لقد أنكرتني بعلبك وأهلها
بل الأرض بل بغداد صاحبة البتل
ويرسل إلى أصحابه في بغداد يتشوف ويقسم لا أزمع بعدها سفرا، ولا آثر على قلوبهم مطمعا:
وإن يقض لي الله الرجوع فإنه
علي له ألا أفارقكم نذر
ولا أبتغي عنكم شخوصا ورحلة
مدى الدهر إلا أن يفرقنا الدهر
فما العيش إلا قرب من أنت إلفه
وما الموت إلا نأيه عنك والهجر
و«طول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه» كما قيل، فإذا أحصينا أسباب الجفاء الذي كان يشكوه من ممدوحيه، وأسباب فشله بعبارة أخرى، فلا شك أن طول مقامه ببغداد واحد من تلك الأسباب التي رجحت عليه غيره من أنداده الشعراء، ومن هم أقل في الطبقة؛ لأنهم كانوا يغيبون ويحضرون، فلا يضن عليهم الأمراء بالعطاء في السنة بعد السنة أو بعد السنوات، ولأنه كان مقيما أمام أعينهم في كل يوم فلا يلقى عندهم حفاوة الطارق بعد غياب، وهو لم يرحل تلك الرحلات القصار التي كان يظنها غربة طويلة إلا وهو في إبان القوة والطمع في الولاية والجوائز، فلما طال عليه الأمر، ووطن نفسه على اليأس قعد في بغداد لا يريمها، وقنع بما يتفق له وهو وادع في بلده، وأبى أن يجيب من يستدعيه إليه، ويحضه على «الحطب لناره»؛ لأنه يكلفه ركوب البحر وهو أخوف ما يكون من ركوبه.
Unknown page