إنه بعد هذا الحادث الجلل، نرى انتقال مراكز العلم التي كانت في بغداد والري وبخارى ونيسابور، وغيرها من مدن العراق وغيره من ولايات الدولة العربية الإسلامية أيام العباسيين إلى القاهرة والإسكندرية والفيوم وأسيوط ودمشق وحلب وحمص وحماة، وإلى غيرها من مدن مصر والشام.
ومن ثم نجد في هذا العصر وما تلاه هذه النسب التي يعرف بها العلماء: القاهري، الإسكندري، الفيومي، السيوطي، الدمشقي، الحلبي، الحموي، ونحوها. كما نجد كثيرا من العلماء يقال في تعريف الواحد منهم: نزيل دمشق، أو نزيل حلب، أو نزيل حماة، أو نزيل القاهرة، أو نزيل الإسكندرية ... وهكذا.
وكان المركز من هذه المراكز له جامعه الذي يفد إليه الكثيرون من طلاب العلم ورجاله، ومكتبته الضخمة التي تضم عيون التراث الإسلامي المجيد، فيتزود الراغبون في المعارف والعلوم - من الجوامع والمكتبات الملحقة بها - ما يفيدهم في دينهم ودنياهم، ويعلون بذلك صروح العلم التي بناها العلماء السابقون.
والجامع الأزهر هو بلا ريب قمة هذه الجوامع، وأهم موطن للعلم والمعرفة منذ قديم الزمان؛ فقد أنشأه الفاطميون في النصف الثاني من القرن الرابع، ووقفوا عليه من الأملاك الدارة ما يضمن له الخلود على الزمن، وما يهيئ المعيشة الطيبة لقاصديه من شتى البلاد والجهات، وما ييسر لهم سبيل الدرس والبحث من الكتب والمراجع العلمية العديدة.
وإذا تركنا جوامع القاهرة التي كانت تعتبر بحق مواطن العلم والبحث والدرس، نجد في هذه الناحية جامع العطارين بالإسكندرية الذي أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي سنة 477، كما يذكر أبو المحاسن في كتابه «النجوم الزاهرة». وكان هذا الجامع ينبوعا من ينابيع العلم والثقافة طوال عصر الحروب الصليبية وبعده، كما كان حافلا دائما في تلك الأيام بطلاب العلم وشيوخه الذين يقومون بالتدريس فيه.
ونجد في الشام جامعه المعدود في طليعة معاهد العلم فيها، والذي درس فيه طائفة من أعيان العلماء الذين لا زلنا نتدارس آثارهم في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والنحو، وغير ذلك من علوم الدين واللغة العربية.
ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ، الحافظان الكبيران: ابن عساكر، وعبد الغني المقدسي، وتوفي الأول عام 571، والثاني عام 600، وكلاهما من رجال الحديث وعلومه المشاهير.
ومن العلماء الكبار الذين درسوا في هذا الجامع أيضا، الإمام علم الدين السخاوي المتوفى سنة 643، وفيه يقول ابن خلكان - وكان معاصرا له ورآه: «كان قد اشتغل بالقاهرة على الشيخ أبي محمد القاسم الشاطبي، وأتقن عليه علم القراءات والنحو واللغة ... ثم انتقل إلى مدينة دمشق، وتقدم بها على علماء فنونه ...»
7
كما كان من أولئك العلماء، رجلان عظيمان لا تزال تدرس آثارهما بالأزهر حتى اليوم؛ الأول هو عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب، صاحب المؤلفات المعروفة في الفقه وأصوله، والنحو وغيرهما من العلوم. وقد توفي عام 646، ويقول عنه ابن خلكان: «انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية، وأكب الخلق على الاشتغال عليه، والتزم لهم الدروس، وتبحر في الفنون ...» إلى آخر ما قال.
Unknown page