91

Ibn Taymiyya: Ḥayātuhu wa-ʿaṣruhu, ʾĀrāʾuhu wa-fiqhuhu

ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه

Publisher

دار الفكر العربي

على الشدة؛ ومحاربة للحوادث، حتى إنه ليقول مطمئناً إن ما يؤخذ عليه هو مخالفته مرسوم السلطان ولا تهمه المخالفة ما دامت لطاعة الخالق، ومنع البدع والشر، ولقد من الله سبحانه وتعالى عليه بمنته الكبرى، إذ أطلقه من هذه القيود البشرية لتسبح روحه في ملكوته الأعلى راضية مرضية.

فإنه لم يطل ذلك الضيق على تلك النفس الحرة الكريمة، وذلك الفكر القوي المنطلق في سماء الدين يحلق فيها؛ فقد قبضه الله سبحانه وتعالى إليه في العشرين من شوال سنة ٧٢٨ أي لم يمكث في هذا الضيق إلا نحو خمسة أشهر، وكان ذلك عقب مرض لم يمهله أكثر من بضعة وعشرين يوماً.

١٠٠- وكان عظيماً حقاً، لا يعلق بقلبه أي درن من حقد أو ضغينة إلا بمقدار ما ينطق فيه بالحق ويعلنه، حتى إنه ليصفح راضياً طيب النفس عن كل مسلم ناله منه أذى، فإنه يروى أن وزير دمشق لما بلغه مرضه استأذن في الدخول عليه لعيادته، فأذن له، فلما جلس أخذ يعتذر، ويلتمس منه أن يحلله مما عساه يكون قد وقع منه في حقه من تقصير، فأجابه الرجل العظيم: ((إني قد أحللتك. وجميع من عاداني. وهو لا يعلم أني على الحق، وأحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي، لكونه فعل ذلك مقلداً معذوراً. ولم يفعله لحظ نفسه، وقد أحللت كل أحد مما بيني وبينه، إلا من كان عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)).

فاضت روحه إلى ربها، وما إن علم أهل دمشق بوفاة عالمها، بل عالم المسلمين أجمعين في جيله، حتى أخذتهم حسرات تلتها عبرات؛ فأحاطوا بنعشه، وخرجت دمشق كلها تودعه، وتضعه في مثواه الأخير، ودعت فيه العالم التقي الزاهد الجريء، وودعت فيه المجاهد البطل الذي وقف في ميدان الحرب حاملاً سيفه وقوسه مقاتلاً؛ وودعت فيه المواسي الذي كانت ترجع إليه كلما حزبها أمر، وأخذتها صيحة، إذ كانت تجد فيه القلب الكبير الذي يلقي في القلوب الاطمئنان فتعود إلى جنوبها، بعد أن أخرجها الهلع منها؛ ثم أخيراً ودعت خيرها وشرفها الذي

90