Ibrahim Thani
إبراهيم الثاني
Genres
قال: «إن كل ما رسمته رهن بموافقتك، نذهب من الطريق الصحراوى، ونستريح عند محطة (شل)، ثم نستأنف السير فنقطع الطريق كله فى ثلاث ساعات ونصف ساعة، فإذا قمنا من هنا فى الساعة الرابعة صباحا استطعنا أن نبلغ الإسكندرية فى الثامنة على الأكثر، ويبقى أمامنا النهار كله نرتع ونلعب إلى الخامسة مساء. وتكفى ساعة واحدة للوصول إلى دمنهور».
قالت: «وإلى أين نويت أن تأخذنى فى الرمل؟»
قال: «لو أخبرتك بكل ما أعددت لك فى رأسى لضاعت مزية الرحلة. انتظرى حتى يجىء كل شىء فى أوانه، لتكون المتعة مضاعفة. على أنى أستطيع أن أقول لك الآن إنى أنوى أن ألقى إليك بالزمام لتفعلى ما تشائين».
قالت: «ولكن الرابعة صباحا؟»
قال: «كما تشائين.. لتكن الخامسة.. ما عليك إلا أن تأمرى فإنى من الساعة خادمك المطيع».
وكان فى صوته وهو يقول ذلك نبرة سرور صبيانية.
وبلغا أول الطريق الصحراوى، وهما صامتان. فأما صادق فكان كأنما أسدل على وجهه نقابا كثيفا. وكانت هى ربما أقلقها أنها ترى نفسها عاجزة عن استشفاف خواطره أو التفطن إلى ما عسى أن يكون دائرا فى نفسه. ولكنها هى أيضا كانت تحس بفتور عن الحديث وزهد فيه. وكانت تريد أن تستمتع بالبكرة المطلولة والحركة السريعة، ولم تكن تخشى السرعة، فقد كانت تعرف أن صادقا جرىء ولكنه حريص. وليست هذه أول مرة حملها فى السيارة. وخطر لها أن هذا أقل ما ينبغى أن يحسنه شاب عاطل ميسر الرزق. وانثنت خواطرها إلى إبراهيم فذكرت أنه هو أيضا سيكون على الطريق بعد قليل، وابتسمت وقد تذكرت أنه لن يتخلى عن القيادة لزوجته، وإن كان يشهد لها بأنها أقدر عليها، لا لأنه يجد فيها لذة، بل لأنه يرى أن الرجل يجب أن يكون فى يديه الزمام فى كل حال، حتى فى مثل هذا الأمر الصغير، لا ينزل عما يعتقد أن الرجولة تفرضه عليه. وشعرت وهى تفكر فى إبراهيم أنه لا يخلو من غموض، نعم يقص عليها أخبارا شتى، ويكاشفها بما يفعل أو يترك، ولكنه يأبى أن يجعل تحية زوجته موضع لغط بينهما. وكثيرا ما تعجز عن فهمه؟ فقد قالت له مرة وقد خالجها خوف غامض: «ألا تشعر بندم حين تفكر فيما نحن فيه؟» فنظر إليها مقطبا وأطرق قليلا، حتى لخشيت أن يقول لها إنه نادم. ثم رفع رأسه إليها وحدجها بنظرة قوية وقال: «لماذا تسألين؟ لا. لست نادما إذا كان يعنيك أن تعلمى».
فأحست حين سمعت منه ذلك أنه يوبخها، ولكنه قال بعد ذلك: «لا. لست نادما. إن الندم لا ينطوى على إخلاص صادق».
فاستغربت قوله، وسألته عما يعنى، فقال: «إنه يا فتاتى الساذجة أشبه بالأسف على توسيخ ثوب جميل، هذا هو الندم. الرجل يريح نفسه من ثقل ضغطه باللغط به، والمرأة تريح نفسها منه بالبكاء. كلاهما يهرب مما ينبغى أن يستتبعه الندم الصادق بدلا من أن يعمق شعوره به . فإذا سمعت من يقول لك إنه نادم فاعلمى أنه بلسانه يحاول أن يوجد متنفسا لما يضيق صدره به، أو يدافع بلسانه عن نفسه. لا.. لا محل للفظ الندم.. فإنه أكذوبة. فإما التوبة النصوح، وإما المضى على الوجه بغير تلفت. أما أن تكون عين فى الجنة وعين فى النار، فأنا على الأقل لا يطيب لى هذا».
ولم تستطع ميمى أن تتبين معنى هذا مقرونا إلى سلوكه معها ومع زوجته، وألفت تتساءل: «هل هو ينطوى لى على حب؟» ولم تستطع أن تهتدى إلى الجواب. فإن إبراهيم لا يلهج بالحب، ولا يجرى به لسانه إلا نادرا. وقد سألته مرة عن الحب ورغبت أن تسمع منه كلاما فسألها: «أى حب تعنين؟» قال هذا، كأنما هناك دكان فيه ألف صنف من الحب. ثم أمسك وقال لها بعد قليل: «لا تكونى حمقاء.. إذا كنت راضية عما أنت فيه فلا تفسديه بأن تطلبى أن تسمعى كلاما فارغا حلوا، فلا تسمعى إلا كلاما يفسد عليك حلاوة ما تنعمين به. ثم إياك والغيرة فإنها بلاء. وفسحة العيش أقصر من أن نضيعها، أو نضيع دقيقة واحدة منها، فيما تجره الغيرة السخيفة من عناء وبلاء».
Unknown page