75

Ibn Ḥazm ḥayātuh wa-ʿaṣruhu ārāʾuhu wa-fiqhuhu

ابن حزم حياته و عصره آراؤه وفقهه

Publisher

دار الفكر العربي

Publisher Location

القاهرة

٨٨ - وإن ابن حزم قد أوتى مع الوفاء اعتزازاً بنفسه، فلا يدنى نفسه، ولا ينزل بها، وإن الاعتزاز بالنسبة له هو من معدنه. لقد كان يعتز بنفسه، لأنه نشأ عزيزاً في قومه، وما زادته الحوادث إلا صقلاً وصفاء. فما وهن وما ضعف وما استكان. ناله الذين آذوه بالسجن والتغريب ولكن لم ينالوا من نفسه العزيزة في ذاتها، القوية المعتمدة على الله في السراء والضراء، ولقد ذاق العيش الحلو والمر، ما استهوته لذات العيش إلى ما ينافي عزته، ولا هوت به مرارة الحياة إلى مواطن الذلة، بل كان العزيز في حالي الرخاء والبأساء. لا يطلب حاجة ممن لا يفي بحاجته. ولقد قال في ذلك:

«إن محمد بن وليد الكاتب كان متصلاً بي ومنقطعاً إلى أيام وزارة أبي رحمة الله عليه، فلما وقع بقرطبة ما وقع، وتغيرت أحوالي خرج إلى بعض النواحي، فاتصل بصاحبها. فعرض جاهه، وحدثت له وجاهة وحال حسنة. فحللت أنا تلك الناحية في بعض رحلتي، فلم يوفني حقي. بل ثقل عليه مكاني. وأساء معاملتي وصحبتي. وكلفته في خلال ذلك حاجة لم يقم فيها ولا قعد. واشتغل عنها بما ليس في مثله شغل. فكتبت إليه شعراً أعاتبه فيه. فجاوبني مستعتباً على ذلك. فما كلفته حاجة بعدها»(١).

وإن الذي نمى الاعتزاز بالنفس فيه ثلاثة أمور. أولها: ابتعاده عن السياسة ونحوها وحبس مطامعها. فإن المصارع النفسية للرجال تحت بروق المطامع. وما كان الطمع في أي ناحية إلا كان معه ذل أياً كانت صورته. وقديماً قال العربي: أذلت المطامع أعناق الرجال. فمن يوم أن جافى أبو محمد ابن حزم السياسة ومطامعها، وترك كل شيء إلا العلم فقد آوى إلى ركن العزة النفسية الحصين.

وثانيها: ما آتاه الله من مواهب عقلية يشعر معها بأنه فوق أقرانه من العلماء. وفوق الأمراء. فإنه كان يحس بأنه فوقهم لأنه كان في منصب الإمرة مثلهم واعتزله زهادة فيه. وما كان واحد منهم له مثل إدراكه وعقله.

(١) طوق الحمامة ص ١٢٦، ١٥٣.

75