وليس أفلوطين من طبقة أفلاطون وأرسطو في العبقرية الفلسفية أو ملكات المنطق والتفكير، ولكنه يضارعهما أو يفوقهما في بعد الأثر واتساعه بين المشغولين بالفلسفة الإلهية؛ لأن العناصر التي أدخلها في مذهبه أو فى من جميع العناصر التي دخلت في مذهب أرسطو أو مذهب أفلاطون. فقد ختمت المباحث الفلسفية واحتدمت المباحث الدينية يوم تصدى أفلوطين لحل المشكلات المختلفة التي عرضت لطوائف الفلاسفة وفقهاء الأديان.
طمح مع أفلاطون، ودرس منطق أرسطو، ونمت قبله فلسفة الرواقيين والأبيقوريين، وشاعت في عصره فلسفة «العارفين».
1
وسمع مجادلات الآباء المسيحيين، وتعلم في الإسكندرية ورحل إلى البلاد الفارسية، وأقام برومة وهي على حالة تقلق الضمائر الإنسانية وتستفزها إلى طلب القرار في عالم الإيمان. فدخل في حسبانه من عناصر الفلسفة الإلهية ما لم يدخل في حسبان فيلسوف قبله، ولاحظ من المقلقات الفكرية ما لم يلاحظه المناطقة أو الروحانيون في العصور التي تقدمته. فكان لمذهبه هذا الشأن بين المشغولين بتلك المسائل الإلهية من جميع الأديان، سواء منهم الإسرائيليون أو المسيحيون أو المسلمون، وأصبح حلقة الاتصال بين جميع هؤلاء المفكرين؛ لأنهم يلتقون به في طريق واحد حيثما اتجهت بهم الآراء والفروض.
ومن أمثلة هذا الملتقى الجامع مذهبه في الله والعالم على التخصيص.
العالم
فهو يتمشى مع أرسطو في مقدماته التي انتهت به إلى العقل المجرد والعلة الأولى، ولكنه يتجاوزه أشواطا بعيدة في التنزيه والتجريد. فيرى أن الله - أو الأحد - من وراء الوجود ومن وراء الصفات، لا يعرف ولا يوصف، ولا يوجد في مكان ولا يخلو منه مكان، وكماله هو الكمال الذي نفهمه بعض الفهم بنفي النقص عنه. وهيهات أن نفهمه بإثبات صفة من الصفات؛ لأننا نستطيع أن نقول إنه لا يكون هكذا، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنه «هكذا يكون».
وقد يتصل به الإنسان في حالة الكشف والتجلي حين تتجاوز الروح جسدها كما يقول، ولكنها حالة لا تقبل التأمل والتفكير، فإذا انقضت فقد يثوب الإنسان بعدها إلى عقله فيتأمل ويفكر، وينحدر بذلك من مقام «الأحد» إلى مقام «العقل» الذي هو دونه، لأن الأحد فوق العقل وفوق المعقول.
ويقول أفلوطين كما يقول أرسطو إن الله أو«الأحد» لا يشغل بغير ذاته؛ لأنه مستغن بذاته كل الاستغناء .
أما العالم فقد نشأ من صدور العقل عن «الأحد» وصدور النفس عن العقل، وصدور المحسوسات عن النفس في اتصالها بالهيولى أو المادة الأولى.
Unknown page