فغلب النعمان، وقتل سنة 602 على ما يظهر.
وتمضي على تلك الأمور سنون قليلة، فتقع قبل الهجرة بنحو عشر سنين معركة ذي قار، حيث يغلب الفرس الذين كانوا حلفاء عرب قبيلة تغلب النصرانية، وذلك من قبل عرب قبيلة بكر،
20
ويقضى على مملكة الحيرة. وبسقوط هذا المتراس تجد فارس نفسها بلا سور حيال العرب المسلمين، وتخرب الحيرة عام قيام الكوفة (سنة 15 أو سنة 17 من الهجرة)، وتزول في عهد المعتضد تماما.
قال المسعودي: «وقد كان في هذه المدينة ديارات كثيرة فيها رهبان، فلحقوا بغيرها من البلاد لتداعي الخراب إليها، وأقفرت من كل أنيس في هذا الوقت إلا الصدى والبوم.»
21
ومن ثم ترى أن العرب كانوا قد جاوزوا حدود صحرائهم قبل الهجرة بزمن طويل، ومن العادة أن يشبه الفتح الإسلامي بعمل قوة كانت راقدة في بطن الصحاري زمنا طويلا، فانفجرت بغتة، وقلبت ثلث ممالك الأرض أمامها رأسا على عقب. أجل، إن هذا التشبيه مفيد إذا ما أتي به حصرا، لبيان فكرة ساطعة عن سرعة هذا الفتح، ولكنه إذا ما طبق على تاريخ الثقافة وجد خاطئا، والعكس هو ما يجب أن يذهب إليه، فيقال إن العرب كانوا - حين ظهور الإسلام - على اتصال بكثير من الإمبراطوريات، وإنهم كانوا قد طرقوا باب تلك الحضارة النصرانية، التي سوف يتلقون منها أمانة العلم كيما يعيدونها إليها بعد أن يوجبوا نموها في قرون كثيرة.
وكان محمد يكن احتراما لرجال الدين من مختلف المعتقدات، ويسير علي على غراره، فينعم بامتيازات على كثير من أديار النصارى، وفضلا عن ذلك، فإن القرآن يعترف للنصارى واليهود بمنزلة في ميدان الإيمان، وذلك لحيازتهم كتبا منزلة، ويطلق عليهم لقب «أهل الكتاب»، ويحمل لهم من الازدراء ما هو أقل مما يحمل حيال المشركين. وكانت هذه الأحوال ملائمة لحفظ العلم، فلما تم فتح القدس أنعم عمر على النصارى بمرسوم أو امتياز اتخذ نموذجا لمعظم الخاصة بأهل الذمة من النصارى، وطبق في الإسلام بعد ذلك. وقد انتهى إلينا نص هذا الامتياز مع اختلاف قليل في العبارة، وذلك من قبل كثير من المؤرخين، ولا سيما الطبري.
22
أجل، سمح للنصارى بالمحافظة على كنائسهم، ولكن على أن تكون مفتوحة لرقباء من المسلمين، ومع منع إقامة كنائس جديدة، وعاد لا يجوز دق النواقيس ولا إظهار إشارات دينية جهرا، ووجب على النصارى أن يحتفظوا بزيهم، وألا يلبسوا خواتم ولا زنانير كعلامة فارقة، وحظر عليهم حمل السلاح وركوب الخيل، وكان يمكن هذه التدابير العامة أن تفسر مع التسامح أو أن تؤدي - على العكس - إلى ظلم أليم، وذلك وفق هوى السلطات. بيد أن هذه التدابير كانت قليلة الأهمية في أحوال خاصة، حيث يحبو الأمير المسلم بعض الكفار بحظوة عن ود مباشر، وبما أن العلم من عمل الأفراد خاصة، فإن هذه الأحوال الخاصة هي أكثر ما يهمنا هنا.
Unknown page