238

كان رحمه الله على ما أجمع عليه الثقاة مثل ابن حوقل معاصره والأزدي وسبط بن الجوزي يجوز أخذ ما في أيدي الناس ليستعين به على غزو الروم ، ويسرف بجانب كبير يفضل به على الشعراء والأدباء فيخرجه من أكياس الرعية وجيوبهم لينفقه في وجوه المبرات والعطايا ، ولذلك أسس في هذه المدينة الجميلة دولة في الأدب لم يقم مثلها في الشام منذ نحو عشرين قرنا إلى يومنا هذا.

ليس في العالم شر محض ولا خير محض ، ولكل عاقل في الأرض مزية كما أنه له ما يعد عليه من الهنات ، وسيف الدولة من هذا القبيل لم تكن أعماله إلى الخير المحض بمصادراته وإسرافه ، وكانت له مزيتان قل أن يكتبا لغيره ، وهما نهضة الآداب في هذه البلاد ودفع عادية الروم عنها ، ولولاه لعاد إليها سلطانهم بعد أن تقلص بالإسلام نيفا وثلاثة قرون. وهذا الإجمال كما ترون يحتاج إلى تفصيل .

كان هم سيف الدولة في سياسته الخارجية أن يضعف الروم في آسيا الصغرى ، فكان كثيرا ما يغزوهم ويفتح حصونهم ويسبي من أبنائهم ويخرب في زروعهم وقراهم ويستصفي أموالهم وعروضهم ، وقيل إنه غزاهم أربعين مرة كانت فيها بعض الغزوات له وبعضها عليه ، وكان همه في سياسته الداخلية تنجيد القصور وجمع الأموال والتجوز في أخذ الحلال والحرام منها وإظهار أبهة الملك والإفضال على الشعراء ، وكانت عصبيته من عرب الجزيرة مسقط رأسه ومنبعث دولته ومن عرب الشام مثل بني كلاب الذين أدناهم وأمن سربهم فقهروا العرب وعلت كلمتهم.

قال في مسالك الأبصار : وبنو كلاب هم عرب أطراف حلب والروم ، ولهم غزوات عظيمة معلومة وغارات لا تعد ولا تزال ( أي في القرن الثامن ) تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم ، ويتكلمون بالتركية ويركبون الأكاديش ، وهم عرب غزو ورجال حروب وأبطال جيوش ، وهم من أشد العرب بأسا وأكثرهم ناسا. وكانت له طرق غريبة في الرحمة ، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء ، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين ، فأخذ بالفداء ، ولما لم يبق من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين دينارا حتى نفد ما معه من المال ، فاشترى الباقين

Page 260