65

Ibn Ḥazm ḥayātuh wa-ʿaṣruhu ārāʾuhu wa-fiqhuhu

ابن حزم حياته و عصره آراؤه وفقهه

Publisher

دار الفكر العربي

Publisher Location

القاهرة

الشاردة في وقت الحاجة إليها، وتلك الحافظة الواعية المستوعبة، مع هاتين الميزتين قد أوتي عمق تفكير وغوصاً على الحقائق، وقوة تأمل، لا يكتفي من الظواهر حتى يتعرف ما وراءها. ولا يترك المسببات حتى يعرف أسبابها، فهو لا يكتفي بالاستقراء والإحصاء، حتى يعرف كل مسألة ليعرف أسرارها. ولا يكتفي بمعرفة الوقائع حتى يعرف بواعثها والدافع إليها، وإن ذلك يتجلى كل التجلي في دراسته النفسية، وبعض دراساته الفلسفية والكلامية، فمثلاً لا يكتفي عند دراسته للفرق الإسلامية المختلفة بدراسة آراء هذه الفرق، والأدلة التي تسوقها لهذه الآراء، بل يدرس البواعث النفسية والاجتماعية التي جعلت الفرق تكثر وتتشعب، ويشير إلى البواعث التي جعلها تختار تلك الآراء، فهو يقرر أن الفرس وغيرهم عندما دخلوا في الإسلام منهم من أراد أن يثأر لفقد دولته ببث أفكار بين المسلمين ليست من دينهم، ليفسد عليهم أمرهم، ثم يسوق البواعث مفصلاً موضحاً على ما سنشير إليه في موضعه.

وإنك تراه في رسالة طوق الحمامة يرد الظواهر إلى بواعثها النفسية محاولاً في ذلك أن يكشف عن النواميس النفسية التي تسير الإنسان في عواطفه الإنسانية نحو كل جمال.

وتجد مثل ذلك، بل أوضح وأبين في رسالته (مداواة النفوس) التي هي علاج نفسي لعيوب الأخلاق، انظر إليه وهو يتكلم في الفضائل تجد النظر العميق الجامع، فيقول مثلاً: ((من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة، والرذائل مستقبحة، ومستحبة))(١).

وانظر إليه يصف المعجبين بأنفسهم ((ولقد تسببت إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علو نفسه، واحتقاره للناس، فما وجدت أن زاد على أن قال لي أنا حر لست عبداً لأحد فقلت له أكثر ما تراه يشاركك في هذه الفضيلة، فهم أحرار مثلك. فلم أجد عنده زيادة، فرجعت إلى

( م. ٥ - ابن حزم )

(١) رسالة مداواة النفوس ص ٦٦ طبعة سنة ١٣٢٣ بدمشق.

65