بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
رب يسر وأعن يَا ألله
الْحَمد لله الَّذِي من علينا بتوحيده وَجَعَلنَا من أفضل عبيده الَّذِي جنبنا الْأَهْوَاء المذلة والآراء المضلة أرانا الْحق إِذْ هدَانَا لبرهانه وَدَلِيله وَأظْهر لنا الْبَاطِل وتفضل علينا بالعدول عَن سَبيله نحمده بمحامده الَّتِي لَا تحصى ونشكره على الْآيَة الَّتِي لم تزل تترى ونسأله الصَّلَاة على نجبه من كَافَّة الورى أنبيائه وَرُسُله أَئِمَّة الْهدى وخصوصا الْمَبْعُوث إِلَى الثقلَيْن الْمفضل على الْعَالمين الْمُؤَيد بِالْآيَاتِ الصادعة والبراهين القاطعة موضح الْحق بواضحات الدَّلَائِل ومرهق الْكفْر وَالْبَاطِل صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين وعَلى جَمِيع النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ ورضى الله عَن خلفائه الرَّاشِدين وَعَن صحابته أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين
أما بعد
فقد وقفت وفقك الله على كتاب كتب بِهِ بعض المنتحلين لدين الْملَّة النَّصْرَانِيَّة سَمَّاهُ كتاب تثليث الوحدانية بعث بِهِ من طليطلة أَعَادَهَا الله إِلَى مَدِينَة قرطبة حرسها الله متعرضا فِيهِ لدين الْمُسلمين نائلا فِيهِ من عِصَابَة الْحق الْمُوَحِّدين سَائِلًا عَمَّا لَا يعنيه ومتكلما بِمَا لَا يدريه فأمعنت النّظر فِيهِ فَإِذا بالمتكلم يهرف بِمَا لَا يعرف وينطق بِمَا لَا يُحَقّق نَاقض وَلم يشْعر وعمى من حَيْثُ يظنّ أَنه يستبصر ﴿أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ﴾ يلحن إِذا كتب ويعجم مَتى أعرب ... وَذي خطل فِي القَوْل تحسب أَنه
مُصِيب فَمَا يلمم بِهِ فَهُوَ قَائِله ...
دلّ بقوله على ضعف عقله وبمكاتبته على سوء محاولته تعاطى دَرَجَة النظار وسود بأباطيله ذَلِك الطومار ليستزل بِهِ الأغبياء
1 / 43
الأغمار وَيحصل بذلك على مآكله شنار ﴿فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ وليته إِذا ادّعى النّظر سلك طَرِيقه وألتزم شُرُوطه فاعترف بالبديهيات وَلم ينظر الضروريات الَّتِي هِيَ أصُول النظريات وَلَكِن حل من عُنُقه ربقة الْعُقُول فَهُوَ فِي كل جَهَالَة يجول وإليها يَدْعُو وَبهَا يَقُول فليته لَو دفن من عواره مَا كَانَ مسطورا وَلَكِن كَانَ ذَلِك عَلَيْهِ فِي الْكتاب مسطورا ... وَإِن لِسَان الْمَرْء مَا لم تكن لَهُ
حَصَاة على عوراته لدَلِيل ...
فاستخرت الله تَعَالَى فِي جَوَابه على تَخْلِيط مَعَانِيه وتثبيج خطابه بعد أَن أَقُول لَهُ اعْلَم يَا هَذَا إِن الْبُغَاة بأرضنا لَا تستنسر والتمييز عندنَا بَين الْفضة والقصة متيسر وَهَا أَنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى أجاوبك على مَا كتبت حرفا حرفا وَأبين فَسَاده الَّذِي لَا يكَاد يخفى على أَنهم لَو فتح عَلَيْهِم بَابا من السَّمَاء ﴿فظلوا فِيهِ يعرجون لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا بل نَحن قوم مسحورون﴾ فَكيف لَا وَقد ركبُوا من اسْتِحَالَة الإتحاد والتثليث والحلول مَا يدْرك فَسَاده بضرورة الْعُقُول وَقد قَالُوا فِي الآب والإبن والأقانيم مَا تمجه بفطرته الأولى كل ذِي فهم مُسْتَقِيم وَلَا يَتَّسِع لقبوله قلب ذِي عقل سليم ... وَمن كَانَ اللعين لَهُ لِسَانا
فَكل جداله زور ونكر
فَكل مقالهم إفْك وزيغ
وَنَصّ كِتَابهمْ شرك وَكفر ...
وَمن أعظم مَا ظهر عَلَيْهِم من الْفَاسِد فصرفوا لذَلِك عَن التَّوْفِيق والرشاد إنكارهم مَا يدل على نبوة نَبينَا من المعجزات وواضح الدلالات وَقد قاربت الضرورات حَتَّى أَنْكَرُوا مَا جَاءَ فِي كتبهمْ من الْإِعْلَام على نبوته وَإِيجَاب إتباع شَرِيعَته فَلَقَد كانو يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم ويعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وسأذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا وَقع فِي أَنَاجِيلهمْ من وَصفه وصحيح نَعته وَلما تبين للعقلاء عنادهم سقط لذَلِك إرشادهم وَوَجَب حملهمْ على السَّيْف وجهادهم فقد يفعل الله بِالسَّيْفِ وَاللِّسَان مَا لَا يفعل بالبرهان وَمن كَلَام الْحُكَمَاء يزغ الله بالسلطان مَالا يزغ بِالْقُرْآنِ فَأَعْرض الْعُقَلَاء عَنْهُم
1 / 44
واكتفوا من الرَّد عَلَيْهِم بحكاية مَذْهَبهم ووكلوا النَّاظر فِيهِ لظُهُور تناقضه وَفَسَاد مَعَانِيه
وَقد كنت عزمت على الإقتداء بالعقلاء فِي الْإِعْرَاض حَتَّى أَكثر هَذَا الْمُتَكَلّم من التَّعَرُّض والإعتراض فَتعين لذَلِك الْجَواب وَأَنا أسأَل الله التَّوْفِيق للصَّوَاب ومجانبة الْخَطَأ وَمَا يُوجب العتاب أَنه ولى التَّوْفِيق وَهُوَ بإجابة السَّائِلين حقيق
فصل لتعلم يَا هَذَا المنتسب لدين الْمَسِيح أَنى أجاوبك إِن شَاءَ الله تَعَالَى بمنطق عَرَبِيّ فصيح أسلك فِيهِ مَسْلَك الأنصاف وأترك طَرِيق التعصب والإعتساف على أَن كلامك لَا يسْتَحق الإصغاء إِلَيْهِ وَلَا الْجَواب عَنهُ لِأَنَّك لَا تحسن السُّؤَال وَلَا تعرف تَرْتِيب الْمقَال بل تَقول مَا لَا تفهم وتكتفي بأنك تَتَكَلَّم وَلكَون كلامك هَذَا كثير الْغَلَط ظَاهر التَّنَاقُض والشطط وَأَنت مَعَ ذَلِك لَا تعرف مَذَاهِب النَّصَارَى الْمُتَقَدِّمين الَّذين كَانُوا بِنَوْع نظر مُتَمَسِّكِينَ وَإِن كَانُوا عَن مَذْهَب الْحق ناكبين حَتَّى أَنهم لَو سمعُوا كثيرا مِمَّا ذكرته لتبرأوا عَنهُ ولأنفوا مِنْهُ إِذْ لَا ينْسب أَكثر ذَلِك إِلَى من تكايس مِنْهُم وَلَا يرْوى بِحَال عَنْهُم على أَنهم فِي أصُول عقائدهم مُخْتَلفُونَ وَفِي ورطة الْجَهْل مرتبكون وسنبين لَك ذَلِك كُله إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَلما تبين ذَلِك مِنْك أعرض الْمُسلمُونَ عَن جوابك ونزهوا أنفسهم عَن خطابك إِذْ الْأَعْرَاض عَن الْجَاهِلين شرعة رب الْعَالمين على لِسَان سيد الْمُرْسلين وَأَيْضًا فَمن لم يعرف شُرُوط النّظر وَلم يسْلك مسالك الْبَحْث والعبر فَالْكَلَام مَعَه ضرب فِي حَدِيد بَارِد وَعمل لَيْسَ لَهُ جدوى وَلَا عايد
وَلما أَعرضُوا عَنْك لجهالتك تبجحت بذلك عِنْد عصابتك فَظَنَنْت أَن سكوتنا عَنْك إِنَّمَا هُوَ لرهبة مِنْك حَتَّى لقد أبلغتنا عَنْك نكرا وَقلت فِي كتابك هَذَا فحشا وهجرا فَنحْن وَإِيَّاك كَمَا قَالَ ... سكت عَن السَّفِيه فَظن أَنى
عييت عَن الْجَواب وَمَا عييت ...
فَعظم هَذَا الْأَمر حِين نمى خَبره إِلَى مَعَ أَنه رغب إِلَى فِي ذَلِك جمَاعَة من الإخوان فَصَارَ ذَلِك على كَأَنَّهُ من فروض الْأَعْيَان فاغتنمتها
1 / 45
فرْصَة وسررت بهَا قصَّة لعلمي أَن النكاية فِي الْعَدو بالبرهان وَاللِّسَان أوقع من نكاية السَّيْف والسنان
والرجا من مَالك الدَّاريْنِ الْجمع بَين الْأَمريْنِ واحراز أجر العملين على أَنى لَا أتعرضهم بقزع السباب وَلَا أنزل مَعَهم إِلَّا إعتذار وعتاب وَإِنَّمَا هُوَ إِظْهَار جهلهم وتناقض مَذْهَبهم وَقَوْلهمْ
فأذكر كَلَام هَذَا السَّائِل كَمَا بَلغنِي وَأبين من خطئه وتناقضه مَا شَاءَ الله أَن يفهمني فأناقشه فِي لَفظه وَأظْهر سوء نَقله وَحفظه
فَتَارَة أسأله وَأُخْرَى أجاوبه ليعلم أَن النَّاقِد بَصِير والباحث خَبِير وليتبين عيه وجهله للكبير وَالصَّغِير ثمَّ من بعد الْفَرَاغ من تتبع كَلَامه أعطف بالمناظرة على أقسته ورهبانه فأحكى مذاهبهم كَمَا دونوها فِي كتبهمْ وعَلى مَا تلقفوها من أسقاقفتهم ثمَّ أسبرها على محك الْعرض وَأبين بعض مافيها من الْفساد والنقض وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
وَقد استخرت الله تَعَالَى فِي أَن أجمل هَذَا الْكتاب على صدر وَأَرْبَعَة أَبْوَاب
الْبَاب الأول فِي الْكَلَام على الأقانيم الْبَاب الثَّانِي: فِي الِاتِّحَاد والحلول
الْبَاب الثَّالِث فِي الْكَلَام على النبوات وَإِثْبَات نبوة نَبينَا ﵊
الْبَاب الرَّابِع فِي جمل من فروع أحكامهم أبين فِيهَا أَن لَيْسَ لَهُم فِي أحكامهم مُسْتَند إِلَّا مَحْض الْهوى والتحكم واللدد
وكل بَاب من هَذِه الْأَبْوَاب يتَضَمَّن فصولا وَأَنا أسأَل الله تَعَالَى أَن يُطلق ألسنتنا بِالْحَقِّ وَالْحكمَة ويخرسها عَن الْبَاطِل والفتنة أَنه ذُو الْفضل وَالنعْمَة وَالْعَفو وَالرَّحْمَة
1 / 46
صدر الْكتاب
نذْكر فِي هَذَا الصَّدْر كَلَام هَذَا السَّائِل فِي خطْبَة كِتَابه وَالْجَوَاب عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل
فِي حِكَايَة كَلَام السَّائِل فِي خطْبَة كِتَابه
قَالَ كتاب تثليث الوحدانية فِي معرفَة الله ثمَّ قَالَ الْحَمد لله بَالغ القوى الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا وأمرنا بِحَمْدِهِ فَنحْن نحمده ونشكره ونعظمه بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد وَالشُّكْر والتعظيم لملوكنا وَأهل الرهبة من ذَوي السُّلْطَان منا فرضا لَهُ شاكرين حامدين معظمين غير واقفين على ذَاته وَلَا مدركين لشَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء أَفعاله فِي خليقته وتدبيره فِي ربوبيته
الْجَواب عَن تَرْجَمته أما قَوْله تثليث الوحدانية فَكَلَام متناقض لفظا وفاسد معنى بَيَان ذَلِك أَن قَوْله تثليث الوحدانية كَلَام مركب من مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ وَلَا يفهم الْمُضَاف مَا لم يفهم الْمُضَاف إِلَيْهِ فَأَقُول لفظ الوحدانية مَأْخُوذ من الْوحدَة وَمَعْنَاهَا رَاجع إِلَى نفى التَّعَدُّد وَالْكَثْرَة فَهِيَ إِذن من أَسمَاء السلوب فَإِذا وَصفنَا بهَا مَوْجُودا فقد نَفينَا عَنهُ التَّعَدُّد وَالْكَثْرَة والتثليث مَعْنَاهُ تعدد وَكَثْرَة فَإِذا أضَاف هَذَا الْقَائِل التَّثْلِيث للوحدة فَكَأَنَّهُ قَالَ تَكْثِير مَالا يتكثر وتكثير مَالا يتكثر بَاطِل بِالضَّرُورَةِ فَأول كلمة تكلم بهَا هَذَا السَّائِل متناقضة وباطلة بِالضَّرُورَةِ
وَأما قَوْله فِي معرفَة الله فَقَوْل لم يحط بِمَعْنَاهُ وَلَا فهم مُسَمَّاهُ وَإِلَّا فَمَا حد الْمعرفَة وَكم أقسامها وَهل يَصح أَن تكون مكتسبة لنا وَهل يجوز عقلا أَن يكلفنا بهَا الْأَنْبِيَاء وَإِن جَازَ ذَلِك فَمَا طَرِيق تَحْصِيلهَا
ثمَّ هول بِهَذَا اللَّفْظ وأوهم أَنه حصل مِنْهَا على حَظّ فَإِن كَانَ دليلك يَا هَذَا على معرفَة الله تَعَالَى مَا ضممته كتابك فابك على مصابك واقرع
1 / 47
أسفا على عقل نابك فَإِن الْوَاقِف على مَعْنَاهُ المقتحم لفحواه علم على الْقطع والقط أَنَّك لم تعرف الله تَعَالَى قطّ لِأَنَّك لم تذكر فِيهِ دَلِيلا صَحِيحا نعم وَلَا قولا فصيحا وَإِن كَانَ لَك دَلِيل آخر على معرفَة الله تَعَالَى لم تذكره هُنَا فَهَذِهِ تَرْجَمَة بِلَا معنى وَاسم يهول بِلَا مُسَمّى كلامك ياهذا كفارع حمص خلى من الْمَعْنى وَلَكِن يجمع ... ثمَّ نظم هَذِه التَّرْجَمَة على مَا أبديناه من التَّنَاقُض أَن يُقَال تَكْثِير مَا لَا يتكثر فِي معرفَة الله وَأي رابط بِهَذَا الْكَلَام وَهل هَذَا إِلَّا مضحكة الْخَاص وَالْعَام وعار لم يصل إِلَيْهِ أحد من عقلاء الْأَنَام
ثمَّ بعد ذَلِك شرع هَذَا الْقَائِل فِي الخطابة وصنعة الْكِتَابَة فسحب على سحبان ثوب النسْيَان وأنسى أبان كل مَا أبان وصير فصيح وَائِل أعيا من بَاقِل فَقَالَ الْحَمد لله بَالغ القوى الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا فيا للعجب وَيَا لضيعة الدّين وَالْأَدب ... دع المكارم لَا ترحل لبغيتها
واقعد فَإنَّك أَنْت الجائع العاري ...
أما قَوْله الْحَمد لله فَكَلَام حق ومقال صدق عِنْد من عرف مَعْنَاهُ وَفهم فحواه وَأما عنْدك فَكَلَام سمعته وَمَا وعيته وَكَيف تعيه أَو تطمع فِي أَنَّك تدريه وَأَنت بمعزل عَن اللِّسَان عرى عَن تَحْصِيل شَرَائِط الْبُرْهَان
دَلِيل ذَلِك أَن الْحَمد لله يتَوَجَّه لأسئلة وَأَنت لَا تهتدي لفهمها فَكيف لحلها مِنْهَا لفظية وَمِنْهَا معنوية فأولها حَده وَإِلَى مَاذَا يرجع وَمَا الْفرق بَينه وَبَين الشُّكْر وَهل هُوَ فِي هَذَا الْموضع عَام أم لَا وَهل يَصح أَن يُطلق على غير الله وَإِن أطلق فَهَل بِالْحَقِيقَةِ أم بالمجاز وعَلى أَي وَجه يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى أَعلَى جِهَة الْملك أَو على جِهَة الإستحقاق أَو غَيرهمَا من أَنْوَاع الْإِضَافَة ولأي شَيْء يوضع فِي أَوَائِل الْكتب وَلَا يَكْتَفِي عَنهُ بِالتَّسْمِيَةِ
وَأما قَوْلك بَالغ القوى فَكَلَام مختل صدر عَمَّن لم يحصل تَنْزِيل مَفْهُومه على فَائِدَة لِأَن الْمُتَكَلّم بِهِ عمل بَالغ مَوضِع مبلغ ثمَّ ذهب
1 / 48
بمبلغ إِلَى معنى خَالق وَالْعرب الَّذين تكلم هَذَا السَّائِل بكلامهم وتعاطى مَفْهُوم خطابهم لَا يَتَكَلَّمُونَ بَالغ فِي معنى الْخَالِق لتباين اللَّفْظَيْنِ وإختلاف المفهومين وَمعنى الْخلق الْمَشْهُور عِنْدهم إختراع مَا لم يكن والإبلاغ هُوَ أَيْضا لَهُ كَائِن إِلَى غَايَة مَا فَإِن أنكر هَذَا الْمُتَكَلّم أَن يكون أَرَادَ هَذَا فقد شهد على نَفسه بالغلط واعترف بِأَن كَلَامه من أرذل أرذل السقط
ثمَّ أضَاف بَالغ إِلَى القوى والقوى جمع قُوَّة وَهِي الْقُدْرَة والشدة فَإِن كنت تُرِيدُ هَذَا فَأَي فَائِدَة للفظك وَأي لَطِيفَة لِقَوْلِك الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا وَفِي الثيران والأباعير وَالْحمير من هُوَ أَشد مِنْك وَأقوى فقد فَضلهَا عَلَيْك حَيْثُ أبلغهَا من الشدَّة أَكثر مِمَّا أبلغك
وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لَك يَا هَذَا أَن تذكر من نعم الله عَلَيْك النِّعْمَة الْخَاصَّة بالإنسان وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي بِهِ تميز عَن أَصْنَاف الْحَيَوَان ثمَّ من عَجِيب أَمر هَذَا السَّائِل وأدل دَلِيل على بلادته وجهله أَن هَذِه الْخطْبَة الَّتِي صدر بهَا كِتَابه على مَا هِيَ عَلَيْهِ من تثبيج النّظم وَعدم الفصاحة إِنَّمَا نقلهَا من رِسَالَة عبد الرَّحْمَن بن عصن ختن شبيب الَّتِي كَانَ أساقفة النَّصَارَى كتبُوا بهَا إِلَى الإِمَام الزَّاهِد أبي مَرْوَان بن ميسرَة ونسبوها لعبد الرَّحْمَن وَكَانُوا قد اجْتَمعُوا على كتَابَتهَا بطليطلة أَعَادَهَا الله فَلَمَّا كتبوها بعثوا بهَا إِلَى القَاضِي أبي مَرْوَان بن ميسرَة فَبعد أَن بذلوا جدهم وأجهدوا جهدهمْ كتبُوا لَهُ رِسَالَة مفتتحها هَذِه الْخطْبَة فِي بطاقة صَغِيرَة عدد أسطارها نَحْو ثَلَاثِينَ لحنوا فِيهَا وصحفوا فِي تِسْعَة وَعشْرين موضعا مِنْهَا وَمَعَ ذَلِك فأخلوا بالْكلَام وَلم يتَحَصَّل لَهُم من سُؤَالهمْ مطلب وَلَا مرام فأجابهم الإِمَام القَاضِي ﵀ وَأحسن فِي الْجَواب وَأظْهر لَهُم جهلهم وتبلدهم فِي ذَلِك الْكتاب
فَلَو كَانَ هَذَا السَّائِل عَارِفًا بمصالحه مُمَيّزا بَين محاسنه ومقابحه لاكتفى بإفحام أساقفته الْمُتَقَدّمَة وعثرته الجاهلة المضممة ولكان يستر ظَاهر خطاياهم وركيك كَلَامهم وَلَكِن أَرَادَ الله تَجْدِيد مَا قدم لَهُم من الفضيحة بمقالة صابية صَحِيحَة ثمَّ ليته إِذْ نقل إِلَى كِتَابه كَلَامهم لم يُفَسر الْمَعْنى وَلم يُغير اللَّفْظ بل غَيره تغييرا يدل على عدم الهجاء وَقلة الْحِفْظ فَقَالَ الحمدلله بَالغ القوى وَهِي فِي كِتَابهمْ الْمُتَقَدّم الذّكر الَّذِي نقل مِنْهُ الحمدلله بألغ القوى وَبَين مَفْهُوم كَلَامه
1 / 49
وَكَلَامهم مَا بَين الْقرن والقدم وَمَا بَين فصاحة الْعَرَب ورطانة الْعَجم
وَأما قَوْلك وأمرنا بِحَمْدِهِ فَقَوْل لَا تعرف حَقِيقَته وَلَا تسلك طَرِيقَته حَتَّى تعرف إِن كَانَ الله آمرا أم لَا وَإِن كَانَ آمرا فَمَا حَقِيقَة أمره وَإِلَى مَاذَا يرجع وَهل هُوَ قديم أَو حَادث إِلَى أسئلة كَثِيرَة لَا تعرف أَنَّك مَأْمُون من جِهَة الله تَعَالَى حَتَّى تعرفها فأعد للمسائل جَوَابا وللسائل خطابا
وَأما قَوْله فَنحْن نحمده ونشكره ونعظمه بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد وَالشُّكْر فَكَلَام يَدُور على اللِّسَان وَلم يسْتَقرّ لَك شَيْء مِنْهُ بالجنان وَكَيف يحمد الله من ينتقصه وَكَيف يشكره من يكفره وَهل الْحَمد وَالنُّقْصَان وَالشُّكْر والكفران إِلَّا أَمْرَانِ متناقضان
بَيَان ذَلِك أَنكُمْ تَجْعَلُونَ لله مَا تَكْرَهُونَ لأنفسكم وتنتقصون بِهِ أَبنَاء جنسكم هَا أَنْتُم تَكْرَهُونَ لرهبانكم وأقستكم إتخاذ الزَّوْجَة وَالْولد لِئَلَّا يتلطخ برذيلة مجْرى الْبَوْل وَدم الْحيض أَو تتشبه نِسْبَة الزَّوْجَة وَالْولد ثمَّ إِنَّكُم بجهالتكم تَزْعُمُونَ أَن اللاهوت تدرع بناسوت الْمَسِيح وَسكن فِي ظلمَة الرَّحِم مُدَّة ثمَّ خرج على مجْرى الْبَوْل وَدم الْحيض وتعلقت نِسْبَة الْوَلَد وَالزَّوْجَة وَأَنْتُم تَجْعَلُونَ لله مَا تَكْرَهُونَ وتصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب لَا جرم أَن لكم النَّار وأنكم مفرطون وَكَيف يعظمه من يعبد غَيره ويعظم سواهُ وَيُخَالِفهُ فِي أمره ويرتكب مَا عَصَاهُ وَهَا أَنْتُم قد اتخذتم الْمَسِيح إِلَهًا أَو شطر إِلَه وعبدتم من دون الله غَيره وعظمتم سواهُ وخالفتم فِي ذَلِك قَول الْمَسِيح ﵇ وعصيتم أَمر خالقه ومرسله ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام وَأَنْتُم تقرأون فِي كتابكُمْ عَن أشعياء ﵇ أَنه قَالَ عَن الله مبشرا بالمسيح ﵇ هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي ارتضت بِهِ نَفسِي وَكَذَلِكَ تقرأون فِي إنجيل ماركش أَن الْمَسِيح قَالَ
1 / 50
للْعَالم الَّذِي سَأَلَهُ عَن أول العهود إِن السَّيِّد إلهك إِلَه وَاحِد وَذكر كلَاما فَقَالَ لَهُ الْعَالم قلت الْحق يَا معلم إِن الله وَحده وَلَا إِلَه غَيره فَالله تَعَالَى يَقُول عَن الْمَسِيح هُوَ غلامي وَأَنْتُم تَقولُونَ هُوَ ولدك والمسيح يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنْت إِلَه آخر فتعالى الله عَمَّا تَقولُونَ وسبحانه عَمَّا تصفون وَسَيَأْتِي الْكَلَام على هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فها أَنْتُم قد خالفتم أَمر الله وعظمتم سوى الله وَهَذَا إنجيل متاؤوش يشْهد عَلَيْكُم بِخِلَاف مَا إِلَيْهِ صرتم فَإِن فِيهِ أَن الْمَسِيح قَالَ لإبليس حِين رام خديعته قد صَار مَكْتُوبًا أَن تعبد السَّيِّد إلهك وتخدمه وَحده وَأَنْتُم تَعْبدُونَ غير الله وتسجدون لسواه تتحكمون فِي ذَلِك بأهوائكم وتخالفون قَول أنبيائكم ﴿وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله﴾ وَتقول بالعظائم على الله
وَأما قَوْلك بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد فَإِن كَانَ وضع تعارف مَوضِع معرفَة فقد أخل بِالْمَعْنَى وَخَالف اللُّغَة وَلَو كَانَ يشم رَائِحَة من كَلَام الفصحاء لوبخ نَفسه على القالة هَذِه الشنعاء وَلَو نزلناه على أَنه أَرَادَ مَا تعارفه مخاطبوه فِيمَا بَينهم فِي معنى حمدالله لَكَانَ كَلَامه أَيْضا متناقضا وفاسدا وَعَن الصَّوَاب حايدا فَإِن حمد الله عِنْدهم ذمّ وشكرهم لَهُ كفر كَمَا تقدم وَمن كَانَ حَمده لله ذما
1 / 51
وشكره لَهُ كفرا وَكَانَ مَعْرفَته مثل شكره وحمده فقد حصل من الْعلم على ضِدّه وَخرج من الشُّكْر عَن حَده
وَأما قَوْلك والتعظيم لملوكنا وَأهل الرهبة من ذَوي السُّلْطَان منا فَقَوْل لَا يدل على زهدك فِي الدُّنْيَا وإقتدائك بورع الْمَسِيح عِيسَى وبخشية المعمد يحيى عظمت الْمُلُوك لملكهم طَمَعا فِي نيل سحت ملكهم وأعرضت عَن القسيسين ونسكهم وَلَو هديت السَّبِيل لَكَانَ الْأَنْبِيَاء والحواريون أَحَق وَأولى بالثناء والتبجيل لَكِن استهواك الطمع وإستفزك الجشع فآثرت الدُّنْيَا عَن الْآخِرَة فصفقتك اذن خاسرة وتجارتك بائرة
وَأما قَوْلك فرضا لَهُ شاكرين حامدين معظمين فَكَلَام غير مُنْتَظم وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُوم ملتئم ذهب مَعْنَاهُ لِكَثْرَة لحنه يمجه الْعَاقِل ببديهة ذهنه أتلفت مَعْنَاهُ رضانة الْعَجم فَكَأَنَّهُ تبقى فِي نفس قائلة مكتتم
وَأما قَوْلك غير واقفين على ذَاته وَلَا مدركين لشَيْء مِنْهُ فلعمري لقد صدقت وَبِمَا أَنْت عَلَيْهِ من الْجَهْل بمعبودك نطقت فَأَيْنَ هَذَا من قَوْلك كتاب تثليث الوحدانية فِي معرفَة الله فقد جعلت هَذَا الْكتاب بزعمك موصلا إِلَى معرفَة الله ثمَّ لم ترجع النَّفس حَتَّى شهِدت على نَفسك بِالْجَهْلِ بِاللَّه فَظهر تنَاقض إعتقادك على لسَانك وَفِي تقييدك وَكَذَلِكَ يفعل الله بِكُل جَاهِل مهذار وَكَيف يعرف الله من لم يقف على معرفَة ذَاته وَلَا علم شَيْئا من صِفَاته وَهل ذَاته تَعَالَى إِلَّا عبارَة عَن وجوده فَإِن الموجودات الْمَوْجُود من غير مزِيد على مَا يعرف فِي مَوْضِعه بالبرهان فَمن لم يعرف ذَاته تَعَالَى لم يعرف وجوده وَمن لم يعرف وجوده فإمَّا شَاك وَإِمَّا جَاهِل
وَأما قَوْله وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء أَفعاله فِي خليقته وتدبيره فِي ربوبيته فَكَلَام لم يُورِدهُ فصيحا وَلَا فهمه صَحِيحا دَلِيل أَنه لم يردهُ فصيحا أَنه أَرَادَ بقوله نقع نَعْرِف وَإِلَّا لم يستقم كَلَامه فَكَأَنَّهُ قَالَ وَإِنَّمَا نَعْرِف أَسمَاء أَفعاله وَأَيْنَ نَعْرِف من نقع وَأي جَامع بَينهمَا عِنْد من عقل وَسمع فَإِن مَفْهُوم وَقع وَحَقِيقَته سقط الشَّيْء من أَعلَى إِلَى أَسْفَل وَلَيْسَ لهَذَا الْمَعْنى فِي كَلَامه مدْخل وَأما أَنه لم يفهمهُ صَحِيحا فَيدل عَلَيْهِ أَنه لَا يُجيب إِذا سُئِلَ عَنهُ فأصخ يَا هَذَا
1 / 52
سَمعك واستعن ملاك جمعك فَإِنِّي أَسأَلك وإياهم عَن حد الإسم وَحَقِيقَته وَهل هُوَ الْمُسَمّى أَو غَيره فَإِن كَانَ غَيره فَمَا حد الإسم وَمَا حد الْمُسَمّى وَمَا حد التَّسْمِيَة ثمَّ هَل يَنْقَسِم الإسم بِالْإِضَافَة إِلَى الْمُسَمّى أم لَا يَنْقَسِم فَإِن انقسم فعلى كم قسم وَإِنَّمَا أوردت عَلَيْهِ هَذِه الأسئلة كَيْلا لَهُ بضَاعَة وليكون ذَلِك أبلغ فِي دَفعه وأقطع لنزاعه ثمَّ إِنَّه أضَاف أَسمَاء إِلَى أَفعَال الله وَلَا يشك عَاقل فاهم فِي أَن أَفعَال الله تَعَالَى إِنَّمَا يُرَاد بهَا مخلوقاته ومخلوقاته وخليقته وَاحِد فِي الْمَعْنى فَكَأَنَّهُ قَالَ على مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر كَلَامه وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء مخلوقاته فِي مخلوقاته فأبدل لفظ مخلوقاته بأفعاله وَهَذَا كَلَام قَلِيل العائدة بل عديم الْفَائِدَة ثمَّ أَسمَاء أَفعاله إِنَّمَا هِيَ عبارَة عَن الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على أَفعاله وأفعاله كَمَا قُلْنَا مخلوقاته كَلَفْظِ السَّمَاء وَالْأَرْض وَغير ذَلِك فَمن عرف الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على هَذِه الْمَخْلُوقَات أَي شَيْء يحصل لَهُ بِسَبَبِهَا من معرفَة الله تَعَالَى وَأي دلَالَة وَأي نِسْبَة بَين معرفَة اللَّفْظ الَّذِي يدل على السَّمَاء فِي التخاطب مثلا وَبَين معرفَة الله تَعَالَى وَهل قَوْله هَذَا إِلَّا هذيان من القَوْل وارتباك فِي ورطة الْجَهْل
وأا قَوْله وتدبيره فِي ربوبيته فَالظَّاهِر من لفظ التَّدْبِير السَّابِق مِنْهُ إِلَى الْفَهم أَنه عبارَة عَن التفكر النَّفْسِيّ وَالتَّقْدِير الذهْنِي والباري سُبْحَانَهُ متعال عَن التَّدْبِير الَّذِي هُوَ التفكر وَالتَّقْدِير فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِي حق من جهل شَيْئا فَأَرَادَ أَن يسْتَعْمل فكرة فِي تَحْصِيل الْعلم بِهِ وَالْجهل على الله محَال فالتدبير بِمَعْنى الْفِكر عَلَيْهِ محَال فَإِن أَرَادَ السَّائِل بِكَلَامِهِ غير هَذَا فَلَا بُد من بَيَانه وإيضاح برهانه
وَأما الربوبية فَلفظ مُشْتَقّ من لفظ الرب والرب فِي مُسْتَعْمل كَلَام الْعَرَب لَهُ مَعْنيانِ مستعملان أَحدهمَا السَّيِّد وَالثَّانِي الْمَالِك فَإِن أَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الأول الَّذِي يرجع إِلَى السؤدد والشرف فَهُوَ خطأ من حَيْثُ أَن سؤدده وَاجِب لَهُ فَلَا يحْتَاج فِي تَحْصِيله إِلَى سَبَب من تَدْبِير وَلَا مُقْتَضى تفكير وَمُقْتَضى كَلَامه وَمَفْهُومه أَنه دبر فِي ربوبيته وأوجدها عَن تَدْبيره لنَفسِهِ وَهَذَا جهل بواح وَكفر صراح وَإِن أَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الثَّانِي الَّذِي يرجع مَعْنَاهُ إِلَى الْملك فَلَا يَسْتَقِيم أَيْضا على ظَاهر كَلَامه فَإِنَّهُ يكون معنى كَلَامه أَنه دبر فِي ملكه وأوجده
1 / 53
عَن التَّدْبِير الَّذِي هُوَ روية وتفكير ويتعالى عَن ذَلِك الْخَالِق الْقَدِير المنزه عَن خواطر النَّفس وهواجس الضَّمِير
ثمَّ لما فرغ هَذَا السَّائِل من خطبَته الغراء البديعة الْإِنْشَاء الَّتِي من وقف عَلَيْهَا علم أَنه عَن المعارف مَصْرُوف وَأَنه لَا يفهم الْمعَانِي وَلَا يحسن كِتَابَة الْحُرُوف شرع فِي طَريقَة الْجِدَال وَكَيْفِيَّة الإستدلال فَكَأَنَّهُ فِي نظم مقعولاته الطوسى وَفِي آدَاب جدله البروى ولعمر الله لَو كَانَ هَذَا السَّائِل عَاقِلا لستر عواره وَلم يبد غَارة
وَلكنه جهل فَقَالَ وَحَيْثُ وَجب أَن يسكن جال
وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لهَذَا السَّائِل أَلا يتَكَلَّم فِي شَيْء من عُلُوم الإعتقاد حَتَّى يحسن شُرُوط النّظر وَيحكم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْموَاد والفكر وَلما بَادر إِلَى الْكَلَام فِي ذَلِك من غير تَحْصِيل شَيْء مِمَّا هُنَالك تثبج عَلَيْهِ كَلَامه وصعب عَلَيْهِ مرامه فَرُبمَا كَانَ الْمَعْنى الَّذِي يَقْصِدهُ قَرِيبا فيبعده أَو مجتمعا فيبدده وسيتبين ذَلِك فِي كَلَامه
وَلما كَانَ ذَلِك رَأَيْت أَنى إِن تتبعت كَلَامه كَمَا تتبعت خطبَته خرج الْأَمر الإعتدال وَأدّى ذَلِك إِلَى الكسل والملال وضياع الزَّمن فِي ضروب الهذيان هُوَ غَايَة الخسران فَرَأَيْت أَن أعرض عَن آحَاد كَلِمَاته وأناقشه فِي مَعَانِيهَا ومفهوماتها ثمَّ إِنِّي رُبمَا لَا أَتكَلّم مَعَه حَتَّى أحكى مذْهبه وَأبين لَهُ مَا أَرَادَهُ بِكَلَام حسن وجيز ليَكُون ذَلِك أبلغ فِي الْفَهم وَأمكن فِي التَّمْيِيز وَإِلَى الله ﷿ أَرغب وَعَلِيهِ أتوكل فِي أَن يشْرَح صدورنا وييسر علينا أمورنا ويستعملنا فِيمَا يقربنا مِنْهُ وينفعنا عِنْده أَنه ولى ذَلِك الْقَادِر عَلَيْهِ
تمّ الصَّدْر والآن نشرع فِي الْأَبْوَاب
1 / 54
الْبَاب الأول
فِي بَيَان مذاهبهم فِي الأقانيم وَإِبْطَال قَوْلهم فِيهَا
الأقانيم أَسمَاء وأفعال
أقانيم الْقُدْرَة وَالْعلم والحياة
تَعْلِيل التَّثْلِيث
دَلِيل التَّثْلِيث
فِي بَيَان اخْتلَافهمْ فِي الأقانيم
1 / 55
الْفَصْل الأول
الأقانيم أَسمَاء أَفعَال
فِي حِكَايَة كَلَام السَّائِل وَالْجَوَاب عَنهُ
قَالَ السَّائِل
الْآن وَجب على أَن أَسأَلك فِي أَمر التَّثْلِيث عَن خلق الله لجَمِيع مَا خلق إِن كَانَ خلقهمْ بقدرة وَعلم وَإِرَادَة أم خلقهمْ بِغَيْر هَذَا فَإِذا اضطرتك الْمَسْأَلَة إِلَى القَوْل بهَا فإنى أَسأَلك إِن كَانَت أَسمَاء لذاته أَو أَسمَاء لأفعاله فَإِن قلت هِيَ أَسمَاء لذاته فقد نقضت وجعلتها أَسمَاء للذات وَوَقعت فِيمَا أنْكرت من الْجِسْم وَإِن قلت من أَسمَاء أَفعاله الَّتِي مِنْهَا سمى قَادر عَالم مُرِيد فَهُوَ التَّثْلِيث الَّذِي أمرنَا بِهِ
الْجَواب عَنهُ
سَأَلت يَا هَذَا الْمِقْدَام بعد إعجام واستبهام هَل خلق الله تَعَالَى الْخلق بقدرة وَعلم وَإِرَادَة أم بغيرهم وَهَذَا السُّؤَال كَانَ يَنْبَغِي لَك أَلا تسْأَل عَنهُ حَتَّى تفرغ من معرفَة الْمَرَاتِب الَّتِي قبله وَذَلِكَ أَنَّك لَا تصل إِلَى مَا سَأَلت عَنهُ حَتَّى تعرف معنى الْخلق وَهل الْعَالم مَخْلُوق وَإِن كَانَ مخلوقا فَهَل يحْتَاج إِلَى خَالق أم لَا فَإِذا بلغت إِلَى هُنَا وَقطعت هَذِه المفاوز الَّتِي لَا تقطع بالمنى وَلَا يتَخَلَّص مِنْهَا بالهويني وَلَا يَكْتَفِي فِي تَحْصِيل الْعلم بذلك بالتقليد بل بِالنّظرِ الشَّديد والبرهان العتيد
حِينَئِذٍ كَانَ يَنْبَغِي أَن تسْأَل عَمَّا سَأَلت عَنهُ لكنك يجهلك بطريقة النّظر قدمت وأخرت ﴿وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت﴾ وَلَو كَانَت مِمَّن لَهُ فِي النّظر نصيب لضَرَبْت فِيهِ بِسَهْم مُصِيب ولاقتديت بمعلمكم الأزعم وأسقفكم الْأَعْظَم أغشتين فها هُوَ يَقُول فِي مصحف الْعَالم
1 / 57
الْكَائِن فِي أول ورقة مِنْهُ يَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْكَلَام فِي النظريات على منَازِل ودرجات ليَكُون من اجْتمع مَعنا فِي الدرجَة الأولى تكلمنا مَعَه فِي الدرجَة الثَّانِيَة وَمن اجْتمع مَعنا فِي الدرجَة الثَّانِيَة تكلمنا مَعَه فِي الدرجَة الثَّالِثَة ثمَّ نمضى كَذَلِك إِلَى أقْصَى نهايات الْكَلَام فَإِنَّمَا يكون فَسَاد الْكَلَام وتناقضه وإشتباهه من قبل النَّقْص فِي معرفَة هَذَا الدرج لأَنا مَتى ناظرنا فِي الدرجَة الثَّانِيَة من لم يجْتَمع مَعنا فِي الأولى لم يبلغ الْكَلَام غَايَة وَلم يقف على نِهَايَة
وعَلى منواله نسج حَفْص بن الْبر فِي أَقْوَاله وَلَقَد كَانَ لَك فيهمَا أُسْوَة لَو كنت أَهلا للقدوة فبينك وَبَين من سؤالك هَذَا ثَلَاثَة أدراج حارت فِيهَا عقول كثير من النظار وفنيت أزمان ونفدت أَعمار فكلامك يَا هَذَا فَاسد هجين بِشَهَادَة قسيسكم أغشتين
وَأما قَوْلك فَإِذا اضطرتك الْمَسْأَلَة إِلَى القَوْل بهَا فَقَوْل غير صَحِيح وَالْجهل على قَائِله يلوح وَكَيف تضطر الْمَسْأَلَة مَعَ نظر سقيم أخذت مقدماته بالتحكم وَالتَّسْلِيم وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم ذَلِك لَو نزلت فِي
1 / 58
كلامك على شَرط السبر والتقسيم ونهجت مَنْهَج النّظر القويم والا فَبِمَ تنكر على الدهرى حَيْثُ يَقُول لَا أسلم أَن الْعَالم مَخْلُوق وَبِمَ تنكر على الفلسفي حَيْثُ يَقُول أسلم أَنه مَخْلُوق لَكِن لَا أسلم أَنه مُحْتَاج إِلَى خَالق مخترعه بعد الْعَدَم وَبِمَ تنكر على الطبيعي حَيْثُ يَقُول لَا يحْتَاج عَالم الطبائع إِلَى خَالق ذِي قدرَة وَعلم وَإِرَادَة وحياة ثمَّ لأي شَيْء تحكمت وَقلت إِنَّهَا ثَلَاثَة فلعلها أَكثر أَو أقل وَلَا بُد لَك من معرفَة إبِْطَال مَذَاهِب هَؤُلَاءِ بالبرهان وَحِينَئِذٍ تحصل على مرتبَة الإيقان وَهَذَا لَيْسَ بغشك فاضطجع على نمشك ... خلى الطَّرِيق لمن يبْنى الْمنَار بِهِ
واقعد ببرزة حَيْثُ اضطرك الْقدر ...
وَأما قَوْلك فَإِنِّي أَسأَلك إِن كَانَت أَسمَاء لذاته أَو أَسمَاء لأفعاله فَإِن قلت هِيَ أَسمَاء لذاته هِيَ أَسمَاء لذاته فقد نقضت وجعلتها أَسمَاء للذات وَوَقعت فِيمَا أنْكرت من الْجِسْم فسؤال لَا يسْتَحق أَن يسمع وَلَا لصَاحبه فِي الْعقل مطمع قسمت وسبرت وَبقيت عَلَيْك أَقسَام وَمَا شَعرت إِذْ لقَائِل أَن يَقُول لَيست هَذِه الْأَسْمَاء من أَسمَاء الذَّات وَلَا من أَسمَاء الْأَفْعَال بل هِيَ قسم آخر وَهُوَ أَسمَاء الصِّفَات والتقسيم مَتى لم يكن دائرا بَين النفى وَالْإِثْبَات فَهُوَ معرض للنقوض والآفات ثمَّ أطرف من العنقاء شرعة فِي أول كَلَامه فِي المسميات ثمَّ أَخذه فِي الْكَلَام فِي الْأَسْمَاء وَلم يفرق بَين الإسم والمسمى فَهُوَ جَاهِل أعمى
ثمَّ انْظُر بله هَذَا السَّائِل وَعدم حسه فَلَقَد خرج بجهله عَن أَبنَاء جنسه كَيفَ قَالَ فَإِن قلت هِيَ أَسمَاء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسما للذات وَأي فرق بَين قَوْله فِي الْمُقدم وَبَين قَوْله فِي التَّالِي وَهل هَذَا إِلَّا بِمَثَابَة من يَقُول إِن قلت هَذَا الْيَوْم نَهَارا فقد نقضت وَجَعَلته نَهَارا
فَمَا أعرفك يَا هَذَا بنتيجة الشرطى الْمُتَّصِل وحدوده وبحد النقيض وشروطه فَلَو استرزقت الله عقلا لَكَانَ الأحرى بك من الْكَلَام فِي المعتقدات وَالْأولَى ثمَّ أعجب من ذَلِك كُله أَنَّك لَزِمت من قَالَ إِن الْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة أَسمَاء للذات القَوْل بالتجسيم وَهَذَا نتيجة الْجَهْل الصميم والفهم الْمُسْتَقيم وَهَذَا من أَيْن يلْزم
1 / 59
أَمن نقيض التَّالِي أَو عين الْمُقدم فوالذي خص الأذكياء بالعقول لقد أربيت فِي جهلك على كل جهول وأتيت بِمَا لَيْسَ بِمَفْهُوم وَلَا مَعْقُول
وَأما قَوْلك وَإِن قلت من أَسمَاء أَفعاله الَّتِي مِنْهَا سمى قَادر عَالم مُرِيد فَهُوَ التَّثْلِيث الَّذِي أمرنَا بالْقَوْل بِهِ فَيقْضى أَن الأقانيم من أَسمَاء الْأَفْعَال فَهَذَا قَول لَا يَقُول بِهِ المجانين وَلَا الْأَطْفَال فَإِن معنى تَسْمِيَة الله تَعَالَى بأسماء الْأَفْعَال إِنَّمَا مَعْنَاهَا عِنْد الْعُقَلَاء أَن يخلق الله فعلا يُسمى ذَلِك الْفِعْل باسم فيشتق لله تَعَالَى من ذَلِك الْفِعْل إسم مِثَال ذَلِك خَالق ورازق يقالان على الله تَعَالَى بِاعْتِبَار خلق الْخلق ورزق الرزق فَإِن أردْت هَذَا الْمَعْنى كَانَ ذَلِك محالا على الصِّفَات العلى فَإِن صِفَاته ﷾ لَيست بمخلوقة على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَأَيْضًا فَلَو جَازَ أَن يُسمى بِعلم يخلقه عَالما وبإرادة يخلقها مرِيدا وبقدرة يخلقها قَادِرًا جَازَ أَن يُسمى بحركة يخلقها متحركا وبصوت يخلقه مصوتا وَذَلِكَ مجْرى إِلَى جهالات لَا يَقُول بهَا عَاقل فَإِن أَرَادَ هَذَا السَّائِل بأسماء الْأَفْعَال أَمر آخر فَهُوَ إِنَّمَا اصْطلحَ مَعَ نَفسه فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يُفَسر مَا يَقُول إِذْ لم يتَكَلَّم بِمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ أَرْبَاب الْعُقُول
وَأما قَوْلك فَهُوَ التَّثْلِيث الَّذِي أمرنَا بالْقَوْل بِهِ فَقَوْل فِيهِ كذبت وعَلى الله وَرُسُله افتريت فَإِن الرُّسُل ﵈ لم تَأمر بإعتقاد التَّثْلِيث لأحد من الْأَنَام بل قَالَت الْأَنْبِيَاء ﵈ مَا يعرفهُ الْخَاص وَالْعَام ﴿فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة﴾ وَلَقَد حصل للعقلاء بالتواتر وَعَلمُوا بالوراثة أَن الله تَعَالَى قَالَ ﴿لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة﴾ ثمَّ قَوْلك هَذَا تُرِيدُ بِهِ أَنكُمْ أمرْتُم بإعتقاد آلِهَة ثَلَاثَة وَإِنَّكُمْ قيل لكم اعتقدوا فِي الله تَعَالَى أَنه آلِهَة ثَلَاثَة إِلَه وَاحِد وَقُولُوا بِهِ وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك عِنْد رهبانكم الْمُتَقَدِّمين وأساقفتكم الماضين
هَذَا أغشتين يَقُول بعد أَن تكلم فِي الأقانيم مَا تثبت أَنَّهَا صِفَات على مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه ذَلِك أَنه قَالَ وَهَذَا قَوْلنَا فِي الأقانيم الثَّلَاثَة الَّتِي لَا يُمكن جَحدهَا مِنْهُ وَلَا وَصفه بغَيْرهَا وَهَذَا تَصْرِيح
1 / 60
مِنْهُ بِأَنَّهَا صِفَات ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فَهَذَا قَوْلنَا فِي التَّثْلِيث الَّذِي وَصفه الْإِنْجِيل وأمرنا بِالْإِيمَان بِهِ وَسَيَأْتِي نَص كَلَامه وَلم يقل أمرنَا بِأَن نعتقد أَن الله وَاحِد ثَلَاثَة فَإِن الْوَاحِد لَا يكون ثَلَاثَة وَالثَّلَاثَة لَا تكون وَاحِدًا كَمَا قد تبين فَسَاده بل مَفْهُوم قَوْله أَن الْإِنْجِيل وصف أَن الله تَعَالَى مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات وأمرنا بالتصديق بذلك وَلَو أنكتم عَن أَلْسِنَتكُم أَمر التَّثْلِيث واعتقدتم أَن الله تَعَالَى وَاحِد مَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال ونعوت الْجلَال لوفقتم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة للصَّوَاب ولحصلتم مِنْهَا على الْحق بِلَا ارتياب وَلَكِن من حرم التَّوْفِيق استدبر الطَّرِيق وَنكل عَن التَّحْقِيق
على أَن مَا ذكرته فِي أَمر التَّثْلِيث لَا يَسْتَقِيم على رَأْي الْمُتَقَدِّمين من أحباركم هَذَا صَاحب كتاب الْمسَائِل السَّبع وَالْخمسين يَقُول فِيهَا لَا نقُول إِن التَّثْلِيث ممتزج فِي أقنوم وَاحِد كَقَوْل شباليش وَلَا إلهية متحدة أَو متبعضة الذَّات كفرية آريش بل أَن أقنوم الآب غير أقنوم الإبن وأقنوم الإبن غير الرّوح لَكِن التَّثْلِيث الْمُقَدّس ذَات وَاحِدَة فَإِذا لم تكن ممتزجة وَكَانَ كل أقنوم مِنْهَا غير الآخر والأقنوم مَعْنَاهُ عنْدكُمْ الشَّيْء المستغنى بِذَاتِهِ عَن أصل جوهره فِي إِقَامَة خَاصَّة جوهريته فَكيف يَتَّسِع عقل لِأَن يَقُول إِن هَذِه الثَّلَاثَة المتغايرة الَّتِي هِيَ على مَا ذكر وَاحِد وَهل قَائِله إِلَّا معتوه أَو معاند
1 / 61
الْفَصْل الثَّانِي
أقانيم الْقُدْرَة وَالْعلم والحياة
فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا
قَالَ
فَإِن قلت لم لَا تَقولُونَ بِسم الْعَالم الْقَادِر المريد إِذا قُلْتُمْ بإسم الآب والإبن وَالروح الْقُدس فيتبين آب وَابْن وروح الْقُدس ثَالِثا
اعْلَم أَن الْمَسِيح لما بعث الحواريين إِلَى جَمِيع الْأَجْنَاس قَالَ لَهُم من آمن مِنْهُم فعمدوه على اسْم الآب والإبن وَالروح الْقُدس وَإِنَّمَا خاطبنا بِمثل تعاقلنا فَجعل هَذِه الْأَسْمَاء كاختلاف قضايا تِلْكَ الْأَفْعَال ثمَّ وَاسِط ثمَّ أخر
فَأول القضايا خلق الله الْجَمِيع بيد سَمَّاهَا أَبَا وأضافها إِلَى الْقُدْرَة وأضاف قَضِيَّة وعظ الْمَسِيح للنَّاس إِلَى الْعلم وَسَماهُ ابْنا لِأَن الْعلم لَا يُوقع عَلَيْهِ حَتَّى يتَوَلَّد كلَاما وأضاف قَضِيَّة فنَاء جَمِيع الدُّنْيَا ومكافأة أَهلهَا بأعمالهم إِلَى الْإِرَادَة وسماها روح الْقُدس الَّذِي هُوَ قَادر عَالم مُرِيد اسْما للْوَاحِد الَّذِي لَا يتكثر
وَالْجَوَاب عَن قَوْله
اعْلَم يَا هَذَا إِنَّك لم تحسن السُّؤَال وَلَا حصلت مِنْهُ على صَوَاب مقَال بل حصل مِنْهُ فِي عُنُقك غل وَفِي رجليك عقال قلبت السُّؤَال وَلم تشعر وجهلت من حَيْثُ ظَنَنْت أَنَّك تستبصر اردت أَن تَقول فِي الإعتراض الَّذِي وجهته على نَفسك لم لَا تكتفون باسم الْقَادِر الْعَالم المريد وَلَا تَقولُونَ باسم الآب والإبن وروح الْقُدس فَقدمت وأخرت وباللفظ وَالْمعْنَى أخللت
1 / 63
ثمَّ أنتجت النتيجة قبل ذكر الْمُقدمَات فَصَارَ لذَلِك كلامك من أرك الترهات فَقلت فِيهَا فيتبين آب وَابْن وروح الْقُدس ثَالِثا وَهَذَا كَلَام مختل نَاقص مشوب بِالْفَسَادِ غير خَالص وَإِنَّمَا كَانَ صَوَابه أَن يَقُول فيتبين أَنه آب وَابْن ثمَّ قلت ثَالِثا بِالنّصب بخطك ضَبطه مشعرا بأنك أعربته بل بالإتفاق كتبته وَلم تشعر بأنك قلبته وَأما قَوْلك إِن الْمَسِيح لما بعث الحواريين إِلَى جَمِيع الْأَجْنَاس فكلاما نقلته مُدعيًا أَنَّك رويته وَنحن يجب علينا أَن نتوقف فِي أخباركم وَلَا نقطع بتصديقكم وَلَا بأكذابكم بل نقُول مَا أمرنَا بِهِ الرَّسُول وبلغنا على أَلْسِنَة النقلَة الْعُدُول آمنا بِاللَّه وَرُسُله فَإِن صَدقْتُمْ لم نكذبكم وَإِن كَذبْتُمْ لم نصدقكم وَمَعَ تَسْلِيم ذك جدلا فَلَا بُد أَن نباحثكم فِيمَا نقلتم ونتفقه فِيمَا حكيتم
فَنَقُول ظَاهر قَوْلك هَذَا يفهم مِنْهُ أَن رِسَالَة عِيسَى كَانَت عَامَّة لجَمِيع الْأَجْنَاس وَلَيْسَ الْأَمر على مَا زعمتم وَسَيَأْتِي الْكَلَام على هَذَا فِي بَاب النبوات وَكَذَا الْكَلَام على المعمودية وَمَا يلْزم عَلَيْهَا يأتى فِي بَاب الْكَلَام على أحكامهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما استدلالاته على اعْتِقَاد وجوب الآب والإبن وَالروح الْقُدس وَإِطْلَاق القَوْل بذلك بِمَا قَالَه عِيسَى للحواريين فَلَا حجَّة لَك فِيهِ إِذْ لَيْسَ بِنَصّ قَاطع بل هُوَ مِمَّا تَقولُونَ أَنْتُم فِيهِ متشابه فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون مُرَاده بِهِ عمدوهم على تَركهم هَذَا القَوْل كَمَا يَقُول الْقَائِل كل على اسْم الله وامش على اسْم الله أَي على بركَة اسْم الله وَلم يعين الآب والإبن من هما وَلَا مَا الْمَعْنى المُرَاد بهما فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَبِ هُنَا الْملك الَّذِي نفخ فِي مَرْيَم أمه الرّوح إِذْ نفخه سَبَب علوق أمه وحبلها بِهِ وَأَرَادَ بالإبن نَفسه إِذْ خلقه الله تَعَالَى من نفخة الْملك فالنفخة لَهُ بِمَثَابَة النُّطْفَة فِي حق غَيره
1 / 64