتح الهاء وكسر الدال وتشديد الياء آخر الحروف ٣ ابن مرة بن سعد بن يزيد بن مرة بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر ٤ بن أد بن طابخة بن الياس ٥ بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو حاتم التميمي البستي
_________
١ تصحف في "القاموس المحيط"في مادة "سهد" إلى "حيان" بالمثناة التحتية.
٢ وكذلك ضبطه الذهبي وابن حجر والفيروزابادي، وتصحف في معظم مصادر ترجمة ابن حبان إلى "شهيد" بالشين المعجمة.
٣ تصحف في "معجم البلدان" رسم "بست" إلى "هدبة" بالباء الموحدة.
٤ مُرّ: بضم الميم وتشديد الراء. ووقع في نسخة الإحسان "بشر" وهو خطأ. انظر مصادر ترجمته، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص١٩٨ و٢٠٦. ونسب عدنان وقحطان للمبرد ص٦.
٥ قال العلامة أحمد شاكر: يخطئ كثير من الناس، فيقرأ هذا الاسم في عمود النسب إلياس، بكسر الهمزة في أوله، على أنه اسم للنبي إلياس ﵇ وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف، أما هذا الاسم "الياس بن مضر" فإنه اسم عربي مصروف، تهمز ألفه الثانية التي قبل السين، على الأصل، أو تحذف تسهيلًا وتخفيفًا. أما ألفه الأولى فإنها موصولة إذ هي الألف واللام اللتان للتعريف، قال ابن دريد في "الاشتقاق" ٢/٣٠: يمكن أن يكون اشتقاق "الياس" من قولهم: يئس ييأس يأسًا، ثم أدخلوا على "اليأس" الألف واللام. ويمكن أن يكون من قولهم رجل أليس من قوم ليس، أي شجاع، وهو غاية ما يوصف به الشجاع. هذا لمن يهمز "اليأس" والتفسير الأول أحب إلي.
وذهب ابن الأنباري إلى أنه بكسر أوله، ورد عليه السهيلي في "الروض الأنف" ١/٧ قال: "والذي قاله غير ابن الأنباري أصح، وهو أنه "اليأس" سُمي بضد الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة همزة وصل، وقاله قاسم بن ثابت في "الدلائل" وأنشد أبياتًا شواهد" ثم ذكر السهيلي بعض هذه الشواهد.
1 / 97
القاضي أحد الأئمة الرحالين والمصنفين.
ذكره الحاكم أبو عبد الله فقال كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ من عقلاء الرجال وكان قدم نيسابور فسمع بها من عبد الله بن شيرويه ثم أنه دخل العراق فأكثر عن أبي خليفة القاضي وأقرانه وبالأهواز وبالموصل وبالجزيرة وبالشام وبمصر وبالحجاز وكتب بهراة ومرو وبخارى.
ورحل إلى عمر بن محمد بن بجير وأكثر عنه وروى عن الحسن بن سفيان وأبي يعلى الموصلي.
ثم صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق إليه وولي القضاء بسمرقند وغيرها من المدن بخراسان ثم ورد نيسابور سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة وخرج إلى القضاء إلى نسا وغيرها وانصرف إلينا سنة سبع وثلاثين فأقام بنيسابور وبنى الخانقاه وسمع منه خلق كثير.
روى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو علي منصور بن عبد الله بن خالد الهروي وأبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن سلم وأبو بكر محمد بن
1 / 98
أحمد بن عبد الله النوقاتي ١وأبو معاذ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رزق السجستاني وأبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد الزوزني.
وقال أبو سعد عبد الرحمن بن أحمد الإدريسي أبو حاتم البستي كان من فقهاء الناس وحفاظ الآثار المشهورين في الأمصار والأقطار عالما بالطب والنجوم وفنون العلوم ألف المسند الصحيح والتاريخ والضعفاء والكتب المشهورة في كل فن وفقه الناس بسمرقند ثم تحول إلى بست ذكره عبد الغني بن سعيد في البستي.
وذكره الخطيب ٢ وقال وكان ثقة ثبتا فاضلا فهما.
وذكره الأمير في حبان بكسر الحاء المهملة ولي القضاء بسمرقند وكان من الحفاظ الأثبات.
توفي بسجستان ليلة الجمعة لثمان ليال بقين من شوال سنة أربع وخمسين وثلاث مائة وقيل ببست في داره التي هي اليوم ٣ مدرسة لصحابه ومسكن للغرباء الذين يقيمون بها من أهل الحديث والمتفقهة منهم ولهم جرايات يستنفقونها وفيها خزانة كتب.
_________
١ في الأصل "النوقاني": بالنون آخره، وهو خطأ، والنوقاتي بالتاء المثناة فوق قبل ياء النسبة: نسبة إلى "نوقات" محلة بسجستان كما في "المشتبه" و"التبصير" و"معجم البلدان" و"الوافي" ٢/٩٠، وأخطأ الأمير علاء الدين في كنية هذا الشيخ ونسبه إذ قال: أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله، وصوابه: أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان، مترجم في "سير أعلام النبلاء" ١٧/١٤٤.
٢ وهو من شرطه، فنه دخل بغداد، وسمع بها من أبي العباس حامد بن محمد بن شعيب البلخلي، لكن لم أظفر بترجمته في المطبوع من تاريخ بغداد.
٣ هذا كلام الحاكم لم يعزه الأمير علاء الدين إليه، فقوله: التي هي اليوم، يعني في زمن الحاكم، أما في عصر الأمير علاء الدين؛ فقد تقدم في مقدمة التحقيق أن بست قد خرب أكثرها.
1 / 99
مقدمة ابن حبان في صحيحه
مدخل
الفصل الثاني ١
قال ﵀ ٢: الحمد لله المستحق الحمد لآلائه المتوحد بعزه وكبريائه القريب من خلقه في أعلى علوة البعيد منهم في أدنى دنوة العالم بكنين مكنون النجوى والمطلع على أفكار السر وأخفى وما استجن تحت عناصر الثرى وما جال فيه خواطر الورى الذي ابتدع الأشياء بقدرته وذرأ الأنام بمشيئته من غير أصل عليه افتعل ولا رسم مرسوم امتثل ثم جعل العقول مسلكا لذوي الحجا وملجأ في مسالك أولي النهى وجعل أسباب الوصول إلى كيفية العقول ما شق لهم من الأسماع والأبصار والتكلف للبحث والاعتبار فأحكم لطيف ما دبر وأتقن جميع ما قدر.
ثم فضل بأنواع الخطاب أهل التمييز والألباب ثم اختار طائفة لصفوته وهداهم لزوم طاعته من اتباع سبل الأبرار في لزوم السنن والآثار فزين قلوبهم بالإيمان وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف أعلام دينه واتباع سنن نبيه بالدؤوب ٣ في الرحل والأسفار وفراق الأهل والأوطار في جمع السنن.
_________
١ هذا الفصل هو خطبة ابن حبان في أصل صحيحه.
٢ في نسخة دار الكتب المصرية: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. قال الشيخ الإمام العلامة، قدوة الحفاظ، أوجد النقاد، أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي، برد الله مضجعه، وأثابه الجنة.
٣ يقال: "دأب دأبًا" بسكون الهمزة، و"دَأَبًا" بفتحها، و"دُؤوبًا" بضم الدال والهمزة، ومدها، فهو دئب بفتح الدال، وكسر الهمزة، أي: جد وتعب.
1 / 100
ورفض الأهواء والتفقه فيها بترك الآراء فتجرد القوم للحديث وطلبوه ورحلوا فيه وكتبوه وسألوا عنه وأحكموه وذاكروا به ونشروه وتفقهوا فيه وأصلوه وفرعوا عليه وبذلوه وبينوا المرسل من المتصل والموقوف من المنفصل والناسخ من المنسوخ والمحكم من المفسوخ والمفسر من المجمل والمستعمل من المهمل والمختصر من المتقصى والملزوق من المتفصى والعموم من الخصوص والدليل من المنصوص والمباح من المزجور والغريب من المشهور والفرض من الإرشاد والحتم من الإيعاد والعدول من المجروحين ١ والضعفاء من المتروكين وكيفية المعمول والكشف عن المجهول ٢ وما حرف عن المخزول وقلب ٣ من المنحول من مخايل التدليس وما فيه من التلبيس حَتَّى حَفِظَ اللَّهُ بِهِمُ الدِّينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وصانه عن ثلب القادحين وجعلهم عند التنازع أئمة الهدى وفي النوازل مصابيح الدجى فهم ورثة الأنبياء ومأنس الأصفياء وملجأ الأتقياء ومركز الأولياء.
فله الحمد على قدره وقضائه وتفضله بعطائه وبره ونعمائه ومنه بآلائه.
أشهد أن لا إله إلا الذي بهدايته سعد من اهتدى وبتأييده رشد من اتعظ وارعوى وبخذلانه ضل من زل وغوى وحاد عن الطريقة المثلى.
وأشهد أن محمدا عبده المصطفى ورسوله المرتضى بعثه إليه داعيا وإلى جنانه هاديا فصلى الله عليه وأزلفه في الحشر لديه وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين.
_________
١ في نسخة دار الكتب "المحدثين"
٢ بهامش الإحسان "المجعول" وكذلك هي في نسخة دار الكتب.
٣ في نسخة دار الكتب: "اقلب" وكلاهما صحيح، يقال: قلبه يقلبه، كأقلبه، أي حوله.
1 / 101
أما بعد فإن الله جل وعلا انتخب محمدا ﷺ لنفسه وليا وبعثه إلى خلقه نبيا ليدعوا الخلق من عبادة الأشياء إلى عبادته ومن اتباع السبل إلى لزوم طاعته حيث كان الخلق في جاهلية جهلاء وعصبية مضلة ١ عمياء يهيمون في الفتن حيارى ويخوضون في الأهواء سكارى يترددون في بحار الضلالة ويجولون في أودية الجهالة شريفهم مغرور ووضيعهم مقهور.
فبعثه الله إلى خلقه رسولا وجعله إلى جنانه دليلا فبلغ ﷺ عنه رسالاته وبين المراد عن آياته وأمر بكسر الأصنام ودحض الأزلام حتى أسفر الحق عن محضه وأبدى الليل عن صبحه وانحط به أعلام الشقاق وانهشم بيضة النفاق.
وإن في لزوم سنته تمام السلامة وجماع الكرامة لا تطفأ سرجها ولا تدحض حججها من لزمها عصم ومن خالفها ندم إذ هي الحصن الحصين والركن الركين الذي بان فضله ومتن حبله من تمسك به ساد ومن رام خلافه باد فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل والمغبوطون بين الأنام في العاجل.
وإني لما رأيت الأخبار طرقها كثرت ومعرفة الناس بالصحيح منها قلت لاشتغالهم بكتبة الموضوعات وحفظ الخطأ أو المقلوبات حتى صار الخبر الصحيح مهجورا لا يكتب والمنكر المقلوب عزيزا يستغرب وأن من جمع السنن من الأئمة المرضيين وتكلم عليها من أهل الفقه والدين أمعنوا في ذكر الطرق للأخبار وأكثروا من تكرار المعاد للآثار قصدا منهم لتحصيل الألفاظ على من رام حفظها من الحفاظ فكان ذلك سبب اعتماد المتعلم على ما في الكتاب وترك المقتبس التحصيل للخطاب.
فتدبرت الصحاح لأسهل حفظها على المتعلمين وأمعنت الفكر فيها لئلا
_________
١ يقال: "أرض مضلة" بفتح الضاد وكسرها، وفتح الميم مع كليهما، أي: يضل فيها، ولا يهتدي فيها إلى الطريق، وكذلك قالوا: فتنة مضلة، أي: تضل الناس.
1 / 102
يصعب وعيها على المقتبسين فرأيتها تنقسم خمسة أقسام متساوية متفقة التقسيم غير متنافية.
فأولها الأوامر التي أمر الله عباده بها.
والثاني النواهي التي نهى الله عباده عنها.
والثالث إخباره عما احتيج إلى معرفتها.
والرابع الإباحات التي أبيح ارتكابها.
والخامس أفعال النبي ﷺ التي انفرد بفعلها.
ثم رأيت كل قسم منها يتنوع أنواعا كثيرة ومن كل نوع تتنوع ١علوم خطيرة ليس يعقلها إلا العالمون الذين هم في العلم راسخون دون من اشتغل في الأصول بالقياس المنكوس وأمعن في الفروع بالرأي المنحوس ٢.
_________
١ في نسخة دار الكتب "تنتزع".
٢ هذا الوصف حق في الرأي الصادر عن هوى وتشهٍ، والمخالف لكتاب الله وسنة رسوله، ولكنه لا ينطبق على فقه الفقهاء من الأئمة المجتهدين الذين يستنبطون حكم النازلة من النص على طريقة فقهاء الصحابة والتابعين برد النظير إلى نظيره في الكتاب أو السنة. وجميع العلماء المجتهدين يُعدون من أهل الرأي، لأن كل واحد منهم لا يستغني في اجتهاده عن نظر ورأي، ولو بتحقيق المناط وتنقيحه الذي لا نزاع فيه، لكن هذا اللقب "أصحاب الرأي" أطلق على علماء الكوفة وفقهائها من قبل أناس من رواة الحديث كان جل علمهم أن يخدموا ظواهر ألفاظ الحديث، ولا يرومون فهم ما وراء ذلك من استجلاء حقائق المعاني، وجليل الاستنباط، وكان هؤلاء الرواة يضيقون صدرًا من كل من أعمل عقله في فهم النص، وتحقيق العلة والمناط، وأخذ يبحث في غير ما يبدو لأمثالهم من ظاهر الحديث، ويرونه قد خرج عن الجادة، وترك الحديث إلى الرأي، فهو بهذا – في زعمهم- مذموم منبوذ الرواية، وقد جرحوا بهذا اللقب طوائف من الرواة الفقهاء الأثبات كما تراه في كثير من تراجم رجال الحديث في حين أن هؤلاء الفقهاء المحدثين يستحقون كل تقدير وإجلال، ولا يصح أن يكون هذا مدعاة لذمهم أو الطعن فيهم.
1 / 103
وإنا ١نملي كل قسم بما فيه من الأنواع وكل نوع بما فيه من الاختراع الذي لا يخفي تحضيره على ذوي الحجا ولا تتعذر كيفيته على أولي النهى.
ونبدأ منه بأنواع تراجم الكتاب ثم نملي الأخبار بألفاظ الخطاب بأشهرها إسنادا وأوثقها عمادا من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها لأن الاقتصار على أتم المتون أولى والاعتبار بأشهر الأسانيد أحرى من الخوض في تخريج التكرار وإن آل أمره إلى صحيح الاعتبار.
والله الموفق لما قصدنا بالإتمام وإياه نسأل الثبات على السنة والإسلام وبه نتعوذ من البدع والآثام والسبب الموجب للانتقام إنه المعين لأوليائه على أسباب الخيرات والموفق لهم سلوك أنواع الطاعات وإليه الرغبة في تيسير ما أردنا وتسهيل ما أومأنا إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
_________
١ في هامش الأصل وفي نسخة دار الكتب "وإنما".
1 / 104
القسم الأول من أقسام السنن وهو الأوامر
قال أبو حاتم ﵁ تدبرت خطاب الأوامر عن المصطفى ﷺ لاستكشاف ما طواه في جوامع كلمه فرأيتها تدور على مائة نوع وعشرة أنواع يجب على كل منتحل لسنن أن يعرف فصولها وكل منسوب إلى العلم أن يقف على جوامعها لئلا يضع السنن إلا في مواضعها ولا يزيلها عن موضع القصد في سننها.
فأما النوع الأول من أنواع الأوامر فهو لفظ الأمر الذي هو فرض على المخاطبين كافة في جميع الأحوال وفي كل الأوقات حتى لا يسع أحدا منهم الخروج منه بحال.
النوع الثاني ألفاظ الوعد التي مرادها الأوامر باستعمال تلك الأشياء.
النوع الثالث لفظ الأمر الذي أمر به المخاطبون في بعض الأحوال لا الكل.
النوع الرابع لفظ الأمر الذي أمر به بعض المخاطبين في بعض الأحوال لا الكل.
النوع الخامس الأمر بالشيء الذي قامت الدلالة من خبر ثان على فرضيته وعارضه بعض فعله ووافقه البعض.
1 / 105
النوع السادس لفظ الأمر الذي قامت الدلالة من خبر ثان على فرضيته قد يسع ترك ذلك الأمر المفروض عند وجود عشر خصال معلومة فمتى وجد خصلة من هذه الخصال العشر كان الأمر باستعمال ذلك الشيء جائزا تركه ومتى عدم هذه الخصال العشر كان الأمر باستعمال ذلك الشيء واجبا.
النوع السابع الأمر بثلاثة أشياء مقرونة في اللفظ الأول منها فرض يشتمل على أجزاء وشعب تختلف أحوال المخاطبين فيها والثاني ورد بلفظ العموم والمراد منه استعماله في بعض الأحوال لأن رده فرض على الكفاية والثالث أمر ندب وإرشاد.
والنوع الثامن الأمر بثلاثة أشياء مقرونة في اللفظ الأول منها فرض على المخاطبين في بعض الأحوال والثاني فرض على المخاطبين في جميع الأحوال والثالث أمر إباحة لاحتم.
النوع التاسع الأمر بثلاثة أشياء مقرونة في الذكر أحدها فرض على جميع المخاطبين في جميع الأحوال والثاني والثالث أمر ندب وإرشاد لا فريضة وإيجاب.
النوع العاشر الأمر بشيئين مقرونين في اللفظ أحدهما فرض على بعض المخاطبين على الكفاية والثاني أمر إباحة لاحتم.
النوع الحادي عشر الأمر بثلاثة أشياء مقرونة في اللفظ الأول منها فرض على المخاطبين في بعض الأحوال والثاني فَرْضٌ عَلَى بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ والثالث فرض على المخاطبين في جميع الأوقات.
النوع الثاني عشر الأمر بأربعة أشياء مقرونة في الذكر الأول منها فرض على جميع المخاطبين في كل الأوقات والثاني فرض على المخاطبين في بعض الأحوال والثالث فرض على بعض المخاطبين في بعض الأوقات والرابع ورد بلفظ العموم وله تخصيصان اثنان من خبرين آخرين.
1 / 106
النوع الثالث عشر الأمر بأربعة أشياء مقرونة في الذكر الأول منها فرض على جميع المخاطبين في كل الأوقات والثاني فرض على المخاطبين في بعض الأحوال والثالث فَرْضٌ عَلَى بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ والرابع أمر تأديب وإرشاد أمر به المخاطب إلا عند وجود علة معلومة وخصال معدودة.
النوع الرابع عشر الأمر بالشيء الواحد للشخصين المتباينين والمراد منه أحدهما لا كلاهما.
النوع الخامس عشر الأمر الذي أمر به إنسان بعينه في شيء معلوم لا يجوز لأحد بعده استعمال ذلك الفعل إلى يوم القيامة وإن كان ذلك الشيء معلوما يوجد.
النوع السادس عشر الأمر بفعل عند وجود سبب لعلة معلومة وعند عدم ذلك السبب الأمر بفعل ثان لعلة معلومة خلاف تلك العلة المعلومة التي من أجلها أمر بالأمر الأول.
النوع السابع عشر الأمر بأشياء معلومة قد كرر بذكر الأمر بشيء من تلك الأشياء المأمور بها على سبيل التأكيد.
النوع الثامن عشر الأمر باستعمال شيء بإضمار سبب لا يجوز استعمال ذلك الشيء إلا باعتقاد ذلك السبب المضمر في نفس الخطاب.
النوع التاسع عشر الأمر بالشيء الذي أمر على سبيل الحتم مراده استعمال ذلك الشيء مع الزجر عن ضده.
النوع العشرون: الأمر بالشيء الذي أمر به المخاطبون في بعض الأحوال عند وقتين معلومين على سبيل الفرض والإيجاب قد دل فعله على أن المأمور به في أحد الوقتين المعلومين غير فرض وبقي حكم الوقت الثاني على حالته.
1 / 107
النوع الحادي والعشرون ألفاظ إعلام مرادها الأوامر التي هي المفسرة لمجمل الخطاب في الكتاب.
النوع الثاني والعشرون لفظة أمر بشيء يشتمل على أجزاء وشعب فما كان من تلك الأجزاء والشعب بالإجماع أنه ليس بفرض فهو ١ نفل وما لم يدل الإجماع ولا الخبر على نفليته فهو حتم لا يجوز تركه بحال.
النوع الثالث والعشرون: الأوامر التي وردت بألفاظ مجملة مختصرة ذكر بعضها في أخبار أخر.
النوع الرابع والعشرون الأوامر التي وردت بألفاظ مجملة مختصرة ذكر بعضها في أخبار أخر.
النوع الخامس والعشرون الأمر بالشيء الذي بيان كيفيته في أفعاله ﷺ.
النوع السادس والعشرين الأمر بشيئين متضادين على سبيل الندب خير المأمور به بينهما حتى إنه ليفعل ما شاء من الأمرين المأمور بهما والقصد فيه الزجر عن شيء ثالث.
النوع السابع والعشرون الأمر بشيئين مقرونين في الذكر المراد من أحدهما الحتم والإيجاب مع إضمار شرط فيه قد قرن به حتى لا يكون الأمر بذلك الشيء إلا مقرونا بذلك الشرط الذي هو المضمر في نفس الخطاب والآخر أمر إيجاب على ظاهره يشتمل على الزجر عن ضده.
النوع الثامن والعشرون لفظ الأمر الذي ظاهره مستقل بنفسه وله تخصيصان اثنان أحدهما من خبر ثان والآخر من الإجماع وقد يستعمل الخبر مرة على عمومه وتارة يخص بخبر ثان وأخرى يخص بالإجماع.
_________
١ في الأصل بدون فاء، وما أثبتناه من نسخة دار الكتب.
1 / 108
النوع التاسع والعشرون الأمر بشيئين مقرونين في الذكر خير المأمور به بينهما حتى إنه موسع ١ عليه أيفعل أيهما شاء منهما٢.
النوع الثلاثون: الأمر الذي ورد بلفظ البدل حتى لا يجوز استعماله إلا عند عدم السبيل إلى الفرض الأول.
النوع الحادي والثلاثون: لفظة أمر بفعل من أجل سبب مضمر في الخطاب فمتى كان السبب للمضمر الذي من أجله أمر بذلك الفعل معلوما بعلم ٣كان الأمر به واجبا وقد عدم علم ذلك السبب بعد قطع الوحي فغير جائز استعمال ذلك الفعل لأحد إلى يوم القيامة.
النوع الثاني والثلاثون: الأمر باستعمال فعل عند عدم شيئين معلومين فمتى عدم الشيئان اللذان ذكرا في ظاهر الخطاب كان استعمال ذلك الفعل مباحا للمسلمين كافة ومتى كان أحد ذينك ٤ الشيئين موجودا كان استعمال ذلك الفعل منهيا عنه بعض الناس وقد يباح استعمال ذلك الفعل تارة لمن وجد فيه الشيئان اللذان وصفتهما كما زجر عن استعماله تارة أخرى من وجدا فيه.
النوع الثالث والثلاثون: الأمر بإعادة فعل قصد المؤدي لذلك الفعل أداءه فأتى به على غير الشرط الذي أمر به.
النوع الرابع والثلاثون: الأمر بشيئين مقرونين في الذكر عند حدوث سببين ٥أحدهما معلوم يستعمل على كيفيته والآخر بيان كيفيته في فعله وأمره.
_________
١ في نسخة دار الكتب "لموسع".
٢ في نسخة دار الكتب "أيّما".
٣ في نسخة دار الكتب "يعلم".
٤ في الأصل "ذلك" والمثبت هو الصحيح إذ الإشارة إلى اثنين.
٥ في نسخة دار الكتب "سبب".
1 / 109
النوع الخامس والثلاثون: الأمر بالشيء الذي أمر به ١بلفظ الإيجاب والحتم وقد قامت الدلالة من خبر ثان على أنه سنة والقصد فيه علة معلومة أمر من أجلها هذا الأمر المأمور به.
النوع السادس والثلاثون: المر بالشيء الذي كان محظورا فأبيح به ٢ ثم نهي عنه ثم أبيح ثم نهي عنه فهو محرم إلى يوم القيامة.
النوع السابع والثلاثون: الأمر الذي خير المأمور به بين ثلاثة أشياء مقرونة في الذكر عند عدم القدرة على كل واحد منها حتى يكون المفترض عليه عند العجز عن الأول له أن يؤدي الثاني وعند العجز عن الثاني له أن يؤدي الثالث.
النوع الثامن والثلاثون: لفظ الأمر الذي خير المأمور به بين أمرين بلفظ التخيير على سبيل الحتم والايجاب حتى يكون المفترض عليه له أن يؤدي أيهما ٣ شاء منها.
النوع التاسع والثلاثون: لفظ الأمر الذي خير المأمور به بين أشياء محصورة من عدد معلوم حتى لا يكون له تعدي ما خير فيه إلى ما هو أكثر منه من العدد.
النوع الأربعون: الأمر الذي هو فرض خير المأمور به بين ثلاثة أشياء حتى يكون المفترض عليه له أن يؤدي أيما شاء من الأشياء الثلاث.
النوع الحادي والأربعون: الأمر بالشيء الذي خير المأمور به في أدائه بين صفات ذوات عدد ثم ندب إلى الأخذ منها بأيسرها عليه.
_________
١ زيادة من نسخة دار الكتب.
٢ به: ليست في نسخة دار الكتب. وقال العلامة أحمد شاكر: وزيادتها خطأ، وهذا وهم منه ﵀.
٣ في نسخة دار الكتب:"أيما".
1 / 110
النوع الثاني والأربعون: الأمر الذي خير المأمور به في أدائه بين صفات أربع حتى يكون المأمور به له أن يؤدي ذلك الفعل بأي صفة من تلك الصفات الأربع شاء والقصد فيه الندب والإرشاد.
النوع الثالث والأربعون: الأمر الذي هو مقرون بشرط فمتى كان ذلك الشرط موجودا كان ١ الأمر واجبا ومتى عدم ذلك الشرط بطل ذلك الأمر.
النوع الرابع والأربعون: الأمر بفعل مقرون بشرط حكم ذلك الفعل على الإيجاب وسبيل الشرط على الإرشاد.
النوع الخامس والأربعون: الأمر الذي أمر بإضمار شرط في ظاهر الخطاب فمتى كان ذلك الشرط المضمر موجودا كان الأمر واجبا ومتى عدم ذلك الشرط جاز استعمال ضد ذلك الأمر.
النوع السادس والأربعون: الأمر بشيئين مقرونين في الذكر أحدهما فرض قامت الدلالة من خبر ثان على فرضيته والآخر نفل دل الإجماع على نفليته.
النوع السابع والأربعون: الأمر بشيئين في الذكر أحداهما أراد به التعليم والآخر أمر إباحة لا حتم.
النوع الثامن والأربعون: الأمر بثلاثة أشياء مقرونة في الذكر أحداهما فرض على جميع المخاطبين في كل الأوقات والثاني فرض على بعض الخاطبين في بعض الأحوال والثالث له تخصيصات اثنان من خبرين آخرين حتى لا يجوز استعماله على عموم ما ورد الخبر فيه إلا بأحد التخصيصين اللذين ذكرتهما.
النوع التاسع والأربعون: الأمر بثلاثة أشياء مقرونة في الذكر المراد من اللفظين الأوليتين أمر فضيلة وإرشاد والثالث أمر إباحة لا حتم.
_________
١ في نسخة دار الكتب "لكان" والصواب ما هو هنا.
1 / 111
النوع الخمسون: الأمر بثلاثة أشياء مقرونة في الذكر الأول منها فرض لا يجوز تركه والثاني والثالث أمران لعلة معلومة مرادها الندب والإرشاد.
النوع الحادي والخمسون: الأمر بأربعة أشياء مقرونة في الذكر الأول والثالث أمرا ندب وإرشاد والثاني قرن بشرط فالفعل المشار إليه في نفسه نفل والشرط الذي قرن به فرض والرابع أمر إباحة لاحتم.
النوع الثاني والخمسون: الأمر بالشيء يذكر تعقيب شيء ماض والمراد منه بدايته فأطلق الأمر بلفظ التعقيب والقصد منه البداية لعدم ذلك التعقيب إلا بتلك البداية.
النوع الثالث والخمسون: الأمر بفعل في أوقات معلومة من أجل سبب معلوم فمتى صادف المرء ذلك السبب في أحد الأوقات المذكورة سقط عنه ذلك في سائرها وإن كان ذلك أمر ندب وإرشاد.
النوع الرابع والخمسون: الأمر بفعل مقرون بصفة معين عليها يجوز إستعمال ذلك الفعل بغير تلك الصفة التي قرنت به.
النوع الخامس والخمسون: الأمر بأشياء من أجل علل مضمرة في نفس الخطاب لم تبين كيفيتها في ظواهر الأخبار.
النوع السادس والخمسون: الأمر بخمسة شياء مقرونة في الذكر الأول منها بلفظ العموم والمراد منه الخاص والثاني والثالث لكل واحد منهما تخصيصان اثنان كل واحد منهما من سنة ثابتة ١والرابع قصد به بعض المخاطبين في بعض الأحوال والخامس فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين فرضه.
النوع السابع والخمسون: الأمر بستة أشياء مقرونة في اللفظ الثلاثة
_________
١ في نسخة دار الكتب: "ثانية".
1 / 112
الأول فرض على المخاطبين في بعض الأحوال والثلاثة الأخر فرض على المخاطبين في كل الأحوال.
النوع الثامن والخمسون: الأمر بسبعة أشياء مقرونة في الذكر الأول والثاني منهما أمرا ندب وإرشاد والثالث والرابع أطلقا بلفظ العموم والمراد منه البعض لا الكل والخامس والسابع أمرا حتم وإيجاب في الوقت دون الوقت والسادس أمر باستعماله على الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غيرهم.
النوع التاسع والخمسون: الأمر بفعل عند وجود شيئين معلومين والمراد منه أحدهما لا كلاهما ١لعدم اجتماعهما معا في السبب الذي من أجله أمر بذلك الفعل.
النوع الستون: الأمر بترك طاعة لتفرد المرء بإتيانها من غير إرداف ما يشبهها أو تقديم مثلها.
النوع الحادي والستون: الأمر بشيئين مقرونين في الذكر أحدهما فرض لا يسع رفضه والثاني مراده التغليط والتشديد دون الحكم.
النوع الثاني والستون: لفظة أمر قرن بزجر عن ترك استعمال شيء قد قرن إباحته بشرطين معلومين ثم قرن أحد الشرطين بشرط ثالث حتى لا يباح ذلك الفعل إلا بهذه الشرائط المذكورة.
النوع الثالث والستون: الأمر بالشيء الذي مراده التحذير مما يتوقع في المتعقب مما حظر عليه.
النوع الرابع والستون: الأمر بالشيء الذي مراده الزجر عن سبب ذلك الشيء المأمور به.
_________
١ في نسخة دار الكتب: "كليهما" وهو خطأ.
1 / 113