86

Ibn Ḥazm ḥayātuh wa-ʿaṣruhu ārāʾuhu wa-fiqhuhu

ابن حزم حياته و عصره آراؤه وفقهه

Publisher

دار الفكر العربي

Publisher Location

القاهرة

ظهر كما أسلفنا ، ثم عاد إلى العلم وشيكاً، إذ أن حياة ذلك الأمير في السياسة لم تكن إلا كومضة البرق، بالنسبة لدنيا السياسيين، عاد بعدها ابن حزم منصرفاً إلى العلم، ابتدأ، وكما تعود، وهو يتأمل النفوس ويدرس الأخلاق في السياسة، كما درس النزعات الإنسانية في كل دور من أدوار حياته. ثم عاد إلى السياسة سنة ٤١٤، ثم سنة ٤١٨، حتى إذا بلغ الخامسة والثلاثين أو تجاوزها بقليل زهد في ذلك النحو من الحياة زهداً تاماً، وخلص للعلم من بعد ذلك خلوصاً تاماً، فعاش للعلم وحده بعقله العبقري زهاء سبعة وثلاثين عاماً، إذ مات وقد بلغ الثانية والسبعين عاماً كانت مباركة، أنتج فيها أطيب ما ينتجه عالم متفكر متأمل فاحص محيط، وإن حياته قبله كانت في جملتها انصرافاً للعلم لولا ما كان يتقطعها من اشتغال قليل بالسياسة، ولعله في السياسة لم يقطع صلته بالعلم، بل كان يدرس فيها النفوس قبل الشئون، والرجال قبل الأحوال، ولذلك أتى في بحوثه بتجارب نفسية كثيرة، ضمنها بعض رسائله، كرسالة مداواة النفوس.

١٠٣ - وإن انصراف ابن حزم إلى العلم على ذلك النحو من الانصراف جعل حياته كلها إلا فترات السياسة فيها - متصلة بالعلم والعلماء، إما بمن كان يتلقى عليهم الحديث والفقه وهو صغير، ثم وهو شاد في طلب العلم، وإما بالكتب يقرؤها، وإما بالصحبة، والأصدقاء من العلماء، وقد كان له في ذلك الجو المعتكر الذي اشتدت عليه فيه الحياة، في صفوة مختارة من العلماء، يخالطها بالمودة، ويقدم لها ذوب نفسه، في جد قوي، أو في فكاهة تسرى على النفوس، أو في رسائل يكتبها لأصدقائه من العلماء، كرسالة طوق الحمامة وكرسالته في علماء الأندلس، وقد كانت له مداعبات علمية أدبية بين كثيرين من العلماء، ومنها مداعبة دونتها كتب التاريخ، داعب بها صديقه الذي كان يشيد بذكره دائماً، وهو ابن عبد البر فقد جاء في نفح الطيب ما نصه:

((قال ابن حزم في طوق الحمامة: إنه مر يوماً هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكة الخطابين من مدينة أشبيلية فلقيهما شاب حسن،

86