من أجل هذا ذهبت صرخة ابن رشد، آخر نصير أو ممثل للفلسفة الإسلامية، فلم يقدر له أن يسمع أولئك الذين اعتقدوا هذه الفلسفة كفرا؛ فأصموا آذانهم، ولم يأذنوا لعقولهم أن تسمع لهذا الصوت القوي الذي هز أوروبا وأحدث فيها ثورة فكرية، والذي أراد فيلسوف قرطبة أن يصل للناس جميعا لعلهم يجدون عليه هدى، ويقبسون منه ما يهديهم سواء السبيل في التوفيق بين الحكمة والشريعة.
لم يكن إذن من الممكن أن ينجح ابن رشد في رسالته لسبب خارج عن نفسه وإرادته، وهو جهل الأمة وعقلية العصور التي تلت العصور الذي عاش فيه.
هذا الإمام المحدث الفقيه أبو عمر تقي الدين الشهرزوري، المعروف بابن الصلاح، والمتوفى عام 643ه، يصدر فتوى بتحريم المنطق والفلسفة؛ فيكون لهذه الفتوى خطر وسلطان ظل قويا دهرا طويلا. إنه - غفر الله له - وقد سئل عن حكم الله فيمن يشتغل بكتب ابن سينا وتصانيفه، يقول: «من فعل ذلك فقد غدر بدينه وتعرض للفتنة العظمى»؛ لأن ابن سينا «لم يكن من العلماء، بل كان من شياطين الإنس.»
وفي فتوى أخرى له في هذه الناحية أيضا يقول: «إن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان.» وانتهى أخيرا بأن أكد أن الواجب على السلطان أن «يعرض من ظهر منه اعتقاد الفلاسفة على السيف أو الإسلام؛ لتخمد نارهم، وتمحى آثارهم!»
وقد بلغ من عنف أثر هذه الفتوى ومن قوة سلطان صاحبها، أن الإمام السيوطي جلال الدين، كما يذكر في مقدمة كتابه «طبقات المفسرين»، مال في مبادئ الطلب إلى علم المنطق، ثم تركه حين علم أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه!
وأخيرا، نجد طاش كبرى زاده، المتوفى عام 962ه، يذكر في كتابه «مفتاح السعادة»، أنه لا يصح أن نطلق اسم العلم على «الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا.» كما يرى أن حكماء الإسلام أعداء الله وأنبيائه ورسله، وأن الاشتغال بحكمتهم حرام في شريعتنا، وأن هؤلاء الفلاسفة أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى؛ لأنهم يتسترون بزي أهل الإسلام.
ليس من العجيب، والحال كما نرى، ألا يكون لابن رشد وأمثاله ممن تقدمه من فلاسفة الإسلام أثر طيب في العالم الإسلامي، وألا ينجحوا في رسالتهم التي عملوا على الاضطلاع بها، وأنفقوا حياتهم في سبيل الوصول إليها، إنما كان يكون عجيبا حقا لو أن كان لهم هذا الأثر الطيب المحمود، ولو أنهم نجحوا فيما أرادوه!
هذا، وكما كان ذلك العداء أو تلك الخصومة بين رجال الدين والفلسفة في تلك العصور شرا على الدراسات الفلسفية، كذلك كانت شرا على الدين.
لقد صغر هذا الخلاف العنيف بين الفريقين هوة ظلت فاصلة بينهما دهرا طويلا، وأساء كل من المعسكرين بالآخر الظنون، فرمى رجال الدين الفلاسفة بالإلحاد والكفر، وناصبوهم العداء، وجازاهم هؤلاء شرا بشر، فرموهم بالجهل والجمود وعدم الفهم للدين!
وكان من نتائج تلك الخصومة الحادة أن حرم الدين الانتفاع بجهود كثير من أبنائه المفكرين، وأن تحامى العامة وأشباه العامة الفلاسفة في كثير من الأحيان، فغدا بعض هؤلاء غريبا أو كالغريب في بيئته، وغدا الفكر الحر عديم النصراء، فأخذ في الانكماش شيئا فشيئا في عجلة تارة، وفي ريث أخرى، وأخلي الطريق للجهل والتقليد في عصور الانحطاط!
Unknown page