Ibn Sina Faylusuf
ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
Genres
وقولنا: إن الشعب العربي هو ابن إغريقيا في أمور العقل لا يعني أنه كان ناقلا فقط؛ بل قد أدى إلى جميع العلوم رسالته، وحفظ تراث الأقدمين الثمين، وزاده كمالا وجمالا، إلا أنه في الفلسفة لم يتمكن من الإبداع الكلي رغم ما فيه من الشوق والمقدرة على اقتباس النظريات الدقيقة. وهذا - على ظننا - يرجع إلى طبيعة العربي المقلدة وقصر وقته، فضلا عن أن العالم الإسلامي لم ينثن يوما عن تكفير الفلسفة وإرهاقها حتى صار اسم فيلسوف مرادفا لزنديق. ومن كثرة الضغط الذي لحق بالحكمة ونزل بعشاقها قل عدد المقبلين على درسها واكتناه أسرارها، وغابت عن البلدان العربية شيئا فشيئا، وخيم ظلام الجهل، وتقوضت أركان الدولة، وتشتتت الكتب العلمية، وصار ينظر إليها كما ينظر إلى الطلاسم والملاغز، وهكذا تكون الفلسفة قد انتقمت لنفسها انتقاما هائلا.
قال بارتلمي سانتهلير أستاذ الفلسفة الإغريقية في كولليج دي فرانس: «إن العقل الإنساني بطيء في سيره، فيحسن به وهو سائر في طريقه غير المتناهي أن يلقي نظره بين الفينة والفينة إلى الوراء؛ ليرى من أين ابتدأ سيره؛ وليسدد خطاه في المستقبل غير المحدود الذي ينتظر قدومه.»
ولا شيء يرينا مبتدأ سير العقل العربي غير درس تاريخ الفلسفة درسا علميا، ولا شيء يسدد الخطى في المستقبل غير التخرج في مدرسة التاريخ نفسه؛ لأنه أستاذ الحياة على حد قول شيشرون الخطيب الروماني الشهير.
إن جميع البلدان، وسائر الشعوب، تعطي الفلسفة دراسات وافية عن علمائها ومفكريها الأقدمين، وتقدم لأسرة العلم رجالا أفذاذا نابغين. أما العالم العربي فلا يزال غير مكترث بدرس تراث فلاسفته إلا بمقدار، وغير مقدم للعالم فلاسفة مبدعين.
لقد حان لنا - نحن الشباب المثقف - أن ننهض إلى العمل الفلسفي المثمر، ونبعث الفلسفة العربية من لحدها كما بعثنا الأدب العربي، وأن نسير في طريق البحث والتفكير الطلق غير عابئين بالمصاعب والأتعاب؛ لأن من لم يركب الأخطار لا ينل الرغائب.
لنعمل على إعادة مجدنا الغابر وعزنا التالد، لنعمل على تكوين مفكرين ناضجين منا ولنا، مستمدين مثلنا العليا من نفسيتنا، موضحين للملأ أن في عقولنا كل علم وكل فلسفة وكل فن، وفي إرادتنا كل عزم وكل حزم وكل مثابرة، ولعلنا بهذا البحث الذي كلفنا جهودا لا تحصى نكون أدينا بعض الخدمة، وحسبنا الله خير مثيب.
الأب بولس مسعد
الحلبي اللبناني
دير سيدة اللويزة، في 12 حزيران 1937م
الفصل الأول
Unknown page