102

Ibn Taymiyya: Ḥayātuhu wa-ʿaṣruhu, ʾĀrāʾuhu wa-fiqhuhu

ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه

Publisher

دار الفكر العربي

أو سخطوا لأنه لا يرجو إلا ما عند الله، وإذا دُعي إلى المناظرة لم يُحجم ولم يتلكأ، لا يُداهن في القول لأحد، ولا يحاول إرضاء أحد.

(الأمر الثانى) الذي كان يظهر فيه إخلاصه وتفانيه في الحق، جهاده في سبيله ولو بالسيف إن كان خصمه يحمل سيفاً، كما حمل السيف مع التتار، أو لا يمكن قمعه إلا بالسيف كما فعل مع النصيرية وغيرهم من سكان الجبال بالشام، ولقد كان يتحمل البلاء والتضييق على حريته في سبيل إعلان رأيه، وإن سكت مرة لا يسكت أخرى، طُلب إليه أن يسكت فلا يُفتي في مسائل الطلاق، وقد وصل إلى نتائج تخالف ما كان عليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة؛ فوعد بالسكوت، ولكن سرعان ما ألقى إلى السلطان عهده، لأنه رأى أن السكوت سكوت عن أمر يخالف الدين، فترك عبد السلطان ليوفي بعهد الله وميثاقه الذي أخذه على العلماء ليبينه للناس ولا يكتمونه، وقد مات رضي الله عنه سجيناً لإخلاصه الذي دفعه إلى المجاهرة بالحق، وسجل بهذا ابتعاده عن الغرض والهوى في آرائه.

(الأمر الثالث) الذي بدا فيه إخلاصه، وتبرؤه من الأغراض والهوى والمحاسدة والمباغضة هو عفوه عمن يسيئون إليه وما داموا مخلصين طلاب حق، وإن أخطأوا، فهو يعفو عن العلماء الذين سجنوه في جب القلعة، ويعفو عن العلماء الذين ألقوا به في سجن الإسكندرية، وقد مكنه السلطان الناصر من رقابهم فما قال إلا خيراً، وأخيراً يعفو عمن بالغوا في التضييق عليه، حتى حرموه من خواطره يسجلها، ومن كتبه يقرؤها. ويقول مقالة المخلص العظيم ((أحللت كل مسلم من إيذائه لي))، بل إنه يلتمس المعذرة للسلطان الناصر في إيذائه، إنه الإخلاص الذي علا على كل عرض، والنفس النزيهة العفيفة التي علت على كل إيذاء، فرضي الله عنه.

(الأمر الرابع) الذي بدا فيه إخلاصه، زهده عن المناصب وكل زخرف الدنيا وزينتها، فلم يطلب منصباً، ولم يتول منصباً، ولم ينازع أحداً في رياسة، بل كان المدرس الواعظ الباحث فقط من غير أن يكون له أمر من أمور الدولة

101